الفكر الإسلامي بين مرحلتيه الحديثة والمعاصرة
أطروحات ومناقشات
زكي الميلاد
2021-01-23 04:35
- 1 -
مــفــتــتــح
في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وفي إطار البحث عمَّا عرف في الأدبيات العربية المعاصرة بإخفاق النهضة العربية، وفي سياق تتبع أزمنة تاريخ تطور الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وفي ظل الدهشة من ظهور وصعود الجماعات الجهادية والسلفية، في نطاق هذه السياقات الثلاثة متصلة ومنفصلة، تبلورت في المجال الفكري العربي أطروحات، وجدت أن هناك خطًّا متصلاً وممتداً من التراجعات والإخفاقات المستمرة، بشكل يصلح أن يكون تفسيراً وتحليلاً لهذه السياقات الفكرية والتاريخية، الممتدة من عصر النهضة في القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين.
هذه الأطروحات أشار إليها، وتحدث عنها، واعتنى بها، وقام بضبطها وتركيبها كلٌّ بطريقته وخبرته، كتاب وباحثون ينتمون إلى بيئات اجتماعية متنوعة، عبَّروا عنها بصورة متفرقة، وتحدَّدت عند كل واحد من هؤلاء، بزمان تاريخي يستقل به عن الآخر.
وأكثر من تحدَّث عن هذه الأطروحات في المجال العربي المعاصر، وأعطاها صفة البقاء والاستمرارية، وأعلن التمسك بها، هناك ثلاثة أسماء أكاديمية معروفة هي: الدكتور حسن حنفي في مصر، والدكتور رضوان السيد في لبنان، والدكتور عبد الإله بلقزيز في المغرب.
وقبل مناقشة هذه الأطروحات تفسيراً وتحليلاً ونقداً، سوف نعرض لها وصفاً وتوصيفاً، وكيف تشكَّلت وتطوَّرت وتحدَّدت في رؤية ومنظورات هؤلاء الثلاثة، الذين عرفوا بها في المجال الفكري العربي المعاصر.
- 2 -
كبوة الإصلاح.. والإجهاض المستمر
أطلق الدكتور حسن حنفي على هذه الأطروحة تسمية (كبوة الإصلاح)، ولعل أقدم نص نشره حول هذه الأطروحة، هي مقالته (كبوة الإصلاح.. نموذج مصر)، المنشورة ضمن كتاب (الإصلاح والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر) الصادر سنة 1986م، عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط.
وحسب هذه الأطروحة، يرى الدكتور حنفي أن كبوة الإصلاح جيلاً وراء جيل، من الأفغاني إلى محمد عبده بسبب فشل الثورة العرابية، ومن محمد عبده إلى رشيد رضا بسبب نجاح الثورة الكمالية وإلغاء الخلافة العثمانية، ومن رشيد رضا إلى حسن البنا واغتياله سنة 1949م، والصدام بين الإخوان والثورة سنة 1954م، وتحول سيد قطب من (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و(معركة الإسلام والرأسمالية) و(السلام العالمي والإسلام) إلى (معالم في الطريق)، وانتهاء الحركة الإسلامية إلى الحركات الإسلامية المعاصرة مثل جماعة الجهاد وكتابات محمد عبد السلام فرج وعمر عبد الرحمن[1].
تعد هذه الأطروحة، واحدة من أكثر الأطروحات التي ظلت تتكرَّر وتتواتر في كتابات ومؤلفات الدكتور حنفي، وحتى في مقالاته القصيرة، فقد أشار إليها في كتابه (دراسات فلسفية) الصادر سنة 1987م، وفي كتابه (جمال الدين الأفغاني.. المائوية الأولى) الصادر سنة 1998م، وفي كتابه (حصار الزمن الحاضر.. مفكرون) الصادر سنة 2004م، ومن المؤكد أنه أشار إليها أيضا في مؤلفات أخرى.
وأشار إليها كذلك في مقالات وأوراق، منها مقالة (نحو تنوير عربي جديد.. محاولة للتأسيس) المنشورة في مجلة عالم الفكر سنة 2001م، وفي ورقة (المصادر الفكرية للعقلانية في الفكر العربي المعاصر)، قدّمت لندوة (حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر) نظمها مركز دراسات الوحدة العربية سنة 2006م، وفي ورقة (مدارس التجديد والإصلاح.. الرواد والأفكار) قدّمت لمؤتمر (اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث) نظمته مكتبة الإسكندرية سنة 2009م، وفي مقالته (الدولة المدنية ماذا تعني؟) المنشورة في صحيفة الاتحاد الإماراتية سبتمبر 2012م.
وبحسب هذا التتابع الزمني، يكون قد مضى على هذه الأطروحة ما يزيد على ربع قرن، وهي فترة تكسب هذه الأطروحة تاريخاً وذاكرة تاريخية، وبشكل يقتضي التعامل معها بمنطق تاريخ تطور الأفكار، المنطق الذي يدرس الأفكار من جهة علاقتها بالزمن، بقصد الكشف عمَّا حصل فيها من تطورات وتحولات، غيَّرت أو بدَّلت في صورة هذه الأفكار، وفي بنيتها وطبيعتها.
ويبدو أن الدكتور حسن حنفي أراد من هذا التتابع الزمني، إعطاء هذه الأطروحة صفة الاطِّراد والاستمرارية، في دلالة على قناعته وتمسّكه بها، كما أراد منه أن يُنبِّه ويلفت النظر إلى هذه الأطروحة، وجعلها في دائرة التذكر المستمر، في دلالة منه على أهمية وقيمة هذه الأطروحة.
وأول ما يستوقف الانتباه في هذه الأطروحة، هو التسمية (كبوة الإصلاح)، التي بقت وحافظت على رسمها البياني، ونطقها اللساني، وتركيبها الثنائي، ولم تتبدل أو تتغير من هذه الجهة عند الدكتور حنفي طيلة هذه الفترة التي مرّت عليها، ولعل الدكتور حنفي بات ينفرد بهذه التسمية، وأنه على ما يبدو أكثر من استعملها وتحدّث عنها في كتاباته وأحاديثه ومؤلفاته خلال ما يزيد على ربع قرن.
وهذا يعني أن الدكتور حنفي كان مدركاً لهذه التسمية، وبقي واعياً بها، ومختاراً لها، ومتعمداً الثبات عليها، لكي تعرف، وتعرف باسمه، وتكون دالة على المدلول الذي يريد قوله في هذا الشأن، وحتى يرتقي بها إلى درجة المصطلح والمفهوم، فالتسميات التي يجري التعامل معها بهذه الطريقة من الثبات والاطِّراد والتراكم، هي التي تمهّد الطريق لإعطائها صفة وصك المصطلح والمفهوم.
وفي تحديده لمعنى كبوة الإصلاح، يقول الدكتور حنفي: كبوة الإصلاح تعني «أن نهضتنا الحديثة التي بدأت منذ أوائل القرن الماضي -التاسع عشر- باصطلاح المؤرخين، إنما بدأت في جيلين، وانتهت على يد جيلين، فإذا ما أتى الجيل الخامس فإنه يجده نفسه في أزمة، هل يعاود الإصلاح من جديد؟ هل يبدأ بداية جديدة؟ وما هي هذه البداية؟ وكأن نبوءة ابن خلدون قد تحقّقت في تاريخنا المعاصر، وهي أن الدورة التاريخية تمتد أربعة أجيال»[2].
وحين توقف أمام كلمة كبوة، بصفتها الكلمة المفتاحية لهذه التسمية، اعتبر الدكتور حنفي أنها تعني «أن الحركة عمرها قصير، انتهت بمجرد أن بدأت، سقطت بمجرد أن قامت، وكأن الصاروخ لم يستطع أن يخترق حجب الفضاء وعاد إلى الأرض بمجرَّد الانطلاق، وانتهاء قوة الدفع الأولى. ومن ثم كان مسار النهضة قوساً أو نصف دائرة من أسفل إلى أعلى، ثم من أعلى إلى أسفل، وليس خطًّا مستقيماً تتراكم فيه الخبرات بعد جيل، وكأن الدورة لدينا لا بد وأن تبدأ من الصفر من جديد، دون أن ترث الأجيال من بعضها البعض خبراتها، حتى يحدث تراكم تاريخي، كي يُحدث في نهضتنا تغيراً كيفيًّا مماثلاً في القدر»[3].
