التوظيف الأيديولوجي لنظرية الصراع عند كوزر
قراءة نقدية في الأبعاد الأيديولوجية
د. علي أسعد وطفة
2023-06-15 08:05
"المقاتل لأجل الحرية يتعلم بالطريقة الصعبة أن الظالم هو الذي يحدد طبيعة الصراع، وغالبا ما لا يجد المستضعف بديلا سوى استخدام نفس أساليب الظالم"
نيلسون مانديلا
1-مقدمة:
يعد لويس كوزر (Lewis Coser) أحد أهم منظري الصراع الاجتماعي في العصر الحديث، وقد تركت نظريته الصراعية هذه أثرا كبيرا في الفكر السوسيولوجي المعاصر. وفي نظريته هذه تناول كوزر مفهوم الصراع، وبحث في مداخله وتكويناته ووظائفه وتشكيلاته وأنواعه وصيروراته، وحاول أن يقدم رؤية متماسكة لمختلف اتجاهات الصراع وعوامله ومفاهيمه وصيروراته.
ويدرك النقاد جيدا أن الانفراد بنظرية جديدة في مجال الصراع الاجتماع تحتاج إلى جهود كبيرة ومعارك فكرية مثيرة، كما تتطلب موقفا فكريا إبداعيا يتجاوز حدود النظريات الكبيرة السائدة في الوسط السوسيولوجي الذي يتدفق بأسماء كبيرة جدا أمثال دوركهايم وفيبر ودارندورف وبارسونز وغيرهم من المفكرين الذين تركوا بصمتهم المميزة في هذا المجال الفكري للصراع الاجتماعي.
من البداهة قولا بأن بداية أي تفكير ابتكاري متجدد في علم الاجتماع وفي غيره أيضا يجب أن ينطلق من نقد التصورات الكلاسيكية السائدة والتأسيس عليها في الوقت نفسه من أجل تشكيل رؤية جديدة مبتكرة ومفاهيم مرنة يمكن توظيفها في فهم الواقع وتحليله.
وفي خضم هذه التحديات الفكرية الكبيرة التي تطرحها نظرية الصراع نفسها في مواجهة الحضور الإبداعي للباحثين استطاع كوزر أن يخوض إبداعيا في هذا المعترك الفكري وأن يستلهم الفكر السوسيولوجي ونظرياته الكبرى، وأن يتجاوزها في الوقت نفسه ليقدم لنا نظرية متكاملة الأركان في مجال الصراع الاجتماعي.
واستطاعت نظرية كوزر أن تستقطب اهتمام العلماء والمفكرين في علم الاجتماع، وقد تمكن كوزر من أن يجعل نظريته في الصراع الاجتماعي مرجعية مهمة لا يمكن تجاهلها أبدا في سوسيولوجيا الصراع، وقد بدأ الباحثون والمفكرون يستلهمون نظريته في دراساتهم وأبحاثهم الدائرة في مجال الصراع الاجتماعي ويمتحون من معينها، وأصبحت هذه النظرية من العلامات الفارقة في هذا الميدان. وغالبا ما ينظر النقاد إلى كوزر بوصفه واحدا من أهم أرباب التنظير في سوسيولوجيا الصراع مقارنة بماركس وفيبر وزيميل ودارندورف وكولينز الذين يمثلون أبرز رواد نظرية الصراع الاجتماعي.
ويبدو لنا - كما بدا لكثير من الباحثين الرواد في هذا المسار - أنه لمن الضرورة بمكان التعريف بنظرية كوزر بما تنطوي عليه من غنى فكري وثراء سوسيولوجي، وقد لا نبالغ في القول إن كثيرا من الباحثين العرب والأجانب، قد تناولوا هذه النظرية، وفندوها وبحثوا في معالمها واستكشفوا بعضا من مجاهلها وفيضا من خفاياها. ومع ذلك فإن نظرية كوزر تشكل حتى اليوم منجما ثرّاً للبحث والنقد والوصف والاستكشاف وستبقى موضوعا ثراً للباحثين في مجال الصراع الاجتماعي الذي يشكل سمة من سمات الوجود الإنساني وعلامة من علامته الأبدية.
وفي مدار هذا الاستكشاف الفكري، في المنجم الفكري لنظرية كوزر، تسعى الدراسة الحالية إلى تحقيق هدفين اثنين:
أولا - التعريف بنظرية كوزر الصراعية في مآلاتها واتجاهاتها، واستكشاف مجاهلها وأسرارها، والبحث في ثرائها الفكري واستجلاء أهم الأفكار التي تنطوي عليها والتصورات الحاكمة فيها. وهذا قد يشكل مساهمة متواضعة لتعريف الدارسين والباحثين بمعطيات هذه النظرية بطريقة تتوافق مع فهمنا لها وإدراكنا لطبيعتها واستكشافا لماهيتها والظروف التي نشأت فيها.
ثانيا –الكشف النقدي عن الطابع الأيديولوجي لنظرية كوز الصراعية، والبحث في مختلف المناحي الأيديولوجية الكامنة والظاهرة فيها، منطلقين من افتراض، قوامه: أن نظرية كوزر لا تعدو أن تكون أحد أشكال الفكر الأيديولوجي المتطور الذي وضع نفسه في خدمة النظام الرأسمالي الليبرالي الجديد.
2- لمحة عن حياة كوزر:
ولد لويس كوزر (Lewis Coser) في برلين بألمانيا عام 1913، ومع بداية صعود النازية الألمانية هاجرت عائلته اليهودية -خوفا من البطش النازي إلى باريس عام 1933 - طلبا للأمن والسلام.
وفي فرنسا بلد الاغتراب عايش كوز ظروفا حياتية صعبة للغاية تميزت بدرجة عالية من العوز والفاقة والحرمان مفتقدا القدرة على تأمين ضروريات الحياة من مسكن وطعام وملبس، وقد بذل نفسه في البحث عن وسائل العيش والحياة، فعمل بشقاوة في مختلف المهن الصعبة كي يضمن أود حياته ووجوده. وقد قيّض له في النهاية وبعد لأي وعذاب أن يعمل سكرتيرا لأحد الكتاب السويسريين لفترة زمنية قصيرة. ولم تطل معاناة كوزر عندما حصل على وظيفة دائمة في شركة فرنسية عام 1936، وقد مكنته هذه الوظيفة من متابعة دراسته في جامعة السوربون.
ولكن هذا الاستقرار الوظيفي والعلمي ما لبس أن تعكر صفوه، واهتزت أركانه من جديد، وكأن دوام الأحوال كما يقال من المحال، وذلك لأن الحكومة الفرنسية أعلنت حربها ضد الجواسيس الألمان المنتشرين في فرنسا، ولذلك اتخذت سياسة صارمة ضد الألمان المقيمين في فرنسا، وبدأت تشدّ في طلبهم، وتزجهم بعضهم في السجون وترحل بعضهم الآخر. وفي معترك هذه السياسة الفرنسية المتشددة، لم يسلم كوزر من تعسف هذه الإجراءات، إذ تم القبض عليه كوزر واحتجازه مع بداية الحرب العالمية الثانية، ولكنه تمكن لاحقًا من الحصول على حق اللجوء السياسي في الولايات المتحدة فغادر فرنسا إلى وطنه الجديد في أمريكا -نيويورك - عام 1941.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية وجد كوزر استقراره النهائي بعد حصوله على الجنسية الأمريكية في عام 1948. وهيأ له هذا الاستقرار الجديد متابعة دراسته في مجال علم الاجتماعي، وتمكن بقدراته الفكرية والإبداعية أن يصبح محاضراً سوسيولوجيا في جامعة شيكاغو في قسم العلوم الاجتماعية. وقد ساعدته الوضعية العلمية الجديدة على التبحر في علم الاجتماع ومتابعة تحصيله الأكاديمي العالي في جامعة كولومبيا، التي حصل فيها على درجة الدكتوراه بإشراف عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون (Robert Merton) سنه 1954، وكان عنوان أطروحته، وظائف الصراع الاجتماعي: نظرية الصراع في اتجاه جديد، وقد حظيت أطروحته بتقدير علمي عالمي، وصنف كتابه الحاضن لأطروحته واحد من أفضل كتب علم الاجتماع مبيعًا في القرن العشرين.
نشر كوزر أول عمل له بعنوان: "وظائف الصراع الاجتماعي" في عام 1956" (The Functions of Social Conflict) [1] وهو كما نوهنا حصاد أبحاثه في رسالة الدكتوراه، ويحمل هذا الكتاب جلّ أفكاره السوسيولوجية في مجال الصراع الاجتماعي، وقد صُنف هذا الكتاب - كما أشرنا سابقا - بأنه من أكثر الكتب أهمية في سوسيولوجيا القرن العشرين.
ومن ثم جاءت مرحلة الاستقرار النهائية عندما عيّن كوزر أستاذا في جامعة ولاية نيويورك التي قضى فيها سنوات حياته العلمية والأكاديمية حتى لحظة تقاعده. وقد أتاح له هذا الاستقرار الوظيفي والأكاديمي- الذي استمر خمسة عشر عاما - أن يبدع معظم أعماله العلمية في مجال المجتمع والحياة الاجتماعية.
أثرى كوزر التراث السوسيولوجي العالمي بنخبة من أعماله العلمية المثيرة للجدل أبرزها كتابه الجديد (تتمة في دراسة الصراع الاجتماعي) (Continuities in the Study of Social Conflict) عام 1967 وكتاب: (أساتذة الفكر السوسيولوجي) (Masters of Sociological Thought) سنة 1971، وكتاب النظرية الاجتماعية (Sociological Theory, 1964) وكتاب: (أهل الأفكار) (Men of ideas, 1965) عام 1965، وكتاب "علم الاجتماع السياسي" (Political Sociology, 1967) وكتاب: "البحث في الصراع الاجتماعي" 1967 (Research on social conflict).
تسنم كوز مناصب علمية ريادية عديدة، من أهمها انتخابه لرئاسة جمعية علم الاجتماع الشرقية (1964-1965)، وتوج رئيسا للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع (1975-1976)، ثم انتخب رئيسا لجمعية دراسة المشكلات الاجتماعية، ورابطة علم الاجتماع (1983) ؛ ويتم تكريمه سنويًا من خلال جائزة Lewis A. Coser التابعة للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع.
انتقل مع عائلته للعيش في كامبريدج ماساتشوستس، بعد تقاعده من العمل الأكاديمي عام 1987، وعمل بعدها على تطوير الأحكام النظرية الرائدة التي أصبحت المتطلبات الأساسية لتشكيل النظرية الصراعية، وقام بدراسة عدد كبير من الظواهر المتعلقة بأسباب الصراع وشدته ووظائفه وعنفه[2].
توفي لويس كوزر في 8 يوليو 2003 عن عمر يناهز 90 سنة تاركاً خلفه تاريخاً حافلاً بالإنجازات العلمية السوسيولوجية، أهمها نظريته الشهيرة في سوسيولوجيا الصراع الاجتماعي، وهي النظرية التي عمل على صوغ مفاهيمها وتشكيل فرضياتها وتأصيلها مرجعية مهمة في مجال سوسيولوجيا الصراع الاجتماعي.
3-مؤثرات كوزر:
تأثر كوزر كثيرا بأفكار عالم الاجتماع الألماني جورج زيميل (George Simmel) [3]، وتصوراته السوسيولوجية، ولم يمنعه ذلك من اللجوء أحيانا إلى أفكار ماركس وفيبر لتأطير أو توضيح بعض القضايا التي تتعلق بالصراع الاجتماعي. وكان زيميل في حقيقة الأمر أوّل من نظرّ إلى الصراع الاجتماعي بوصفه قوة طبيعية تمارس دورا وظيفيا في المجتمع يتمثل في صون وحدة المجتمع وتحقيق تكامله. وقد تمثل كوزر مذهب زيميل وذهب إلى أبعد من ذلك، عندما يعلن بأن الصراع الاجتماعي يشكل قوة حافزة يعوّل عليها في مسار تشكيل هويات الأفراد والجماعات الإنسانية والمحافظة على تكاملها، وقد أشار في هذا السياق إلى أن الصراع يشكل أحد أهم وسائل التنشئة الاجتماعية التي يمكن من خلالها تعزيز التضامن والتفاعل داخل الجماعات الإنسانية وترسيخ التفاعل بين الطبقات الاجتماعية[4].
