من نتاج الحركة العلميّة في كربلاء المقدسة
الشيخ جاسم الأديب
2020-06-28 08:12
لماذا هذا البحث؟
بعد أن انتهت فاجعة الطفّ الأليمة وضمّت أرض كربلاء جسد ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكوكبة طيّبة من أهل بيته الأبرار وأصحابه الأخيار أصبحت كربلاء المقدّسة محطّ أنظار كثير من الناس.
وعلى مرّ الزمن وببركة الدم الزاكي للمولى أبي عبدالله (عليه السلام) أخذ الناس يُقبلون إلى كربلاء أفواجاً من شتى أقطار العالم، وشيئاً فشيئاً صارت تلك البقعة المباركة خير موئل وملاذ للناس وفي طليعتهم العلماء الأعلام الذين آثروا مجاورة الإمام الحسين (عليه السلام) واتخذوا أرض كربلاء موطناً لهم.
وكما في سائر البقاع المقدّسة حيث يسعى أهل العلم جاهدين في تشييد مراكز العلم فقد غُرست في أرض كربلاء المقدّسة نواة حوزة علميّة مباركة أصبحت في بعض العصور تضاهي بقيّة الحوزات العلميّة العريقة.
إنّها حوزة كربلاء المقدّسة تلك الحوزة التي تخرّج منها كثير من أساطين العلم ممّن يُشار إليهم بالبنان..
حوزة كربلاء التي كانت في بعض الأزمنة تعجّ بفطاحل العلم...
حوزة كربلاء التي صار يقصدها أعمدة العلم وأساطين الفكر من مختلف بقاع العالم...
فلايكاد يُنكر دور تلك الحوزة المباركة في تأريخ التشيّع خاصة في عصر الوحيد البهبهاني الذي قاد زمام الحركة العلميّة وتصدّى بحكمته البالغة للحركة الأخباريّة الواسعة التي هيمنت مدّة لايستهان بها على الكثير من المراكز الشيعيّة.
وبالرغم من ذلك كلّه إلا أنّه وللأسف قلّما تُذكر بركات مثل هذه الحوزة العريقة أو يُشاد برجالها الذين خرّجوا للعالم خير كوكبة علميّة خدمت التشيّع خير خدمة..
وليس ذلك فحسب بل إنّ كثيراً من الناس لايعرف شيئاً عن رجال تلك الحوزة فضلاً عن معرفة آثارهم القيّمة وخدماتهم الجليلة للتشيّع على مرّ العصور.
من هنا ومن باب الإجلال والتقدير لتلك الحوزة القديرة والوفاء لعلماء كربلاء العظام وجدت من الجدير بي أن أُقدّم هذا البحث حول نتاج الحركة العلمية لحوزة كربلاء المقدّسة.
عوامل ساهمت في التوجه إلى كربلاء
قبل الحديث عن الحركة العلميّة التي شهدتها حوزة كربلاء بشكل عام ينبغي الإشارة إلى أمور مهمّة:
الأوّل: أنّ أرض كربلاء أرض مقدّسة شريفة تشرّفت بزيارة الأنبياء والأوصياء لها قبل حدوث فاجعة كربلاء الدامية وهذا مستفيض في الأخبار الشريفة.
الثاني: لم نعثر على دليل يشير إلى أنّ أرض كربلاء سُكنت قبل شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، أمّا بعد شهادته فقد اكتسبت هذه الأرض الجرداء قداسة عظيمة وصارت محطّة ومأوى ومقصداً للبشر من مختلف بقاع العالم.
وقد أخبر الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّ أرض كربلاء ستحوّل إلى مدينة عامرة يقصدها الناس من شتى الآفاق، فقال: (كأنّي بالقصور وقد شيّدت حول قبر الحسين (عليه السلام)، وكأنّي بالأسواق قد حفّت حول قبره، فلا تذهب الأيام والليالي حتى يسار إليه من الآفاق، وذلك عند انقطاع مُلك بني مروان. (1).
وقال الكاتب المصري عبّاس محمود العقّاد في كتابه (أبو الشهداء) عن أرض كربلاء: (فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظرة والمشاهدة، ولكنّها لو أعطيت حقّها من التنويه والتخليد لحقّ لها أن تصبح مزاراً لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظاً من الفضيلة، لأنّنا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسين (عليه السلام) فيها، فكل صفة من تلك الصفات العلويّة التي بها الإنسان إنسان، وبغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم، فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين في تلك البقعة الجرداء) (2).
الثالث: ذكر أكثر من مؤلّف لدى حديثه عن بداية الحركة العلميّة في مدينة كربلاء المقدّسة أنّ إقبال العلماء والشعراء والفقهاء ومحدّثي الشيعة على الزيارة هو السبب في هذه الحركة حتى صارت مدينة كربلاء كسوق عكاظ، مركزاً لقراءة الأشعار البليغة، من قبل شعراء الشيعة، وذلك في أواخر القرن الأول، والقرن الثاني، وبالتدرّج وبحضور الأئمّة الموجودين، أصبح المكان محلاً لتفسير القرآن ونقل الحديث، ثم تحوّل بواسطة الشيخ أبي القاسم حُميد بن زياد بن حمّاد إلى قاعة اجتماع لتدريس أحكام الدين، والمسائل الفقهيّة، والعلوم الدينيّة، ممّا دفع المشتاقين للتحقيق والتعليم، وطلاّب العلوم لأن يتسابقوا صوب كربلاء (3).
وبغض النظر عن صحّة ما ذُكر من سُقمه والخوض في تثبيت جزئيّاته فهناك عدّة عوامل ساعدت على استيطان أرض كربلاء بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) منها:
1- الرمزيّة والقداسة، فهي أرض مقدّسة شهدت واقعة عظيمة في تأريخ البشرية جمعاء ومن طبع الإنسان السليم الميل إلى المقدّسات والارتباط بها، بل امتازت أرض كربلاء عن سائر الأراضي المقدّسة بمزايا كثيرة منها عُظم الحرمة، وقد ذكر العلماء الأعلام آداباً خاصة للزائر إذا نزل أرض كربلاء المقدّسة كأن يزورها أشعثاً أغبراً يترك فيها الطيّبات من الأطعمة ويقتصر على القليل من الطعام، وقد بلغ الأمر ببعض علمائنا الأعلام أنّهم يجتنبون التخلّي في هذه الأرض لقداستها.
2- من الأمور أيضاً التي جعلت البعض يستوطن أرض كربلاء هي حبّهم لزيارة المولى أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) والصفوة الشهداء النازلين بجواره، فآثروا استيطان كربلاء لتتسنّى لهم الزيارة أكثر ومتى شاءوا.
3- جرت عليه من سيرة العلماء والأولياء والصالحين على استيطان هذه الأرض، ولعل هذا الوجه من أقوى الأدلّة على ردّ من ذهب إلى كراهة استيطان أرض كربلاء بدعوى أنّ أهل البيت (عليهم السلام) دعوا إلى الزيارة والانصراف وعدم استيطان هذه الأرض المباركة.
4- سُكنى بعض العلماء من أهل الفضل ممّن يُشدّ إليهم الرحال كربلاء فكان طلاّب العلم يقصدونهم في كربلاء ويستوطنوها مدّة من الزمن.
دفع توهّم
ذهب البعض إلى أنّ أساس الحركة العلميّة في كربلاء ببركة الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث سكن كربلاء المقدّسة مدّة من الزمن في منطقة تُسمّى بـ (الجعفريات) بعد أن اتخذ له داراً في جنوب نهر العلقمي، وقد شهدت كربلاء آنذاك حركة علميّة كبيرة جراء وفود العلماء على الإمام (عليه السلام) من مختلف البلاد (4).
وحسب تتبّعنا للشواهد المختلفة لم نعثر على دليل معتبر يؤيّد سكناه في كربلاء، والقول بأنّ عدم الوجدان لايعني عدم الوجود جيّد لكنّه لاينافي دعوانا من عدم الظفر بدليل معتبر يساعد على أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) أقام في مدينة كربلاء فضلاً عن حصول الحركة العلميّة الكبيرة في عهده.
نعم هناك شواهد تفيد أنّه كان في الحيرة -ولايُعلم أنه استوطنها أو زارها- ومنها:
1- مارواه محمد بن معروف الهلالي: (مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمد فما كان لي فيه حيلة من كثرة الناس، فلمّا كان اليوم الرابع رآني فأدناني وتفرّق الناس عنه..) (5).
2- في رواية أخرى له، قال: (مضيت إلى الحيرة إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد وقت السفّاح، فوجدته قد تداكّ الناس عليه ثلاثة أيام متواليات، فما كان لي فيه حيلة، ولا قدرت عليه من كثرة الناس، وتكاثفهم عليه..) (6).
علاقة زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) بالحركة العلمية
من الأمور المؤثّرة في تشكيل حركة علميّة في كربلاء المقدّسة هي زيارة كثير من العلماء لمرقد المولى أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) خاصة بعد هلاك المتوكل العباسي الذي كان يكنّ حقداً دفيناً للشيعة ولقبر سيّدالشهداء (عليه السلام) حيث سعى جاهداً وبمختلف السبل إلى محو القبر الشريف ومنع الشيعة عن زيارته ولكنّه فشل في ذلك ولم يجن من عمله إلا الخزي والعار.
وبالرغم من الإيذاء الشديد والتنكيل القاسي الذي كان يلاقيه الشيعة من جلاوزة المتوكل العباسي إلا أنّهم لم يتخلّوا عن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فكانوا يتسابقون إلى زيارته رغم العقوبات الشديدة التي كانت مفروضة على من يزور كربلاء آنذاك.