وعلى هذا الأساس، يرى حنفي أن كبوة الإصلاح تعني «أن هناك إجهاضاً مستمراً لكل تجربة تمر بها مجتمعاتنا، حتى تبدأ من الصفر من جديد»[4].
وعن طريقة إدراك هذه الظاهرة، يقول حنفي: إن ظاهرة الكبوة «لا يمكن إدراكها إلَّا برؤية الحاضر في الماضي، وبنظرة تراجعية تكشف عن بداية المسار وتطوره، بل إنها لا تُكشف إلَّا ابتداء من أزمات العصر، وأزمة الجيل الخامس، جيلنا، ومع ذلك فهي تخرج من نطاق التقييم الذاتي إلى الوصف الموضوعي، ومن الحكم الفردي إلى الاتفاق الجماعي»[5].
ومن جهة المنهج في دراسة هذه الظاهرة، يرى حنفي «أنه يعتمد على منهج دقيق في العلوم الإنسانية، وهو منهج تحليل الخبرات الفردية والاجتماعية من أجل إعادة بناء الموقف التاريخي، بعد تكشّف أبعاده في الموقف الحالي، ومن ثم تتم رؤية الماضي في الحاضر، والحاضر من خلال الماضي، وهو المنهج الذي طالما استعملناه لدراسة التجارب الحية المعاصرة لكشف دلالاتها المستقلة»[6].
ويعني حنفي بهذا المنهج، المنهج الظاهراتي الذي سبق وأن عرض له نظريًّا وتطبيقيًّا، في مؤلفات له، منها كتاب (تأويل الظاهريات)، وكتاب (ظاهريات التأويل).
هذه لعلها هي أبرز ملامح وعناصر أطروحة الدكتور حسن خنفي، فيما أسماه كبوة الإصلاح، التي أدت وتؤدي إلى الإجهاض المستمر.
- 3 -
الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر.. من التقدم إلى الهوية
إلى مطلع سنة 1985م، كان الاهتمام الفكري على مستوى المتابعة والكتابة والتأليف عند الدكتور رضوان السيد منصباً على مجال الدراسات الإسلامية الكلاسيكية، وفي سنة 1986م صدر له أول كتاب في مجال الدراسات الإسلامية الحديثة، بعنوان (الإسلام المعاصر.. نظرات في الحاضر والمستقبل)، وفي وقتها كان يرى «أن الغالب على الحقبة المعاصرة في التفكير الإسلامي النكوصية، فمحمد عبده متقدّم على رشيد رضا، ورضا متقدّم على حسن البنا، والبنا متقدّم على سيد قطب، وقطب متقدّم على عمر عبد الرحمن.. إلخ»[7].
وفي سنة 1993م نشر الدكتور السيد مقالة في صحيفة النهار اللبنانية بعنوان (البيئات الأيديولوجية والاجتماعية لحركات الإسلام السياسي المعاصر)، استهلها بالقول: «خطرت لي قبل سنوات خاطرة نشرتها في إحدى الصحف، مؤداها أننا مختلفون عن العالم كله من حيث إن الثقافة والسياسة في مجالنا العربي، تسير باتجاه معاكس لطبائع الأمور والأفكار، ففي المجال الثقافي محمد عبده أقل ثقافة وانفتاحاً من جمال الدين الأفغاني أستاذه، ومحمد رشيد رضا أقل انفتاحاً من أستاذه محمد عبده، وحسن البنا أقل ثقافة وانفتاحاً من رائده رشيد رضا، وسيد قطب أقل انفتاحاً من رائده حسن البنا، وعمر عبد الرحمن أقل ثقافة وانفتاحاً من سيد قطب»[8].
وفي سنة 1997م، جمع الدكتور السيد المقالات والدراسات التي كتبها خلال ست سنوات ماضية، في كتاب صدر بعنوان (سياسيات الإسلام المعاصر.. مراجعات ومتابعات)، اعتبر فيه أن الأطروحة الأساسية التي تخترق فكرتها مجموعة المقالات والدراسات كلها، تتحدَّد -حسب قوله- في «أن الإشكالية الرئيسية في الفكر الإسلامي الحديث كانت إشكالية النهوض والتقدم، بينما الفكر الإسلامي المعاصر إشكاليته الأساسية الهوية ومقتضيات وأساليب ووسائل حفظها، ولذا فإن هذه الدراسات المجموعة ترى أن هناك قطيعة بين الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر، وتدرس وتحدّد زمن حدوث تلك القطيعة، وظروفها في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن»[9].
وحين رجع الدكتور السيد إلى هذه الأطروحة في ورقة (من الإصلاح إلى الإحياء.. مصائر مواريث التفكير النهضوي الإسلامي)، قدّمها لمؤتمر: (اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث) سنة 2009م، اعتبر السيد أنه اتَّخذ من هذه الفرضية -حسب تسميته- أساساً للدراسة عنده في الخمس عشرة سنة الأخيرة، وهي تستند -حسب قوله- إلى أمرين اثنين: «مراقبة التشكيلة الثقافية السياسية في موضوعاتها وخطوطها الرئيسية، ومحاولة النمذجة على أساس الأكثر وروداً واهتماماً لدى العاملين الرئيسين في المجالات الثقافية الدينية، والثقافية الفكرية»[10].
وبحسب هذا التتابع الزمني، يفهم أن اقتراب الدكتور السيد من هذه الأطروحة، بدأ مع تحوّله نحو الاهتمام بحقل الدراسات الإسلامية المعاصرة في منتصف ثمانينات القرن العشرين، مع كتابه (الإسلام المعاصر)، وإلى سنة 1993م كانت هذه الأطروحة عنده أقرب إلى الخاطرة حسب وصفه، وفي سنة 1997م ومع صدور كتابه (سياسيات الإسلام المعاصر)، نقلها من وضعية الخاطرة إلى وضعية الفرضية والأطروحة، وتحدّدت عنده بصورة أكثر وضوحاً وتماسكاً، وأصبح يُعرف بها على النحو الآتي: هناك قطيعة بين الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر، كشف عن هذه القطيعة اختلاف طبيعة الإشكالية الحاكمة في ساحة هذين الفكرين، ففي ساحة الفكر الإسلامي الحديث كانت الإشكالية الحاكمة هي إشكالية النهوض والتقدّم، بينما في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر إشكالية الهوية هي الإشكالية الحاكمة.
هذه الأطروحة بهذا التحديد، شكّلت أساساً عند الدكتور السيد منذ تحوّله نحو الاهتمام بحقل الدراسات الإسلامية المعاصرة، وظلت هذه الأطروحة حاضرة روحاً وفكراً في معظم كتابات ودراسات الدكتور السيد المتصلة بحقل الإسلاميات المعاصرة، وبات من السهل كشف هذه الأطروحة، والتعرف إليها، وذلك لشدة وضوحها من جهة، وتعمد الدكتور السيد تصويب النظر إليها في كتاباته.
ومنذ اقتراب الدكتور السيد من حقل الدراسات الإسلامية المعاصرة، كان في وعيه وإدراكه على ما يبدو، الحاجة لأن يكون صاحب أطروحة يعرف بها من جهة، وحتى تشكل له أساساً لوجهة كتاباته من جهة أخرى، هذا الوعي بالأطروحة والحاجة إلى الأطروحة، هو الذي قاده وأوصله إلى الأطروحة التي ظل يختبرها بالحديث، والإشارة إليها، والنقاش حولها في العديد من كتاباته ودراساته، حتى تبلورت ونضجت وتحدّدت عنده بالصورة التي شرحها في مقدمة كتابه (سياسيات الإسلام المعاصر).