وقد تلقّف كوزر هذه الفكرة من زيميل وعمل على تطويرها وتوظيفها في نظريته الجديدة على نحو وظيفي. وقد أشار كل من جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي إلى هذا التواصل الفكري بين جورج زيميل الذي قدم المساهمات الأساسية فيما يتعلق بوظائف الصراع الاجتماعي وبين كوزر الذي توج أفكاره مؤكدا أن الصراع يعمل على تماسك المجتمع والجماعات ذات البناء المتفكك مبينا أنه في مجتمع ما يعاني من التفكك يمكن الصراع أن يعيد له لحمته وتضامنه[5].
وتتميز الطاقة الإبداعية لكوزر في استكشاف الأبعاد الوظيفية المتجددة للصراع، وإخراجه من دائرة التصورات السلبية الضيقة التي اعتادت على تقييمه بوصفه مجرد مصدر للتغيير والتفكيك الاجتماعي. وتأسيسا على منظور زيميل، انطلق كوزر إلى تطوير نظرية جديدة يؤكد فيها الطابع الوظيفي الحيوي للصراع في المجتمع، معلنا أن الصراع لا يلعب دورا تدميرا وتفكيكيا في المجتمع، بل يشكل – على خلاف التصورات الوظيفية - فعالية اجتماعية حيوية تمارس دورها في تحقيق الانسجام والتكامل في المجتمع، كما يشكل عنصرا أساسيا في تكوين الجماعات واستمرار الحياة الجماعية [6]. ويأخذ كوزر في هذا الموقف اتجاها يعارض فيه الوظيفية والماركسية على حد سواء ويرى على خلافهما بأن انتشار الصراع في المجتمع يشكل مطلبا حيويا ضروريا من مطالب التوافق الاجتماعي في مختلف مستويات الحياة الاجتماعية. وقد استلهم هذه الرؤية من تصورات زيميل حول الدور التحفيزي للصراع في المجتمع في مجال بناء الهويات وتشكيل الجماعات وتحفيز الإبداع الفكري والابتكار الاجتماعي وإحداث التغيير الاجتماعي المطلوب حضاريا.
4-الإطار العام لنظرية الصراع عند كوزر:
يتضمن مفهوم الصراع الاجتماعي - وفق كوزر - نسقا من الظواهر التي تتراوح بين الخلافات والتناقضات والاضطرابات التي يمكن أن تعزى إلى الصراع الطبقي، كما يشتمل على مختلف المنافسات والصراعات الدولية والحروب التي تنشب بين الدول. وقد وجد كوزر في كتابه «وظائف الصراع الاجتماعي» "بأنه لا توجد نظرية متكاملة في الصراع الاجتماعي تستوعب مختلف ظواهره وعوامله ومتغيراته وتضاريس وجوده، ولم يزعم أن كان معنيا ببناء نظرية شاملة في هذا المجال، ولكنه كان قد عقد العزم على أن يقدم مشروعا فكريا يبحث في مفهوم " الصراع الاجتماعي" ويسعى في النهاية إلى تشكيل نسق عام من القضايا والتصورات النقدية التي يمكنها أن تشكل منطلقا جديدا متكامل في تناول قضايا الصراع الاجتماعي في مختلف تجلياته وفي سائر تعيناته في الواقع الاجتماعي[7].
يعرف كوزر الصراع الاجتماعي، بداية، بأنه نزع أصيل في فطرة الإنسان متجذر في صميم طبعه الإنساني، وتأسيسا على هذه الأصالة الفطرية يتجلى الصراع في مختلف مظاهر الوجود الاجتماعي، ويضرب حضوره المكثف في أكثر أوجه الحياة الإنسانية تنوعا وشمولا. وقد عرّف كوزر الصراع الاجتماعي على أنه " صراع يتم بين الفرقاء المتخاصمين ويدور حول توزيع مصادر القوة والمكانة النادرة وهو يستهدف الخصوم ويعمل على تحييدهم والإضرار بهم أو التخلص منهم "[8]، وعلى هذا النحو يتجلى الصراع بوصفه صراعا على المكانة والسلطة والموارد التي تهدف إلى تحييد الخصوم وإخضاعهم أو القضاء عليهم" [9].
وفي سياق آخر، يرى كوزر أن الصراع يعبر عن حاجة نفسية صميمية قائمة في البنية السيكولوجية للأفراد، وهو الأمر الذي يدفعهم إلى ممارسة العنف داخليا وخارجيا. وعلى هذا الإيقاع يرى أن الحاجة النفسية إلى العنف والصراع تتراكم في نفوس الأفراد والجماعات مع مرور الوقت وقد تصل إلى ذروتها الانفجارية في وقت ما. ولأن الصراع قد يشكل حاجة نفسية عند الأفراد والجماعات، يجب على المجتمع أن يتعامل مع هذه الحاجة النفسية، وأن يعمل على إنتاج معايير وضوابط وقيم تحكم هذا النزع السيكولوجي إلى الصراع وتوجهه خارج سياقات التدمير والهدم. ويوضح كوز هذا الأمر بالإشارة إلى التدابير والقوانين الرسمية التي تحكم العمل في البلدان الرأسمالية الغربية والتي جاءت نتيجة للنزاعات والصراعات التي اندلعت بين العمال وأرباب العمل.
ويعطي كوزر أهمية كبيرة لفعالية التناقضات الثقافية والاجتماعية في توليد الصراع، ويرى أن هذه التناقضات قد تنمو وتتعاظم إلى الدرجة التي تتسبب فيها بحروب ونزاعات مسلحة قد تندلع في أي مكان من أصقاع الوجود الإنساني، وفي أي مرحلة من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية.
يؤكد كوزر أن الصراع يأخذ طابعا وظيفيا إذ يقوم بوظيفة المحافظة على سلامة المجتمع وسلامة التكوينات الاجتماعية القائمة فيه، كما أنه يؤدي إلى توليد مختلف أشكال التغير ومظاهر الوجود الاجتماعي. ويحدد كوزر نسقا من الأفكار الأساسية التي ينطلق منها في التأسيس لنظريته الصراعية [10].
يرى كوزر أن المجتمع نظام مكون من أجزاء مترابطة ومتداخلة وظيفيا واجتماعيا فيما بين الأفراد والمؤسسات والجماعات. وفي داخل المجتمع يحدث الصراع بين أفراد والجماعات على الموارد والخيرات والاجتماعية، ويتجلى هذا الصراع على صورة اختلالات وتوترات وتضارب في المصالح بين مختلف التكوينات الاجتماعية المترابطة. ومع ذلك فإن الصراع بكل ما ينطوي عليه من توترات يؤدي في نهاية الأمر إلى المحافظة على وحدة المجتمع وتكامله، ويزيد من قدرة المجتمع بأفراده وجماعاته على تحقيق أعلى درجة من التكيف والتضامن بوجهيه الخارجي والداخلي [11].
فالعنف والصراع - كما يرى كوزر - يؤديان وظيفة تكاملية في المجتمع، وذلك على خلاف الرؤية الوظيفية التي ترى بأن الصراع يؤدي إلى تفكك المجتمع وزواله. ويحاول كوزر في سياق نظريته هذه أن يقدم تصورات تحض على إدارة الصراع وتوجيهه وتنميته في اتجاه المحافظة على وحدة المجتمع وتكامله، لأنه -كما أشرنا سابقا- يعتقد بأن السكون الاجتماعي أشبه بالموت الذي يؤدي إلى الخراب وتدمير المجتمع [12].
وعلى هذا النحو يرى كوزر بأن سوء توزيع الموارد يؤدي إلى الاضطراب في المجتمع، كما يؤدي في الوقت نفسه إلى اندلاع أنواع مختلفة من الصراع بين أفراد المجتمع فيما بينهم، وفيما بين الجماعات التي تضمهم، ومع ذلك فإن الصراع يأخذ طابعا وظيفيا في ترسيخ التلاحم والتضامن بين أفراد المجتمع وبين مكوناته، وهو الفعل الذي يضاعف قدرة المجتمع على تحقيق أعلى درجة من المرونة والتكيف داخليا وخارجيا، كما يعمل على زيادة قدرته في تحقيق التوازن الخلاق في المستقبل، إذ يمكّن المجتمع مستقبلا من السيطرة على ذاته، ومواجهة تحدياته المصيرية عبر فعالية الصراع الوظيفي ذاته، الذي يزيد من قدرة المجتمع على التكيف مع الظروف المفاجئة المتغيرة والاستجابة لمتطلباتها.
ويرى كوزر أن الصراع يغطي مختلف الظواهر الاجتماعية القائمة على التفاوت في امتلاك الموارد التي تتمثل في السلطة والثروة القوة، ويؤكد دائما أن التباين في التملك يؤدي إلى التصادم، ومن ثم إلى نشوب الصراع الذي يأخذ أشكالا متعددة فكرية أو سياسية أو عسكرية. ومهما يكن الأمر فالصراع يهدف إلى إعادة توزيع الموارد الحيوية بين الفرقاء المتصارعين، وتحقيق السلام لاحقا فيما بينهم. ومن الواضح أن هدف الصراع غالبا ما يكون من أجل إشباع الحاجات المادية والمعنوية، ويدور في فلك الحصول على حصص متساوية، أو إعادة توزيع الثروة والموارد. ويقرّ كوزر بوجود صيغتين للصراع: تتمثل الأولى في أن يكون الصراع خفيا كمونيا مستتراً يعتمل على نحو تراكمي في عمق الحياة الاجتماعية. وتتمثل الصيغة الثانية في أن يكون واضحا جليا وعلنيا يتجلى في مختلف مظاهر التصادم بين الجماعات والأفراد [13].
دأب كوزر على التمييز بين الصراع الإنساني والصراع في مملكة الحيوان، فالصراع الإنساني – على خلاف الحيوان – يتحرك وفق أهداف معلومة وغايات مرسومة، ومن البداهة أن الإنسان يتحرك في معركة الوجود وفق نظام من الغايات والمقاصد التي يريد أن يحققها ويجسدها، وهذا يعني أنه لا يمكن للصراع الإنساني أن يحدث دون غايات وعلل وأسباب مرسومة ومعلومة، ومن أجل تحقيق هذه الغايات، وتجسيد هذه المصالح، يتبع الإنسان طرقا ومسالك عديدة مختلفة فيما بينها لتحقيق ما يصبو إليه من أهداف ومصالح. وفي معظم الأحيان تتنوع وسائل تحقيق الأهداف عند الإنسان، ولاسيما عندما تتصادم هذه الغايات مع مصالح الآخرين في المجتمع، وقد يكون الأمر بالتفاوض أو المساومة، أو الحوار، أو العنف، وصولا إلى الحرب والقتال. فالصراع كما يراه كوزر أمر طبيعي في الحياة، وتكوين صميمي في جبلّة الإنسان وطبيعته الاجتماعية، ومن هذه الزاوية ينطلق كوزر للبحث في مزاياه وتجلياته وتشكلاته، واستكشاف كل ما يتعلق به في دائرة الحياة الإنسانية والاجتماعية [14].
5- نقد الوظيفية:
لم يقف كوزر عند حدود التأكيد الوظيفي للصراع، بل انطلق ليوجه انتقاداته الصارمة ضد النظرية الوظيفية التي تركز على أهمية التضامن الاجتماعي، واندفع ليوجه نقده إلى نظرية الاستقرار الاجتماعي ومفهوم التوازن الخلاق، ومن ثم نراه يهاجم البنى الاجتماعية المتصلبة ومركزية التسلط والقوة في الوقت نفسه. وذهب في نظريته هذه إلى ابعد من ذلك، عندما أعلن بقوة، أن غياب الصراع قد يؤدي إلى موت المجتمع وفنائه، فالسكون موت، والتصلب عدم، وكلاهما يؤدي إلى التفكك والانحلال. وعلى هذه الصورة يقلب كوزر للنظريات الماركسية والوظيفية ظهر المجن معلناً أن الصراع يشكل الشريان الحيوي للمجتمع، ومنطلقا أساسيا لعمليات الخلق والإبداع والتجدد والابتكار[15].
