مقاصد الشريعة تصلح مرجحاً في باب التزاحم
استثمار مقاصد الشريعة في الفقه والأصول والتقنين، (الفصل الأول) (القسم الرابع)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-03-30 06:21
رابعاً: مقاصد الشريعة تصلح مرجحاً في باب التزاحم
ومقاصد الشريعة التي تستقى من الكتاب العزيز والروايات المعتبرة، يمكن أن تكون لها المرجعية في باب التزاحم (124)، وفي تشخيص الأهم من المهم، فإذا تزاحم أمران ولكل منهما مصلحة، فإنه يقدم الأهم ـ إلزاماً ـ إن كانت المصلحة الراجحة بحد المنع من النقيض ـ وترجيحاً ـ إن لم تبلغ ذلك الحد، ولكن ما هو الأهم؟ كثيراً ما يتحيّر العقلاء أو المتشرعة في تحديده، سواء في دائرة الشؤون الشخصية، أم في نطاق الفقه الاجتماعي، أم على مستوى فقه الدولة الإسلامية، خاصة وأن النصوص لم تتطرق، فيما وصل إلينا منها، إلى الكثير من مفردات التزاحم ومصاديقه، هنا تبرز أهمية تحديد مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد في تشخيص الأهم من المهم.
أمثلة تطبيقية:
أولاً: في دائرة فقه المجتمع
أ: ومن الأمثلة على ذلك، ما نسب إلى المشهور من تقدم حق الناس على حق الله، قال السيد العم (دام ظله): (إن المشهور بين الفقهاء: تقدّم حقّ الناس عند التزاحم مع حقّ الله، ولعلّه المرتكز في أذهان المتشرّعة... وقد يؤيّد ارتكاز المتشرعة على أهمية حق الناس بما ورد في الحج وغيره: من أنّ الحاجّ يُغفر له، فقال الراوي: حتى حق الناس. حيث يدلّ على أنّ مرتكز الراوي كان على أنّ حق الناس أهمّ، ولذا سأل عنه، لظهور المقام في السؤال عن الأهم) (125).
فقد يُؤيَّد هذا الرأي بمقاصد الشريعة التي يظهر منها أن الرحمة بالعباد والرفق بهم هو الأصل العام والقاعدة، (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (126)، و: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) (127)، و: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) (128)، و: (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (129)، و: (وَيَعْفُوا عَنْ كَثيرٍ) (130).
فحقه تعالى أقرب لأن يعفو جل اسمه عنه، من حق الناس نظراً إلى حاجتهم إليه وغنى الربّ، فتأمل.
ب: تقديم الكذب على ضياع أموال الناس
إن الكذب من المحرمات الكبيرة بلا شك، والقَسَم كاذباً أشد حرمةً بدون ريب، لكن لو توقف إنقاذ مال الناس على الكذب على من يريد غصبها، بل والقسم كاذباً، فقد يستند إلى مقاصد الشريعة في القول بجواز ارتكاب الكذب لإنقاذ أموال الناس، على أن ذلك هو ما دلت عليه الروايات الشريفة، ففي كتاب (بيان الأصول): (في تزاحم الكذب ـ الذي حرمته من حق الله تعالى ـ مع التسبيب لإضاعة حقّ الناس من بدن أو مال ـ الذي حرمته من حقّ الناس ـ فقد وردت بتقديم حق الناس فيه طائفة من الروايات؛ ومنها: الموثق (قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ مَعِي بَضَائِعَ لِلنَّاسِ وَنَحْنُ نَمُرُّ بِهَا عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُشَّارِ، فَيُحْلِفُونَّا عَلَيْهَا، فَنَحْلِفُ لَهُمْ؟ قَالَ (عليه السلام): وَدِدْتُ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أُجِيرَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهَا وَأَحْلِفَ عَلَيْهَا)( (131).
ثانياً: في دائرة فقه الدولة:
أ: دوران الأمر بين الحرب والسلم،
فلو دار الأمر بين أن تدخل الدولة الإسلامية أو الوطنية أو المنتخبة في معاهدة سلم وسلام مع دولة أخرى، وبين أن تشتبك في حرب ضروس معها، مع فرض أن العدو يقوم باستفزاز الدولة الإسلامية باستمرار، وأن الدخول إلى الحرب من وجهة نظر مجلس الشعب مثلاً أمر مبرّر تماماً، ولكن أمكن الصلح والسلم ولو بتحمل بعض الخِفة والاستضعاف بحسب المعادلات الدولية، أو كان ذلك متوقفاً على دفع أموال باهظة للدولة المستفزة، ولكن وفي المقابل، وجدنا الناس عبر الاستفتاء العام مثلاً، يميلون إلى السلم والصلح، فإن الأرجح (132) الرفق بالناس وترجيح السلم بدل الخوض في الحرب بأهوالها وإن كانت لها مكاسب نفسية وسياسية كبرى.