وكشاهد على ذلك أنّ الشيعة لما بلغهم أنّ المتوكل حرث قبر الإمام الحسين (عليه السلام) زاروا كربلاء ومنهم زيد المجنون المُسمّى بـ(بهلول)، وكان ذو عقل سديد، ورأي رشيد، وإلى ذلك يُشير ابن شهر آشوب في قوله: (وروى جماعة من الثقات أنّه لمّا أمر المتوكل بحرث قبر الحسين وأن يجري الماء عليه من العلقمي أتى زيد المجنون وبهلول المجنون إلى كربلا فنظرا إلى القبر وإذا هو معلّق بالقدرة في الهواء. فقال زيد: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ويَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (7) وذلك أنّ الحرّاث حرث سبع عشرمرّة والقبر يرجع إلى حاله، فلمّا نظر الحرّاث إلى ذلك آمن بالله وحلّ البقر، فأخبر المتوكل فأمر بقتله) (8).
وبمجردّ أن هلك المتوكل واستلم الحكم بعده ولده المنتصر الذي أتاح المجال للزيارة ازدلف إلى القبر الشريف ثلّة من السادة العلويين من ذرّية الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) واستوطنوا كربلاء.
وللأسف لم نعثر خلال تلك الفترة على شواهد جليّة عن الحركة العلميّة خلال تلك الحُقبة الزمنيّة سوى ما أشرنا إليه من استيطان أمثال عثمان بن عيسى وعباس بن عيسى الغاضري ونجله محمد بن عباس الغاضري وحُميد بن زياد الذين يشهد لهم بالفضل والتصنيف.
نعم أشار الكليدار في كتابه (مدينة الحسين) إلى أنّ الحركة العلميّة في كربلاء الناجمة عن إقبال رجال الحديث وروّاد العلم على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فقال: (وكذلك زارها كبار رجال الحديث والسير من رجال الإماميّة، وأخذوا في تدريس مسائل الدين والفقه لسكّانها المجاورين والزائرين، فاتسعت الحركة العلميّة فيها، وصار الطلبة يقصدونها من مختلف الأمصار) (9).
دور حُميد بن زياد النينوائي العلمي
ذهب البعض إلى أنّ حُميد بن زياد النينوائي هو المؤسّس الأوّل لحوزة كربلاء معتمداً في ذلك على عبارات بعض مشايخ الرجال كقول الشيخ النجاشي (رحمه الله)، قال الشيخ النجاشي (رحمه الله) في رجاله: (حُميد بن زياد بن حمّاد بن حمّاد بن زياد هوار الدهقان، أبو القاسم كوفي سكن سورا وانتقل إلى نينوى قرية على العلقمي إلى جنب الحائر على صاحبه السلام، كان ثقة واقفاً وجهاً فيهم.
سمع الكتب وصنّف كتاب الجامع في أنواع الشرائع، كتاب الخمس كتاب الدعاء، كتاب الرجال، كتاب من روى عن الصادق (عليه السلام)، كتاب الفرائض، كتاب الدلائل، كتاب ذمّ من خالف الحقّ وأهله، كتاب فضل العلم والعلماء، كتاب الثلاث والأربع، كتاب النوادر وهو كتاب كبير.
أخبرنا أحمد بن علي بن نوح، قال: حدّثنا الحسين بن علي بن سفيان، قال: قرأت على حُميد بن زياد كتابه كتاب الدعاء، وأخبرنا الحسين بن عبيد الله قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن سفيان عن حميد بكتبه، قال أبو المفضّل الشيباني: أجازنا سنة عشر وثلاثمائة، وقال أبو الحسن علي بن حاتم: لقيته سنة ست وثلاثمائة و سمعت منه كتابه (كتاب الرجال) قراءة وأجاز لنا كتبه، و مات حُميد سنة عشر وثلاثمائة) (10).
وقال الشيخ الطوسي في (الفهرست): (حُميد بن زياد، من أهل نينوى، قرية إلى جانب الحائر على ساكنه السلام، ثقة، كثير التصانيف، روى الأصول أكثرها، له كُتب كثيرة على عدد كُتب الأصول) (11).
وذكره الشيخ الطوسي أيضاً في رجاله في من لم يروا عن الأئمّة (عليه السلام)، فقال: (عالم جليل، واسع العلم، كثير التصانيف، قد ذكرنا طرفاً من كتبه في الفهرست) (12).
وكان حُميد بن زياد كما ذكر الشيخ الطوسي مُكثراً في التصنيف له العديد من المصنّفات بعدد الأصول الأربعمائة، ومن مصنّفاته:
1- كتاب النوادر وهو كتاب كبير.
2- كتاب الخمس.
3- كتاب جزء في الحديث.
4- تأريخ الرجال.
5- كتاب الملاحم.
6- كتاب الدلالة.
7- كتاب الأصول.
8- الجامع في أنواع الشرائع.
9- الدعاء.
10- الرجال.
11- من روى عن الصادق (عليه السلام).
12- الدلائل.
13- ذمّ من خالف الحق وأهله.
14- فضل العلم والعلماء.
15-الثلاث والأربع.
وقد وقع حُميد بن زياد في إسناد كثير من روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّ عدد الأخبار التي تخلّلها حُميد يبلغ خمسمائة وستة عشر مورداً (13)، وهو من مشايخ الشيخ الكليني وقد أكثر الأخير الرواية عنه حيث روى عنه في (الكافي) وبلغ ماروى عنه (436) رواية تقريباً، ونقل الشيخ الطوسي في (التهذيب) بالاسناد عن حُميد (139) رواية، وفي (الاستبصار) (137) رواية، لكن الشيخ الصدوق لم يرو في إسناد في الفقيه عن حُميد سوى ثلاثة روايات.
وكذا شيخ المُفسّرين أبي الحسن علي بن إبراهيم القمّي حيث روى في تفسيره مباشرة عن حُميد بن زياد، وروى أيضاً عنه الشيخ أبوعبدالله الحسين بن علي البزوفري وهو من طبقة الشيخ الصدوق ومن رواة الشيعة، وهو أيضاً من أساتذة الشيخ المفيد.
والذي يظهر من سيرة حُميد بن زياد أنّه كان من المُعمّرين، أو أنّه كان يطلب الأسناد العالي، لأنّا وجدنا له عدّة أسانيد عالية جداً بالنسبة إلى طبقته، كروايته عن أبي حمزة الثمالي بواسطة واحدة () (14)، بل قد يقال: أنّه روى عن جابر بن يزيد الجعفي بواسطة واحدة أيضاً (15).
وكان لحُميد بن زياد دوراً كبيراً في نقل الكتب التي سُمّيت عند قدماء أصحابنا بالأصول، وقد أشار الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى ذلك من خلال تعابير وهي:
الأول: (روى عنه حُميد أصولاً كثيرة)ففي ترجمة أحمد بن محمد بن سلمة الرصافي البغدادي، وأحمد بن محمد بن زيد الخُزاعي، وإبراهيم بن سليمان بن حيّان الرصافي البغدادي، والقاسم بن إسماعيل القرشي، ومحمد بن خالد الطيالسي، ومحمد بن الحسن بن خازم، وعبيدالله بن أحمد بن نهيك).
الثاني: (روى عنه حُميد كتباً كثيرة من الأصول) وعلى سبيل المثال في ترجمة علي بن أبي صالح قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في رجاله: (علي بن بُزُرج: يُكنّى أبا الحسن، روى عنه حُميد كتباً كثيرة من الأصول).
الثالث: (روى عنه حُميد...وغير ذلك من الأصول) وكمثال على ذلك ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) في رجاله في أحوال أحمد بن ميثم بن أبي نعيم الفضل بن دُكين، فقال: (روى عنه حُميد بن زياد كتاب الملاحم وكتاب الدلالة وغير ذلك من الأصول).
وبعد ذلك كلّه نقول: إنّ الثابت من عبارات الأعلام أنّ حُميد بن زياد نزل كربلاء وسكن بها وله العديد من المصنّفات، كما نقل عنه العديد من الأعلام مصنّفاتهم وتلقّوا منه العديد من العلوم، فلايبعد أنّه قد أفاض ما لديه من العلوم أيام إقامته في كربلاء المقدّسة، ولكن ليس لدينا دليل صريح ينصّ على أنّ ذلك كان أيام سكناه في كربلاء، ولذا القول بأنّه مؤسّس الحوزة العلميّة في كربلاء يبقى في نطاق الاحتمال والله أعلم.
بالطبع هناك شخصيّات غير حُميد بن زياد النينوائي سكنت كربلاء وهم من العلماء المصنّفين، ومنهم:
1- عثمان بن عيسى: أبو عمرو العامري، الكلابي، الروَاسي بالولاء، الكوفي روى عن: أبي إسحاق الجرجاني، وأبي أيّوب الخزّاز، وأبي بصير، وأبي حمزة الثمالي، وعمر بن أُذينة، وعبد اللَّه بن مسكان، وظريف بيّاع الأكفان، وإسحاق بن عمّار، وزرارة بن أعين، وسعيد الأعرج، وحريز بن عبد اللَّه، وإسماعيل بن جابر، وسماعة بن مهران وأكثر عنه، وعبد اللَّه بن سنان، ومسمع بن عبد الملك، وعلي بن أبي حمزة، وعلي بن سالم، وهارون بن خارجة الكوفي، وآخرين روى عنه: أبو عبد اللَّه بن خالد البرقي، وإبراهيم بن حميد، وإبراهيم بن هاشم، وجعفر الأحول، وإسماعيل بن مهران، وأحمد بن محمد بن عيسى، والحسين ابن سعيد، وموسى بن القاسم، ويعقوب بن يزيد، وعلي بن مهزيار، وسهل بن زياد، وسندي بن الربيع، وآخرون وكان من أصحاب الإمام أبي الحسن الكاظم (عليه السلام)، والمقرّبين لديه، ووكلائه الثقات.
