الانصاف في نهج البلاغة وأثره في اصلاح بنية النظام الاجتماعيّ

مهرجان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الـثاني عشر

شبكة النبأ

2021-03-03 08:53

بقلم: أ.م.د. نعمة دهش فرحان-جامعة بغداد/كلية العلوم الإسلامية

المقدمة:

إنَّ فكرة المجتمع في نهج البلاغة لها مكان مرموق بين ما اشتمل عليه من نصوص، فسِرُّ عظمة هذا الكتاب، هو إيمانُ مُنشئهِ المُطلق بكرامة الإنسان، وحقِّهِ المُقدس في الحياة الحرَّة الشريفة، وأنَّ هذا الإنسان مُتطوّر أبدًا، وأنَّ الجمود والتقهقر والتوقف عند حال من أحوال الماضي أو الحاضر ليست إلاّ نذير الموت ودليل الفناء، وقد عبر عن قاعدة التّطوّر هذه بمقولة الانصاف:" لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنَّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم "(1)، ومثل هذه القاعدة الاجتماعيّة التي تتناول المسلك الإنسانيّ كلَّهُ، توجِّه كلَّ نشاطٍ، وتراقب كلَّ عملٍ، قال الإمام علي (عليه السلام): " من تساوى يوماه فهو مغبون "(2)، فالتصريح بأنَّ الغبن لا يلحق الجماعة من الناس إلاّ إذا استوى حاضرهم وأمسهم، ولا يكون ذلك إلاّ بالانسياق مع تيار الحياة المتطور الذي لا يهدأ.

وقليل جدًا من عظماء التاريخ من أسس نظريات في الاجتماع بلغةٍ مُعبرةٍ مُقتضبةٍ واعيةٍ. فهو القائل: "الاحتكاك جريمة"(3)، و: "مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ"(4)، و: "الذنب الذي لا يغتفر هو ظلم العباد بعضهم لبعض"(5)، ثم وصف الإمـام النــاس بأنَّهم: "طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ وَلَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ"(6)، وغير ذلك من الأقوال المنصفة التي تثبت حقيقة أنَّ الإنسان مدني بالطبع، أي إنَّهُ خُلِقَ خلقة لا بُدَّ معها من أن يكون منضمًّا إلى أفراد من بني جنسِهِ، ومتمدنًا في مكان بعينِهِ. وهنا سنتناول الانصاف وأثره في اصلاح بنية التنظيم الاجتماعي بستة محاور، هي:

المحور الأول: علي والانصاف الاجتماعيّ

كان همّ الإمام علي (عليه السلام) الكبير تطبيق المثل العليا للإنسانيّة والصيغ الصحيحة في بناء المجتمع الأمثل المتكامل، لقد فكر الإمام (عليه السلام) في المجتمعات التي حكمها، وفكر في أفضل الطرائق والوسائل التي تنمي حياتها الاجتماعيّة، وترتفع بها إلى الذروة من الرفاهية والقوة والأمن مع ملاحظة أنَّها تدين بالإسلام، وأنَّ شؤونها واقتصادها وحربها وسلمها وعلائقها الاجتماعية تخضع كلّها لقوانين الإسلام، "وقد هداه تفكيره إلى نتائج باهرة في التنظيم الاجتماعيّ، فالحكم وضرورته والنزعة القبيليّة وعقابيلها، وشغب الغوغاء ونتائجه، ودعامات المجتمع ومقوماته، والطبقات الاجتماعيّة وآلياتها، كلُّ ذلك خصَّه بمزيد من البحث والتفكير"(7).

ومن الانجازات العامة للإمام علي (عليه السلام) في المجتمعات التي عاش فيها، تأسيسه جهاز (الشرطة)، وقد سمّاهم بهذا الاسم؛ لأنَّهُ شارطهم على الجنة (8)، وهو أول من أشار إلى استعمال التاريخ الهجريّ الذي كانت بدايته من أول هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(9) وهو الذي أشار على الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بتدوين الدواوين في مصر(10). وأمر كذلك بسك العملة في البصرة سنة (40 هجرية) (11)، وهو الذي نقل عاصمة الخلافة الإسلاميّة من المدينة المنورة إلى الكوفة في العراق، ممّا جعلها رسالة عاجلة لإفهام الذين جاؤوا، أنَّ التّطوّر الحضاريّ إنَّما يأتي من التغيير، وهو أول حاكم أصرَّ على تطبيق مبادئ حقوق الإنسان.