الوعي بالأطروحة والحاجة إلى الأطروحة، حصل عند الدكتور السيد نتيجة عنايته وخبرته في الكشف عن أطروحات الآخرين حين البحث عنهم وعن تصوراتهم الفكرية، وهذا ما تجلى بوضوح في العديد من مؤلفاته، ومن أبرزها كتاب (سياسيات الإسلام المعاصر)، وكتاب (المسألة الثقافية في العالم العربي الإسلامي) الصادر سنة 1998م، وكتاب (الصراع على الإسلام.. الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية) الصادر سنة 2004م، وهكذا في كتابه (الإصلاح الإسلامي.. المسار والصيرورة) الصادر سنة 2004م.
ودل على هذا الوعي بالأطروحة كذلك عند الدكتور السيد، حين توقف عند أهم الدراسات حول الفكر العربي النهضوي، وأشار إلى ثلاث دراسات، واعتبر أن دراسة الدكتور فهمي جدعان (أسس التقدم عند مفكري الإسلام)، هي أهم هذه الدراسات الثلاث عمقاً وتفصيلاً، لكن ملاحظته عليها أنها ليست لها أطروحة حاكمة[11].
هذه الإشارة من الدكتور السيد على دراسة الدكتور جدعان، وكأنها تلفت نظره أو يلفت بها نظر غيره بالحاجة إلى الأطروحة، وبالنسبة إليه بوصفه أحد المهتمين والمشتغلين بهذا الحقل من الدراسات.
وفي وقت لاحق، حاول الدكتور السيد اختبار أطروحته من جهة علاقتها بمقولة رؤية العالم، وفي هذا النطاق جاءت ورقته (رؤية العالم في الفكر الإسلامي المعاصر.. الحتميات المؤتلفة والإمكانيات الأخرى)، التي قدّمها لندوة (تيارات الفكر الإسلامي المعاصر.. قضايا الإصلاح والتجديد) عقدت في بيروت سنة 2001م، وكنت معقباً على هذه الورقة في هذه الندوة، وضمّها فيما بعد إلى كتابه (الصراع على الإسلام).
وما يعنيه ويرمي إليه الدكتور السيد من رؤية العالم في هذا الشأن، يتحدّد في أمرين:
الأمر الأول: ذكره الأنثروبولوجي الأمريكي مايكل كيرني، الذي يرى أنه لم يعد من الممكن دراسة التصورات حول الثقافات في تكويناتها، والعلاقات فيما بينها، إلَّا بالاستناد في ذلك وبخاصة في المسائل العلائقية، إلى بحوث وفرضيات رؤية العالم.
الأمر الثاني: ذكره السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864-1920)، الذي صنّف مقولة رؤية العالم في مستويين، درس بالاستناد إليهما ثقافات تاريخية عدة، يتعلق المستوى الأول بما أطلق عليه المؤرخ الاجتماعي الألماني فلهام دلتاي (1833-1911م) اسم الصورة الكونية، التي تؤلف الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي والواقعي، والتي يمكن في ضوئها الوصول إلى إجابات شافية عن التساؤلات حول مغزى الكون والوجود، أو ما يعرف بروح الحضارة. ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصوري الواعي والإرادوي، الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها ضمن تقسيمات العالم الواقعية أو المركبة من النواحي الثقافية في الأصل؛ لكن أيضاً من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والسياسية[12].
واستناداً إلى هذه المقولة، وتطبيقاً لها على أطروحته، يرى الدكتور السيد أن «وعي الأفغاني وعبده والعظم ورضا وأرسلان لأحداث العالم وتركيباته وترتيباته، ومواقع المسلمين فيه، حددوا إشكالية المسلمين بأنها التخلّف في سائر المجالات، كما حددوا الحل وهو التقدّم، على أن المفكرين الإسلاميين بدؤوا يتخلّون عن هذه الفكرة، أو عن هذا التحديد للإشكالية منذ الثلاثينيات من القرن العشرين... وأصبحت الرؤية السائدة للعالم لدى الإسلاميين تتمحور حول الهوية، وتتسم بالقطيعة»[13].
وبهذا الاستناد والتطبيق لمقولة رؤية العالم، يكون الدكتور السيد قد فتح أفقاً جديداً أمام أطروحته، وأمام هذه الأطروحات عموماً، ومثَّل أهم تطوّر أضافه لأطروحته، وبه تميزت عن أطروحات الآخرين، وما كان من السهل التنبُّه لهذه المقولة، والاستفادة منها في هذا النطاق، وهنا تكمن أهمية هذه الإضافة، وهذا التطور.
- 4 -
القطيعة الفكرية.. من الإصلاحية إلى الإحيائية
كما تعمَّد الدكتور حسن حنفي جعل أطروحته ممتدة ومنتشرة في العديد من كتاباته ومؤلفاته، واتَّبع الطريقة نفسها الدكتور رضوان السيد مع أطروحته، وهكذا أيضاً تعامل الدكتور عبد الإله بلقزيز مع أطروحته التي جعلها ممتدة ومنتشرة في العديد من كتاباته ومؤلفاته.
ففي سنة 1999م تحدث الدكتور بلقزيز عن أطروحته في مقالة نشرتها مجلة منبر الحوار اللبنانية بعنوان (الإصلاحية الإسلامية والصحوة الإسلامية.. آليات القطيعة والاستمرار)، وفي سنة 2000م أشار إليها بشكل موجز في كتابه الحواري المشترك مع الدكتور رضوان السيد الموسوم (أزمة الفكر السياسي العربي)، وفي كتابه (الإسلام والسياسة.. دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي) الصادر سنة 2001م، ضم إليه المقالة السابقة المنشورة في مجلة منبر الحوار، وتحدّث عنها في كتابه (أسئلة الفكر العربي المعاصر) الصادر سنة 2001م، في الفصل الأول من الكتاب الذي ناقش مسألة الإصلاح، كما تحدث عنها في كتابه (الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر) الصادر سنة 2002م، وهكذا في كتابه (العرب والحداثة.. دراسات في مقالات الحداثيين) الصادر سنة 2007م، ولعله تطرق إليها في كتابات ومؤلفات أخرى.
يكشف هذا السياق الزمني، عن قسمات أساسية في طريقة تطور هذه الأطروحة عند الدكتور بلقزيز. وقبل الإشارة إلى هذه القسمات الدالة على التطور، لا بد من ضبط وتحديد رؤية بلقزيز لهذه الأطروحة، وذلك بالعودة إلى نصه الأسبق.
عن هذه الرؤية يرى بلقزيز أن هناك قطيعة فكرية بين خطاب الإصلاحية الإسلامية وخطاب الصحوة الإسلامية، تحددت هذه القطيعة في اعتبار أن إشكالية النهضة هي النظام الفكري في خطاب الإصلاحية الإسلامية مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والرحمن الكواكبي ورشيد رضا والمغربي محمد بلحسن الحجوي، وقد عبَّر هؤلاء عن هذه الإشكالية بعبارات من قبيل الترقّي والتمدّن والتقدّم، وهذا بخلاف خطاب الصحوة الإسلامية منذ حسن البنا في مصر إلى عبد السلام ياسين في المغرب، مروراً بسيد قطب ومحمد قطب والهضيبي والنبهاني، فإن الإشكالية عند هؤلاء تنغلق على مصادرها الداخلية والذاتية، فلا ترى في صحوة المسلمين عودة لهم إلى لحظة اليقظة التي كانت مرادفة لنهوضهم في الماضي، ولذلك لا تجد حاجة إلى منبه خارجي لإيقاظ الوعي وصحوه من سباته، ولا ضرورة إلى التماس أسباب استعادته، والتمكين له من غير المسلمين[14].