سمع منه الحديث، وروى عنه، وكان في يده أموال كثيرة للإمام الكاظم (عليه السلام) ولمّا مات الإمام (عليه السلام)، وانتقل الأمر إلى ابنه الرضا (عليه السلام)، طلبها، فلم يدفعها إليه، فسخط عليه الرضا (عليه السلام)، ثم ندم عثمان ندماً شديداً، وتاب توبةً نصوحاً وبعث إليه بالمال، وانضمّ في عِداد أصحابه (عليه السلام)، فروى عنه، وعن الجواد أيضاً.
رأى في منامه أنّه يموت بالحائر، ويدُفن هناك، فرفض الكوفة ومنزله وخرج إلى الحائر وابناه معه، فقال: لا أبرح منه حتى يمضي اللَّه عزّ وجلّ مقاديره، وأقام يعبد ربّه عزّ وجلّ حتى مات في حدود سنة مئتين، ودُفن فيه، ورجع ابناه إلى الكوفة، عدّه الكشّي في قولٍ من أصحاب الإجماع. صنّف كتباً عديدة منها: المياه، القضايا والأَحكام، الوصايا، والصلاة، يرويها عنه: أحمد بن محمد بن عيسى ووقع في أسناد سبعمائة وخمسة وأربعين مورداً من روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) (16).
2- عباس بن عيسى الغاضري: أبو محمد، قال عنه النجاشي: (عباس بن عيسى الغاضري: كوفي، أبو محمد، قالوا: كان يسكن في بني غاضرة، أخبرنا أحمد بن عبدالواحد، قال: حدّثنا علي بن حبشي ابن قوني، قال: حدّثنا حُميد بن زياد، قال: محمد بن عباس بن عيسى، عن أبيه، بكتابه) (17).
وقال الشيخ: (عباس بن عيسى، له كتاب أخبرنا به جماعة، عن أبي المفضّل، عن حميد، عن أحمد بن ميثم، عنه) (18).
3- محمد بن عباس بن عيسى الغاضري: أبو عبد اللَّه، وقيل: أبو جعفر، كان يسكن بني غاضرة فيما قيل، وهو من مفسّري الشيعة.
وُلد في ونشأ في (الغاضريّة)، وروى عن أبيه، والحسن بن علي بن أبي حمزة، وعبد اللَّه بن جبلة، وصنّف كتباً، منها: الفرائض، الدعاء، الملاحم، التفسير، الجنّة والنار، وزيارة أبي عبد اللَّه (عليه السلام).
وقال الشيخ الطوسي: (روى عنه حُميد كتباً كثيرة من الأُصول) (19).
وقد تعرّض إليه السيّد الصدر في (تأسيس الشيعة) في طبقة مُفسّري الشيعة، فقال: (ومنهم: أبو عبدالله الغاضري كان يسكن بني غاضرة وهو محمد بن العباس بن عيسى، له كتب منها كتاب التفسير ذكره النجاشي أيضاً وهو في طبقة سعد بن عبدالله القمّي من علماء الماية الثالثة) (20).
وهناك دعوى أنّ تسمية الغاضريين بهذا الاسم نسبة للغاضريّة قُرب الفرات أطراف كربلاء وإلى ذلك يشير العلاّمة المامقاني قائلاً: (ثم لا يخفى عليك أنّه قد نزل بنو غاضرة هؤلاء موضعاً على الفرات من سواد الكوفة قُرب كربلاء المشرّفة، فسمّي الغاضريّة بهم، والنسبة إليه وإليهم غاضري) (21).
أول من استوطن كربلاء من الأشراف
4- حفص بن سليمان الغاضري
لا يخفى أنّ عُلقة الشيعة بأرض كربلاء بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) تختلف كثيراً عن عُلقتهم بها قبل أن تشهد تلك الفاجعة الأليمة، حيث أخذت كربلاء بمجامع القلوب وصار الشيعة يستهلمون منها الكثير من الأمور...
وبالرغم أنّ الحكومات عبر العصور تسعى جاهدة كي تُقصي الشيعة عن كربلاء وتمنعهم من التردّد عليها إلا أنّ علاقتهم الوطيدة بكربلاء كانت تزداد يوماً بعد الآخر رغم الموانع الخطيرة التي وضعتها الحكومات.
فما أن تُتاح لهم الفرصة إلا ويقصدون كربلاء ويزورون المولى أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) ويقيمون عند قبره الشريف مستلهمين من ذلك الدروس والعبر..
ومن ضمن الذين كانوا يقصدون كربلاء هم رجال العلم، فهم في طليعة المواليين الذين اختاروا مجاورة المولى أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) حتّى أنّ مدينة كربلاء في بعض العصور كانت تموج بهم.
وقد ذهب السيّد الصدر (رحمه الله) في (نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين) إلى أنّ السيّد إبراهيم المجاب هو أوّل من سكن كربلاء من الأشراف، فقال: (فاعلم أنّ آل إبراهيم المجاب، ويقال له: إبراهيم الضرير الكوفي بن محمد العابد ابن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، أوّل من سكن الحائر فيما أعلم، ولم أعثر على من تقدّم في المجاورة عليهم، فإنّ علماء النسب كلّهم ينسبون محمد بن إبراهيم المجاب بالحائري، ويصفون إبراهيم المجاب نفسه بالكوفي.
وفي بالي إنّي رأيت أنّه كان إبراهيم المجاب الضرير مجاوراً بالحائر وبه مات، وقبره هناك معروف، لكنّي لا أذكر الكتاب الذي رأيت فيه ذلك، لكن نصّ الكل على أنّ ابنه محمد الحائري كان في الحائر، وعقبه بالحائر كلّهم) (22).
وقال الشيخ النمازي في (المستدركات): (إبراهيم المجاب أو المجان ابن محمد العابد ابن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): الضرير الكوفي المُتوفّى سنة (200) بالحائر الحسيني، المدفون في زاوية رواق مولانا الحسين (عليه السلام). له ضريح يزوره الناس، وهو أوّل من جاور الحائر من الأشراف.وكان عالماً عابداً زاهداً) (23).
وقد أشار الشيخ السماوي في أبيات له حول من دُفنوا في الحائر الحسيني إلى هجرة السيّد المُجاب إلى كربلاء، فقال:
لكنّني سوف أعدّ جُملة------من الملوك والصدور الجلّة
من الذين نُقلوا للطفّ------أو سكنوا فيه لفيض اللطف
أو هاجروا للعلم في الحياة------فأدركوا الآمال بالوفاة
كالخير إبراهيم المجاب------ووُلده الأماجد الأنجاب.
قالوا في الحركة العلميّة في كربلاء
تعرّض من الأعلام والأُدباء وأصحاب الأقلام في بحوثهم إلى حوزة كربلاء المقدّسة وأشاروا إلى الحركة العلميّة فيها عبر القرون منها المختلفة خاصة القرن الثاني العشر والثالث عشر حيث بلغت الحركة العلميّة فيها الذروة وصارت حوزة كربلاء هي المركز الأساسي للعالم الشيعي يقصدها طلاّب العلم من شتى أنحاء العالم.
وممّن تعرّض إلى ذلك هم:
1- قال السيّد الصدر في (تكملة أمل الآمل): (ومن مراكز أهل العلم للشيعة كربلاء الحائر الحسيني، على مشرّفه السّلام زها العلم فيه في المائة السادسة من الهجرة، وصار مجمعاً لأهل العلم خصوصاً أيام الإمام العلاّمة ابن الخازن الذي كتب له الشهيد الإجازة المفصّلة، واستمرّ العلم فيها إلى أيام شريف العلماء المذكور في باب الشين الذي كانت إليه الرحلة) (24).
2- قال السيّد عزيز الطباطبائي في مقدّمة موسوعة (الحدائق الناضرة) لدى ترجمته للمؤلّف: (ومنذ حل اصطهبانات عزم على مغادرة بلاد إيران، وصمّم على المقام بالعراق حيث الأعتاب المقدّسة، ومنبثق أنوار العلم والفضيلة، فأخذ في تمهيد مقدّمات سفره، فغادر بلاد إيران ويمّم العراق، فألقى رحله في كربلاء المشرّفة، موطنه الأخير ومستقرّه الأبدي وإنّا لم نقف على تأريخ هبوطه كربلاء إلا أنّ الذي يظهر من تاريخ بعض تآليفه أنّه حلّ بها قبل عام (1169ه).
وقد حلّ شيخنا المؤلّف بالحائر المقدّس حين كانت تلك البلدة القدسيّة من أكبر معاهد العلم للشيعة، وكانت تضاهي النجف الأشرف بمعاهدها الدينيّة وأعلامها الأفذاذ، حلّ بها على عهد زعيمها الأوحد الأستاذ الأكبر معلّم البشر شيخنا الوحيد البهبهاني (قدّس سرّه) مجدد المذهب في القرن الثالث عشر.