عبر الإمام (عليه السلام) عن نصفة الإنسان لأخيه من نفسه؛ قائلًا:" أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السِّهَامُ وَيُحِيلُ الْكَلَامُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ "(12)، لقد بيّن الإمام بعبارات مُوجزة إحدى الطرائق لردِّ الغيبة، آملاً من ذلك إشاعة أجواء الثقة بين أفراد المجتمع، والابتعاد عن الآثار السيئة للغيبة، وتحري العيوب.

ومن مضامين الانصاف الاجتماعيّ عند الإمام علي (عليه السلام) استعماله المواد الطبيعية في صحة الإنفاق والبذل والعطاء، إذ يقول: "فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ، وَلْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَالْعَانِيَ، وَلْيُعْطِ مِنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ، وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ؛ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ. فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا، وَدَرْكُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ "(13) ذكر الإمام ستة موارد للإنفاق والبذل، وفي مقدمة من يستحق الإنفاق ذوو القربى، لأنَّ هؤلاء مقدمون على غيرهم لما ورد من الآيات والأخبار الصحيحة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تقديمهم، ومنها ما قاله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جوابه عن سؤال أحدهم: أي الصدقة أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (على ذي الرّحم الكاشح)(14).

ثم ركّز الإمام (عليه السلام) في قضية الضيافة لما تؤدي من إشاعة أجواء المودة والمحبة بين الناس، وتزيل الأحقاد، وتوطد العلاقات العاطفيّة والاجتماعيّة، إنَّ التعبير بـ (فوزاً) وهو مصدر بصيغة النكرة يفيد حقيقة أنّ هذا البذل وإنْ كان قليلاً فإنّه يوجب عزّة الدنيا ورفعة الآخرة، لما لهذه الصيغة من الشموليّة والعموم والسعة.

تطرق الإمام علي (عليه السلام) لقضية الضمان الاجتماعيّ؛ لحفظ ماء وجه الطبقة المسحوقة، وذلك باستمرار أقواتها بلا منٍ ولا أذىً، لا فرقَ بين جنسٍ ولا لونٍ ولا عقيدةٍ، انطلاقًا من مبدأ: (الناس صنفان: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).

لقد سعى العالم المتحضر اليوم إلى سنِّ قوانين الضمان الاجتماعيّ، وأخذ يتبجح بها، في حين أنَّ الإسلام قد وضع أسس ذلك قبل أربعة عشر قرنًا تقريبًا، وجعل في حكومته الأولى (في طيبة الطاهرة) الأساس الأوّل للضمان الاجتماعيّ (مبدأ المؤاخاة)،

وقد صنف الإمام (عليه السلام) فقراء الأمّة في عملية التكافل الاجتماعيّ بقوله: "وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ، مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ، وَلَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ، فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ"(15)، فتعهد الدولة للأيتام هو تكفلهم من النواحي كافة، إقامةً وبذلًا حتى ينشؤوا وينموا، بلا إضاعة حقوقهم ولا إهمالهم ولا تركهم " اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ، فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلَا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ "(16).

المحور الثاني: الانصاف الاداري

يتلخص علم الإدارة (Manage ment science) بأنَّـُه علـمٌ وفـنٌ ((science and art، علمٌ يستمد من النظريات الفلسفيَّة والفكريَّة وظيفته في مضمار إدارة المجتمع ومنظماته الإنسانيَّة المختلفة، وفنٌ يعتمد على صيغ ذلك التعامل مع البشر؛ لأنَّ الفرد حصيلة متفاعلة من المتغيرات الموروثة والمكتسبة، التي تؤدي البيئة وظيفتها في التأثير والتأثر في ذلك الفرد أو المجتمع(17). فمثلًا ما جاء في نهج البلاغة "هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا "(18)، فالصيغ الإدارية المتمثلة بالتراكيب: (جباية الخراج، وجهاد العدو، واستصلاح الأهل، وعمارة البلاد) تشكِّل مرتكزات الحكومات قديمًا وحديثًا، وبنحوٍ أكثر دقة وشموليَّة إنَّها تستند إلى قاعدة (نطاق الإشراف) (Control Span of)، الذي كلما كان صغيرًا حقق أبعادًا أكثر للسيطرة والمراقبة وتحقيق الأهداف العامة.