واستناداً إلى هذه الرؤية، واستنباطاً منها، تحددت عند بلقزيز أربعة فروقات أساسية بين الخطابين الإصلاحي والصحوي، هذه الفروقات هي:
أولاً: نجح الخطاب النهضوي للإصلاحية الإسلامية في أن يحقق انفتاحاً متوازناً على ثمرات العصر، ولم يتردد في الانتهال من المنظومات الفكرية الحديثة، وتجلى هذا الانفتاح في المصالحة مع العلم والاعتراف بسلطة ومرجعية المعرفة العلمية والحقائق العلمية من دون الخشية على العقيدة وسلطة الإيمان والحقيقة الدينية، وتجلى هذا الانفتاح أيضاً في المصالحة مع النظام السياسي الحديث، والاعتراف بشرعية المصادر المدنية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، وهكذا المصالحة مع فكرة نسبية الأفكار، التي هي من ثمرات العلم الحديث. في حين أن خطاب الصحوة كان وما زال شديد الانغلاق أمام المنظومات المعرفية الحديثة.
ثانياً: تميّز خطاب الإصلاحية الإسلامية بالتفكير الواقعي والتاريخي، بينما تميّز خطاب الصحوية بالتفكير المثالي والطوباوي.
ثالثاً: تميّز خطاب الإصلاحية بأنه دعوة فكرية في المقام الأول، هدفه تحرير الوعي من الخرافة والتقليد، واجتراح الشروح والحواشي والمختصرات، والرفع به نحو الاجتهاد والتجديد والإبداع، في حين تميّز خطاب الصحوية بأنه دعوة سياسية حتى وإن لبست لبوس القول الفكري، وكانت معنية في الأساس بصوغ مشروع سياسي قوامه استلام السلطة، وتطبيق الشريعة، وبناء الدولة الإسلامية، ولم يكن جيش هذه الدعوة هم المثقفون على نحو ما كان عليه الأمر في الدعوة الإصلاحية، بل كان جيشها من المناضلين الملتزمين بفكرتها السياسية.
رابعاً: يعتبر خطاب الإصلاحية أقرب ما يكون إلى الفكر الديمقراطي، بمعنى أنه اعتمد قاعدة التثقيف والتكوين وبناء الوعي بشكل سلمي إقناعي، وبمعنى أنه تحلى بروح النسبية فلم ينجرف وراء أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة، بينما خطاب الصحوية هو أقرب ما يكون إلى الشمولية، إذ يختزل الثقافة في السياسة، والمجتمع في الدولة، ويسوق الادِّعاء بكفايته، وغناه عن الحاجة إلى معارف غيره[15].
هذا عن جانب الرؤية لهذه الأطروحة، أما عن جانب ما حصل فيها من تغيّر وتطوّر، فيتحدّد في الملامح والقسمات الآتية:
أولاً: في مقالة منبر الحوار سنة 1999م، تحدث بلقزيز عن آليات القطيعة والاستمرار في إطار ما أسماه الإصلاحية الإسلامية والصحوة الإسلامية، لكن هذا الإطار تغيّر في مقالته المنشورة في كتاب (أزمة الفكر السياسي العربي) الصادر سنة 2000م، حين تحدث عن جدل القطيعة والاستمرارية في إطار ما أسماه الإصلاحية العربية والراديكالية الفكرية العربية.
في المقالة الأولى حديث عن الإصلاحية الإسلامية يأتي في طليعتها جمال الدين الأفغاني، وفي المقالة الثانية حديث عن الإصلاحية العربية يأتي في طليعتها محمد عبده من دون الإشارة إلى الأفغاني.
وفي المقالة الأولى حديث عن الصحوة الإسلامية، وفي المقالة الثانية حديث عن الراديكالية الفكرية العربية التي تضم التيارين الصحوي الإسلامي والقومي العربي.
ثانياً: في مقالة منبر الحوار المنشورة لاحقاً في كتاب (الإسلام والسياسة) الصادر سنة 2001م، استعمل بلقزيز تسمية الصحوة الإسلامية في مقابل الإصلاحية الإسلامية، لكنه في كتاب (الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر) الصادر سنة 2002م، استعمل بدل تسمية الصحوة تسمية الإحيائية، وهي التسمية التي غابت كليًّا في المقالة الأولى، وأصبحت التسمية الغالبة في كتاب الدولة، وأعطاها صفة الأفضلية، واعتبر أنها أوسع وأشمل من الأولى، وحددها برافدين هما الإخواني والصحوي.
وهذا التغيّر ليس مجرد تغيّر عادي أو عابر في التسميات، وإنما له انعكاساته في طريقة تكوين المعرفة بهذه التسميات التي لها منزلة المفاهيم، وهكذا في طريقة إدارة هذه المفاهيم، الإدارة التي نعني بها معرفة ما بين هذه المفاهيم من علائق وترابط وتراتب.
ثالثاً: هناك تغيّر آخر من جهة استعمال التسميات، ففي مقالة كتاب (أزمة الفكر السياسي العربي)، وعند حديثه عن الإصلاحية العربية المفارقة للراديكالية الفكرية العربية، حدد بلقزيز هذه الإصلاحية في تيارين، أطلق على التيار الأول تسمية الليبرالية، وعلى التيار الثاني تسمية السلفية المتفتحة، ويعني بها سلفية عبده والكواكبي ورشيد رضا.
لكنه في كتابه (العرب والحداثة) الصادر سنة 2007م، فرق بلقزيز بين الإصلاحية والسلفية، وفصل بين الليبرالية والإصلاحية، وجاء ذلك في سياق حديثه عن حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر، وفي إطار نقده لعملية المماهاة التي أقامها -حسب قوله- كثير من مؤرخي الفكر العربي المعاصر بين العقلانية والتنوير وبين تيار الليبرالية العربية، وإخراج الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية والتنوير إخراجاً كاملاً، وإدخاله في خانة الفكر السلفي، وكان من نتيجة هذا الموقف -في تقدير بلقزيز- تكوُّن نظرة نمطية إلى الفكر العربي لا ترصد بعين الموضوعية والتوازن تضاريس التطور والتحول فيه وفي موضوعاته[16].
رابعاً: في مقالته المنشورة بكتاب (أسئلة الفكر العربي المعاصر) الصادر سنة 2001م، وعند حديثه عمَّا أسماه بلقزيز بظاهرة التراجع الذاتي التي طبعت الفكرة الإصلاحية المعاصرة منذ نصف قرن تقريباً، بتحول الدعوة الإصلاحية إلى خطاب صحوي إسلامي، اعتبر بلقزيز أن هذا التحول نحو خطاب الصحوة، بدأ مع سيد قطب وزينب الغزالي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومالك بن نبي وعبد السلام ياسين وحسن الترابي وآخرين، ليصل إلى فكرة الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية المسلحة وسائر الأفغان العرب[17].
لكنه في كتاب (الإسلام والسياسة)، وعند حديثه عن المفارقة ما بين خطاب الإصلاحية الإسلامية وخطاب الصحوة الإسلامية، اعتبر بلقزيز أن خطاب الصحوة الإسلامية بدأ من حسن البنا في مصر إلى عبد السلام ياسين في المغرب، مروراً بسيد قطب والهضيبي وتقي الدين النبهاني.
وفي مكان آخر من الكتاب نفسه، يقول بلقزيز: «وضع نشوء حركة الإخوان المسلمين بزعامة مرشدها حسن البنا، مقدمات القطيعة بين فكر الحركة الإسلامية الجديدة وفكر الحركة الإصلاحية، غير أن هذه المقدمات ستُنضج نتائج كبيرة على صعيد العلاقة بين الفكرين، خاصة مع موضوعات الجيل الثاني للحركة –سيد قطب، محمد قطب- المرتكزة إلى أفكار أبي الأعلى المودودي»[18].