فكانت كربلاء على عهد هذا الزعيم العظيم في الغارب والسنام من المجد والعظمة، فقد بلغت ذرى عزّها الشامخ، وتسامى شرفها الباذخ، حيث كانت آنذاك مفعمة بالأوضاح والغُرر من صيارفة العلم ونقّاد الفضيلة، طافحة بأعلام الأمّة ورجالات الدين، محتشدة بكبار المجتهدين وأفذاذ المحقّقين، ممّن انعقدت عليهم تيجان العلم. ورفّت عليهم ألوية الفضيلة، وخفقت عليهم بنود الكمال) (25).
مراحل التكامل العلمي في كربلاء
مرّت الحركة العلمية في كربلاء المقدّسة بمراحل متعدّدة اتسمت كل مرحلة منها بخصائص ومزايا مختلفة ساهمت بشكل كبير في ازدهار وخمول الحركة العلمية فيها.
وممّا يؤسف له حقّاً أنّنا لم نعثر على شيء جلي عن الحركة العلمية في بعض القرون سوى بعض المُتفرّقات المختصرة والمطالب المشتّتة التي تذكر هنا وهناك في تراجم بعض رجالات حوزة كربلاء.
وقبل أن نشير إلى الحركة العلمية في كربلاء لابد أن نذكر أنّ الحركة العلمية الشيعيّة عبر العصور انتقلت من مصر لآخر، وفي كل العصور لم تخلوا كربلاء المقدسة من حركة علمية يُشهد لها، نعم لم تكن الصدارة في تلك العصور لحوزة كربلاء.
وعلى كل لو أردنا تقسيم مراحل الحركة العلميّة في كربلاء فيمكن تقسيمها كالتالي:
1- ما قبل عصر الصدارة:
وهي تشمل فترة مرحلة ما قبل صدارة الحوزة العلميّة في كربلاء وامتازت هذه المرحلة بجهود علميّة ومشاركات رائدة من رجال العلم في كربلاء إلا أنّ مركز العلم وصدارة الحوزة كانت في مناطق أخرى.
ولو أردنا أن نسلّط الضوء على أهم معالم هذه الحركة العلمية في هذه المرحلة لكانت كما يلي:
أ- استيطان بعض رجال العلم مدينة كربلاء واتخاذهم إياها كمقر لمسيرتهم العلميّة: وقد تعرّض الكليدار إلى هذه الظاهرة في كتابه (مدينة الحسين)، فقال: (وكذلك زارها كبار رجال الحديث والسير من رجال الإماميّة، وأخذوا في تدريس مسائل الدين والفقه لسكّانها المجاورين والزائرين، فاتسعت الحركة العلميّة فيها، وصار الطلبة يقصدونها من مختلف الأمصار) (26).
وفي طليعة الذين استوطنوا كربلاء واتخذوها كمقر لمسيرتهم العلمية هم: عثمان بن عيسى، وعباس بن عيسى الغاضري، ونجله محمد بن عباس الغاضري، وحُميد بن زياد النينوائي، وهم ممّن شُهد لهم بالفضل والتصنيف.
ولمّا اتسعت مدينة كربلاء على يد عضد الدولة البويهي وبقيّة البويهيين الذين اتّبعوا نهجه من الاعتناء بكربلاء أقبل كثير من العلماء على الزيارة والاستيطان بها، يقول الدكتور عبدالجواد الكليدار في كتابه (تأريخ كربلاء وحائر الحسين (عليه السلام): (وقد اتسعت وازدهرت كربلاء في عهد البويهيين وتقدّمت معالمها الدينية، والاجتماعية والسياسيّة، والاقتصادية، فاتسعت تجارتها، وأخضلّت زراعتها، وأينعت علومها وآدابها، فدبّت في جسمها روح الحياة والنشاط فتخرّج منها علماء فطاحل وشعراء مجيدون، وتفوّقت في مركزها الديني المرموق) (27).
وبقيت كربلاء كمحط نظر للعديد من الأعلام الذين آثروا مجاورة سيّدالشهداء (عليه السلام) على الاستيطان في مراكز العلم الأخرى، فنزلها كوكبة من رجال العلم أمثال السيّد أحمد الموسوي الذي ينتمي إلى السيّد المجاب، والشيخ محمد الحائري الذي سأل الشيخ الطائفة الطوسي (رحمه الله) (152) مسألة، وقيل: أنّه كان وكيله في كربلاء (28)، والشيخ هشام آل إلياس صاحب المسائل الحائرية التي تحتوي على (300) مسألة، والشيخ ابن حمزة صاحب الوسيلة، والشيخ ابن المشهدي صاحب المزار، والشيخ أبو عبدالله المقدادي، والسيّد حسين المعروف بابن الخازن، والسيّد عبدالكريم بن طاووس الذي كان أوحد زمانه، والسيّد أبو علي الفخّار، والشيخ ابن فهد الحلي، وغيرهم الكثير من أساطين العلم.
ب- الدرس والتدريس: حيث كانت حلقات الدرس والتدريس في كربلاء على مر العصور عامرة بطلاب العلم ومبتغي المعارف، وساعد على ذلك وجود بعض الأساتذة من أهل الكفاءات العلميّة.
ت- حفظ التراث الشيعي: كان للحركة العلمية في كربلاء دوراً بارزاً في حفظ التراث الشيعي وصونه من التلف وإيصاله للأجيال اللاحقة.
ومن يراجع تراجم الكثير من علماء كربلاء يجد أنهم ساهموا في حفظ الأسانيد والكتب ونقلها بكل أمانة لأهلها من طلاب العلوم حتى وصلتنا اليوم دون أية زيادة أو نقيصة.
وعلى سبيل المثال فقد ذكرنا أنّ عدد الأخبار التي تخلّلها حُميد يبلغ خمسمائة و ستة عشر مورداً (29)، وهو من مشايخ الشيخ الكليني، وقد أكثر الأخير الرواية عنه حيث روى عنه في (الكافي) وبلغ ماروى عنه (436) رواية تقريباً، ونقل الشيخ الطوسي في (التهذيب) بالاسناد عن حُميد (139) رواية، وفي (الاستبصار) (137) رواية، لكن الشيخ الصدوق لم يرو في إسناد في الفقيه عن حُميد سوى ثلاثة روايات.
وكذا شيخ المُفسّرين أبي الحسن علي بن إبراهيم القمّي حيث روى في تفسيره مباشرة عن حُميد بن زياد، وروى أيضاً عنه الشيخ أبوعبدالله الحسين بن علي البزوفري وهو من طبقة الشيخ الصدوق ومن رواة الشيعة، وهو أيضاً من أساتذة الشيخ المفيد.
2- مرحلة الكمال:
كانت حوزة كربلاء قبل مرحلة الكمال تشارك سائر المراكز العلميّة الشيعية في نشر العلوم وتروجيها إلى أن جاءت مرحلة الكمال التي حازت فيها حوزة كربلاء على الصدارة وصارت مأوى ومركز إشعاع علمي يقصده طلاب العلم ومبتغيه من مختلف أنحاء العالم.
وقبل أن نعرّج على هذه المرحلة لا بأس أن نقف هنيئة عند كلمات بعض الأعلام حول هذه المرحلة، ومنهم:
1- الشيخ محمد رضا المظفّر (رحمه الله)، ففي حديث له عن صاحب (الجواهر) (رحمه الله): (كانت الحركة العلميّة في عهد شيخنا المُترجم له في القمّة من الحركات العلميّة التي امتاز بها القرن الثالث عشر الهجري في خصوص النجف الأشرف وكربلاء.
فإنّ النهضة العلمية التجديدية في الفقه وأصوله - بعد الفتور العام الذي أصابها في القرن الحادي عشر وأكثر الثاني عشر - ابتدأت في كربلاء على يد المؤسّس العظيم الآغا محمد باقر البهبهاني المُتوفّى سنة (1208ه).
وبقيت بعده النجف تنازع كربلاء وتشاطرها الحركة العلميّة بفضل تلميذيه العظيمين السيّد مهدي بحر العلوم المُتوفّى سنة (1212ه)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المُتوفّى سنة (1228ه) ذا تحول قسم من الاتجاه العلمي شطر النجف بسببهما، وإن كانت كربلا بقيت محافظة على مركزها الأول حتى وفاة المربّي العظيم المعروف بشريف العلماء وهو الشيخ محمد شريف المازندراني المُتوفّى سنة (1245) الذي قيل: إنّ حضّار درسه كانوا يبلغون ألف طالب، وكفى أنّ أحد طلابه وتلاميذه الشيخ الأنصاري) (30).
2- وصف السيد الشهيد باقر الصدر في كتاب (المعالم الجديدة للأصول) الحركة العلميّة في كربلاء إبان الشيخ الوحيد البهبهاني بمرحلة الكمال، فقال: (الثالث: عصر الكمال العلمي، وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهود متضافرة في الميدانين الأصولي والفقهي.
وقد تمثّلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمّة.
ففي هذه المدة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة: ويتمثّل الجيل الأول في المُحقّقين الكبار من تلامذة الأستاذ الوحيد، كالسيّد مهدي بحر العلوم المُتوفّى سنة (1212ه)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المُتوفّى سنة (1227ه)، والميرزا أبي القاسم القمّي المُتوفّى سنة (1227ه)، والسيّد علي الطباطبائي المُتوفّى سنة (1221ه)، والشيخ أسد الله التستري المُتوفّى سنة (1234ه).
ويتمثّل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرّجوا على بعض هؤلاء، كالشيخ محمد تقي عبد الرحيم المُتوفّى سنة (1248ه)، وشريف العلماء محمد شريف بن حسن علي المُتوفّى سنة (1245ه)، والسيّد محسن الأعرجي المُتوفّى سنة (1227ه)، والمولى أحمد النراقي المُتوفّى سنة (1245ه)، والشيخ محمد حسن النجفي المُتوفّى سنة (1266ه)، وغيرهم.