ويعني نطاق الإشراف تحديد عدد المرؤوسين، الذين يستطيع الرئيس السيطرة عليهم، وقد أشار (شاشتر برناد) (Chaster barnard) إلى أنَّ المستوى المعقول لنطاق الأشراف يتراوح بين (3-9) أفراد (19)، وفي النصِّ المُتقدم أشار الإمام عبر الصيغ التعبيريَّة المذكورة آنفًا إلى أربعة أفراد، إذ تمثل في أطار الحكومات المعاصرة أربع وزارات أساسيَّة أو أكثر، هي:-

1- وزارة الماليَّة (جباية الخراج) وما يرتبط بها من المديريات العاملة في تحصيل الأموال (الإيرادات) من الضرائب والرسوم...وسواها.

2- وزارتا الدفاع والداخليَّة (جهاد العدو) وما يرتبط بهما من قوى الأمن الداخليّ وأجهزة الشرطة والأمن...وسواها.

3- الوزارات: (الشؤون الاجتماعيَّة، والصناعة، والتجارة، والزراعة، والري) (استصلاح الأهل) وما يرتبط بهنَّ من مديريات تعمل على استصلاح شؤون المجتمع اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا... وسواها.

4- وزارة الإسكان والتعمير (عمارة البلاد) وما يرتبط بهِنَّ من المديريات العاملة في عمارة البلاد، وتحسين المرتكزات الماديَّة وتطوير البنية الاقتصاديَّة الوطنيَّة والقوميَّة، كالطرق والمواصلات والخدمات العامة.

وبذلك فقد سبق الإمام (عليه السلام) كتَّاب أوربا ومفكريها الإداريين الذين ظهرت بواكير علم الإدارة الحديث على أيديهم وفي كتاباتهم في تشريع الوزارات في ضوء فكرة (نطاق الإشراف)، ولعل باكورة ذلك ظهرت بعد الثورة الصناعيَّة في أوربا (20).

بدأ الإمام بطائفة من تشكيلات الدولة والكيان الاجتماعيّ، صنّفها (عليه السلام) في طبقة رؤساء الهياكل الرئيسة لإدارة البلاد، وقد أطلق عليهم اسم (العمال) وهم بمنزلة المحافظين ورؤساء الدوائر العامة في البلاد، والمشرفين في البلاد، والمشرفين على الأعمال الإداريَّة، والقريبين من الحاكم في إدارة البلاد، بتنوِّعاتهم كافة، وبحسب عرف التسميات التي سادت عصرنا الحاليّ، فهم طبقة واسعة من المجتمع، لهم نفوذ سياسيّ وإداريّ واجتماعيّ، وصفهم الإمام (عليه السلام) وحدد طرائق اختيارهم بقوله:" ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَارًا، وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ، وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقًا، وَأَصَحُّ أَعْرَاضًا، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقًا، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَرًا " (21).

المحور الثالث: الانصاف الاقتصادي

لما كانت الثروة أحد المصادر الجاذبة والأكثر أهمية للأفراد والجماعات، بما توفره من حاجة اجتماعيَّة زيادة على الحاجات والغرائز التي لا تنتهي لدى الفرد، فقد نظر الإمام علي (عليه السلام) بمنهجيَّة عادلة، تحافظ على الثروة من استيلاء ذوي النفوس الضعيفة عليها، هذا من جانب، ومن جانب آخر إيجاد سُبل حقيقيَّة لإنشاء مجتمع تتوافر فيه العدالة التي تمنع نشوء إمبراطوريات صغيرة، تتحكم بمقدرات الغالبيَّة العظمى من الأفراد، فكان لا بُدَّ من صياغة خطاب اقتصاديّ يتولى تنظيم السياسة الاقتصاديَّة التي سبقت، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حاول الإمام علي (عليه السلام) جاهداً وضع قواعد تنظيميَّة جديدة، تعتمد عليها التنظيمات الاقتصاديَّة كافة لسائر الأقاليم والولايات آنذاك (قاعدة بيت المال)، فكان بيت المال الركيزة الاقتصاديَّة والماليَّة التي انطلق منها (عليه السلام) في سياسته الاقتصاديَّة، فجعل وظيفة (بيت المال) جمع الأموال لتوزيعها لا لخزنها، وتولى مسؤولية الإشراف عليها بنفسه، يشاركه في الإشراف ولاة أو عمال الأمصار آنذاك، يقول الإمام (عليه السلام) مخاطبًا عامله عبد الله بن عباس:"... فَارْبَعْ أَبَا الْعَبَّاسِ رَحِمَكَ اللَّهُ فِيمَا جَرَى عَلَى لِسَانِكَ وَيَدِكَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذَلِكَ، وَكُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ، وَلَا يَفِيلَنَّ رَأْيِي فِيكَ... "(22).