وذلك استناداً إلى مجموعة من الأدلة والمؤيدات ومنها: مقاصد الشريعة التي تقتضي ذلك، لأنه مقتضى الرحمة بالناس، كما هو مقتضى أن البرلمان لا يعدو كونه ممثلاً للناس والحكومة ليست إلا مجرد خادم لهم، فالأمر عائد إليهم، و(الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)، وقد قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (133)، (134)، كما رجح الله السلم على الحرب إذ يقول عز وجل: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (135)، وذلك كله من منطلق الرحمة الإلهية، ولعل وجه الأمر بالتوكل على الله تعالى: أن العدو قد يتخذ السلم خدعةً وذريعةً للهجوم المباغت أو غير ذلك، ولكن مع ذلك فالسلم أرجح مع الأخذ بسبل الاحتياط كاملة كما لا يخفى، وقد قال تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (136).
ب: الدوران بين السجن أو الغرامة وبين الخدمة التطوعية
إن المجرم ـ سواء أكان مجرماً حقاً أم كان متهماً بالجريمة، وسواء أكانت الجريمة جريمة في منطق الشرع والإنسانية؛ كجريمة السرقة والاختلاس والارتشاء وشبه ذلك، أم كانت جريمة في منطق القانون الوضعي؛ كجريمة اجتياز الحدود دون جواز وجنسية وفيزا وشبه ذلك، وجريمة إحياء أو بناء الأراضي الموات دون استئذان من الدولة وشبه ذلك ـ يواجَه بعقوبةٍ تتراوح بين التعزير والسجن والغرامة المالية وشبه ذلك (137).
ولكننا إذا انطلقنا من منطلق الرحمة باعتبارها من مقاصد الشريعة الأساسية فستنفتح، بحسب رأي بعض الفقهاء، أمام الفقيه الجامع للشرائط، وكذا الحاكم المنتخب من قبل الناس، ومطلق الحاكم إذا كان يتمتع ببعض الحكمة، خيارات أخرى تضاف إلى الخيارات الشديدة الأولى، ولعلها أحياناً تكون، بما تمتلكه من نعومة أكبر تأثيراً وفاعليةً على المدى الطويل، بل حتى على المديين المتوسط والقريب من تلك العقوبات.
ومن الخيارات: الخدمة التطوعية الإلزامية.
ومنها: التعلم أو التعليم التطوعي الإلزامي، والمقصود من التطوعي أي ما كان بلا أجر فلا يتناقض مع الإلزام.
ولعل من تخريجات ذلك أن للحاكم العفو عن الحدود والتعزيرات المحددة إذا كانت في ذلك المصلحة، حسب رأي بعض الفقهاء، وله أن يفرض الغرامات الأخرى من باب ولاية التأديب أو غيرها (138).
وذلك يعني: أن للقضاء أو للحكومة أو أية جهة ذات علاقة، أن تفرض على من ارتكب بعض الجرائم، وليس على كل نوع منها، عقوبة الخدمة التطوعية لفترة محددة، طويلة أو قصيرة، في ميتم أو مشفى أو مدرسة أو مسجد أو أية مؤسسة إنسانية أو دينية أخرى، فمن ارتكب مخالفة مرورية، أو دفع رشوة، أو ارتشى، أو عطّل المراجعين دون وجهٍ، أو شبه ذلك، يمكن أن تفرض عليه بدل السجن، هذه الخدمة ونظائرها بمدة تتناسب مع حجم جريمته، كما يمكن أن يفرض عليه أن يحفظ القرآن الكريم أو بعضه، أو الصحيفة السجادية أو بعضها، أو أن يدرس مباحث في علم الأخلاق أو حتى في الطب أو الهندسة أو المحاماة، أو في تعلم وإتقان قيادة السيارات بشكل أفضل، وغير ذلك.
ولقد سلكت بعض الدول المتطورة مسلك البدائل الأخرى للعقوبات، وكانت النتائج بشكل عام، إيجابية مثمرة.