وبناء على هذه الرؤية المبتكرة نادى كوزر بضرورة المحافظة على وضعية الصراع في المجتمع وأهمية إدارته وتوظيفه إيجابيا والعمل على وضعه في منسوب مرتفع نسبيا. وفي الوقت نفسه نادى بوجوب العمل على فتح منافذ لتصريف الصراع الاجتماعي السلبي لتجنيب المجتمع من آثاره التفكيكية الضارة. وقد أعلن ان الصراع الاجتماعي يؤدي إلى زيادة الوعي بين الأفراد بالمعايير المشتركة للجماعة، ويؤكد أهمية الامتثال للقوانين والأعراف، ويشكل في النهاية منطلقا للتجديد وتوليد كيانات اجتماعية جديدة.
وقد تجلى نقده للوظيفية في أول عمل رئيسي له حول "وظائف الصراع الاجتماعي في عام 1956" وبين أن الوظيفية قد بالغت في التركيز على الثبات والتضامن الاجتماعي، وهاجمت مختلف أشكال الصراع والتناقضات في المجتمع، ونظرت إلى كل أشكال الصراع على أنها ظواهر سلبية مرضية انحرافيه تهدد الأمن الإنساني وتؤدي إلى التفكك الاجتماعي، كما نادت بإخماد ظواهر الصراع والعنف بوصفهما تهديدا للتوازن في النظام الاجتماعي.
استمر كوزر في توجيه النقد للوظيفة بصورة عامة معلنا فشلها في تناول قضية الصراع ووظائفه. وفي هذا السياق النقدي يرى كوزر أن دوركهايم يتخذ توجهاً محافظاً متشددا في تناوله لوظائف المجتمع، وهو الأمر الذي منعه من إدراك بعض الجوانب السوسيولوجية المهمة في المجتمع، ومن أهمها مفهوم الصراع الاجتماعي الذي جاء خافتا ورتيبا في نظرية دوركهايم الوظيفية، وهو الذي قد أُخذ بسحر النزعة المحافظة الثابتة، وهو الأمر الذي جعله ينظر إلى الصراع بوصفه تهديدا للتوازن الاجتماعي، وهو في غمرة هذا النزع الأيديولوجي لم يستطع أن يدرك الدور الكبير للصراع في تحقيق التكامل الاجتماعي، ولم يأخذ بعين الاعتبار بأن الصراع يشكل فرصًا للتغييرات الاجتماعية البناءة.
ولم يسلم تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) - المنظر الأحدث للوظيفية - من انتقادات كوزر الذي أعلن رفضه الواضح لنظرية تالكوت بارسونز الذي كان يرى - كسلفه دوركهايم- بأن الصراع ظاهرة مرضية في المجتمع يجب اجتثاها من أجل المحافظة على أمن المجتمع وتوازنه. وقد أكد كوزر في سياق نقده للوظيفية بأن الوقت قد حان لتصحيح مسارات النظرية الوظيفية من خلال التأكيد على أهمية الصراع وضرورته للحياة الاجتماعية ومن ثم النظر إلى الثبات الاجتماعي نفسه بوصفه خطرا يهدد المجتمع وتكويناته الأساسية فالصراع ضرورة وجودية حياتية ومن غيره لا يمكن للمجتمع أن يحقق نموه وتماسكه أبدا.
ولم يتوان موزر في النهاية عن مهاجمة دارندورف وغيره من المنظرين الديالكتيكيين نظرا لما أبدوه من إهمال التأكيد على الوظائف الإيجابية للصراع ودوره في المحافظة على النظام الاجتماعي. ويمكن القول في هذا السياق إن كوزر حاول أن يصحح مسارات كل من التصورات التي أفاض بها ماركس ودارندورف حول النتائج السلبية للصراع العنيف، وأن يؤكد في الوقت نفسه الوظائف التكاملية للصراع في الأنظمة الاجتماعية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن عددا من المنظرين وجدوا أن من المناسب دمج نظرية الصراع والبنائية الوظيفية في كيان واحد، ولكن بعضهم رفض هذا التوجه كليا على سبيل المثال، رفض الماركسي أندريه جوندر 1966 [16] نظرية الصراع لأنها تمثل صورة غير ملائمة النظرية الماركسية، ومع أنها تحمل بعض العناصر الماركسية، فإنها ليست الوريث الحقيقي لنظرية ماركس الأصلية ولا يمكنها أن تكون [17].
6- مصدر الصراع:
شكل البحث عن مصادر الصراع أحد أهم شواغل منظريه، وقد شغل كوزر كغيره من المفكرين في رصد مصادر الصراع والكشف عن مواطنه. وعلى هذا المنوال يحاول كوزر - بعد إقراره بأصالة الصراع نزعا أصيلا في الإنسان- أن يبحث في مصادر هذا الصراع وفي أصل نشأته، وقد وجد أن الصراع ينشأ في معترك البحث عن الموارد والسلطة والقوة والأمن الاجتماعي، ووجد أيضا أن شرارة الصراع والنزاع تنطلق على معطيات التوزيع غير المتكافئ للموارد والثروة والمكانة والسلطة. ويبدو لنا أن تصور كوزر لمبدأ الصراع ومنبعه لا يختلف عن سائر رواد نظرية الصراع الاجتماعي كما هو الحال عند ماركس ودارندورف وكولينز.
يرى كوزر في هذا السياق أن التباين والتمايز في المكانة والدخل أو الملكية يعبر عن اللامساوة في الاستحواذ على الموارد النادرة، وأن هذا التمايز يشكل عاملا أساسيا في نشوب الصراع الاجتماعي، فالأفراد ينزعون فطريا إلى الاستحواذ على الثروات والموارد والخيرات في المجتمع، وهذا التنافس على الخيرات، يشكل مصدرا أساسيا للصراع بين الجماعات والأفراد في المجتمع، وعندما تستحوذ جماعة على الحصة الأكبر يؤدي ذلك إلى ظهور جماعة أخرى ترفض التوزيع غير العادل وتناضل من أجل استعادة توازن القوى والقضاء على عدم المساواة[18].
وإذا كان الحرمان من الوصول العادل إلى الموارد يشكل منطلق الصراع الاجتماعي، فإن كوزر يميز بين نمطين من الحرمان الاجتماعي: الحرمان المطلق والحرمان النسبي. وقد بين أن الحرمان النسبي يؤدي عمليا إلى توليد الوعي النقدي الذي يتحول فيما بعد إلى صراع سياسي واجتماعي. ويقابل الحرمان النسبي الحرمان المطلق الذي يتمثل في حالة الفقر المدقع، والقهر الشديد وتردي مستوى العيش إلى ما دون خط الفقر، وبعبارة أفضل، يوصف الحرمان المطلق بأنه حرمان عميق وشامل لأبسط مقومات الحياة الكريمة مثل (الغذاء، والمأوى، والملابس). والناس في مثل هذه الحالة – الحرمان المطلق - لا يملكون الموارد أو الوعي النقدي وقوة الإرادة للانخراط في الصراع والتغيير الاجتماعي.
ويرى كوزر في هذا السياق أن التحول من الحرمان المطلق إلى الحرمان النسبي يشكل عملية مهمة تؤدي إلى إنتاج الوعي النقدي لدى الأفراد والجماعات. فالأفراد الذين يعيشون وضعية الحرمان النسبي يولد لديهم الشعور والوعي بالحرمان، وهؤلاء المحرومين نسبيا يمتلكون الوعي والمصادر العاطفية والمادية للمشاركة في الصراع والتغيير الاجتماعي.
وهذا يعني أن الحرمان المطلق لا يؤدي إلى تحفيز الناس على الثورة والتغيير، بل هو الحرمان النسبي الذي يحقق هذه الغاية؛ وفي هذا السياق يعطي كوزر أهمية كبيرة لعملية الانتقال من الحرمان المطلق إلى الحرمان النسبي، ويرى أن هذا التحول إلى الحرمان النسبي قد يؤدي إلى الانفجار الثوري أو قد يمهد له على الأقل، فالأشخاص الذين يتدرجون صعودا في سلم الحرمان من الحرمان المطلق إلى الحرمان السلبي يتملكهم إحساس بالخسارة أو الحرمان وتأخذهم الرغبة إلى التمرد والعصيان للمطالبة بحصص أفضل من الموارد المادية والمعنوية.
يستوحي كوزر فكرة ماركس عن الحرمان النسبي، وقد سبق لماركس التنويه إلى أن الحرمان المطلق قد يؤدي إلى الخضوع المطلق ويقف عائقا أمام التطور. وتبين التجارب السياسية أن احتمالات قيام الجماهير التي تعاني القمع الديكتاتوري الساحق بالثورة أو التمرد ضعيف جدا، لأن الأنظمة الديكتاتورية المطلقة تقمع جماهيرها وتسحقهم بلا رحمة، ولذا فإن تمرد الجماهير سيكون بالمطلق أقل احتمالية بالمقارنة مع الأنظمة التي يحظى فيها الأفراد ببعض الحريات وببعض الوعود التي تتعلق بتحسين أوضاعهم الإنسانية.
وقد وصف كوزر الكيفيات التي يؤدي فيها الحرمان إلى الصراع على النحو التالي: [19].
1. عندما يبدأ أفراد المجتمع المحرومين بوعي ظروف حرمانهم يبدؤون برفض شرعية التوزيع غير العادل للموارد والخيرات، ويؤدي هذا الرفض للشرعية القائمة إلى نشوب الصراع.
2- يؤدي غياب المؤسسات التي تعني بالمظالم الاجتماعية الناجمة عن التوزيع غير العادل للموارد إلى زيادة احتمال التشكيك في شرعية النظام واندلاع الصراع.
4- كلما زاد الحرمان ضد الأفراد الذين ليس لديهم قنوات اجتماعية للتظلم زادت فرص الصراع.
6- عندما يتحول الحرمان من الحرمان المطلق إلى الحرمان النسبي زاد شعور الأفراد بالظلم وارتفع احتمال نشوب النزاع والصراع.
7-عنف الصراع:
يبدو أن كوزر كان مرتبكا ربما في تعريفه لعنف الصراع، ويعني به درجة العنف التي يعتمدها أطراف النزاع لإلحاق الأذى بخصومهم أو بهدف إخضاعهم أو القضاء عليهم. وقد بحث كوزر في الظروف التي تجعل العنف أكثر احتداما أو أقل وضراوة. ويحلل كوزر الكيفيات التي يتجلى فيها الصراع الاجتماعي، ويتأمل في تقلباته وتدرجات أحواله، ويرى أنه عندما يجد الأفراد المتصارعون أنه يمكن تحقيق العدالة عقلانيا، أو بالحوار والقانون، فإن الصراع سيكون غالبا أقل عنفًا وبطشا ودموية.
وقد يدخل الأفراد المتنازعون في عملية حوار لخفض مستوى التوترات والصراعات، ومع أن الحوار لا يخلو من التوتر، وقد يكون متشبعا بالعنف الرمزي، فإن عنف الصراع سيكون غالبا منخفضا في مستوياته. فالناس عادة ينخرطون في الحوار، ويبحثون عن وضعية للتوازن بين مطالبهم المتعارضة، ويبدؤون نوعا من المساومات حول متطلباتهم، ويسعون بواسطة الحوار والتفاهم إلى تحقيق أهدافهم دون اللجوء إلى العنف وشدته. ومثال ذلك إضراب العمال، فالعمال يضربون لتحقيق أهداف محددة بوضوح، وعادة لا يريد المضربون أن يصبح النضال عنيفًا – إذ يمكن للعنف أن يقلل من فرص تحقيق أهدافهم (على الرغم من أن الإضرابات ستصبح عنيفة في ظل ظروف معينة). ومن الأمثلة الأخرى حركات المقاومة السلبية والثورات السلمية التي نادي بها غاندي، التي حققت نجاحا كبيرا في الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي.