خامساً: حين عدّد بلقزيز في مقالة كتاب (أسئلة الفكر العربي المعاصر)، الأسماء التي بدأ منها التحول من خطاب الإصلاحية إلى خطاب الصحوة الإسلامية، أشار إلى سبعة أسماء أحدهم مالك بن نبي، وتغيرت الصورة عنده تماماً بشأن مالك بن نبي في كتابه (الإسلام والسياسة)، فعند حديثه عمَّا أسماه الإصلاحية المستأنفة، وجد من المثير حسب قوله: «أن عمر الفكرة الإصلاحية في المغرب امتد لفترة أطول من عمرها في المشرق، وهو ما تشهد عليه كتابات علال الفاسي في الخمسينات -النقد الذاتي- والستينات -مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها- وكتابات مالك بن نبي بين الخمسينات والسبعينات»[19].
سادساً: اعتنى بلقزيز في معظم مقالاته ومؤلفاته السالفة الذكر، بالتقسيمات والتصنيفات الفكرية والتاريخية، لكن اللافت في هذه التقسيمات والتصنيفات أن تسمياتها ظلت تتغير وتتبدل من مقالة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخر.
ففي مقالة كتاب (الإسلام والسياسة)، قسّم بلقزيز ما بعد الإصلاحية الإسلامية إلى لحظتين، أطلق على الأولى تسمية إصلاحية مستأنفة، وعلى الثانية تسمية إصلاحية مستعادة، وفي مقالة كتاب (أزمة الفكر السياسي العربي)، تحدث عن الفكر السياسي العربي الحديث استناداً إلى تحقيب هذا الفكر في لحظتين هما: لحظة الإصلاحية العربية وشملت تياري الليبرالية والسلفية المتفتحة، ولحظة الراديكالية الفكرية العربية وشملت تياري الصحوي الإسلامي والقومي العربي، وفي مقالة كتاب (أسئلة الفكر العربي المعاصر)، قسَّم الوعي الإصلاحي إلى لحظتين معرفيتين هما: لحظة الوعي الإصلاحي السلفي، ولحظة الوعي الإصلاحي الليبرالي، وفي كتاب (الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر)، ميَّز بين ثلاث لحظات في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، هي: لحظة الإصلاحية الإسلامية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، ولحظة الإصلاحية الإسلامية المتجددة والضيقة الهوامش في القرن العشرين، ولحظة الإحيائية الصحوية الإسلامية منذ ثلاثينات القرن العشرين.
هذه بعض الملامح التي تكشف عن حالة التغيّر في أطروحة الدكتور بلقزيز، التي لا بد من الإحاطة بها عند تقييمها ومناقشتها بصورة علمية وموضوعية.
إلى جانب هؤلاء الثلاثة (حنفي والسيد وبلقزيز)، الذين عرفوا أكثر من غيرهم بهذا النمط من الأطروحات في مجال العربي المعاصر، هناك أيضاً من أشار وتحدث عن هذا النمط من الأطروحات، لكن بصورة عابرة ومنقطعة، وليس بصورة متصلة.
ومن هؤلاء الكاتب السوري محمد سيد رصاص الذي نشر مقالة سنة 2003م بعنوان (مآزق التجديد الديني في الإسلام الحديث)، اعتبر في الخاتمة أن ما طرحه يقدّم محاولة فكرية لتفسير عملية الانتقال النزولي من جمال الدين الأفغاني إلى الملا عمر، ومن حسن البنا إلى أسامة بن لادن، ومن مالك بن نبي إلى علي بلحاج، ومن سيد قطب إلى أيمن الظواهري، ومن أحمد أمين إلى ظواهر جديدة في الفكر الإسلامي المعاصر[20].
- 5 -
الأطروحات.. والاتجاهات الناقدة
لا شك في أن هذه الأطروحات الثلاث من جهة البنية والطبيعة، ومن جهة التكوُّن والتطوُّر، لا تخلو من طرافة، ومن إثارة للجدل والنقاش، وحتى المحاججة والاعتراض، لكن القدر الذي وقفت عليه من هذا النقاش يعد ضئيلاً من ناحية الكم، ويغلب عليه طابع التخطئة والتشكيك من ناحية الكيف.
والملاحظ أن معظم هذه النقاشات اتجهت نحو أطروحة الدكتور حسن حنفي، وتحددت في نطاق المصريين الذين كانوا على معرفة بأطروحة الدكتور حنفي، وعلى احتكاك بها أكثر من الأطروحات الأخرى.
ومن الذين ناقشوا هذه الأطروحة، واقتربوا منها في المجال المصري، يمكن الإشارة إلى ثلاثة مواقف ناقدة هي:
الموقف الأول: أشار إلى هذا الموقف الشيخ يوسف القرضاوي الذي يرى وبخلاف الأطروحات السابقة، أن هناك مسيرة تصاعدية في حركة الاجتهاد في العصر الحديث، ولم تنتكس هذه المسيرة كما زعم البعض، وحسب قوله وتفسيره: «إن المسيرة كانت تصاعدية، ولم تنتكس كما عزموا، بل بدأت بالعموميات والمجاملات ثم أخذت تتخصص، وبدأت رجراجة ثم شرعت تنضبط، فالشيخ محمد عبده كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأفغاني بحكم ثقافته الأزهرية المتعمقة، والسيد محمد رشيد رضا كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأستاذ الإمام، بما له من سعة إطلاع على كتب السنة والآثار، وإنتاج المدرسة السلفية التي يمثلها الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو الذي شن حملاته القوية من مجلته العتيدة المنار على الجمود والتقليد، وكتب المقالات الإصلاحية، والفتاوى العلمية التجديدية خلال ثلث قرن من الزمان، وذاعت اجتهادات الشيخ رشيد، وفتاواه التجديدية في العالم الإسلامي كله، ولقيت من القبول أكثر مما لقيته اجتهادات شيخه على قلَّتها، أما السيد جمال الدين فلا نكاد نعرف له اجتهاداً معيناً، وقد كانت شخصيته شخصية الزعيم الثائر الموقظ للعقول، المحرك للمشاعر، المثير للهمم والعزائم، لا شخصية الفقيه المنضبط بأصول وقواعد، وكل ميسر لما خلق له.
وقد أخذ على الشيخ محمد عبده بعض آرائه في تأويل القرآن، كقوله في قصة آدم، وكلامه عن الطير الأبابيل، ونحو ذلك، وعذره أن الحضارة الغربية كانت في أوجها، وكان الانبهار بها على أشده، لذا غلبت النزعة العقلية، ومحاولة إخضاع النص حتى يوافق المفاهيم الجديدة.
ومن الإنصاف لمن يريد تقويم شخص ما، وتقدير فكره وعمله، أن يضعه في إطاره التاريخي الخاص، لا يعدو به زمانه ومكانه إلى زماننا نحن ومكاننا، فبعض ما يبدو لنا اليوم واضحاً مسلماً، لم يكن كذلك في زمنه»[21].
الموقف الثاني: أشار إلى هذا الموقف الدكتور محمد عمارة الذي نشر كُتيّباً بعنوان (الثوابت والمتغيرات لليقظة الإسلامية الحديثة)، عالج فيه -حسب قوله- الدعوة التي تقول: إن محمد عبده أكثر تخلّفاً من الأفغاني، وأن رشيد رضا أكثر تخلُّفاً من محمد عبده، وأن حسن البنا أكثر تخلُّفاً من رشيد رضا، وهي الدعوة التي طرحها حسن حنفي في إطار ما يسمى عنده بكبوة الإصلاح.
وبخلاف هذه الدعوة، يرى الدكتور عمارة أن الفروق بين هؤلاء يرجع إلى أمرين هما:
«أولاً: في مرحلة الأفغاني ومحمد عبده كان المخاطب صفوة، وأنت إذا رأيت عضوية الحزب الوطني الحر الذي كوّنه الأفغاني في سبعينات القرن التاسع عشر في مصر، أو عضوية العروة الوثقى، أو حتى عضوية جمعية أم القرى للكواكبي تجد أنهم علماء نخبة. وعندما يكون جمهورك علماء يكون مستوى طرحك أكثر جرأة وأكثر عقلانية، حتى المعتزلة قبل مرحلة الثورات كانت الجرأة العقلانية عندهم أكثر من المرحلة اللاحقة، أعني أن الخطاب كان خطاب نخبة.