لقد كانت السياسة الاقتصاديَّة للإمام (عليه السلام) تقوم على ضرورة إحداث تعدديَّة في مصادر الثروة، وعدم حصرها بأيدي بعض الناس، فوضع لذلك أنظمة وتعليمات أصدرها لولاته وعماله، لكي ينعم الناس – بغض النظر عن أيِّ شيء - بالحياة الكريمة.

إنَّ تعدديَّة مصادر الثروة تمثل إدراكًا واعيًا لضرورة ذلك في حياة المجتمع، وإنَّ أوّل ما سعى إليه الإمام (عليه السلام) عنايته بالزراعة والصناعة والتجارة، وأن لا يسعى الولاة إلى جمع الخراج من دون العناية بالثروة وتنميتها لكي يكون ذلك في خدمة المجتمع " وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ، أَخْرَبَ الْبِلَادَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا..."(23).

يرى الفكيكيّ أنَّ عبارة:(وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ، أَخْرَبَ الْبِلَادَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا) تضم قاعدة ماليَّة اقتصاديَّة وإداريَّة مهمة تتقارب إنْ لم تنطبق على القاعدة الماليَّة الحديثة القائلة: (الحكومة ليست تاجرًا).

المحور الرابع: الحصانة الاقتصادية للقضاة

أوصى الإمام (عليه السلام) عامله بأهم ناحية من نواحي إصلاح القضاء وترقيته، وذلك بترقية حال الحاكم (القاضي) وتأمين متطلبات العيش له ويكون ذلك بفرض العطاء الواسع له حتى يكون ما يأخذه كافياً لمعيشته وحفظ منزلته، ويتعفف به عن الرِشا(24). قال(عليه السلام): "وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ "(25) وذلك لتحقيق توازن نفسيّ من إشباع حاجاته كافة، فضلًا عن درء المخاطر السِّلوكيَّة أو الانزلاقات الأخلاقيَّة التي يمكن أن يقع فيها، فينتج عن ذلك فساد إداريّ خطر، متمثلاً بقبض الرِشا.

ويُعدُّ الإمام (عليه السلام) أوّل من فصل بين السُّلطة القضائيَّة والسُّلطة التَّنفيذيَّة، إذ كانت السلطات الثلاث:(القضائيَّة والتَّنفيذيَّة والتَّشريعيَّة) موحدة غير منفصلة في عهد الإمام (عليه السلام)، لذا خطا خطوة مبدئيَّة، لإكساب القضاة حصانة، وتأمينهم من عقاب السُّلطة(26)، إذ قال (عليه السلام): " وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ. فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَرًا بَلِيغًا"(27).

وتأسيسًا على ذلك ذهب الباحث جورج جرداق إلى القول: "وبهذا يكون عليٌ قد قضى على السبب الأوّل من أسباب انحراف القضاة، إذ خطا هذه الخطوة المبدئيَّة نحو فصل القضاة عن السُّلطة التَّنفيذيَّة، كي لا يتأثر القضاة بأصحابها"(28).

وفصل القضاء عن السُّلطة التَّنفيذيَّة هو من قوانين المدنيات الحديثة؛ لأنَّ فيه سببًا من أسباب التَّسويَّة بين البشر أمام قضاء يتولاه عالم ذو خلق كريم، متمتع بالحصانة.

أما الفكيكيّ، فقد ذهب إلى القول إنَّ: "الغرض المهم من استقلال المحاكم، الذي توخاه الإمام (عليه السلام) في وصيته لعامله هو التوثق من عدالة الأحكام وصيانة الحقوق، لأنَّ المحاكم لا تكون مرجعًا موثوقًا به عند الناس إلّا إذا كانت مصونة من التأثير والنفوذ "(29).