وأمّا الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقّق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري الذي وُلد بعيد ظهور المدرسة الجديدة عام (1214ه) وعاصرها في مرحلته الدراسيّة وهي في أوج نموها ونشاطها، وقدر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمّة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها.
ولا يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الإماميّة يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد.
ولا يمنع تقسيمنا هذا لتأريخ العلم إلى عصور ثلاثة إمكانية تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النمو، ولكل مرحلة رائدها وموجّهها.
وعلى هذا الأساس نعتبر الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) المُتوفّى سنة (1281ه) رائداً لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة التي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مئة سنة حتى اليوم مصادر الالهام للفكر الأصولي) (31).
3- قال السيّد عزيز الطباطبائي (رحمه الله) في مقدّمة موسوعة (الحدائق الناضرة) لدى ترجمته للمؤلف: (ومنذ حلّ اصطهبانات عزم على مغادرة بلاد إيران، وصمّم على المقام بالعراق حيث الأعتاب المقدّسة، ومنبثق أنوار العلم والفضيلة، فأخذ في تمهيد مقدّمات سفره، فغادر بلاد إيران ويمّم العراق، فألقى رحله في كربلاء المُشرّفة، موطنه الأخير ومستقرّه الأبدي وإنّا لم نقف على تاريخ هبوطه كربلاء إلا أنّ الذي يظهر من تاريخ بعض تآليفه أنّه حل بها قبل عام (1169ه).
وقد حلّ شيخنا المؤلّف بالحائر المقدّس حين كانت تلك البلدة القدسيّة من أكبر معاهد العلم للشيعة، وكانت تضاهي النجف الأشرف بمعاهدها الدينية وأعلامها الأفذاذ، حلّ بها على عهد زعيمها الأوحد الأستاذ الأكبر معلّم البشر شيخنا الوحيد البهبهاني (قدّس سرّه) مجدّد المذهب في القرن الثالث عشر.
فكانت كربلاء على عهد هذا الزعيم العظيم في الغارب والسنام من المجد والعظمة، فقد بلغت ذرى عزّها الشامخ، وتسامى شرفها الباذخ، حيث كانت آنذاك مفعمة بالأوضاح والغُرر من صيارفة العلم ونقّاد الفضيلة، طافحة بأعلام الأمّة ورجالات الدين، محتشدة بكبار المجتهدين وأفذاذ المُحقّقين، ممّن انعقدت عليهم تيجان العلم. ورفّت عليهم ألوية الفضيلة، وخفقت عليهم بنود الكمال) (32).
الحركة الأخبارية في كربلاء
انتشرت الظاهرة الأخبارية في أواخر القرن الثاني عشر في مختلف البلاد خاصة في العراق، وفي كربلاء المقدّسة بالذات حيث سيطر الأخباريون على الأجواء وصارت هذه المدينة المقدّسة موطناً لهم.
ومن المؤسف حقاً أنّ الكثير ممّن تعرّضوا إلى الاختلاف الأصولي الأخباري سلّطوا الضوء على البُعد السلبي منه وغضّوا الطرف عن البُعد الإيجابي لهذا الاختلاف وماتركه هذا الاختلاف من آثار إيجابية، ومنها تطوير العلوم الشيعية الشيعي وتخريج الكثير من الفقهاء العظام ممّن ساهموا في تطوير العلوم في الحوزات الشيعيّة.
وقبل أن نتعرّض إلى مدخليّة الاختلاف الأصولي الأخباري في إزدهار الحركة العلميّة في كربلاء لا بأس أن نُشير إلى نبذة عن الأخبارية بشكل عام، فنقول:
سُمّي الأخباريون بهذا الاسم-كما نسب (القلائد عن الفرائد) إلى أُستاذه الشيخ الأنصاري- لأمرين، قال القمّي (رحمه الله): (ويعجبني في وجه تسمية هذه الفرقة (الأخباريين) أحد أمرين:
الأوّل: كونهم عاملين بتمام الأقسام من الأخبار من الصحيح، والحسن والموثّق، والضعيف، من غير أن يفرّقوا بينها في مقام العمل في قبال المجتهدين.
الثاني: أنّهم لمّا أنكروا ثلاثة من الأدلّة الأربعة وخصّوا الدليل بالواحد منها أعني الأخبار، فلذلك سمّوا بالاسم المذكور (33).
وقد خالفت الأخبارية سائر الأصوليين في مطالب، ومنها:
1- ذهب بعض الأخباريين إلى عدم اعتبار الإجماع والعقل كمصدرين للفقه: أمّا الاجماع فلأنه من وضع العامّة تمسّكوا به لأسباب سياسيّة لأجل محاصرة الأئمّة (عليهم السلام)، والعقل لايدرك مصالح الأحكام ومفاسدها.
2- الاقتصار على الكتاب والسنّة مصدرين للفقه، وحيث إنّ ظواهر القرآن لا تُعرف إلا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم من خوطبوا به، فهم الذين يعرفون لحن خطابه، فتنحصر مصادر الفقه بالأخبار.
وهذا الأمر يصرّح به المُحدّث الأسترابادي في الفصل الثاني من كتابه (الفوائد المدنية) ويُشير بأنّ مدارك الأحكام والمسائل الشرعيّة أعم من الأصول أو الفروع، بما أنّها ليست من ضروريات الدين والمذهب فهي منحصرة بالسماع عن الأئمّة (عليهم السلام) حتى أن سُنّة النبي (صلى الله عليه وآله) لا تعدّ من مصادر الكشف، لأنّ فهمها هي والقرآن الكريم يجب أن يكون بواسطة الأئمّة (عليهم السلام)، فهم المخاطبون به وليس نحن، ولذا فإنهم لايعتبرون ظواهر القرآن حجّة، بل ينبغي الرجوع في فهمها إلى الأئمّة (عليهم السلام).
3- إعتبار الأحاديث الواردة في الكتب الأربعة وأمثالها من كتب الحديث المعتبرة قطعيّة الصدور عن المعصومين (عليهم السلام) لتواتر بعضها، ولاقتران بعضها الآخر بقرائن تفيد العلم بصدورها عن المعصومين (عليهم السلام).
4- عدم الحاجة إلى علم الرجال، وذلك للوثوق بصدور جميع ماورد في الكتب المعتبرة.
5- عدم الحاجة إلى علم الدراية وتقسيمات الحديث الموجودة فيه، لنفس السبب السابق.
6- رفض الاجتهاد: وقد ذكر الأسترابادي (12) دليلاً على إبطال الاجتهادات الظنّية، فهم يعتقدون أنّ الاجتهاد لا ينتج سوى الكشف الظنّي عن الأحكام، وهذا هو ما اُبتلي به العامّة.
ويصرّح الأسترابادي في مقدّمة كتابه (الفوائد المدنيّة) أنّ علماء الشيعة في القرن السابع بالتحديد أخذوا فكرة الإجتهاد من العامّة واعتبروها كشفاً ظنياً عن الحكم، واستدل على مدّعاه بكلمات للمُحقّق والعلامة الحليّان.
وقد ذُكرت عدّة وجوه وراء ظهور الأخبارية أهمّها:
1- اعتقادهم أنّ العمل بالقواعد الأصولية يؤدّي إلى ترك النصوص أو التقليل من أهميتها، ولذا يصرّح المحدّث الأسترابادي قائلاً: (وسمعت من بعض المشائخ أنّه لمّا عيّرت جماعة من علماء العامّة أصحابنا بأنّه ليس لكم فنّ كلام مدوّن ولا أُصول فقه كذلك ولا فقه مستنبط وليس عندكم إلاّ الروايات المنقولة عن أئمّتكم، تصدّى جماعة من متأخّري أصحابنا لرفع ذلك، فصنّفوا الفنون الثلاثة على الوجه المشاهد، وغفلوا عن نهيهم (عليهم السلام) أصحابهم عن تعلّم فنّ الكلام المبنيّ على الأفكار العقلية وأمرهم بتعلّم فنّ الكلام المسموع منهم، وكذلك عن القواعد الأُصولية الفقهية الغير المسموعة منهم (عليهم السلام).
وكذلك عن المسائل الفقهية الاجتهادية، وصرّحوا (عليهم السلام) بأنّه علّموا أولادكم أحاديثنا قبل أُلفة أذهانهم بما في الكتب الغير المأخوذة عنّا وصرّحوا بأنّ ما في أيدي الناس من حقّ فقد خرج منّا أهل البيت وما في أيديهم من باطل فمن أنفسهم) (34).
وقد علّق السيّد محمد باقر الصدر على هذا الكلام بقوله: (عدم استيعاب ذهنيّة الأخباريين لفكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، فقد جعلهم ذلك يتخيّلون أنّ ربط الاستنباط بالعناصر المشتركة والقواعد الأصولية يؤدّي إلى الابتعاد عن النصوص الشرعية والتقليل من أهميتها.
ولو أنّهم استوعبوا فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كما درسها الأصوليون لعرفوا أنّ لكل من العناصر المشتركة والعناصر الخاصة دورها الأساسي وأهميتها، وأنّ علم الأصول لا يستهدف العناصر الخاصة بالعناصر المشتركة، بل يضع القواعد اللازمة لاستنباط الحكم من العناصر الخاصة) (35).
2- اعتقاد الأخباريين أنّ الأصول هي نتاج العامّة.
3- لاموضوعية للعقل في الإستنباط، والأصوليين يعتبرونه من الأدلة.