ثانياً: في مرحلة الأفغاني ومرحلة محمد عبده كان التركيز على نقد التراث أكثر من التركيز على نقد الغرب؛ لأن الغرب كان لا يزال يعيش واقفاً على الباب ولم يدخل، لم يصبح هو الكارثة والبلوى العامة. عندما سقطت الخلافة، وعندما أصبحت العلمانية والتغريب لها أحزاب في داخل المجتمع، لم يعد التراث بشكله الأكثر تخلّفاً والأكثر خرافة كما كان في المرحلة الأولى، يعني أصبحت تحديات التراث أقل، بينما تحديات الغرب أصبحت أكثر، ولذلك أنا أشعر سواء لدى رشيد رضا أو حسن البنا في هذه المرحلة، لم تكن القضية قضية تراجع عن المنهج، إنما قضية تغير في موازين التحديات»[22].
الموقف الثالث: أشار إلى هذا الموقف الكاتب هاني نسيرة الذي خصَّص فصلاً في كتابه (أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار)، بعنوان (الإصلاحية الإسلامية وتفكيك مقولة كبوة الإصلاح)، انتقد فيه وبشدة مقولة كبوة الإصلاح من دون أن يُسمِّي صاحبها، وحسب رأيه أن الفكر العربي المعاصر يميل «في كثير من تجلياته إلى وضع إشكاليات مغلقة، هي أشبه ما تكون بحبائس يحسم بها إشكالياته، ومن قبيل ذلك ما نجده من حديث الكثيرين عن أزمة مشروع النهضة، أو أزمة الإصلاح في العالم العربي، وهو ما يتَّجه البعض لتفسيره في العقد الأخير، بما يدعونه غالباً كبوة الإصلاح أو كبوة النهضة، وهم لا يقصدون بها كبوة الإصلاح بعمومه، وهي كبوة دائمة خاصة على المستوى السياسي والثقافي، أو أزمة مشروع النهضة العربية بإطلاق، ولكن يقصدون بها تحديداً انكسارة المسار الفكري للإصلاح، ورجوع أخلافه القهقرى عمَّا طرحه رواده ومؤسسوه.
وحسب هذا المفهوم، يكون جمال الدين الأفغاني أكثر تقدمية من محمد عبده، ويكون محمد رشيد رضا تلميذ عبده أقل إصلاحية من أستاذه الشيخ الإمام، ثم يزداد الخط انكساراً مع تلميذ الأخير حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي يزداد محافظة عن أستاذه صاحب المنار، ليبلغ أوج انكساره مع فكر الحاكمية مع سيد قطب الذي كان أقل عنفاً وتعصباً من تلاميذه من منظري الجماعات الجهادية بعده»[23].
وخطورة هذا الطرح، الذي لم يتعرض لنقد من قبل حسب قول هاني نسيرة «أنه يحبس إشكالية فشل أو تأزم مشروعنا النهضوي داخله، مع تجاهل سياقاته وأزمة قواه بالأساس، وكذلك يتجاهل المشروع المضاد له، والذي عبّرت عنه قوى لم تكن غائبة يوماً عن مجابهته، سواء تذرعت بسلطة الدين أم بسلطة المستبد، وهي قوى سبقت نشأة حركات الإسلام السياسي وإن صارت الأخيرة الممثل الأشهر لها، إلَّا أن القوى المضادة للنهضة ليست إسلامية فقط، بل يؤكد كثير منها على علمانيتها ومدنيتها، رغم أن خطاباتها، وكثيراً من ممارساتها، تزيد أصولية عن الأصولية الدينية»[24].
ومن جهة التسمية، يرى نسيرة «أن تعبير كبوة الإصلاح ليس تعبيراً دقيقاً في مضمونه، وأنه ليس أكثر من عَرَض من داء الأيقنة المسيطر على الفكر العربي المعاصر، حين يفترض تعميمات لا تصح تفصيلاتها، ويقفز دائماً للنتائج والمخرجات دون قراءة علمية وموضوعية للسياقات والمدخلات، فالقراءة الفاحصة لجمال الدين الأفغاني مثلاً، تُثبت أنه لم يكن أكثر إصلاحية من محمد عبده بل العكس، كما أن محمد رشيد رضا أول من روّج للفكر السلفي في المنطقة، وأكثر المتأثرين بالوهابية في مصر والشام، وأحد ملهمي أمثال الشيخ محمد ناصر الألباني توجهاته السلفية فيما بعد، لم يكن أكثر اعتدالاً من حسن البنا، خاصة إذا علمنا أن كثيراً من مقولات البنا نفسه مثل شمولية الإسلام، وأنه دين ودولة، ومصحف وسيف، ورسالة وحكم وغيرها كثير، ليست سوى استعاراته من المالك الحقيقي رشيد رضا»[25].
والجانب الذي يرى نسيرة جواز الحديث فيه عن كبوة الإصلاح، يتحدد -حسب قوله- «في المسار بين حسن البنا وسيد قطب، خاصة في مرحلة هذا الدين والمعالم، ويصح القول كذلك: إن الأول كان أكثر مرونة واعتدالاً من الثاني، رغم ما أبداه من إعجاب به في البداية، كما كان الأخير ربما أكثر اعتدالاً من خلفائه من الجماعات الجهادية والتكفيرية التي تربَّت على كتاباته»[26].
هذه بعض المواقف الناقدة لأطروحة الدكتور حسن حنفي في كبوة الإصلاح، والتي تكشف عن وجود قراءات متعددة ومتباينة حول مسارات تطور الفكر الإصلاحي الإسلامي، وطبيعة المآلات التي وصل وانتهى إليها في مرحلته المعاصرة.
- 6 -
ملاحظات ونقد
بعد هذه الجولة من تكوين المعرفة بتلك الأطروحات الثلاث، وما تشكَّل حولها من مواقف ناقدة، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات المنهجية والمعرفية، وهي على النحو الآتي:
أولاً: هذه الأطروحات الثلاث هي من جملة الأطروحات الفكرية والنقدية، التي حاولت النظر في العلاقة ما بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، الحديث الذي يمتد ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى عشرينات القرن العشرين، والمعاصر الذي يمتد من ثلاثينات القرن العشرين إلى نهاية القرن وما بعده، وتفسير حالة التراجع التي حصلت في مسارات هذا الفكر، والذي اتخذ حسب هذه الأطروحات خطًّا منكسراً ومتقهقراً.
وتنتمي هذه الأطروحات الثلاث إلى المجال الفكري العربي المعاصر، ويتحدد ظهورها وتكونها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
وليست هذه الأطروحات، هي الأطروحات الوحيدة، ولا الأطروحات التامة والمظفرة في حقلها ومجالها، وهي كغيرها من الأطروحات القابلة للتخطئة والتصويب، ولعل هناك من يخطئها بشكل كامل أو جزئي، إلى جانب من يصوبها بشكل كامل أو جزئي، حالها حال الأطروحات الأخرى التي تظهر وتعرف في حقل العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية.
لكن الأكيد أن هذه الأطروحات مهما كانت وجهات النظر حولها، لا يمكن تجاهلها أو إلغاؤها وعدم الاكتراث بها، وتتأكد قيمتها في كونها تنتمي إلى ثلاث بيئات اجتماعية، تعد من أهم البيئات الثقافية والأدبية والفكرية في العالم العربي وهي مصر ولبنان والمغرب، وتتأكد قيمتها كذلك في ظل ما نعانيه من فقر معرفي شديد تندر وتغيب فيه النظريات والأطروحات، وتتعرض فيه إلى النسيان والإهمال، وقد تُواجَه بالتنكُّر والنكران إلى ما هنالك.