وضع الإمام علي (عليه السلام) جملة من القواعد القضائيَّة كي يستند إليها القضاء، وهي مستنبطة من الشريعة الإسلاميَّة، ومنها(30):

1- على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين.

2- اليمين الغموس (الكاذبة) / مرفوضة شرعًا.

3- شهادة الزور / مرفوضة شرعًا.

4- كتمان الشهادة / مرفوض شرعًا.

وهذه القواعد الدينيَّة من شأنها أنْ تحقق عملية ضبط واستقرار وأمن اجتماعيّ. أما فيما يخصُّ الإجراءات القضائيَّة، التي استحدثها الإمام (عليه السلام) في حكومته، وعدّها ثوابت إجرائية لأي قضية كانت، تمثلت في ركنين جديدين:

الركن الأول: فصل الشهود بعضهم عن بعض.

الركن الآخر: تدوّين شهاداتهم على انفراد.

فالإمام علي (عليه السلام) أوّل من فرق بين الشهود بقوله: أنا أوّل من فرق بين الشاهدين إلّا النبي دانيال (عليه السلام)(31)، إذا يروى أنَّ سبب هذا الفصل بين الشهود، هو أنَّ شابًا شكا نفرًا إلى الإمام فقال: " إنّ هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر، فعادوا ولم يعد أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما ترك شيئًا! وكان معه مال كثير، فترافعنا إلى شريح القاضي، فاستحلفهم وخلى سبيلهم، فدعا عليٌ بالشَرَطِ (الشرطة) فوكل بكلِّ رجل رجلين، وأوصاهم ألاّ يمكنوا بعضهم من أنْ يدنوا من بعض، ولا يسمحوا لأحدٍ أن يكلمهم، ودعا كاتبه أحدهم، فقال: أخبرني عن أبي هذا الفتى، أي يوم خرج معكم؟ وفي أي منزل نزلتم ؟ وكيف كان سيركم؟ وبأيّ علةٍ مات؟ وكيف أصيب بماله؟ وسأله عمّن غسله ودفنه؟ ومن تولى الصلاة عليه؟ وأين دفن؟ ونحو ذلك، والكاتب يكتب، ثم دعا الآخر بعد أن غيب الأول عن مجلسه، فسأله كما سأل صاحبه، ثم الآخر، وهكذا حتى عرف ما عند الجميع، فوجد كلَّ واحد منهم يخبر بغير ما أخبر به صاحبه، فضيق عليهم فأقرّوا بالقصة، فأغرمهم المال، وأفاد منهم القتل"(32).

المحور الخامس: الانصاف السياسيّ

من الطبيعيّ أن نفهم من قول الإمام (عليه السلام) قوله:" من ساس نفسه أدرك السياسة"(33)، أنَّ السِّياسة تبدأ من الذات وتنطلق إلى المجتمع، فقد طبق الإمام (عليه السلام) السياسة المثاليّة الواقعيّة لا النفعيّة التبريريّة، وهو أوّل من وضع صناديق وغرفا للشكوى(34)، وأسس الدفاتر ودواوين الخراج والأموال(35) وهو أوّل من فرق بين الشهود، وغير ذلك.

لقد أوضح الإمام (عليه السلام) لبعض الولاة ثقافة المجتمعات التي يوليهم عليها، ومن ذلك قوله لمالك الاشتر: " ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ.... ")[36](؛ ليكشف عن تاريخ مصر الحضاريّ، وتعاقب الدول عليها، فشعب مصر وأرضها يختلفان عن بقية الشعوب العربية وأراضيها.

وقد تمثل أعلى درجات العدالة الاجتماعيَّة حينما صرح: (الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ) تقابل في الموقف والصورة، تتجسد فيه العدالة الاجتماعيَّة في أروع صورها، ولاسيما أنَّها صادرة عن الإمام العادل والخليفة الصالح.