4- أننا لسنا بحاجة إلى هذا العلم في الاستنباط ويشهد لذلك أنه لم يكن أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) يستفيدون في استنباطاتهم منه.
من جهود الوحيد البهبهاني (رحمه الله)
أحسّ الشيخ محمد باقر المعروف بالوحيد البهبهاني (رحمه الله) بالمسؤولية لمّا لاحظ أنّ الحركة العلمية الشيعيّة اتخذت منحى الأخبارية وصارت مبانيها المختلفة هي السائدة في الحوزات العلميّة خاصة حوزة كربلاء التي صارت مركز الأخباريين ومعقلهم فهاجر إليها واستقر بها (36).
ينقل الشيخ المامقاني (رحمه الله) في (تنقيح المقال) عن هجرة الشيخ البهبهاني إلى كربلاء فيقول: (فانتقل إلى كربلاء المُشرّفة، وهي يومئذ مجمع الأخباريين، ورئيسهم يومئذ الشيخ يوسف صاحب (الحدائق)، فحضر بحثه أياماً، ثم وقف يوماً في الصحن الشريف ونادى بأعلى صوته: أنا حجّة الله عليكم، فاجتمعوا عليه وقالوا: ما تريد؟
فقال: أُريد أن الشيخ يوسف يمكنني من منبره ويأمر تلامذته أن يحضروا تحت منبري، فأخبروا الشيخ يوسف بذلك، وحيث أنه يومئذ كان عادلاً عن مذهب الأخبارية خائفاً من اظهار ذلك من جهالهم طابت نفسه بالإجابة... يعد هذا مبدأ تحوّل عظيم في تأريخ التشيّع، إذ اتفق الجل- إن لم نقل الكل- على أنّه لولا هذه الحركة المباركة والهجرة العلميّة لكان اليوم مسير الفقه الشيعي وتأريخ الاجتهاد والاستنباط بشكل آخر) (37).
ومن المؤسف حقّاً أنّك تجد اليوم من يغضّ الطرف عن النهج القويم الذي أسّسه الشيخ البهبهاني (رحمه الله) ويسلّط الأضواء على بعض الفلتات التي حصلت بينه وبين الأخباريين، ولذا وجدت من اللازم بنا أن نسلّط الأضواء على بعض جهود هذا العملاق في تشييد الحركة العلميّة في كربلاء.
فقد عمد الشيخ الوحيد إلى عدّة محاور شيّد من خلالها حركته العلميّة الخالدة التي مازالت الحركات العلمية الشيعيّة تستمد منها العلوم، ومن أهم تلك المحاور هي:
1- التصدّي للحركة الأخبارية: حيث جنّد الشيخ الوحيد كافة جهوده هو وتلامذته من أجل إيقاف مدّ الحركة الأخبارية وتحرير المراكز الشيعية من همينة الأخبارية وذلك من خلال:
أ- المناظرات: فقد كانت للشيخ البهبهاني مناظرات طويلة مع زعيم الأخبارية الشيخ يوسف البحراني (رحمه الله)، وكمثال على ذلك يقول السيّد الصدر (رحمه الله) في (تكملة أمل الآملين) مانصه: (وممّا ينبغي أن لايخلو المقام منه ماحدّثني به العبد الصالح الحاج كريم الفرّاش في الصحن الشريف الحسيني على مشرّفه السلام، قال: كنت في سنّ العشرين أخدم في الصحن والحرم، فنادّى المنادي في الحرم الشريف نداءً سدّ أبواب الحرم، فرأيت الآغا باقر والشيخ يوسف البحراني صاحب (الحدائق) خرجا من الحرم، ووقفا في الرواق يتكلّمان ويتباحثان في المطالب العلميّة، حتى إذا نادى منادٍ بسدّ أبواب الصحن خرجا من باب القبلة ووقفا خلف الباب يتباحثان، فلما كان الفجر جئت لفتح أبواب الصحن، فأوّل ما فتحت باب القبلة على العادة، وإذا بالشيخين الآغا والشيخ يوسف بعد واقفان يتباحثان، فلما رأيتهما كذلك وقفت كالمبهوت، وتعجّبت من طول البحث بينهما، ولم يزالا في البحث حتى أذّن المؤذّن أذان الفجر، فرجع الشيخ يوسف إلى الحرم الشريف، لأنّه كان يقيم صلاة الجماعة هناك) (38).
وقد أثرت تلك المناظرات على الشيخ يوسف وجعلته يعدل عن بعض آرائه، ففي المُقدّمة الثانية من مقدّمات موسوعته الفقهيّة (الحدائق) يقول: (وقد كنت في أول الأمر ممّن ينتصر لمذهب الأخباريين، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، وأودعت كتابي الموسوم بـ (المسائل الشيرازية) مقالة مبسوطة مشتملة على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية تدل على ذلك وتؤيّد ما هنالك.
إلا أنّ الذي ظهر لي بعد اعطاء التأمل حقّه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام هو إغماض النظر عن هذا الباب وإرخاء الستر دونه والحجاب، وإن كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والابرام.
وذلك لاستلزامه القدح في علماء الطرفين والإزراء بفضلاء الجانبيّن كما قد طعن به كل من علماء الطرفين على الآخر، بل ربما انجرّ القدح في الدين سيّما من الخصوم المعاندين، كما شنّع به عليهم الشيعة من انقسام مذهبهم إلى المذاهب الأربعة، بل شنّع به كل منهم على الآخر أيضاً) (39).
بل هبّ كثير من تلامذة الشيخ الوحيد ومريديه من أهل العلم لمناظرة الأخباريين وبيان عدم جدوائية نهجهم، ففي ترجمة الشيخ محمد الشهير بالملائكة جاء: (وهو الذي ناظر الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق المُتوفّى سنة (1184) بقزوين بمحضر علماء الفريقين، فأفحمه وأدّى هذا النقاش إلى عدول صاحب الحدائق عن رأيه وأصبح من العلماء الأخباريين المعتدلين بعد ما كان من الأخباريين المتطرفين، وانتهت هذه المناظرة إلى بلبلة عظيمة في قزوين، وأخذ يتوسع مداها و يتصاعد حتى عمّت سواد الناس من الطائفتين، وانتهت إلى هجوم الفرقة الأخبارية على دار المُترجم له لاغتياله، فلم يظفروا به و أحرقوا داره ومكتبته النفيسة، ثم تدخل رجال الحكومة و حكموا بتسفير المُترجم له عن مدينة قزوين إلى برغان) (40).
وببركة جهود الشيخ الوحيد البهبهاني (رحمه الله) وأتباع مدرسته تراجع أكثر طلاب العلوم عن الأخبارية ومالوا إلى نهج الأصوليين.
ب- التصنيف العلمي: وقد أبدع فيه الشيخ البهبهاني فخلّف تراثاً عليماً ضخماً ردّ فيه الشبهات المثارة ضد الأصوليين ودحض شبهات الأخباريين، ومن أهم ما صنّفه الشيخ في هذا المجال:
1-الاجتهاد والأخبار في الردّ على الأخبارية وذكر فيه الاجتهاد ومقدماته وأقسامه.
2-الفوائد الحائرية الأصول القديمة: ذكر فيها ما ينبغي للفقيه معرفته.
3- الفوائد الحائرية الأصول الجديدة.
4- ردّ شبهات الأخباريين على الأصول المُتمسّك بها لدى الأصوليين والجواب على كلام الفيض الكاشاني صاحب المفاتيح.
ولم يقتصر الأمر على ردّ الشيخ البهبهاني على الأخباريين، بل ساهم العديد من أتباعه ومريديه في الردّ عليهم ومنهم: السيد محمد جواد العاملي حيث كتب رسالة في الردّ عليهم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء كتب رسالة باسم (الحق المبين، وكتب الشيخ أبوعلي الحائري صاحب منتهى المقال كتاباً باسم (عقد اللآلئ) وغيرهم الكثير.
ت-التشديد على أتباع المدرسة الأخبارية: فلم يكن أمام الشيخ البهبهاني مندوحة دون التشديد عليهم والوقف قبالهم بكل صلابة من أجل ردع المتشدّدين من أتباع المدرسة الأخبارية الذين بلغ بهم الأمر إلى التكفير للأصوليين حتى قيل: إنّ الرجل منهم إذا أراد حمل كتاب من كتب فقهائنا رضي الله عنهم حمله مع منديل (41)، ولوقف مدّ هذه المدرسة التي حجرت علوم التشيّع بمصادر خاصة.
ولعل هذا الوجه الذي جعل الشيخ البهبهاني يحرّم الصلاة خلف الشيخ يوسف البحراني المشهور بورعه وتقواه وشدّه إيمانه، كما أنّه منع تلامذته حضور درسه حتى قال صاحب (روضات الجنات) أنه منع ابن أخته صاحب الرياض من حضور الشيخ البحراني، فكان يحضر درسه ليلاً، حذر أن يطّلع على ذلك خاله (42).
2- تربية الفقهاء: وقد وفّق الشيخ البهبهاني (رحمه الله) كثيراً في هذا المجال فخلّف من الفقهاء الكثير، وترّبى عليه العديد من جهابذة العلم وأساطين العلوم منهم السيّد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي، والشيخ جعفر بن خضر الجناجي النجفي صاحب (كشف الغطاء)، والسيّد محمد جواد العاملي النجفي صاحب (مفتاح الكرامة)، والشيخ محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني، والسيّد محمد مهدي بن أبي القاسم الشهرستاني الحائري، والسيّد علي بن محمد علي الطباطبائي الحائري صاحب (رياض المسائل)، والشيخ أبو علي محمد بن إسماعيل الحائري صاحب (منتهى المقال)، والميرزا أبو القاسم الجيلاني القمّي صاحب (قوانين الأصول)، والسيّد دلدار علي بن محمد معين النقوي الهندي، والشيخ أسد اللَّه التستري الكاظمي صاحب (المقابس)، والسيّد محمد باقر بن محمد تقي الرشتي الإصفهاني الشهير بحجّة الإسلام، والسيّد محمد حسن بن محمد معصوم القزويني الحائري، والسيّد أحمد بن حسين الطالقاني النجفي، ونجله الشيخ محمد علي بن محمد باقر البهبهاني، وغيرهم كثير.