ثانياً: يلاحظ أن هناك تشابهاً كبيراً بين هذه الأطروحات الثلاث، إلى جانب التقارب الزمني في طرحها والحديث عنها، تشابهاً يظهر كما لو أن هذه الأطروحات الثلاث هي أطروحة واحدة، جرى الحديث عنها بصيغ مختلفة بعض الشيء بين هؤلاء الثلاثة.
والسؤال: هل ترجع هذه الأطروحات الثلاث في أصلها إلى أطروحة واحدة، وتنسب ابتكاراً واكتشافاً إلى شخص واحد، ومن يكون هذا الشخص بين هؤلاء الثلاثة! وهل يقبل هؤلاء الثلاثة بانتساب هذه الأطروحة لواحد منهم، ويُقرّون له ويعترفون بحق السبق في الابتكار والاكتشاف، وهذا ما لم يحدث حتى هذه اللحظة!
وهل من المصادفة أن يتحدث هؤلاء الثلاثة عن أطروحة واحدة! وهل هناك سابقة قديمة أو حديثة حصلت بهذا الشكل في ساحة العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية، عندنا نحن العرب والمسلمين، أو عند غيرنا من أصحاب الأمم والديانات الأخرى!
ولا أدري إن كانت هذه المسألة قد طرحت على هؤلاء الثلاثة أم لا! كما لا أدري إن كان هؤلاء قد طرحوا هذه المسألة على أنفسهم أم لا!
والجزم في هذه المسألة بالتأكيد لا يأتي منا، وإنما ينبغي أن يأتي من هؤلاء، وهم يعرفون بعضهم جيداً، والحاجة إلى ذلك حتى لا تظل هذه المسألة معلقة، وفي حالة تردد مستمر، وخارج نطاق الحسم.
ثالثاً: ظل هؤلاء الثلاثة (حنفي والسيد وبلقزيز) يتحدثون عن أطروحاتهم باستمرار في مقالات وأوراق ومؤلفات، ولم يتوقفوا من الحديث عنها، والإشارة إليها، والتنويه بها، قبضاً وبسطاً، وبقوا على هذا الحال سنوات عدة، تخطَّت عند كل واحد منهم عقداً من الزمان، وهم يعلمون بهذا الأمر، ولم يكن بعيداً عن إدراكهم، أو غائباً عن ذاكرتهم، وليسوا بحاجة إلى من يُذكِّرهم به، ويُنبِّهم إليه، وما حصل هذا الأمر عندهم إلَّا عن قصد وإدراك، إعلاناً منهم عن هذه الأطروحات، وتمسُّكاً بها، وتأكيداً عليها، وإعطائها صفة الامتداد والانتشار في كتاباتهم ومؤلفاتهم، لتكون في منزلة الأطروحة، وحتى تعرف ويجري التعامل معها بهذه الصفة، وعلى هذا الأساس.
هذا الأمر يُعدُّ مفهوماً وقابلاً للفهم، ولا خلاف ولا نزاع عليه، ومن حق كل كاتب أن يتعامل مع أفكاره وأطروحاته بالطريقة التي يرتضيها، ويراها مناسبة وسليمة، ولا سلطة عليه في هذا الشأن، ولا رهبة ولا ترهيب، لكن ما يعد غير مفهوم في هذا الأمر، أن هؤلاء الثلاثة ظلوا يُكرِّرون الحديث عن هذه الأطروحات، من دون التنبيه على هذا التكرار، ولا حتى الإشارة إليه، والكشف عن حكمته والحاجة إليه، والدواعي التي دعت له، وبعثت عليه.
وظهر هؤلاء في كل مرة، وكأنهم لأول مرة يتحدَّثون عن هذه الأطروحات، في حين أنهم تحدثوا عنها مرات عدة، في أمكنة عدة، وأزمنة عدة، ومناسبات عدة، وبشكل لا يمكن إخفاء هذا الأمر، وليس من الحكمة إخفاؤه مع إمكانية كشفه منهم ومن غيرهم، ومع الحاجة إلى كشفه.
واللافت أن هذا الأمر حصل وتكرَّر مع هؤلاء الثلاثة، فلا الدكتور حسن حنفي تحدَّث وأشار إلى ما حصل عنده من تكرار في الحديث عن أطروحته، مع أنه يعلم قبل غيره وأكثر من غيره بالمرات التي تحدَّث فيها عن هذه الأطروحة، والحال ذاته حصل مع الدكتور رضوان السيد، وهكذا مع الدكتور عبد الإله بلقزيز، والقدر الذي أشار إليه الدكتور السيد وكان مفيداً أنه في سنة 2009م اعتبر أن أطروحته أو فرضيته هذه، اتَّخذ منها أساساً للدراسة في الخمس عشرة سنة الماضية.
ولا أظن أن هؤلاء الثلاثة، وهم من النقاد المعروفين، يرضون بهذا التكرار لو حصل عند غيرهم، ولا يرضون أيضاً لو حصل هذا التكرار عند غيرهم من دون التنبيه عليه، والإشارة إليه، والكشف عن الحكمة والحاجة من تكراره، من هنا كان لا بد من تسجيل هذه الملاحظة على هؤلاء.
رابعاً: منذ الإعلان عن هذه الأطروحات، لم يُحدِّثنا أصحابها ولم نعرف منهم ما حصل فيها من تغيّرات وتطوّرات بنيوية أو منهجية أو مفاهيمية أو غير ذلك، حسب وجهات نظرهم، والجانب الأكيد أن صورة هذه الأطروحات قبل عشر سنوات على الأقل، هي غير صورتها بعد هذه الفترة في رؤية وتقدير أصحابها، لكن هؤلاء لم يتحدَّثوا عن هذا الجانب، ولم يشرحوه لغيرهم، مع حديثهم المتكرر عن هذه الأطروحات.
لم يتحدث هؤلاء عن هذا الجانب، ليس لعدم حصول تغيرات وتطورات منعت ورفعت الحاجة من التطرق لهذا الجانب، وإنما لم يجر الحديث عنه مع حصول تغيرات وتطورات أكيدة، ومع علم هؤلاء بحصول هذا التغيرات والتطورات، التي أثَّرت في طريقة رؤيتهم لهذه الأطروحات.
ويكفي للبرهنة على ذلك، أن الدكتور رضوان السيد تحدث عن أطروحته في أول الأمر بصيغة خاطرة، وفي وقت لاحق تحدث عنها بصيغة فرضية، كما تحدث عنها أيضا بصيغة أطروحة، ولا شك أن صورة الرؤية للأطروحة بصيغة الخاطرة، هي غير صورتهاً في صيغة الفرضية، وفي صيغة الأطروحة، الأمر الذي يعني حصول تغير وتطور في هذه الأطروحة، وفي طريقة النظر لها من جهة البنية والطبيعة، ومن جهة التكون والتطور.
وهكذا الحال حصل مع الدكتور عبد الإله بلقزيز الذي تحدث عن أطروحته في أول الأمر بالاستناد على مفهومين مفتاحين هما الإصلاحية والصحوية، وفي وقت لاحق أخذ يتحدث عنها بالاستناد إلى ثلاثة مفاهيم هي: الإصلاحية والإحيائية والصحوية، بما يكشف عن حصول تغير وتطور في بنية وطبيعة الأطروحة.
ولم يكن مفهوماً عدم تحدث هؤلاء عن هذا الجانب من التغير والتطور في هذه الأطروحات، مع شدة عنايتهم في الحديث عنها، وبالشكل الذي عرضهم إلى التكرار والاجترار غير المرغوب فيه عادة، في حقل الدراسات الفكرية الجادة.
خامساً: علمنا أن هؤلاء الكتاب الثلاثة تحدثوا كثيراً عن أطروحاتهم، ونعلم يقيناً أنهم يعرفون بعضهم جيداً، ولا تنقصهم المعرفة بأطروحات بعضهم، بما في ذلك هذه الأطروحات المقصودة، لكن الذي لا نعلمه لماذا لم يتحدَّث هؤلاء عن أطروحات بعضهم بعضاً، مع ما بينها من تشابه يصل إلى درجة التطابق، وبشكل يظهر هذه الأطروحات وكأنها أطروحة واحدة.