ومن خصائص الإمام تطويره المفهوم الأخلاقيّ للحرب، فهو لا يبدأ بحرب إلاّ إذا هوجم، ولا ينازل أحدًا إلاّ إذا دعاهُ لذلك، وكان يبدأ الحرب بالموعظة الحسنة، ثم الحجة القاطعة، ثم يدين فعل أعدائه، فإذا لم ينفع ذلك كلُّهُ نزل للحرب(37)، فعند الإعداد للحرب المفروضة، ومظاهر المسيرة إلى ساحة القتال لإرهاب العدو، كان ينهي عن البدء بالقتال، وكان يترك مباشرتها للخصمِ، حتى يبوءوا بإثمها، قال لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: "لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ، أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ "(38) وقال ذات يوم لابنه الحسن (عليه السلام): "لَا تَدْعُوَنَّ إِلَى مُبَارَزَةٍ، وَإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغٍ وَالْبَاغِي مَصْرُوعٌ "(39).

ثم نهاهُ عن توسط الحجاب (الوسطاء) بينه وبين الرعية، بل ينبغي أن يكون سفيره لسانه، وحاجبه وجهه؛ لأنَّ ذلك يضفي على الوالي التواضع للرعية، ويوفر على الرعية الوقت، مخافة الإخلال في النقل؛ لكيلا يضيع حق أحد منهم، وتدلُّ العبارة: "وَلَا يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلَّا لِسَانُكَ وَلَا حَاجِبٌ إِلَّا وَجْهُكَ" على مخالطة الناس ومقابلتهم وجهًا لوجه، والاستماع لهم وسماعهم كما فعل الأنبياء من قبلُ، وقد ورد عن الإمام (عليه السلام) في عهد لمالك الأشتر قوله (عليه السلام):" وَأَمَّا بَعْدُ، فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِك،َ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ"(40)

أما شرعنة السُّلطة القانونيَّة في منهجه الاصلاحيّ؛ فقد تجسد بعملية (البيعة)، التي تمثل محور السُّلطة العقلانيَّة-القانونيَّة، على أساس حدوث عملية تعاقد اجتماعيّ حقيقيّ بين الحاكم والمحكوم عبر آلية البيعة (41) التي قال فيها: " لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِدًا. إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ.

أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهًا "(42).

برز موقف الإمام السياسيّ بوصفه موقفًا (تفاعليًّا ـ سياسيًّا ـ اجتماعيًّا) في أحوالٍ حرجة، هي قضية الفتنة التي حدثت في زمن الخليفة الثالث، فقد جسد الإمام علي (عليه السلام) موقفه من الثائرين ومن مقتله قائلًا: "لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلًا، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِرًا، غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي. وَأَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ: اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ، وَجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ، وَلِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ وَالْجَازِعِ "(43).

أوضح الإمام آلة الرئاسة بقوله (عليه السلام): " آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ "(44). فلو تأملنا الخطاب السِّياسيّ للإمام (عليه السلام) بمجمله لا نجد الحرب هدفًا عنده، إنَّما الاجتماع والتعاون والتعايش السلميّ هو الهدف، والدفاع عن الدين وشرعيته ليست دعوة إلى الحرب وتأجيج نارها، إنَّما هي إصلاح واقع الهيكل الاجتماعيّ وتطبيق الشريعة ورسم الصورة للمسيرة البشريَّة في حياتها، فمن الآداب، السِّياسيَّة في حكم الإمام (عليه السلام) ما نجده من النصح والوصايا لواليه مالك الأشتر: " وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وَأَمْناً لِبِلَادِكَ. وَلَكِن الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ "(45).

المحور السادس: لغة المواثيق والاتفاقيات

تطرق الإمام (عليه السلام) إلى لغةِ المواثيق السِّياسيَّة والدبلوماسيَّة بعرفنا الحالي ضمن حالة الحرب والسلم والاتفاقات المتعلقة بها، إذ يقول: "وَلَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ، وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ، لَا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلَا آخِرَتَكَ."(46).

والنصُّ يبيَّن فقه (التَّعاهد والتَّعاقد)، فإذا تعلل المتعاقد لك بعلةٍ قد تطرأ على الكلام، وطلب شيئًا لا يوافق ما أكدته المعاهدة، وأخذت عليه المواثيق، فلا تعّول عليه، وكذلك لو رأيت ثقلًا في التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتخلص منه، فأخذ بصرح الوجوه لك وعليك(47).