ج: الدوران بين إجراء الحدّ وبين حلّ المشكلة
لو دار الأمر بين تزويج الزانية وبين إجراء الحد عليها؛ فإن المعروف، استناداً إلى الآية الكريمة: (الزَّانِيَةُ وَالزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (139) أن الزانية (لا عن إكراه) يجري عليها الحد بالجلد مائة جلدة إذا كانت غير محصنة، ولكن بعض الفقهاء ذهب إلى أن إجراء الحدود مشروط بالكثير من الشروط وبعضها غير متوفر في مثل زماننا هذا كتطبيق الإسلام في كافة مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية وما أشبه باعتبار أن القوانين الإسلامية حقائق ارتباطية بين الحدود والتعزيرات وبين تطبيق الأحكام الحيوية في القرآن الكريم، كالشورى والحريات والعدل والإحسان وشبهها ـ على تفصيل يوكل لمحله، فإذا رأى الحاكم الشرعي أن حدّها لا يحل المشكلة؛ (لأن الزنا كثيراً ما ينشأ من ضغط الحاجة الجنسية من دون توفر البديل الشرعي لها، وكثيراً ما ينشأ من الفقر والحاجة المادية، ورأى أن الأصلح تزويجها للوفاء بكلتا الحاجتين وللقضاء على جذور الفساد، فإن الأرجح أو المتعين، كما أشار إليه السيد الوالد، تزويجها لأنه يقلع مادة الفساد.
أما إجراء الحد رغم توفّر البديل الأفضل، فإنه قد يشكّل رادعاً مؤقتاً لكنه لا يحل المشكلة، إذ كثيراً ما تعود إلى عمل القبيح ولو سراً نظراً لإحدى الحاجتين. ولذا ورد أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) عندما تصدى لأمر الحكومة عالج ملفات الفساد، بوضع مخطط لمعالجة الفقر والعزوبة والبطالة وما أشبه (140).
نعم قد يكون الزنا لخبثٍ في ذات المرأة أو الرجل (رغم توفر البديل الشرعي) فهنا يكون الحدّ إذا توفرت شروطه هو الرادع إلى درجة كبيرة، فإن آخر الدواء الكيّ.
ثالثاً: في دائرة الشؤون الشخصية:
وأما في دائرة الشؤون الشخصية فهناك صور ونماذج كثيرة:
أ: إذا لم يكن عند المكلف من الماء إلا بمقدار الغسل أو الوضوء، فدار أمر المكلف بين: أن يغتسل أو يتوضأ به ليصلي الصلاة الواجبة، وبين أن يسقي بهذا الماء حيواناً ظامئاً يملكه في داره أو مزرعته، فقد صَرَّحَ عدد من الفقهاء بوجوب إعطائه للحيوان (141)؛ لأنه واجب النفقة عليه، وحينئذٍ لا يكون (واجداً للماء)؛ إذ قال تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (142)، فإن عدم الوجدان التشريعي ـ لأن الشارع أمره بإعطائه للحيوان ـ كعدم الوجدان التكويني، يوجب انتقال وظيفته للتيمم.
و(لأنه واجب النفقة عليه) هو ما علّله به الفقهاء، وهو صحيح، ولكن لذلك بُعداً أعمق تمتد جذوره إلى مقاصد الشريعة من منطلق الرحمة الإلهية العامة الشاملة للحيوان أيضاً، كما أن لنظائره جذوراً أعمق في مسألة التزاحم بين حقوق الله وحقوق الناس كما سبقت الإشارة إليه.
ب: لو كان المكلف في شهر رمضان لا يملك إلاّ طعام السحور، ودار الأمر بين: أن يعطيه لفقير يتضور جوعاً وبين أن يتسحر به ليقدر على الصيام ـ بحيث إذا لم يتسحر لم يمكنه الاستمرار في الصيام ـ فإنه قد يقال بأنه يجب عليه أن يقدمه له ويحرم عليه أن يتسحر به ما دام الفقير في معرض الخطر والضرر البالغ.
ج: ولو دار الأمر بين: أن يسدد دين الناس عليه، وبين أن يحج، فإن لم يكن الحج مستقراً عليه تقدم أداء الدين دون شك، وإن كان الحج حجاً مستقراً في ذمته ـ بأن كان مستطيعاً في الأعوام السابقة ولم يحج عمداً، فإنه حينئذٍ لو مات قيل له: (مت إن شئت يهودياً أو نصرانياً) (143)، فهاهنا احتمل جمع من الفقهاء تقديم حق الناس على حق الله، وأن الواجب عليه أن يسدد دين الناس وإن فَقَد بذلك القدرة على أن يحج، قال السيد الطباطبائي اليزدي (رحمه الله) في مسألة التزاحم بين أداء الدَين المطالَب به الحال، وبين الحجّ المستقرّ في الذمّة ما ترجمته: (وإن كان يحتمل تقدم الدَين إذا كان الديّان مطالبين، من جهة أنّه حقّ الناس، لكن يحتمل تقدّم الحجّ أيضاً، من جهة المبالغات والتأكيدات الواردة فيه...) (144)، (145).