ويطلق كوزر على هذه الطرق السلمية الصراع تسمية الإدارة الاستراتيجية للصراع. ومثال ذلك أنه عندما يضرب العمال عمومًا لتحقيق أهداف محددة بوضوح، فإنهم غالبا لا يريدون أن يصبح النضال عنيفًا – إذ يمكن للعنف أن ينتقص من تحقيق أهدافهم، ويقلل من قيمة نضالهم (على الرغم من أن الإضرابات ستصبح عنيفة في ظل ظروف معينة). ومن الأمثلة الأخرى حركات المقاومة السلبية في الستينيات وأوائل السبعينيات. يمكننا التفكير في هذه الأنواع من المواجهات على أنها استخدام استراتيجي للصراع. ومع ذلك، يمكن أن يكون الصراع عنيفا في ظل بعض الظروف والأحوال.
ثم يحاول كوزر أن يحدد بعض القواعد الأساسية التي يمكن أخذها بعين الاعتبار لمعرفة الظروف التي تؤدي إلى زيادة حدة العنف وأهمها: [20]
1. إذا كانت أطراف النزاع أكثر وضوحًا في أهدافها كانت أكثر عنفًا. وهذا يعني إذا كانت الأطراف المتنازعة قد حددت لنفسها بوضوح غاياتها واستراتيجياتها وأهدافها فإن العنف قد يجري على وتائر عالية جدا. وهذا يعني أيضا أن الأطراف المتصارعة تستطيع أن تتخذ قرارتها بمرونة وانسيابية أكبر لصالح استخدام العنف الشديد في الصراع.
3- تشتد درجة العنف دائما عندما تشعر الأطراف المتنازعة أن الهزيمة أو الانتصار سيكون تأثيرهما حاسما فيما يتعلق بالمحاصصة على الموارد أو رفاهية الأطراف المتنازعة. وهذا يعني أن العنف يزداد ضراوة إذا كان الصراع وجوديا يتعلق بأسباب الوجود المادي والمعنوي. وهذا يعني أيضا أن حدة الصراع تزيد من درجة التضامن الاجتماعي والأيديولوجي الداخلي للجماعات المتصارعة.
5- تؤدي الزيادة في درجة العنف إلى التضامن الداخلي للجماعات المتصارعة، وتؤدي إلى قمع كل أشكال المعارضة والصراع الداخلي، وهذا الوضع يفرض على أفراد الجماعة الامتثال القسري للمعايير والقيم السائدة في الجماعة. وهذا يذكرنا بالخطاب الأيديولوجي لدولة البعث في سوريا عندما طرحت شعار كل شيء للمعركة في صراعها مع العدو الصهيوني، وقد بدا أي عمل أو نقد أو معارضة أشبه بالخيانة العظمى للدولة والمجتمع.
6- وتأسيسا على ما سبق -أي في البند الخامس- فإن الامتثال القسري لأفراد الجماعة أثناء الصراع ستكون له نتائج سلبية على المدى الطويل، لأنه يؤدي إلى تراكم الأحقاد والغضب ويشجع الأعمال العدائية ضد الشرعية في الجماعة، وهذا بدوره قد يؤدي إلى تفجير الصراعات الداخلية للجماعات المتصارعة.
وبعد أن يفند ظروف زيادة حدة العنف يبحث كوزر في عوامل إضعافه وظروف تراجعه ومنها:
1- كلما انخرطت المجموعة في نزاع حول قضايا واقعية (أهداف يمكن الحصول عليها)، من المرجح أن تسعى إلى حلول وسط حول وسائل تحقيق مصالحها، وبالتالي، كان النزاع أقل عنفًا. وعلى خلاف ذلك كلما ازداد عدد الجماعات التي تنخرط في نزاع حول قضايا غير ملموسة أو واقعية، ارتفع منسوب الإثارة العاطفية ودرجة المشاركة في الصراع وأصبح الصراع أكثر عنفًا.
2- عندما تنخفض مستويات الترابط الوظيفي والعاطفي بين أفراد الجماعة ضعفت إمكانية امتصاص حدة النزاعات والتوترات ليصبح الصراع أكثر عنفًا.
3- كلما زادت فروق القوة بين المرؤوسين والمرؤوسين في النظام، قل الترابط الوظيفي والاجتماعي في داخل الجماعة وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة حدة الصراع وقوته.
4- كلما زاد مستوى انعزال المجموعات السكانية الفرعية في النظام، قل ترابط العلاقات وظيفيًا فيما بينها.
ويلاحظ في هذا السياق أن كوزر يميز في الصراع بين الصراعات التي تنشب لتحقيق أهداف واقعية ملموسة، وتلك التي تقوم لتحقيق أهداف فضفاضة غامضة وغير واضحة. ويرى في هذا الاتجاه أن الواقعي والملموس يؤدي إلى خفض حدة الصراع، وعلى خلاف ذلك فإن الصراع غير الواقعي يكون عنيفا وساحقا، وذلك لأن الصراع في المستوى الثاني غالبا ما يدور حول القيم والمعاني والتصورات الثقافية والمعتقدات والأيديولوجيا والمصالح الطبقية المبهمة المعرفة. فالقيم تحشد المشاركين عاطفياً وانفعاليا وتدفعهم إلى الاستبسال في الصراع حتى النهاية.
ويلاحظ كوزر أنه في الأنظمة التي توجد فيها درجات عالية من الاعتماد الوظيفي المتبادل بين الجهات الفاعلة - أي حيثما يكون هناك تبادل وتعاون متبادل - فمن غير المرجح أن يكون الصراع عنيفًا. ويتضح في هذا السياق أنه إذا كان هناك تفاوت كبير في درجة القوة بين الجماعات المتصارعة فإن الترابط الوظيفي ينخفض، وفي هذه الحالة عندما ينشب الصراع فإنه يميل إلى أن يكون عنيفًا.
8- مدة الصراع:
يولي كوز أهمية كبيرة لمدة الصراع، ويلاحظ في هذا السياق أن استمرار النزاعات لفترات طويلة من الزمن يعطي للصراع طابعا أيديولوجيا وعاطفيا بصوة متزايدة، وهذا يؤدي بالضرورة إلى زيادة درجة شدته وضراوته. ويلاحظ في هذا السياق أن كوزر ينظر إلى مدة الصراع بوصفه متغيرا تابعا أي نتيجة لمتغيرات أساسية مستقلة، ولكنه في بعض الأحيان يؤدي دوره بوصفه متغيرا مستقلا أي ينفرد بنفسه ويكون سببا في توليد وضعيات محددة في مجال الصراع فيؤثر في متغيرات تابعة مثل: شدة الصراع ودرجة العنف وطبيعة الدور الوظيفي الذي يؤديه. وهنا وفي هذا المستوى فإن كوزر يبحث في المتغيرات التي تؤثر في تحديد طول مدة الصراع.
يرى كوزر أنه عندما تكون الأهداف واقعية محدودة وملموسة، يمكن أن نتنبأ بمدة الصراع الذي يرتهن - هنا في هذه الحالة - بتوقيت تحقيق هذه الأهداف ومعرفة متى سيتم تحقيقها ـ وغالبا ما ينتهي الصراع مع إنجاز الأهداف الواقعية. وعلى خلاف ذلك عندما تكون أهداف الصراعة واسعة وغير محددة فإن الأمر قد يؤدي إلى إطالة فترة الصراع.
وفي هذا السياق يحدد كوزر مجموعة من المعايير التي يمكن اعتمادها في تحديد مدة الصراع، وهي: [21].
1. يطول أمد الصراع كلما كانت الأهداف ضبابية وغير محددة. وهذا يعني أنه كلما قلت احتمالات التوافق حول أهداف الصراع، طالت مدته واستطال أمده.
3- كلما قلّت قدرة أطراف النزاع على تفسير النقاط الرمزية للنصر والهزيمة لخصمهم، كلما طال أمد الصراع.
4- كلما أدرك قادة الأطراف المتصارعة أن تحقيق الأهداف بشكل كامل سيكون مكلفا جدا تقلصت فترة الصراع. وهذا يعني أيضا أنه زاد احتمال إدراك القادة للتكاليف الباهظة للتحقيق الكامل للأهداف تراجعت مدة الصراع.
6- كلما كانت مؤشرات الهزيمة أو الانتصار أكثر وضوحًا في النزاع، زاد احتمال إدراك القادة للتكاليف الباهظة للتحقيق الكامل للأهداف، وهذا يؤدي أيضا إلى تقلص مدة الصراع.
7- كلما زادت قدرة قادة كل طرف من أطراف النزاع على إقناع أتباعهم بإنهاء النزاع، قل الصراع.
8- كلما كانت أطراف النزاع أكثر مركزية، زادت قدرة القائد على إقناع أتباعه بأهمية إنهاء الصراع، ويبنى على ذلك أنه ما قلت الانقسامات الداخلية داخل أطراف النزاع، زادت قدرة القائد على إقناع أتباعه.
وباختصار يمكن القول: إنه إذا نظر الناس إلى الصراع على أنه وسيلة لتحقيق أهداف عقلانية معبر عنها بوضوح، فإن الصراع سيميل إلى أن يكون أقل عنفًا.
9- الصراع العقائدي:
وعلى خلاف الصراعات السلمية والواقعية، يحدثنا كوزر عن الصراعات التي تأخذ منحىَ عقائديا عنيفا، ويحدد عاملين أساسيين يمكن أن يؤديا إلى صراع عنيف، هما: المشاركة الانفعالية العاطفية والأهداف المتعالية التي تأخذ منحى أيديولوجيا عقائديا.
عندما يرى أفراد جماعة ما أن العنف قد أصبح ضرورة لا محيد عنها، فإن الدعوة إلى العنف تصاغ تحت تسميات عقائدية مبدئية، مثل: العدالة والحرية والسلام وحماية حقوق الإنسان. قد يقول الرأسماليون على سبيل المثال: إنهم يناضلون من أجل الحريات الفردية والليبرالية الاقتصادية ضد كل أشكال الاستبداد والإكراه، وقد تشن الأحزاب المتطرفة حربها تحت شعارات دينية وإنسانية، وقد يقول الشيوعيون أيضا إنهم يقاتلون من أجل المسؤولية الاجتماعية والقيم الاشتراكية وقيم الحق والعدالة وكرامة الإنسان. ومثل هذه الأهداف السامية تشكل غطاء أيديولوجيا وعقائديا لشحذ القوة واستقطاب الأنصار وتوجيه الصراع إلى أعلى مستوياته وأعنف درجاته.
وقد رأى دوركهايم سابقا أن التفاعل الجماعي يمكن أن يزيد من الانخراط العاطفي الانفعالي ليشكل نسقا من القيم الأخلاقية المشتركة للجماعات البشرية. وقد نهج كوزر نهج دوركهايم في رؤيته للتفاعل العاطفي بين الأفراد، إذ يرى، أنه كلما زاد انخراطنا التفاعلي مع مجموعة أو جماعة ما، زادت مشاركتنا العاطفية مع أفرادها، وزادت احتمالية مشاركتنا في الصراع إذا تعرضت مجموعتنا للتهديد. ويميل الصراع أيضًا إلى الحصول على مستويات أعلى من العنف التفاعلي عندما يتم المسّ بقيم الجماعة العليا وأخلاقها.
وعلى خلاف هذه الصورة فإن منسوب العنف قد يتدنى إذا كان الأمر يتعلق بالاهتمامات اليومية العادية إذ يميل الناس إلى التخفيف من مشاركتهم العاطفية، وإبقاء الصراع ضمن حدوده الموضوعية والعقلانية. فالتفاعل يرفع منسوب الارتباطات العاطفية ويخلق حدودًا أخلاقية حول قيم المجموعة وأهدافها. وكلما زاد انخراط الأفراد مع مجموعاتهم، ازداد منسوب المشاركة الانفعالية وازداد احتمال نشوب صراع عنيف ولاسيما إذا تعرضت الجماعة للتهديد. يميل الصراع أيضًا إلى الحصول على مستويات أعلى من العنف عندما يُنظر إلى مثل الجماعة وقيمها. وينخفض العنف كلما كان الصراع موجها نحو الاهتمامات اليومية، إذ تنخفض مستويات العنف في مستوى المصالح الواقعية لأن العنف هنا لا يأخذ طابعا عقائديا وسيكولوجيا.