وقد ربّى تلامذة الوحيد العديد من الفقهاء ممّن يشار إليهم وجهابذة العلم والمعرفة ممّن عبّر عنهم السيّد الصدر- بالجيل الثاني- ومنهم: الشيخ محمد تقي عبد الرحيم المُتوفّى سنة (1248ه)، وشريف العلماء محمد شريف بن حسن علي المُتوفّى سنة (1245ه)، والسيّد محسن الأعرجي المُتوفّى سنة (1227ه)، والمولى أحمد النراقي المُتوفّى سنة (1245ه)، والشيخ محمد حسن النجفي المُتوفّى سنة (1266ه)، وغيرهم.
أما الجيل الثالث ممّن تربّى على الجيل الثاني فعلى رأسهم تلميذ شريف العلماء المُحقّق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله) صاحب المدرسة الأصولية الخالدة والنظريات الفقهيّة الرائد، ولا يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الإمامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد.
من نتاج حوزة كربلاء المقدسة
من جراء التنافس العلمي الشديد الذي شهدته مدينة كربلاء وببركات الحركة العلميّة التي سادت الساحة آنذاك ظهرت العديد من النفائس العلمية القيّمة التي تركت آثارها الكبيرة على العالم الشيعي.
فقد شمّر العديد من فحول العلم في حوزة كربلاء عن سواعدهم المباركة ودوّنوا مصنّفات خالدة يُشهد لها بالعُمق، والشموليّة، وكثرة التفريعات، والدقّة، وبراعة الاستدلال، والابداع في مجالات متعدّدة منها الفقه والأصول وغيرها من العلوم الأخرى، ففي الفقه كتب:
أ- موسوعة (الحدائق الناضرة): فهي موسوعة فقهية عظيمة كتبها الشيخ البحراني بإبداع عجيب ممّا جعلها تنال ثناء وقبول أساطين الفقه.
فقد قال عنها السيّد الصدر في (التكملة): (وهو كتاب جليل لم يُعمل مثله جداً، جمع فيه الأقوال والأخبار الواردة عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)) (43).
وقال الشيخ يوسف عن الكتاب: (لم يُعمل مثله في كتب الأصحاب، ولم يسبق إليه سابق في هذا الباب، لاشتماله على جميع النصوص المتعلقة بكل مسألة وجميع الأقوال، وجميع الفروع التي ترتبط بكل مسألة) (44).
المُلفت للنظر أنّ الشيخ البحراني أوعز في كتابه (لؤلؤة البحرين) عن تسديده في كتابة الموسوعة في كربلاء أكثر من سائر البقاع التي كتب فيها بعض هذه الموسوعة، فقال: (حتى منّ الله سبحانه بالتوفيق إلى الشرب بذلك الكأس الرحيق، فقدمت العراق وجلست في كربلاء المُعلّى، على مشرّفها وآبائه وأبنائه صلوات ذي العلى، عازماً على الجلوس بها إلى الممات غير نادم- بعد التشرّف بها- على ماذهب منّي وفات، صابراً على ما تجري به الأقدار من يسار وإعسار حسبما قيل:
فقربكم مع قلّة المال لي غنى------وبعدكم مع كثرة المال لي فقر
ووفق الله سبحانه بمزيد كرمه وفضله العميم، وحسن عوائده القديمة على عبده الخاطئ الأثيم- بانفتاح أبواب الرزق مع جميع الآفاق، وصرت بحمد الله فارغ البال، مرفّه الحال، فاشتغلت بالمطالعة والتدريس والتصنيف وشرعت في إتمام كتاب (الحدائق الناضرة) المقدّم ذكره، فخرج منه من المجلّدات كتاب الطهارة، يشتم على مجلدين، وكتاب الصلاة يشتمل على مجلدين، وكتاب الزكاة، وكتاب الصوم في مجلد، وكتاب الحج في مجلد...إلى أن يقول: وهذا الالتزام إنّما حصل فيما صنّفته في هذا المكان- أي كربلاء-وإلا فالأول الذي صُنّف في العجم- أي ماصنّفته في بلاد العجم من نفس الموسوعة-وإن كان مستوفيا لتحقيق المسائل، وربطها بالدلائل، إلا أنّه لم يستوف جملة الأخبار تفصيلاً وأن أُشير إليها إجمالاً) (45).
ب- موسوعة (رياض المسائل): وهي شرح مزجي على المختصر النافع للمحقّق الحلي، وقد يُعبّر عنه بالشرح الكبير في قبال شرحه الصغير عليه.
نقل صاحب (التكملة)، عن شيخه محمد حسن آل ياسين الكاظمي، عن الشيخ محمد حسن النجفي صاحب (الجواهر) قوله: (لو أردت أن أكتُب كتاباً مصنّفاً في الفقه لكنت أحب أن يكون على نحو (الرياض) المير سيّد علي، فيه عنوان الكتابية في التصنيف) (46).
وقال الشيخ الأنصاري في بعض وصاياه لتلامذته: (ابحثوا وحقّقوا في كتاب (رياض المسائل) للسيّد علي الطباطبائي، فإنّه سيعينكم كثيراً في نيل مرتبة الاجتهاد) (47).
ت-كشف الغطاء: قال السيّد الخوانساري في (روضات الجنات): (ومن جملة مصنّفات صاحب العنوان كتابه المعروف المشهور المسمّى بـ (كشف الغطاء) عن مبهمات الشريعة الغرّاء، و قد خرج منه أبواب الأصولين، ومن الفقه ما تعلّق بالعبادات إلى أواخر أبواب الجهاد، ولم يكتب أحد مثله. ثمّ ألحق به كتاب الوقف وتوابعه ينيف ما خرج منه على أربعين ألف بيت إلّا أنّه فائق على كلّ من تقدّمه من كتب الفنّ مع أنّه إنّما صنّفه في بعض الأسفار، وهو في بيت السرير، ولم يكن عنده من كتب الفقه غير (قواعد) العلاّمة كما نقله الثقات، ومنها شرح له على بعض أبواب المكاسب من (قواعد) العلاّمة كبير مشتمل على قواعد فقهيّة وفقاهة إعجازيّة لم يُر مثلها عين الزمان) (48).
ث- موسوعة (مفتاح الكرامة): قال الخوانساري في (روضات الجنات): (وله أيضاً من المصنّفات المشهورة شرحه الضخم المبسوط على (قواعد) العلاّمة وهو المُسمّي بـ (مفتاح الكرامة) في نحو من ثمانية و عشرين مجلّداً، و قيل: غالب تفصيلات شرح تلميذه الأخير على (الشرائع) منه، و لم يرعين الزمان أبداً بمثله كتاباً مستوفياً لأقوال الفقهاء، ومواقع الإجماعات، وموارد الاشتهارات، وأمثال ذلك من غير خيانة في شيء منها ولا اجتهاد له فى فهم ذلك كما هو عادة تلميذه- شكر اللّه سعيه الجميل- فى تسهيل الأمر بما لا مزيد عليه لكلّ من يريد اجتهاداً في مسألة) (49).
ج- موسوعة (مستند الشيعة): قال فيه بعض الأعلام في مقدّمة الطبعة الحجريّة منه: (لا يعادله كتاب في الجامعيّة والتماميّة، لاشتماله على الأقوال، مع الإحاطة بأوجز المقال، من غير قيل وقال، وارتجاله في الاستدلال، وما به الإناطة بأخصر بيان ومثال، من دون خلل وإخلال، فلقد أجمل في الإيجاز والإعجاز، وفصّل في الإجمال حقّ الامتياز، فهو بإجماله فصيل، وفي تفصيله جميل، سيّما في كتاب القضاء، فقد اُشتهر بين الفضلاء أنّه لم يُكتب مثله..) (50).
أمّا في الأصول فقد ساهمت حوزة كربلاء المقدّسة بشكل كبير في تطوير وتشييد المباني الأصوليّة المتينة وذلك بفضل رجالها الفحول أمثال الوحيد البهبهاني، والشيخ الأعظم، وصاحب (هداية المسترشدين)، وأخيه صاحب (الفصول)، والشيخ شريف العلماء، وصاحب (الضوابط)، وصاحب (القوانين) وغيرهم من أساطين العلم في مدينة كربلاء.
فكل من هؤلاء ساهم بتدريسه وكتاباته في طرح أبحاث وتفريعات وتشييد مباني مهمّة أغنى بها الحركة الأصوليّة ومن يراجع مصنفاتهم الأصوليّة أو يدرس نظرياتهم وابتكاراتهم في الأصول يُذعن بذلك.