خامساً: أصالة التخيير لدى الدوران بينه وبين التعيين
ومن ثمرات مباحث مقاصد الشريعة ومجالات استثمارها في علم الأصول: تحديد مصداق (التخيير) في قاعدة (الدوران بين التعيين والتخيير) على خلاف ما هو المعهود في بعض تطبيقات القاعدة فقهياً وأصولياً؛ إذ تفيدنا المقاصد وجهاً آخر مزاحِماً للوجه الذي يُذكر عادةً لترجيح هذا الطرف باعتباره ذا مزية محتملة على الطرف الآخر المساوي للطرف الأول في أحسن الفروض.
ولابد لتوضيح ذلك من التمهيد بتوضيح القاعدة عبر المثال الأصولي المشهور، وهو أنه إذا دار الأمر، إما من جهة عجز المكلف في مرحلة الامتثال عن الجمع بين الأمرين، وإما لعدم إمكان الجمع بينهما ذاتاً، بين امتثال هذا الفرد من الواجب أو ذاك الفرد، وكان أحدهما يتمتع بمزية محتملة على الآخر، وجب حسب هذه القاعدة العمل به خاصة؛ لأنه واجب على كل تقدير، وبه يتحقق الامتثال على مختلف الفروض، عكس الآخر.
وعلى سبيل المثال: لو وُجد غريقان أحدهما جندي عادي، والآخر من المحتمل أن يكون قائد الجيش الذي لو غرق لانهار الجيش كله، فإنه لو عُلِم أنه قائد الجيش وجب إنقاذه دون الآخر ـ مادام الشخص لا يمكنه إنقاذهما معاً ـ ولم يكن مجال للقاعدة (146)، إنما الكلام في صورة الاحتمال، إذ هنا يحدث الدوران بين تعيين إنقاذ هذا إن كان قائد الجيش، أو التخيير بينه وبين إنقاذ الآخر إن كان جندياً عادياً مثله، فهنا يحكم العقل ـ كما ذكروا ـ بلزوم إنقاذ الشخص المحتمل كونه قائداً للجيش، ولكن ربما يقال بأصالة التخيير هنا استناداً إلى مقاصد الشريعة.
أمثلة تطبيقية:
إذا عرفت ذلك، فلنستعرض عيِّنات معبّرة عن بعض مقاصد الشريعة باعتبارها الموازن لمرجحية (الأعلمية) ـ في التقليد والقيادة وغيرهما ـ في معادلة الدوران بين التعيين والتخيير:
أ ـ ب: إذا دار الأمر بين تعيّن تقليد الأعلم (147) في الفقه أو الرجوع إلى الأعلم في الطب من جهة، وبين التخيير بينه وبين تقليد العالم، فإن جهة الأقربية تُزاحَم بجهة التيسير في التخيير بينهما، وهي مقصد من مقاصد الشريعة يريدها الله تعالى بصريح الآية الشريفة: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) (148)، عكس ملاك الأقربية للواقع الذي لم يذكر المشهور له دليلاً صحيحاً سنداً، صريحاً دلالةً (149).
ومن البديهي أن الضغط على الناس أو إلزامهم بتقليد الأعلم في الفقه أو بالرجوع إلى الأعلم من الأطباء أو سائر الخبراء، تضييق عليهم وتشديد؛ إذ الناس يراجعون الفقيه أو الطبيب وسائر الخبراء (والجامع هو كونهم أهل الخبرة، كما أن الدليل مشترك وهو رجوع الجاهل للعالم)، لجهات أخرى منضمّة لا لمجرد أعلميته، فيراجعونه مثلاً نظراً لعلميته وخبرويته زائداً أرفقيته بالمريض، أو قرب محل عيادته، أو لصداقته معه، أو قرابته، أو غير ذلك، وكذلك الرجوع للفقيه فإن من التيسير على الناس السماح لهم بتقليد غير الأعلم (الجامع للشرائط طبعاً) لجهات أخرى يرونها دخيلة في وجه انتخابهم له، ككونه أورع، أو كونه شديد الاهتمام بتربية الناس أو بالخدمات والنشاطات والمؤسسات أو شبه ذلك.