على سبيل المثال، عندما تخوض الولايات المتحدة حروبها في أكثر من مكان، فإن التبرير الذي تقدمه لا يستند إلى معطيات سياسية عادية، فعلى سبيل المثال لم تعلن الحكومات الأمريكية أن هذه الحروب تخاض لحماية مصالح أمريكا النفطية، بل على خلاف ذلك تم تبرير الحرب بأهداف أيديولوجية مثل: هزيمة الفتن والمحافظة على الأمن العالمي والحفاظ على الحرية وحماية حقوق الإنسان. وهذا يعني أن الولايات المتحدة لا تعبر أبدا عن الأسباب الحقيقية للحرب بل تعمد إلى التعمية الأيديولوجية، ففي حرب الخليج الأولى لم تعلن الحكومة بأن الحرب كانت من أجل حماية مصالح أمريكا الاقتصادية، بل أعلنت أنها كانت من أجل هزيمة الظلم والاستبداد والمحافظة على المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان العالمية. وفي الوقت الذي تلجأ فيه الحكومات الأمريكية إلى العنف والحرب تدبج أسبابها بعبارات أخلاقية تدور حول مفاهيم سامية وقيم أخلاقية في المجتمع الأمريكي مثل: الحريات الليبرالية، والأمن القومي، وحقوق الإنسان. وينسحب هذا الأمر على الأنظمة الماركسية الشيوعية الذين برروا حروبهم بتأكيد المساواة والعدل والحرية والمسؤولية الاجتماعية وكرامة الجماعة وحقوق العمال. ويتضح أنه كلما كانت التعبئة للحرب كبيرة وكلفتها عالية كلما أوغلت الحكومات في المبالغة بوجود أهداف سامية وقيم عليا ومبادئ إنسانية وقضايا مقدسة، على غرار الحروب الصليبية في العصور الماضية التي جعلت من المقدس الديني سببا ظاهرا للحرب والغزو والعنف للتغطية على الأسباب الحقيقية التوسعية، ومثل وهذه المبالغات الأخلاقية غير الواقعية تشحذ همم الناس وتؤدي إلى تعاطفهم مع العنف والقبول به ومن ثم الرضوخ لمطالب الدولة والمشاركة فيه باعتبارها مطلبا مقدسًا.
10- الصراع الداخلي والخارجي:
يميز كوز بين نوعين من النتائج الوظيفية للنزاع: الصراع الذي يحدث داخل المجموعة، والصراع الذي يحدث خارجها، أو بين الصراع الخارجي الوظيفي الذي يؤدي إلى تضامن الجماعة، والصراع الداخلي التفكيكي الذي يؤدي إلى تفكيك الجماعة وتدمير مقومات وجودها.
ويتحدد الصراع الداخلي بالتوترات التي يمكن أن تحدث في داخل الجماعة، مثل: الصراعات التي تندلع بين السكان الأصليين، أو تلك التي تندلع داخل الدولة الواحدة بين الحكومة والشعب على سبيل المثال، أو داخل طائفة من الطوائف، أو ملة من الممل، أو نحلة من النحل. ويقع الصراع عادة بين مجموعات تخضع لنظام اجتماعي واحد.
أما الصراع الخارجي فهو الصراع الذي يقع بين جماعات مستقلة، أو دول مختلفة ومتباينة كليا في أنظمتها وولاءاتها ومصادر عيشها، أو تلك الصراعات التي تقوم بين الدول وبين الأمم والشعوب من أجل الثروة والقوة والمصالح. ويرى كوز بأن الصراع الداخلي قد يكون أقل عنفا ودموية من الصراعات الخارجية.
يرى كوزر أن الصراع الداخلي المستمر قد يهدد وجود الجماعة، وعلى خلاف ذلك يؤدي الصراع الخارجي إلى تعزيز وحدة الجماعة وترسيخ تضامنها. ومن أجل التوضيح يضرب لنا كوزر مثالا حول الصراع الذي يجري في داخل مؤسسة الزوجية، فكثير من الناس يرون أن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الزواج هو الإخلاص الجنسي، الذي يعبر عن قيم الشرف والكرامة الإنسانية. قد يتجادل الزوج والزوجة حول أشياء كثيرة - مثل الأمور المالية، والأعمال المنزلية، ومقاعد المراحيض، وأنابيب معجون الأسنان - ولكن هناك احتمالات جيدة ألا تشكل أيٌ من هذه الأشياء تهديدًا لاستقرار الأسرة أو تفككها لأنهم لا يفعلون ما يتعارض مع المبدأ الأساسي الذي يوفر أساس قيام مؤسسة الزواج وهو الشرف والإخلاص.
من ناحية أخرى، قد يعرض الزنا الزواج للخطر، لأنه يتعارض مع الجوهر الأساسي الأخلاقي لمؤسسة الزواج الذي هو كما اسلفنا الشرف والإخلاص. فالصراع على أشياء مثل الأعمال المنزلية قد يثبت أنه فعال على المدى الطويل للزواج، في حين أن الزنا قد يكون معطلاً ويؤدي إلى تفكك الزوجية. ويبين كوزر أيضا بعض المسلمات التي تتعلق بالزواج والبعد الثقافي الذي يحيط به، ففي بعض المجتمعات لا يعد الشرف التقليدي الجنسي المبدأ الأساسي الأخلاقي للزواج، وفي هذه الحالة فإن العلاقات الجنسية الخارجية لن تفسد الزواج، وتؤخذ على أنها مجرد خطأ أخلاقي. وهذا يعني أن الزواج يعتمد في بقائه واستمراره على المبادئ الأساسية الأخلاقية التي يقوم عليها وعلى القيم الثقافية السائدة التي تحكم العلاقة بين الجنسين.
وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، التفاعل الاجتماعي الثقافي داخل المجتمع، ولاسيما الفضاء الذي يسمح فيه للأعضاء بالتعبير عن مواقفهم العدوانية داخل الجماعة، كما يجب أن نأخذ بطبيعة التفاعل الاجتماعي داخل الجماعة وكثافة هذا التفاعل، ومنها على سبيل المثال: عدد المرات التي يجتمع فيها أفراد الجماعة للبحث في قضاياها ومتطلباتها وقوانينها واحتياجاتها. فالمجموعات التي يتفاعل أعضاؤها بشكل متكرر مستمر على مدى فترات زمنية طويلة، ولديهم مستويات عالية من المشاركة الاجتماعية بين أفرادها، ستحافظ على وحدتها وقوتها ومستويات التضامن فيها، ومثل هذه الجماعات تقوم عادة بخفض مستويات الصراع الداخلي وقمعه أو تثبيطه في حال اندلاعه. ولكن عندما يندلع الصراع في مثل هذه المجموعات المتماسكة، فإنه قد يكون شديدًا للغاية لسببين:
أولاهما، من المرجح أن تتراكم المظالم والتناقضات التي لم يتم حلها في حينها داخل الجماعة، وأن تحدث فيها بعض الأعمال العدائية التي لم يتم الإفصاح عنها أو مناقشتها والتعبير عن ملابساتها، ولذا فإنه عندما تسنح الفرصة ستنفجر هذه المشاعر المكبوتة وتأخذ الجماعة إلى وضعية الصراعات العنيفة.
ثانيهما: يؤدي غياب التفاعل الاجتماعي داخل الجماعة إلى نمو المشاعر العدوانية بسهولة أكبر. ويتوقع كوزر في هذا السياق أن المجموعات التي تعاني من ضعف وتيرة التفاعل بين أفرادها، وانخفاض مستوياته ستكون معرضة بدرجة كبيرة لنشوب الصراع وهيمنة الاضطرابات والخلل، وهذا يعني أنه كلما كانت كثافة التفاعل منخفضة في الجماعة زاد احتمال نشوب الصراع بين أفرادها.
ويمكن للصراع الخارجي بين الجماعات المختلفة أن يؤدي إلى نتائج وظيفية أيضا، ولاسيما عندما يكون الصراع أكثر عنفًا، وعندما تواجه المجموعة صراعًا خارجيًا، تصبح الحدود المحيطة بالمجموعة أقوى، وتزداد قوة التضامن بين أعضاء المجموعة، وتميل المجموعة المهددة من الجماعات الأخرى إلى تشكيل تحالفات مع مجموعات أخرى.
عندما تواجه المجموعة صراعًا مع جماعات أخرى كما أسلفنا، تتصلب الحدود المحيطة بالجماعة، وتغدو أكثر قوة وصلابة وقدرة على حراسة التخوم. على سبيل المثال، خلال الحرب العالمية الثانية، قامت الحكومة الأمريكية بسجن الأمريكيين من أصل ياباني ومضايقتهم ووضعهم في معتقلات. ومع أن المواطنين الأمريكيين ينظرون إلى هذا الفعل نظرة ازدراء ويشعرون بنوع من الخزي والعار من تصرف حكوماتهم. فإن هذه الفعل كان إيجابيا في زمنه. وهذا الفعل - كما يرى كوزر- منح الأمريكيين فرصة أكبر للتوحد والانصهار في مواجهة الحرب الخارجية. فالتمييز الواضح في داخل الجماعة بين "نحن" و "هم" بين الأنا الأصيل في الجماعة والهو العارض يشكل وظيفة ضرورية لوجود أي مجموعة وتأكيد وحدتها وقوتها وتضامنها. وهذا بدوره يجعل الصراع أكثر قوة ومتانة. وباختصار فإن تعزيز وعي المجموعة بذاتها ووحدتها ومدى إدراك أفرادها للفواصل الثقافية التي تميزها عن الجماعات الأخرى يؤدي في النهاية إلى تماسك الجماعة وتأكيد هويتها ووحدتها.
وإلى جانب تعزيز صلابة الحدود الخارجية للجماعة، فإن الصراع يعزز التضامن الداخلي للجماعة ويعزز وحدتها وتفاعلها. فعندما تنخرط مجموعة في صراع، ينتاب أفراد الجماعة شعور أعمق بالصداقة والتعاطف والمحبة فيما بينهم بالمقارنة مع أوقات السلم. فالأفراد يرون أنفسهم على أنهم أكثر تشابهًا وتجانسا وهذا يزيد في اقتناعهم بأنهم ينتسبون إلى الجماعة ويتماهون بوجودهم فيها. وعلى هذا الأساس ينبري أفراد الجماعة إلى الدفاع عنها، والزود عن مقدساتها ورموزها، والاحتفاء بكل ما تنطوي عليه من قيم ومعايير ورموز. وهذا كله يؤدي إلى نوع من الترابط العاطفي بين أفراد الجماعة الذين ينخرطون في طقوسها بدرجة أكبر من الحماسة المخصبة بمشاعر المحبة والافتداء والتضحية تجاه الجماعة وما تنطوي عليه من قيم ومشتركات ثقافية، وقد ينتج عن ذلك تأصيل الروابط العاطفية وتمتين أواصر الصداقة والمحبة بين أفراد الجماعة.
بالإضافة إلى ذلك، تميل المجموعة التي تواجه صراعًا إلى إنتاج مؤسسة سلطوية أكثر مركزية، وذلك لأن الحكومة المركزية القوية أكثر كفاءة في وقت الحرب وزمن الصراع والخطر، وأكثر قدرة على تنظيم الضغوط والاحتياجات الداخلية، ومن ثم التفاوض في مجال العلاقات الخارجية، وما إلى ذلك. ويميل الصراع العنيف أيضًا إلى إنتاج تحالفات مع أطراف محايدة سابقًا. ويمكن الإشارة إلى التحالفات التي أبرمت في ظل الحرب العالمية الثانية التي شهدت كثيرا من التحالفات مع أطراف لم تكن منخرطة في الحرب.
11- وظائف الصراع الاجتماعي:
يشكل مفهوم وظيفية الصراع المقولة المركزية في نظرية كوزر وتصوراته السوسيولوجية. وهو يرى أن الصراع بصورة عامة يقوم على تأكيد الطابع الحيوي والتضامني في المجتمع ويكون دائما دائما فعالا وإيجابيا بقدر ما يستطيع تعزيز التضامن الاجتماعي.