وهذا الجانب من أكثر ما يثير الدهشة عند الاقتراب من هذه الأطروحات، ولا نعلم على وجه التحديد السبب الحقيقي أو الأسباب الحقيقة عن ذلك، وكان من الأفضل لنا ولهؤلاء أيضاً عدم الخوض في البحث عن التفسيرات الممكنة، لو أن هؤلاء شرحوا هذا الجانب، وقطعوا الطريق على التفسيرات والتأويلات التي قد يغلب عليها جانب الظن والاحتمال، القريب أو البعيد.
فهل يمكن تفسير هذا الأمر على أنه نوع من التجاهل المتعمد والمقصود، والذي يحصل أحياناً بين الأشخاص الذين يرون أنفسهم أقراناً لبعضهم، وبوصفهم ينتمون إلى جيل واحد!
أم أن هذا الأمر له علاقة بالتشابه الحاصل بين هذه الأطروحات، مع علم هؤلاء الأكيد بهذا التشابه، وبالشكل الذي يفتح عليهم الحديث حول من هو الأسبق ابتكاراً واكتشافاً لهذه الأطروحة، ومن هو صاحبها الأول الذي تنسب إليه!
وما هو شكل العلاقة بين هذه الأطروحات، فهل هذا التشابه حصل بصورة تلقائية! أم هو تثاقف حصل بصورة عفوية، أم هو شيء آخر غير ذلك!
كنا نود معرفة كيف ينظر هؤلاء لأطروحات بعضهم بعضاً، وما هي منظورات الرؤية التحليلية والتركيبية عندهم تجاه هذه الأطروحات، وكيف ينظرون لصور وأنماط العلاقة بين هذه الأطروحات، وهذا ما لم يحصل!
وما لم يحصل حتى مع إتاحة الفرصة الممكنة إلى ذلك، كالتي جرت بين رضوان السيد وعبد الإله بلقزيز في الكتاب النقاشي المشترك (أزمة الفكر السياسي العربي)، الذي أثار فيه بلقزيز الإشارة إلى هذه الأطروحة، علماً أن درجة التشابه الحاصلة بين أطروحتي السيد وبلقزيز، أكثر من درجة التشابه مع أطروحة الدكتور حسن حنفي.
غياب النقاش عند هؤلاء حول أطروحاتهم، أحدث نقصاً في بنية وتكون وتطور هذه الأطروحات، نقصاً لا يمكن أن يُسد ويُعالج إلَّا بهذا النمط من النقاش النقدي، الذي يضع هذه الأطروحات في دائرة المساءلة البينية.
سادساً: لا يمكن تبرئة هذه الأطروحات من حالة الانتقائية، التي ظهرت وتجلت في طريقة اختيار وترتيب الأسماء والنماذج المشار إليها في هذه الأطروحات، والتي مثَّلت الأساس في استنباط هذه الأطروحات، وفي طريقة البرهنة عليها أيضاً.
وهي الأسماء التي تبدأ من الأفغاني وتنتهي إلى عمر عبدالرحمن، عند كل من حسن حنفي ورضوان السيد، وهي الأسماء نفسها عند عبد الإله بلقزيز سوى أنه تقصَّد إضافة أسماء مغاربية، حرصاً منه -على ما يبدو- على ربط أطروحته بهذه البيئة التي ينتمي إليها، ومن أجل لفت الانتباه إلى هذه البيئة الغائبة والمغيبة في كتابات ودراسات المشرقيين، ومن هذه الأسماء التي أضافها بلقزيز محمد بلحسن الحجوي في مرحلة الإصلاحية الإسلامية، وعبدالسلام ياسين في مرحلة الصحوة الإسلامية.
ومن هذه الجهة يمكن تخطئة هذه الأطروحات، وإرباكها، وخلخلة نسقها وتناسقها من خلال انتقاء أسماء ونماذج أخرى، مغايرة لتلك الأسماء والنماذج المذكورة في تلك الأطروحات، ومن هذه الصور الممكنة، يمكن القول: إن مصطفى عبدالرازق كان أكثر انفتاحاً من رشيد رضا، وأن محمد الطاهر بن عاشور كان أكثر انفتاحاً من حسن البنا، وأن مالك بن نبي كان أكثر انفتاحاً من سيد قطب، وأن يوسف القرضاوي كان أكثر انفتاحاً من عمر عبدالرحمن، وهكذا.
وبحسب هذه الأسماء والنماذج يمكن تغيير الصورة، والادِّعاء بأن هناك خطًّا متصلاً وصاعداً يتّسم بالنهوض والتقدم، من مرحلة الفكر الإسلامي الحديث إلى مرحلة الفكر الإسلامي المعاصر، فهل يمكن القول بصحة هذا الادِّعاء الذي ينفي تلك الأطروحات ويطيح بها!
وعلى هذا الأساس، لا يمكن القول بأن هناك خطًّا متصلاً ومتصاعداً من التراجع والفشل في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، مع وجود حالات من النهوض والتقدم، كما لا يمكن القول أيضاً بأن هناك خطًّا متصلاً ومتصاعداً من النهوض والتقدم في ساحة هذا الفكر، مع وجود حالات من التراجع والفشل.
وما يمكن تأكيده في هذا الشأن، أن هناك خطًّا متبايناً يصعد تارة، ويهبط تارة أخرى، لكن الغالب على الوضع العام في الأمة هو التراجع والفشل، وهذا ما يُعطي إيحاء بما ذهبت إليه تلك الأطروحات.
سابعاً: بحسب الأسماء والنماذج والتجريبات والبيئات التي رجعت واستندت عليها تلك الأطروحات، بهذا اللحاظ فإن هذه الأطروحات تكون قد تحددت في نطاق المجال الإسلامي السني، وغفلت وتجاهلت المجال الإسلامي الشيعي، الذي له أسماؤه ونماذجه وتجريباته وبيئاته، التي تتصل بالمجال الإسلامي العام ولا تنفصل.
ولعل هذه الغفلة وهذا التجاهل، حصل من جهة نتيجة نقص المعرفة، وقلة الدراية، ونقص الخبرة بالمجال الإسلامي الشيعي، ونتيجة التركيز والعناية الفائقة بالحالة المصرية من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة بسبب الاعتياد على أسماء معينة ظلت تتواتر بطريقة هي أشبه بالطريقة النمطية لكونها الأكثر شهرة، وتقصير الكتاب والباحثين الشيعة في لفت الانتباه إلى الأسماء والنماذج الشيعية، إلى جانب ضعف الاهتمام بحقل دراسات عصر النهضة في المجال الإسلامي بصورة عامة.
وما يؤكد الحاجة بضرورة الالتفات إلى المجال الإسلامي الشيعي في هذا الشأن، أن السيد جمال الدين الأفغاني الذي طالما بالغت الأدبيات العربية المعاصرة في وصفه بموقظ الشرق، وباعث النهضة الفكرية في الشرق، ووصفه حسن حنفي في كتابه عنه برائد الحركة الإصلاحية الحديثة، إلى غير ذلك من أوصاف تؤكد دوره الريادي في تدشين عصر النهضة والإصلاح في المجال الإسلامي، هذا الرجل الذي نهض بأكبر دور في نهضة العالم الإسلامي هو واحد من الأسماء التي تنتمي إلى المجال الإسلامي الشيعي، وهناك أسماء أخرى ظهرت وعرفت في البيئات الشيعية المتعددة، في لبنان والعراق وإيران وغيرها.
هذه بعض الملاحظات النقدية على هذه الأطروحات، والتي تؤكد أن العلاقة بين المرحلتين الحديثة والمعاصر في الفكر الإسلامي، ما زالت بحاجة إلى مزيد من الفحص والنظر.