ومن جملة المصنّفات الأصوليّة التي صنّفها أعلام كربلاء هي:
أ- قوانين الأصول: للميرزا القمّي: قال السيّد الخوانساري في (روضات الجنات): (وله مؤلّفات كثيرة بهيّة، بالعربيّة و الفارسيّة، أغلبها على أيدى الشّيعة الإماميّة منها كتاب (قوانينه المحكمة) الّتى أناخ النّسخ على جميع كتب الأصول، بل أباح الرّضخ إلى جهة ساير الأبواب والفصول، واصواب مهرة السّابقين النّاطقين فى مراتب المعقول والمنقول، كتبها حين قراءة الطلاّب الموفّقين أصول (المعالم) عليه، ثمّ أضاف الحواشى الكثيرة الّتى هى فيما ينيف على خمس نفس الكتاب، بمرور الدّهور، وتدريج الاطّلاع على دقايق الأمور إليه حتى نفد ما لديه كلّما اعترض عليه، الرادّون زادوه شهرة وفخاراً، وكلّما احتشد لحرده الحادّون أفادوه منزلة واعتبارا، طبعه الطّابعون مراراً كثيرة مآت غفيرة، فلم يدعها الطّالبون إلا و شروها بأكثر ممّا اشتروها، في مرّاتهم الأول فى المرّة الأخيرة، وجعلوها من أنفسهم المتنافسة، فيها بمنزلة أنفس الباقيات الصّالحات، وأنفع ما يكون من الذّخيرة، وظاهر أنّ كلّ ذلك لا يكون إلّا من عند اللّه المطلّع على مكنون كلّ ضمير، ومن هو بنيّات عباده العاملين بأمره خبير بصير، فإنّه يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير) (51).
ب- الفصول الغروية للشيخ محمد حسين الإصفهاني: قال في (نجوم السماء) عن الكتاب: (كتاب (الفصول الغرويّة في الأصول الفقهية) شاهد عدل على كماله الذي لانظير له، والمناقشات التي في الكتاب كلّها على كتاب (قوانين الأصول) للمُحقّق أبي القاسم القمّي).
وقال العلاّمة الطهراني عنه: (أنّه شاهد على جلالة مؤلّفه و كونه من الفحول الجامعين للمعقول و المنقول. وقد اختصره السيّد صدر الدين محمد علي ابن إسماعيل الصدر و أسماه (خلاصة الفصول).
وفي (ريحانة الأدب) قال: (هذا الكتاب من أجمع وأكمل الكُتب الأصوليّة في تحقيقاته الأنيقة وتدقيقاته الرشيقة، وهو محل استفادة الأكابر والفحول، ومايبعث على افتخار الأفاضل فهم المطالب والتفطّن إلى النكات، وهو أفضل معرف لدرجات مؤلّفه العلميّة) (52).
ت- إشارات الأصول: للشيخ محمد إبراهيم الكرباسي في مجلدين ضخمين في مباحث الألفاظ والأدلة الشرعية، وصفه صاحب (روضات الجنات) بقوله: (ثمّ إنّ لهذا الشيخ الجليل من المصنّفات كتاب إشارات الاصول في مجلّدين كبيرين يقربان من خمسين ألف بيت، حقّق فيه القول وأتقنه حقّ الإتقان، وشهد بذلك من شاهده من الفضلاء الأعيان) (53).
وقال العلامة في (الذريعة: (إشارات الأصول...في مجلّدين أولهما المبادئ اللغوية ومباحث الألفاظ، وثانيهما الأدلة العقلية والشرعية) (54).
ث- كتابي ضوابط الأصول ونتائج الأفكار للسيّد إبراهيم القزويني: أمّا الأول فهو تقريرات أبحاث أستاذه شريف العلماء، والآخر هو من تأليفه وأبحاثه، وقد تعرّض السيّد الخوانساري في (روضات الجنّات) إلى الكتابين، فقال: (ثمّ إنّ له من التصنيفات الرائقة والتأليفات الفائقة كتاب (ضوابط الأصول) على أكمل تفصيل، وكتاب دلائل أحكام الفقه في أجود تدليل.
وإن نُوقش في الأوّل بكون أكثره من تقريرات شيخه الشريف كسائر ما كان يضبطه طلّاب مجلسه المنيف لندرة ما اختصّ به فيه من التصرّف الجديد أوالتحقيق السديد، ولا نقص عليه في ذلك بعد ما اتّضح أنّه إنّما ألّف هذا الكتاب في مبادى أمره، وليس أيضاً ممّن يعبأ أو يعتدّ بشأنه كسائر ما أفرغه في قالب الترصيف.
وإنّ من طالع كتابه الموجز المُسمّى (بنتايج الأفكار) في الأصول مبتنياً على مائة وخمسين فصلاً من الفصول يعرف صدق هذا المقال، و أنّ جناب مصنّفه المفضال كأنّه نفس ملكة الفقه والأصول، ومالك أزمّة المعقول والمنقول، والفائق على غيره من النبلاء الفحول مع أنّه إنّما كتبه في قلائل من أيّام هجرته إلى زيارة سيّدينا العسكريّين (عليهما السلام) من ظهر القلب و بدون المراجعة إلى شيء من أساطير الفنّ كما حكى لنا من يوثق بنقله.
وقد تشرّفت بخدمته وزيارة هذا الكتاب بعيد تدوينه له عند توفّقى لتقبيل العتبات العاليات على مشرّفيها الصلوات الباهيات في حدود سنة ثلاث وخمسين فانتسخت بخطّى من نسخة الأصل الّتي كانت بخطّه الشريف.
وكنت أوان اتّصالي بحضرة جلاله أيضاً من المتطفّلين على طلّاب مجلس إفضاله. و قد اختصصت منه في ذلك البين بعنايات جليلة واعتناءات وافرة جميلة. منها: ما كتب بخطّه الشّريف من صورة الإجازة لى على ظهر تلك النسخة.
وقد كنت- كتبت على ظهر نسخته- دام ظلّه- أبياتا قد ألهمني اللّه في وصف الكتاب ومن جملتها:
هذا جمال دفاتر الأحبار------هذا ثمال أفاضل الأدوار
هذا سلافة عصرهم من أسرهم------فيه الكفاية عن عنا الأسفار
عند الوفيد المستفيد كأنّه------عين الحياة ونهر علم جار
إن قيل: كل الفضل فيه يصدق------حيث اقتفى لفواضل الآثار
والحقّ والتحقيق في صفحاته------كالنجم في فلك البروج الدار
فاق الرسائل في المسائل واحتوى------لبّ الأوائل والجديد الطاري
لا يعتري ظفر الخصومة متنه------إلا بردّ الخصم ردّ خسار
عمّ الخلائق نفعه من حينه------رغماً لكلّ مخلّط أخباري
هذا هدى ويزيد من لايهتدي------بهداه رجساً صالحاً للنار
خير الكلام بيانه الوافي وفي------أوصال لدقائق الأسرار
الفضل مختوم به وختامه------مسك فذق فلنعم عقبى الدار
أفكارهم فازت بكل كريمة------فأتى الكتاب(نتائج الأفكار)
أفكيف يجزي عنه بالأفكار من------مستعجم لولا جزاء الباري (55).
ج- هداية المسترشدين: للشيخ محمد تقي الإصفهاني: قال العلاّمة الطهراني: (وللمُترجم آثار هامّة جليلة أشهرها حاشية المعالم سمّاها (هداية المسترشدين) في شرح أصول معالم الدين فرغ من المجلّد الأوّل المنتهى إلى مبحث المرّة و التكرار ليلة الجمعة، وعبّر عن نفسه هناك بمحمد تقي ابن محمد رحيم، وانتهى المجلّد الثاني إلى آخر مفهوم الوصف، وجمع ابن أخته الشيخ محمد بن محمد علي من مسودّاته مجلّداً ثالثاً أنهاه إلى مباحث الاجتهاد والتقليد، وقد حظى هذا الكتاب بالقبول ولاقى استحسان الأكابر والفحول من المحقّقين والأعلام حتى اشتهر المترجم بصاحب الحاشية، و بذلك يلقّب آله حتى التأريخ، وإذا أُطلق بين العلماء في عصرنا لم يتبادر الذهن إلى غير هذا الكتاب، والحقّ أنّه يكفي للاستدلال على مدى إحاطة المترجم و تبحّره وتحقيقه في علم الأصول ففيه تحقيقات عالية خلت منها جملة من الأسفار الجليلة، ولم تزل آراؤه ونظرياته محطّ أنظار الأفاضل و محور أبحاثهم إلى الآن. قال شيخنا في (خاتمة المستدرك) عند ذكر هذا الكتاب: أنّه في كتب الأصول كالربيع من الفصول إلخ) (56).
ح- فرائد الأصول: للشيخ الأعظم: وهو المشهور بالرسائل، و يحتوي على رسائل متعددة، طُبعت في مجلّد واحد، و يبحث في: أحكام القطع والظن، والبراءة والاشتغال، والاستصحاب، والتعادل والتراجيح.
وقد صار هذا الكتاب مداراً للدراسة والبحث في الحوزات العلمية، وعليه حواشي كثيرة وتعاليق عديدة، ولقد قدّم الشيخ خدمة كبيرة لطلّاب العلم بهذا الكتاب القيّم.
و لقد أودع الشيخ فيه المباحث النفيسة، التي تعدّ من الأُسس الجديدة والمبتكرة في علم الأصول، فهو أوّل من فتح باب الحديث فيه عن القطع بالمعنى الدقيق، مع تقسيمه إلى تقسيمات جديدة؛ بحيث صار ذلك سبباً في فتح باب واسع باسم العلم الإجمالي، وشكّل مبحثاً مهمّاً في باب الاشتغال.
وكذلك من ابتكاراته بعض المباحث المهمّة في مبحث الاستصحاب، وأيضاً تطويره لبحث الأصل المُثبت، وإلى غير ذلك من الأمور المهمّة في علم الأصول، والذي لا يسع المجال لذكرها.