في سياق هذه الرؤية الوظيفية للصراع، يقدم كوزر أمثلة تاريخية حيّة لدور الصراع في تحقيق تضامن المجتمعات الإنسانية ووحدتها، ويشير في هذا السياق إلى تماسك دولة الصهاينة الذي يعزى جزئيا إلى الصراع القائم بين الدولة الصهيونية والدول العربية. ويبين في مسار نقيض أن توقف الصراع بين العرب وإسرائيل سيؤدي إلى انفجار الصراعات الداخلية في قلب الدول الصهيونية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى سقوطها وزوالها.
ولم يكن كوزر وحيدا في هذا الرأي فكثير من علماء الاجتماع يرون أن الصراع الخارجي يشكل قوة تؤدي دورها في ترسيخ الوحدة الاجتماعية للدول، ومن المعروف في علم السياسة أن بعض الدول تصطنع إثارة عداوات تجاه بعض الدول الخارجية من أجل تحقيق التماسك الوطني والقومي في داخلها، وتعمل في الوقت نفسه على إبرام تحالفات مع دول أخرى تأكيدا على وحدتها وسلامة أراضيها. على سبيل المثال، أدى الصراع الصهيوني مع العرب إلى تحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ويبنى على ذلك أن تراجع هذا الصراع قد يقلل من الروابط بين إسرائيل والولايات المتحدة[22]. ويجب علينا في هذا الخصوص أن نتحفظ بقوة على رأي كوز فالعلاقات بين أمريكا وإسرائيل علاقات استراتيجية بعيدة المدى تتجاوز حدود الصراع والسلام مع الدول العربية.
وفي مثال آخر يرى كوزر أنه يمكن للصراع أن يؤدي إلى توحيد الأفراد المعزولين في كتلة سياسية أو أيديولوجية واحدة، وهذا ما حدث فعليا عندما دفعت الاحتجاجات ضد حرب فيتنام الشباب الأمريكي إلى الاضطلاع بأدوار قوية في الحياة السياسية الأمريكية لأول مرة. ومع نهاية هذا الصراع، تلاشى هذا الدور وانقطع واختفت التنظيمات الشبابية المناهضة وعاد الشباب الأمريكي إلى حالة الفوضى والعدمية والاغتراب من جديد.
وفي هذا السياق يرى كوزر أن الصراع يؤدي وظيفة التواصل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات والدول. وقد " تكون المجموعات غير متأكدة من موقف خصمها، ولكن نتيجة للصراع، غالبًا ما تتضح المواقف والحدود بين المجموعات. ولهذا يكون الأفراد أكثر قدرة على اتخاذ قرار بشأن مسار العمل المناسب فيما يتعلق بالخصم. كما يسمح الصراع للأطراف بالحصول على فكرة أفضل عن نقاط قوتها النسبية، وقد يزيد كذلك من إمكانية التقارب أو التوافق السلمي " [23].
وقد تعرضت رؤية كوز هذه للنقد من قبل بعض المفكرين الذين يقولون بأن الصراع قد يكون سلبيا، لأن تحقيق التكامل الاجتماعي والقدرة على التكيف قد يصب في مصلحة الأقوياء وأصحاب النفوذ ويعزز قدرتهم على استغلال الأفراد في الطبقات الأنى في المجتمع.
وفي هذا السياق، يرى كوزر أن الصراع الذي يجري بإيقاعات منخفضة مستمرة من العنف والعدوانية يشكل خطرا حقيقيا، إذ قد يؤدي في النهاية إلى إطلاق العداوات بين الأفراد والجماعات، ويؤدي إلى تعطيل مسارات التنمية الاجتماعية، ليصبح فيما بعد قوة مفككة للنظام الاجتماعي. ومثل هذا النوع من الصراع المنخفض يفرض ضغوطًا على المجتمع تدفعه إلى إنتاج معايير محددة للتحكم في طبيعة هذا الصراع، وخفض منسوباته العدوانية وذلك بهدف التحكم في نتائجه ومساراته. على سبيل المثال، جاءت معظم القواعد الرسمية (القوانين) التي تحكم العمل في البلدان الرأسمالية الغربية بسبب الصراع الرتيب طويل الأمد الذي كان يدور بين العمال وأصحاب العمل ورجال والإدارة.
ويمكننا أن نرى هذه الوضعية في مستوى الصراعات الثنائية أيضا. فعلى سبيل المثال، عندما يواجه زوجان نوبات متكررة من الخلافات والصراعات والعنف اللفظي، سيحاولان التوصل في النهاية إلى معايير للتعامل مع التوتر بطريقة تحافظ على تكامل العلاقة وسلامة الحياة الزوجية. وينطبق الشيء نفسه على معايير الصراع في مستوى النظام الاجتماعي الذي يولّد آليات وفعاليات وأنظمة تقوم بإدارة الصراعات القائمة فيه وخفض مستوياتها وفقا لمنظومة من المعايير والمبادئ التي يمكنها أن تحافظ على السلم المجتمعي وتكرس وحدة المجتمع الأخلاقية والإنسانية. وهذا يعني أن الصراع المتكرر منخفض المستوى يؤدي إلى توليد فعاليات وأنظمة أخلاقية جديدة تسهم في تحقيق الاندماج الاجتماعي.
ولا يقف كوزر عند حدود الإعلان عن وظيفية الصراع بل يقدم رؤية متكاملة تحليلية لوظائف الصراع وطبيعته وقد وجد بأن الصراع يؤدي الوظائف التالية:
1- يؤدي الصراع إلى زيادة مستوى الابتكار والإبداع في المجتمع ككل وبين أفراده متفرقين. ويبين تاريخ الحروب أن عددا هائلا من الاختراعات والاكتشافات العلمية قد أنجزت تحت تأثير الحروب وفي معتركاتها الدموية.
2- يؤدي الصراع إلى توليد أنظمة معيارية وحقوقية وسياسية قيمية. فالديمقراطية بقيمها وأخلاقها ومعاييرها لم تكن إلا نتاجا للصراع بين الحكام والمحكومين. فالعقد الاجتماعي الديمقراطي لا يعدو أن يكون نتاجا لتاريخ تطور الصراع في المجتمعات الديمقراطية.
3- يؤدي الصراع إلى زيادة الوعي في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، فالصراع العربي الصهيوني -على سبيل المثال - ما زال يشكل قوة في مجال توليد الوعي القومي والتاريخي بالقضية الفلسطينية والعروبة والإسلام. فكل صراع يولد وعيا قد يتصف بالعمومية أو بالخصوصية، ويأخذ هذا الوعي أشكالا أدبية وفنية وتاريخية وإنسانية. ومما لا ريب فيه أن الصراع يؤثر بقوة في الأدب وقد ولدت الملاحم الشعرية في وصف الحروب وولد الأدب الفلسطيني في أتون الصراع مع العدو الصهيوني.
4- يؤدي الصراع إلى زيادة عدد التحالفات النقابية والاجتماعية والسياسية والحزبية بين الجماعات والوحدات الاجتماعية، ويشكل هذا الأمر وظيفية حيوية من وظائف تحقيق الوحدة الاجتماعية وتعزيز مختلف تفاعلاتها وصيغها الإنسانية.
5- تؤدي زيادة حدة الصراع إلى زيادة فاعليته الوظيفية وتطوير قدرته على تحقيق مزيد من التفاعل الاجتماعي الخلاق، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة منسوب التكامل الاجتماعي الداخلي للنظام، وإلى تمكين المجتمع أو الجماعة من امتلاك القدرة على التكيف مع البيئة الخارجية.
6- يساهم الصراع الخارجي القائم بين الجماعات الاجتماعية في تأكيد هوية هذه الجماعات ويعزز وحدتها وتضامنها ويحصن حدودها ضد الجماعات الأخرى المحيطة بها.
7- يؤدي الصراع إلى توليد نظم اجتماعية جديدة وتشكيل مؤسسات محددة تعمل على التخلص من المشاعر العدوانية التي يمكنها أن تكون هدامة وتفكيكية. ويمكن أن يطلق على هذه المؤسسات صمامات الأمانمن منطلق وظيفتها في المحافظة على استقرار النظام الاجتماعي وامتصاص الصدمات واحتواء الصراعات وتصريفها حرضا على التضامن الاجتماعي.
12- نقد نظرية كوزر: البعد الأيديولوجي:
على الرغم من المحاولات التي بذلها كوزر لإضفاء الطابع الموضوعي المحايد على نظريته، فإنه لم يستطع أن يخفي الطابع الأيديولوجي الذي وَسَمَ نظريته متجليا في مختلف مستوياتها الفكرية. ويتضح هذا البعد الأيديولوجي في نظرته إلى الصراع بوصفه صمام أمان يصون المجتمع، ويحفظ أمنه ويصون وحدته ضد مختلف التناقضات والانشطارات وأشكال الانحراف والعنف والاضطراب التي قد تعتريه.
وعندما نأخذ بعين الاعتبار أن المجتمع الذي يعنيه كوزر هو المجتمع الأمريكي بصيغته الرأسمالية الليبرالية الجديدة - وهو عين المجتمع الذي يعيش فيه -، يتضح لدينا الطابع الأيديولوجي لنظريته بما تتميز به من إلحاح مستمر على أهمية البعد الوظيفي للصراع سعيا إلى تحقيق التكامل والتلاحم بين مختلف مكونات المجتمع الرأسمالي. ويزداد هذه الوضوح الأيديولوجي عندما نقع على تأكيداته المستمرة بوجود قنوات لتصريف مشاعر الثورة والغضب والتوتر عند الأطراف المتصارعة حفاظا على وحدة المجتمع الرأسمالي واستمراره وظيفيا.
يحاول كوزر- ضمن هذا التوجه الأيديولوجي- أن يضفي المشروعية على مختلف مظاهر عدم التوازن والاختلاف في تملك الموارد، وفي التوزيع الجائر للخيرات والموارد النادرة، وهو في هذا السياق ينظر إلى التناقضات والصراعات بوصفها ظواهر طبيعة في المجتمع، مؤكدا - في سياق ذلك - أن الصراع بأشكاله المختلفة لا يشكل خطورة على الأمن الاجتماعي، بل يعزز متطلبات التضامن والتكامل في المجتمع. وربما لا يفاجئنا الموقف الأيديولوجي المتطرف لكوزر الذي يتجلى بتأكيده على إن الخطورة لا تكمن في الصراع بحد ذاته بل في غياب قنوات التخميد والتنفيس والتصريف والتجميد، وهي القنوات المعنية بإخماد مشاعر العدوانية وتوجيه الصراع القائم إلى أداء دور وظيفي تكاملي في المجتمع.
وهذا يعني أن غياب المؤسسات المعنية بالنظر في المظالم مثل المؤسسات الحقوقية مثلا والأحزاب والمحاكم قد تؤدي إلى زيادة احتمال نشوب الصراع في المجتمع. ويمكن صياغة هذه الفكرة مرة أخرى بالقول: إن كوزر لا يرى في الصراع وتناقضاته تهديدا بحد ذاته، بل يرى أن التهديد والخطر لا يكونان إلا في غياب القنوات والأدوات المعنية بتصريف إكراهات الصراع بما يقتضيه من عنف واضطراب واهتزاز. ويجري هذا التأكيد بقوله "أن ما يهدد توازن البناء ليس هو الصراع في حد ذاته، بل هو الجمود والتصلب والانكماش الذي يعاني منه المجتمع والذي يتمثل في غياب منافذ التنفيس والتصريف للطاقة الصراعية" [24].
ومن أجل صقل هذه الرؤية الأيديولوجية بصورة جليّة يرى أن المجتمع المرن هو المجتمع الذي ينتج وسائل فعالة في تصريف هذه الصراعات وامتصاص شدتها وتفريغ شحنتها ومن ثم تحويلها إلى قوة فاعلة في تحقيق التماسك الاجتماعي. وفي هذه المقولة يتجلى التحيز الأيديولوجي الصريح لصالح المجتمع الرأسمالي بكل ما ينطوي عليه من مظاهر التعسف والظلم والقهر الاجتماعي. ومثل هذا التحيز الأيديولوجي الصارخ يجب ألا يخفى على أهل المعرفة والدراية، إذ يمكن لأي كان في أي مستوى من مستويات النقد والتفكير أن يلمح هذه النزعة الأيديولوجية البرجوازية الصريحة بوضوح في مختلف توجهات كوزر الصراعية.