لقد أشار النصُّ إلى حقيقة في غاية الأهمية، هي: (التلاعب بمعاني الكلمات)؛ لأنَّ "القانون هو مهنة الكلمات" (48)، فحلُّ النزاعات المدنيَّة ومقاضاة الحالات الجنائيَّة والدفاع عنها تتم برمتها عبر وسيلة اللغة، ليس في تجسيده وتنفيذه بكون القانون مهنة الكلمات فقط، بل يحفظ القانون كذلك بكيفية ظاهرة بالتَّنظيم اللسانيّ للأنواع المختلفة، من قبيل ما اللغات التي يمكن أن تكون متكلمة أو مكتوبة؟ وبوصف أي الملابسات؟ وما أنشطة الكلام المحظورة قانونيًا ؟ لذلك حذر الإمام من التلاعب بالكلمات حين قال(عليه السلام): "وَلَا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ، وَلَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ " فقد نهى (عليه السلام) عن استخدام لحن القول ملاذًا للهرب من الالتزام بالمواثيق على وفق منهج إلهيّ، لو أنَّ البشريَّة سارت على هداه ومنهجه، لتجنبت السقوط والدمار والخراب العام في الحضارة، ومن ثم خسارة الإنسان لما بناه وبذله من جهد في سبيل الرقي والمدنيَّة (49).

واليوم نرى الدول تكتب المواثيق بلغاتٍ مختلفة، وتسعى إلى استعمال أذكى السِّياسيين اللغويين في تثبيت النصوص وتدقيقها، فتكتب مثلًا المعاهدة بلسان البلدين وبلغة واضحة، ثم يضيفون لغة ثالثة عالمية يتفقون عليها، تُعدُّ مرجعًا أساسيًا في حال تباين التفسيرات في مواد الاتفاق، ويكتب ذلك في الملاحق القانونية للمعاهدة (50).

ثم نراه (عليه السلام) وهو يوصي مالكًا بأن لا يتخذ البخيل والجبان والحريص مستشارًا له، بل يتخذ من ذوي الأخلاق الحميدة وأبناء البيوتات الصالحة وأهل العقل والرأي: "... وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلَا جَبَانًا يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلَا حَرِيصًا يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ "(51).

كما يوصي أن لا يتخذ الوزراء الذين عملوا للشرار، لأنَّهم قد تلوثوا بالآثم والظلم، يقول (عليه السلام): " إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيرًا، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ، فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ "(52)، هذا ما نراه سائدًا في أغلب البلدان، وعلى مختلف العصور، فالإمام يحذر الحكام والولاة من هؤلاء الخاصة والبطانة الذين يلتفون حوله، ويخوضون في الأمور خوضًا من غير مشروعية لهم، ويؤكد مرة أُخرى شر هؤلاء بقوله (عليه السلام):" ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ "(53).

وعلى الحاكم ألاّ يكون محتكرًا للسلطة، إنّما عليه أنْ يعبر عن حاجته إلى الاستشارة،ذلك قال (عليه السلام): "... أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا. وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ،..."(54).

ومن الإصلاحات السِّياسيَّة في نظم الحكم تسويته (عليه السلام) العطاء بين الناس، إذ نراه يقول لمن عاتبه على ذلك:" أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ، وَاللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْمًا، لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ. أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُو يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ، وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ، "(55)،

وتجدر الإشارة إلى أنَّ مفهوم السياسة في الإسلام ليس فيه مبدأ: (الغاية تسوغ الوسيلة)، وإنَّما خلاف ذلك، وهو مبدأ: (لا يُطاعُ اللهُ من حيث يُعصى)(56)، وهذا مبدأ علي (عليه السلام) في الحكم السِّياسيّ، إذ إنَّ المبادئ ثابتة لا تتغير مع تغيّر المصالح.

ومن الله التوفيق

* بحث مقدم الى مهرجان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الـثاني عشر، الذي عقد تحت عنوان -ازدهار العالم بالإنصاف عند الإمام علي بن أبي طالب (ع)- في قاعة جامعة بغداد بالعاصمة العراقية، يوم الخميس المصادف 12 من شهر رجب 1442