وبعبارة أخرى: إذا دار الأمر بين الطبيب الأعلم وبين الطبيب الأرفق بالمريض، كانت الأرفقية جهة منافسة لجهة الأقربية، وذلك أن بعض الأطباء عنيف مع المريض، إذ أنه يختار الأدوية الصعبة، أو يختار أصعب الحلول على أسهلها ـ فيرجح العملية الجراحية على غيرها مثلاً ـ عكس الآخر فإنه وإن كان غير أعلم فرضاً لكنه أرفق بالمرضى، لذا نجدهم قد يرجحونه، فتعيين الرجوع للأعلم هاهنا ضغط وخُرْق، والتخيير تسهيل ورفق.
ج: إذا دار الأمر في انتخاب الرئيس ـ رئيس الجمهورية، أو الحزب أو العشيرة أو النقابة والاتحاد أو الشركة أو أية مؤسسة أخرى ـ بين انتخاب الأعلم، وبين انتخاب الأكثر استشارة من الأعوان والمستشارين وحتى الموظفين وعامة الناس، فإنه لا شك في أن (منافع أكثرية المشورة) تعد جهة مزاحمة لجهة (الأقربية الناشئة من الأعلمية)، إذ أنها تورث المحبوبية واستقرار النظام (150)، وهي جهة منافسة لجهة الأقربية، وعلى أي فإن التخيير بينهما تيسير ورفق ورحمة.
د: إذا دار الأمر بين انتخاب القائد الأعلم، وبين انتخاب القائد الأكثر اهتماماً بالناس واحتياجاتهم ـ من طرق ومواصلات وكهرباء وماء وغيرها، وبخفض الفاصل الطبقي بين الناس عبر دعم الفقراء والأرامل والأيتام وغيرهم ـ، فلا شك أنه لا يصح حينئذٍ القول بـ: أن قاعدة الدوران تقتضي تعيين اختيار الأعلم، بل على العكس تقتضي تعيين اختيار الأكثر اهتماماً بالناس، والمرجِّح بعض مقاصد الشريعة الدالة أرجحية الاهتمام بهم كقوله (صلى الله عليه وآله): (خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ) (151)، و: (وَإِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَسْخَاهُمْ كَفّاً، وَأَسْخَى النَّاسِ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ وَلَمْ يَبْخَلْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي مَالِهِ) (152).
هـ : إذا دار الأمر بين تعيين جابي ضرائب أو جهاز ضريبي متطور قادر على استخراج الضرائب (153) من الناس بشتى الطرق، كما هو خبير أيضاً بكافة سبل الفرار من الضريبة (بدءاً من ميزانية الكهرباء في منازل الفقراء، ووصولاً إلى المحلات والشركات التي قد تتلاعب بالأوراق لتظهر الأرباح أقل فتكون الضرائب أقل بالتبع)، وبين خبير آخر متسامح متساهل لا يعتصر الناس عصراً بل إنما يتبع الطرق المعهودة.
فأيهما الأرجح: المتشدد في استخراج الضريبة أو الأرفق بالناس؟ لا شك أن الحكومات ترجح المتشدد لأنها، خاصة المستبدة منها، المصداق الأبرز للجشع الذي لا يحده حدّ، والتي لا تتوانى عن عصر الناس عصراً كي تحصل على المزيد ثم المزيد من الأموال.
لكن مقاصد الشريعة ترجِّح الثاني، المتسامح الميسِّر، كما يرجّحه العقل؛ إذ المعادلة عقلاً وشرعاً هي (الإنسان أولاً)، وأما معادلة (المال أولاً) فهي معادلة مادية بَحتة صِرفة، وقد جاء في الإنجيل: (السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ) (154)، والمعنى دقيق وعميق ولطيف، ويؤيده الاعتبار فقد لا يكون من الإنجيل المحرّف ـ والله العالم، وذلك رغم أن (الأرفق) قد تفوته ضرائب كثيرة خاصة مع تطور أساليب الناس، خاصة الفقراء، للالتفاف على دفع الضرائب، خاصة ضرائب الكهرباء. ولئن شك شاك في سعة مقاصد الشريعة إلى هذا الحد، فإن الرواية الآتية في كيفية جباية الصدقات تكفي كدليل بيّن على ترجيح الأرفق.
تنبيه:
ينبغي أن لا نفترض في كافة الأمثلة السابقة جهة مزاحمة أخرى، وإلا دخل في الباب السابق (وهو التزاحم)، بل نقتصر على ملاحظة التيسير فقط كمزاحم لجهة الأقربية أو غيرها مما يحتمل كونه مرجّحاً، أو نفترض تلك الجهة المزاحمة الأخرى محتملة الأهمية أيضاً، كاحتمالنا كون جهة الأعلمية محتملة الأهمية.