وقد بدا لنا خلال تناولنا لنظرية كوزر أنه غالبا يقلل من أهمية البحث في الأسباب الحقيقية للصراع، إذ يكتفي بإشارات خاطفة حول أسبابه، ومع ذلك لا يتوقف أبدا عن التركيز في وظيفته التكاملية، كما يبدي في الوقت نفسه اهتماما أكبر بالكيفيات التي يمكن للمجتمع أن يعتمدها لتصريف مختلف مظاهر النزاع وتفريغها من شحنتها الغضبية والثورية. ومن الواضح تماما دون لبس أو غموض أن فكرة التنفيس والتصريف والتحييد للصراعات لا تعدو أن تكون أكثر من رؤية أيديولوجية رأسمالية محضة توظف في المحافظة على المجتمع الرأسمالي وتحصينه ضد أي شكل من أشكال الثورة والترك والعصيان.
ويذهب كوزر بعيدا جدا في راديكاليته الأيديولوجية عندما يضع المجتمع في قفص الاتهام محملا إياه المسؤولية الكاملة عن أسباب الصراعات العنيفة التي تنفجر في داخله، وعن ضعف قدرته على التجاوب مع التناقضات واحتواء الاضطرابات التي تواجهه وتعتريه. وهو في صلب رؤيته لمسؤولية المجتمع، يتجاهل العوامل الحقيقية للصراع التي تعتمل في قلب المجتمع، ويتغافل عن الأسباب الحقيقية التي تتمثل في الظلم والقهر والإقصاء والعنصرية والتوزيع غير العادل للموارد والخيرات المادية بين الفئات والطبقات الاجتماعية.
وفي سياق أيديولوجي آخر، نجد كوزر يبالغ في تحميل الجوانب الانفعالية الشعورية والعاطفية والعقائدية مسؤولية الصراعات السلبية في المجتمع، وقد عمل على تصنيف الجوانب العقائدية والثقافية بوصفها مرضاً يهدد المجتمع ويؤدي إلى تفكيك بنيته، وهي كما يراها تؤدي إلى توليد الصراعات السلبية المدمرة في داخل المجتمع. وإذا كان من تفسير لهذه الرؤية، فلا تعدو أن تكون برأينا أكثر من التعبير عن مخاوف الطبقات الرأسمالية من نمو الوعي الطبقي العقائدي والفكري، الذي كان دائما وما زال يشكل تهديدا لأنظمة القهر والاستغلال في المجتمعات الطبقية، ومثل هذا الوعي كان يرمز إلى المنطلق الثوري في نظرية كارل ماركس ويشكل محورا أساسيا في نضال الطبقات الماركسي.
ومن أجل حماية المجتمع الرأسمالي من مغبات الثورة والتثوير، يريد كوزر لهذا المجتمع أن يتصف بالمرونة وأن ينمي في ذاته القدرة الكلية على احتواء التناقضات وامتصاص كل أشكل النقمة والانفجارات الاجتماعية. وتأسيسا على هذه الرؤية هاجم كوزر المجتمع المغلق الذي تنعدم فيه وسائط التعبير وتغيب مؤسسات التخميد والتصريف للعنف والصراعات وحذّر من أن مواجهة مشاعر الغضب والثورة بالقوة والضغط والكبت قد يؤدي لاحقا إلى الانفجار الكاسح المدمر لوحدة المجتمع وتفكيك عناصر تكامله.
ومن جديد يريد كوزر أن يحقق أمرين في آن واحد للمحافظة على تماسك المجتمع: يتمثل الأول في تغييب الوعي الطبقي والاجتماعي بأوضاع القهر والتسلط والاستلاب. ويأخذ الثاني تأكيدا على أهمية تصريف كل أشكال الصراع السلبي، أي هذا الذي لا يحقق التكامل ويتطلب تفريغا سريعا كي لا يشكل خطرا على المجتمع.
ويبدو لنا جلياّ أن كوزر لم يستطع أن يخفي انتماءه الأيديولوجي إلى المجتمع الأمريكي وانحيازه الكبير إلى النظام الرأسمالي في صيغته الليبرالية الجديدة، وهو النظام الذي وفر له اللجوء السياسي ومنحه الجنسية وأغرقه بالامتيازات بعد أن تجرع ويلات السجن والتهجير والمطاردة في ألمانيا النازية وفرنسا الديغولية (نسبة إلى شارل ديغول). وقد عبر كوزر عن وفائه لهذا النظام البرجوازي الرأسمالي عبر أفكاره ونظرياته التي أدت دورها في التعمية الأيديولوجية والتغطية السرية على نقائص ونقائض النزعة الوظيفية الكلاسيكية التي فقدت مشروعيتها الفكرية في النصف الثاني من القرن العشرين.
يؤكد كوزر أهمية الصراع في المجتمع، ولكنه ليس الصراع الذي يؤدي إلى التغيير والثورة، وتمكين المغلوبين من إعادة توزيع عادل للموارد، بل الصراع الذي يقود إلى أمن المجتمع الرأسمالي وتحقيق تضامنه الحيوي. وباختصار وظف كوزر نظريته في اتجاه تعزيز النظام الرأسمالي وتأصيل صورته الليبرالية الجديدة. وقد أصبح جلياً أن جوهر نظريته يتمثل في الدعوة إلى تصريف العنف السلبي وحماية المجتمع الرأسمالي من نتائج الصدام والصراعات السلبية، ولذا تراه يدعو إلى التأسيس لقنوات التصريف، وهي قنوات برجوازية بحلتها وجوهرها ومبتغاها. فالصراع وفقا لكوزر يتم امتصاصه بتوسط المؤسسات البرجوازية وتصريفه كما يجري الحال في وسائل الصرف الصحي التي تحيل القاذورات والأوساخ إلى مستنقعات خارج المجتمع كي يبقى المجتمع نظيفا خاليا من نفايات الصراع الرأسمالي وعواقبه.
وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول باختصار: إن نظرية كوزر وضعت لخدمة النظام الرأسمالي الليبرالي الجديد، واستطاعت أن تأخذ مكان الوظيفية البائدة، التي زعم أنه يهاجمها وينقض أفكارها ويرفض مسارها. ومن الواضح تماما دون أي مواربة أن نظريته وضعت نفسها صرحا لخدمة الطبقة الرأسمالية والمحافظة على النظام الرأسمالي بحلته الليبرالية السائلة الجديدة. وهذا ما أراده من التأسيس لفكرة العمل على إيجاد صمامات الأمان في المجتمع - ويعني بها المؤسسات الرأسمالية التي تأخذ حلّة حقوقية أو اجتماعية أو حزبية أو قانونية – وهي المؤسسات المعنية بالمحافظة على الأمن الوظيفي للمجتمع الأمريكي الرأسمالي التي ينحصر دورها في "إفراغ شحنات الغضب والتوتر والتعبير عن الظلم إجمالاً في شكل عملية تنفيس أو تخفيف لهذه المشاعر الناتجة من غياب العدالة الاجتماعية داخل النظام الرأسمالي بشكل عام تشكل استجابة لذلك الوضع من خلال ما تعنيه هذه الفكرة من ترميم لتصدعات الأنظمة الرأسمالية" [25].
ويجب الإقرار هنا في هذا السياق، أن فعاليات التصريف والتنفيس التي يمكنها أن تمتص مختلف مظاهر العنف والمظاهرات والاضطرابات والتقلبات عبر القنوات، لا تحقق في نهاية المطاف شيئاً مادياً ملموساً بقدر ما تحقق تنفيساً، وهذا يعني أن الصراع لا يؤدي إلا وظيفة التنفيس والتصريف في اتجاه المحافظة على سلامة المجتمع الرأسمالي، ويبنى على ذلك أن الصراع الكوزري (نسبة إلى كوزر) لا يؤدي إلى إعادة الموارد أو المحاصصة بشكل عادل، ولا يحقق الغاية التي يسعى إليها في حقيقة الأمر. وهذا يؤسس للقول بأن نظرية كوزر الصراعية ترفض تحقيق التوازن العادل في المصالح بين المظلومين والظالمين، بل تسعى إلى تفريغ الطاقة الثورية عند العمال والمقهورين وإعادتهم إلى حظيرة الخضوع دون أي مكاسب في صراعهم من أجل زيادة حصتهم العادلة من الموارد العادلة، وقد يكفيهم الصراخ والعويل والشتائم والتفريغ السيكولوجي لكبتهم وأوجاعهم، وهي من المظاهر التي يتقبلها المجتمع الرأسمالي ويعتمدها كوسائل في تجاوز أزماته الوجودية.
ولا يبدو لنا أن كوزر قد اهتم بحل المشكلات الجوهرية في المجتمع الرأسمالي، وهي التوزيع اللامتكافئ للثروة أو لقضايا الظلم والقهر المتفاقمة فيه، ولم يخطرنا أبدا بإمكانية إطفاء شعلة الصراع بالحلول العملية التي تقوم على البحث في الأسباب الحقيقة للصراع المتمثلة في التوزيع المجحف للموارد على حساب الطبقات الاجتماعية المهيضة، بل اكتفى بوصف الصراع والتنظير لتجاوزه دون المبادرة إلى معالجة أسبابه وتحقيق بعضا من العدالة الاجتماعية.
وبالنتيجة قد لا نبالغ في القول: إن نظرية كوزر لا تعدو أن تكون ردة فعل إزاء التوترات الاجتماعية والتناقضات السياسية في المجتمع الأمريكي، الذي كان وما زال يعاني من المشكلات الناجمة عن البيروقراطية والتصنيع والصراعات العرقية، ولذا جاءت نظريته تعبيرا أيديولوجيا يصب في مصالح الرأسمالية والطبقات الاجتماعية التي تسيطر وتحتكر وتهيمن على مرافق الحياة ومعالم الوجود الاجتماعي والإنساني في المجتمع الأمريكي.
ويمكننا في هذا السياق أن نلحظ هذه الأحادية المفرطة في التفسير المركز على مفهوم الصراع بوصفه المفهوم الوحيد الذي يمكن أن يعوّل عليه في تفسير مختلف الظواهر الاجتماعية. ويبدو أن كل شيء يجري في المجتمع سلبا أو إيجابا يفسر بمفهوم الصراع.
ومع أن كوزر قد أشار صراحة إلى عدم المساواة في توزيع الموارد أساسا للصراع، فإنه مع ذلك أغفل كثيرا من العوامل الأخرى التي يمكنها أن تكون محورية في توليد الصراع كظاهرة اجتماعية، إذ يمكن للعوامل الأيديولوجية والعقائدية والدينية والسيكولوجية أن تكون من أسباب الصراع الاجتماعي.
وفي سياق نقدي آخر نلاحظ أن كوزر قد جعل الصراع نفسه الوسيلة الوحيدة لتحقيق التكامل والتضامن الاجتماعيين، ومثل هذه الأحادية قد تكون مخالفة لمنطق الحياة والوجود، فعوامل التضامن الاجتماعية متعددة جدا وهي قد تكون عوامل ثقافية وعاطفية وإنسانية وأخلاقية ولا يمكن أن ترتهن بمتغير واحد هو الصراع. وهذا الأمر أيضا ينسحب على قضايا الصراع من حيث تعدد العوامل والمتغيرات. وهذه الأحادية في تفسير الأحداث الاجتماعية تشكل نقصا كبيرا في النظرية كما تشكل موضعا للنقد الشديد من قبل الباحثين والنقاد في هذا المجال.
وقد أوضحنا في أكثر من سياق أن كوزر يوظف مفهوم التغير الاجتماعي بطريقة التعمية الأيديولوجية، وهو إذ يحدثنا عن التغيير الاجتماعي، فإن هذا التغيير لا يلامس جوهرية المجتمع، ولا يحرك سواكنه الاقتصادية والاجتماعية، ولا يؤدي إلى تغيير حقيقي. فالتغير الذي ينشده لا يعدو أن يكون تغيرا سطحيا هامشيا لا يؤثر في طبيعة النظام أو تكويناته الأساسية أو ركائزه الحقيقية. فالتغير هو تغير في دائرة الثبات لا الحركة، وهو نوع من التغير الذي لا يهدد المجتمع البرجوازي أو ينتقص من سطوته، فالتغير الذي ينشده كوزر لا يمكن أن يكون أكثر من التغير السطحي في الاتجاهات أو في الآراء أو في التصورات والعادات وفي التقاليد، ولكن لا يمكن لهذا التغير - الذي يتحدث عنه - أن يكون مصيريا أو جوهريا، أو أن يحدث أي فارق في طبيعة النظام، كما هو الحال في مفهوم التغير الماركسي الذي يؤدي إلى تغير نمط الإنتاج وإحداث نقلة نوعية ثورية في المجتمع. ومرة بعدة مرة بالنسبة إلى التغير الذي ينشده من خلال الصراع هو التغير الذي يؤدي إلى تطور المجتمع الرأسمالي وزيادة قوته وسطوته، وهو يعني بالتغير التغير التكاملي الذي يزيد من قوة المجتمع الرأسمالي ويعزز سطوته وقوته، ويزيد من صلابة تشكيلاته الطبقية، نعم هذا هو التغير الجوهري الذي يريده كوزر وليس التغير الذي يحظى فيه المحرومون بقسط أوفر من الحياة الحرة الكريمة.
وفي سياق أيديولوجي صريح آخر يرى كوزر أن مختلف أشكال الاضطرابات والعنف داخل المجتمع لا تعتبر بنظره مرضاً اجتماعياً إلا إذا كانت تهدد الاستقرار والتكامل داخل البناء الاجتماعي، والعكس صحيح إذ ينظر إلى مختلف أشكال الصراع والعنف التي تتخلل المجتمع على أنها طبيعية إذا كان لا تهدد وحدة المجتمع وتماسكه. وتبدو بوضوح النظرة الأيديولوجية الرأسمالية عند كوزر عندما يعلن في أكثر من موقع وموقف بأن كل ما يجري في المجتمع من أحداث واضطرابات يعد من قبيل الظواهر الاجتماعية الطبيعية ما دامت لا تهدد الاستقرار الاجتماعي.
وبعبارة أخرى فإن الاضطرابات التي يشهدها المجتمع، وكل أشكال الخلل ومظاهر العنف والصراع التي تتجلى في المظاهرات والقلاقل والغضب والعنف في داخله، هي أمور لا ينظر إليها لا ينظر إلها كوزر بوصفها مرضا اجتماعيا إلا إذا كانت تشكل تهديدا لاستقرار المجتمع وهو المجتمع الأمريكي الذي يعيش فيه تحديدا، وعلى النقيض من ذلك تماما، فإن أي أمر أو خلل أو صراع يهدد المجتمع يشكل ظاهرة مرضية يجب اجتثاثها، وعندها يجب على المجتمع أن يجد وسائل تصريفها والتخلص من عواقبها، وهذا الموقف يشبه قول غاندي يوما "سأفتح نوافذي الأربعة لكل الرياح ولكنني لن أسمح لها أن تقتلعني عن كرسيي" وهذا يعني أن كوزر يرى أنه يجب على المجتمع أن يجد الوسائل الفعالة لتصريف هذه الصراعات وتحويلها بعيدا عن الفضاء الداخلي للمجتمع.
وهنا يرى كوزر أن الخطر يبقى ماثلا في الحالة التي لا يمكن فيها إيجاد القنوات المتاحة لتصريف العنف والغضب والثورة ومشاعر القهر والتمرد. وعلى هذه الصورة يبدو لنا وكأن كوزر يريد للصراع أن يكون تفجيرا للكبت الاجتماعي والقهر الإنساني، ويريد للمجتمع أن يعمل بالتوازي على تصريف هذا العنف السلبي الناجم عن الكبت والقهر من خلال القنوات الرسمية، وبعبارة أخرى يريد للمجتمع أن يعمل على إزاحة نفايات الصراع من ساحة الحياة الاجتماعية بالوسائل المتاحة تجنبا لما يمكن أن تجلبه من أمراض وما يمكن أن يرافقها من وباء العنف والثورة والتمرد.
ومع كل الرصانة العلمية التي يريد كوزر أن يضفيها على نظريته فإنه يتجاهل أهمية الصراع في إعادة توزيع الموارد وتحقيق بعض من العدالة الاجتماعية في مجال المحاصصة الاقتصادية، وبدلا من ذلك يركز على أهمية تصريف أشكال العنف إلى مستنقعات آمنة خارج المجتمع.
فالصراع يشكل عملية تفريغ للكبت والقهر كي لا تحدث انفجارات قوية تهدد المجتمع، وكأنه يستلهم نظرية فرويد القائلة بأهمية تفريغ الكبت والمكبوت كي لا يحدث الانهيار السيكولوجي في البنية النفسية للفرد. وعلى هذه الصورة يرسم لنا كوزر حدود الصراع ووظيفته فالصراع يجب أن يكون عاملا فاعلا في إقامة الوحدة وضمان التوازن والاتساق في المجتمع، ولا سيما عندما تكون الجماعة مهددة بالمشاعر العدائية والعدوانية بين أعضائها.
13- خاتمة:
خاض كوزر خوضا عميقا وشاملا في مختلف مناحي واتجاهات الصراع الاجتماعي، واستطاع أن يترك بصمة فريدة في مجال نظرية الصراع الاجتماعي لا ينازعه فيها أحد. ولا ريب أنه تمكن من أن ينفرد برؤية مختلفة عن رؤى ونظريات أرباب هذه النظرية. وفي مسار هذا التفرد النظري يرى كوزر -كما أشرنا آنفا - أن الصراع يمكن أن يأخذ اتجاها تكامليا أو تفكيكيا، وهذا الأمر يتحدد ببنية المجتمع وطبيعة الصراع القائم فيه. وقد ميّز بين نوعين من الصراع أحدهما خارجي ينشب بين مجموعات مستقلة، والآخر داخلي يندلع بين مكونات الجماعة الواحدة وفصائلها الداخلية. وقد حدد مختلف الظروف والوضعيات التي يكون فيها الصراع وظيفيا تكامليا أو تدميريا تفكيكيا وقد فصل في طبيعة الصراع من حيث قوته وظروف هذه القوة، ومن حيث مدته وغايته وبين بوضوح مختلف التفاصيل التي تتعلق بالصراع وتوجهاته المختلفة
يرى كثير من نقاد كوزر أنه استطاع أن يعارض الاتجاهين الوظيفي والماركسي في آن واحد، وفي معارضته للوظيفية يطرح نظريته الصراعية بديلا وظيفيا لها، إذ يوظف الصراع في مجال المحافظة على كينونة المجتمع ووحدته، وتلك هي الغاية التي نشدتها الوظيفية الكلاسيكية في التأكيد على وحدة المجتمع وتضامنه. وهو من جهة أخرى يقر بوجود الصراع وبالسببية الماركسية، ولكنه يخالف الماركسية التي ترى بأن الصراع الطبقي يغير صورة المجتمع برمته، إذ يرى أن نتائج الصراع يمكن صرفه واحتواؤه وتبديد قوته وتفريغ شحنته في اتجاه المحافظة على المجتمع. فالصراع الكوزري صراع وظيفي يعمل على تحقيق التماسك الاجتماعي وليس التغيير الكلي للمجتمع أو إعادة المحاصصة على الموارد والخيرات النادرة.
ويتضح في تناولنا لهذه الحقيقة أن كوزر نهل من معين الوظيفية والماركسية في آن واحد، ولكنه انتهى إلى تأكيد الطابع الوظيفي للصراع على خلاف الماركسية والوظيفية في آن واحد. وقد برهن على رؤيته هذه في مختلف جوانب نظريته مؤكدا أهمية الدور التكاملي للصراع، ومجليا دوره في التكيف الاجتماعي. وعندما ننظر مليا في نظرية كوزر يبدو لنا واقعيا أنه أراد أن يخرج الوظيفية من أزمتها ويعيد لها تألقها في صورة صراعية. وهذا يعني إذا كان الصراع يؤدي إلى المحافظة على كيان المجتمع ووحدته فهذا الأمر لا يخرج عن مطالب الوظيفية التي فقدت مشروعيتها التاريخية في العصر الحديث.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن كوزر قام بتطوير النظرية الوظيفية وإخراجها من دائرة تناقضاتها. وعلينا هنا ألا ننسى بأن دوركهايم وغيره من الوظيفيين قد أشاروا إلى أن التناقضات الداخلية يمكن احتواؤها من قبل المجتمع، وفق آليات التضامن والتضافر والتكامل.
ويبدو لنا أن الإلهام الغائي لكوزر جاء من نموذج زيميل العضوي أكثر من مخطط ماركس الديالكتيكي. وهو عندما يبين لنا كيف يساهم الصراع في تحقيق التضامن الكلي للمجتمع، يرى في الوقت ذاته أن بنية المجتمع تجترح الصراع مجددا من أجل تلبية احتياجاته التكاملية. ومع ذلك وعلى الرغم من تأكيد كوزر على أن الصراع يسبب تغييرًا في النظم الاجتماعية، فإنه يؤكد في الطرف الآخر على أن دور الصراع الأساسي يتمثل في المحافظة على تعزيز التكامل الوظيفي في المجتمع. والتكيف.
يمكن القول بأن السمة الأساسية لنظرية كوزر تكمن في تركيزه على وظيفية الصراع في مسار التغيير ضمن وضعية الثبات جوهريا، أي التغيير الذي لا يضر بوحدة المجتمع، والأمر الذي ينفرد به كوزر هو عمله المستمر على تناول مختلف جوانب الصراع التي تتعلق بأسبابه وغاياته ومدته ووظيفته وشدته ونوعه وطبيعته، وقد أوضح أن هذه الفعاليات تتم ضمن دائرة لا متناهية من التفاعلات بين متغيرات مستقلة ومتغيرات تابعة، وقد أظهر قدرته المميزة في التعامل مع المتغير الواحد من هذه المتغيرات بوصفه مستقلا فاعلا مرة، ومتغيرا تابعا منفعلا تارة أخرى، وذلك في سياق منظومة من التفاعلات التي لا تتوقف في إذكاء عملية الصراع، وما نريد قوله أنه كوزر بحث في تأثير هذه المتغيرات في بعضها البعض ضمن وضعيات وحالات متغيرة جدا.
ومن الواضح، في تناول كوزر لمسألة الصراع، أنه استطاع أن ينقلها -كما فعل دارندورف من قبل- من مستوى النظريات الكبرى (الماركسية والوظيفية والفيبرية) إلى مستوى علم اجتماع الحياة اليومية، أو ما يمكن أن نطلق عليه بالسوسيولوجيا الميكروسكوبية أي المجهرية، - وهي نوع من سوسيولوجيا الوحدات الصغرى التي تتعلق بنشطات وفعاليات الحياة الاجتماعية اليومية داخل الأسرة والمدرسة والجماعة والطبقة الاجتماعية- واستطاع بذلك أن يخرج من عباءة السوسيولوجيا الكلية الشمولية التي نجدها في الماركسية والوظيفية تحديدا.
ومهما يكن الأمر ومهما تكن الانتقادات الموجهة إلى كوزر فإنه لا يمكن أن نتجاهل القيمة العلمية والفكرية لأعماله السوسيولوجية في حقل الصراع الاجتماعي، وقد يرى كثير من العلماء والباحثين بأن نظرية كوزر تتميز بمنهجيتها وأصالتها الفكرية على الرغم من الطابع الأيديولوجي الذي وسمها وترك بصمته في تكوينها، ومهما يكن الأمر فإن نظرية كوزر الصراعية تشكل نموذجا فكريا ومنهجيا ملهما لا يمكن الاستغناء عنه للمهتمين والباحثين والدارسين في مجال الصراع الاجتماعي.