................................................
[1] - شرح نهج البلاغة،1/210.
[2] - نهج البلاغة 20/36
[3] نفسه، 20/113.
[4] - نهج البلاغة، 328 / 534.
[5] - نفسه، 19/23.
[6] - نهج البلاغة، كتاب /53/432.
[7] - دراسات في نهج البلاغة /24
[8] - ينظر: الفهرست، ابن النديم /223، تحقيق: رضا تجدد، قم.
[9] - ينظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر (علي بن الحسين /ت571هـ) 1/43، تحقيق:علي شيريّ، دار الفكر، بيروت، 1415هـ
[10] - ينظر: تاريخ الأمم والملوك، الطبريّ 3 /278، الاعلمّي، بيروت.
[11] - ينظر: الإمام علي أسد الإسلام وقديسه، روكس بن زايد العزيزيّ /152، ط2، بيروت، (1399هـ ـ 1979م).
[12] ـ نفسه، خطبة /41/198.
[13] ـ نهج البلاغة، خطبة/ 142/199.
[14] ـ أصول الكافيّ، الكلينيّ 4 /10.
[15] ـ نهج البلاغة، كتاب / 53/440.
[16] ـ نفسه، كتاب / 47/422.
[17] ـ ينظر: الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي(عليه السلام) / 8.
[18] ـ نهج البلاغة، كتاب / 53/ 428.
[19] ـ ينظر: السياسة الإدارية في فكر الإمام علي/10.
[20] ـ ينظر: السياسة الإدارية في فكر الإمام علي / 8.
[21] ـ نهج البلاغة، كتاب / 53/435.
[22] ـ نهج البلاغة، كتاب / 18/377.
[23] - نهج البلاغة، كتاب /53/437.
[24] ـ ينظر: الراعي والرعيَّة / 18.
[25] ـ نهج البلاغة، كتاب / 53 /436.
[26] ـ ينظر: الإمام علي صوت العدالة الإنسانيَّة 2/ 261.
[27] ـ نهج البلاغة، كتاب/ 53/436.
[28] ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانيَّة/2/ 261.
[29] ـ الراعي والرعيَّة/22ـ23.
[30] ـ ينظر: التنظيم الاجتماعيّ في الفكر الإسلاميّ / 169.
[31] - ينظر: مناقب آل أبي طالب، ابن شهر اشوب 2/193(محمد بن علي /ت:588)،المطبعة الحيدريّة، النجف 1376هـ / 1956م
[32] ـ القضاء في الإسلام /107ـ108.
[33] ـ عيون الحكم، الواسطيّ /431.
[34] - ينظر: ملامح من عبقريّة الإمام، مهدي محبوبة /128.
[35] - ينظر: أعلام نهج البلاغة،السّرخسيّ علي بن ناصر، (ت/ق6) /30، ط1، طهران، 1415هـ.
[36] - نفسه، رسالة / 53/428.
[37] - ينظر: ملامح من عبقرية الإمام، مهدي محبوبة/128،ط1،بيروت، (ب.ت).
[38] ـ نهج البلاغة، حكمة / 333 /510.
[39] ـ شرح نهج البلاغة 3/ 15.
[40] - نهج البلاغة، كتاب/53 /442.
[41] ـ ينظر: عملية اندماج أنواع السلطات الثلاث وشرعيتها مع السلطة التي حاز عليها الإمام علي (عليه السلام) وشرعيتها في كتاب: (الدين والسياسة - نظريات الحكم في الفكر السياسّي الإسلاميّ)، مصطفى جعفر وآخرون 1/879، بحث منشور في مجلة المنهاج التابعة لمركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة، بيروت، 2003م.
[42] ـ نهج البلاغة، خطبة / 136/195.
[43] ـ نهج البلاغة، خطبة / 30/74.
[44] ـ نهج البلاغة، حكمة / 176/429.
[45] ـ نفسه /433.
[46] ـ نفسه،كتاب/ 53/ 444.
[47] ـ ينظر: شرح نهج البلاغة، محمد عبدة 3/107.
[48] - دليل سوسيولسانيات /897.
[49] ـ ينظر: في الفكر الاجتماعيّ عند الإمام علي (عليه السلام)/331.
[50] ـ ينظر: السياسات اللغوية/ 7.
[51]، نهج البلاغة، كتاب / 53/ 431.
[52] ـ نفسه.
[53] ـ نفسه /442.
[54] ـ نهج البلاغة، خطبة / 34/80.
[55] ـ شرح نهج البلاغة 8/88.
[56] ـ السَّياسة من واقع الإسلام، صادق الشِّيرازيّ /23، بيروت، ط4، 2003م.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي