نظرات وأفكار حول المسألة الشيعية في العالم العربي
محمد محفوظ
2020-01-19 04:55
خلاصة الدراسة:
إن المسلمين الشيعة بكل مذاهبهم ومدارسهم الفقهية، هم جزء أصيل من الأمة الإسلامية، وإن مستقبلهم، ليس منفصلا عن مستقبل الأمة الإسلامية.
وإن طبيعة الظروف والتحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية-الشيعية سواء الداخلية أو الخارجية، تتطلب بناء رؤية وصياغة إستراتيجية تمكن هذه المجتمعات بكل نخبها ومؤسساتها العامة من مواجهة هذه التحديات..
وإن قوام هذه الرؤية هي العناصر التالية:
1- لاعتبارات عديدة تتضمنها نص الدراسة، ثمة حاجة قصوى للعبور إلى المختلف المذهبي في الدائرة الإسلامية، على أسس قيم الحوار وحق الاجتهاد والاختلاف وصيانة حقوق الإنسان رأيا ووجودا وحقوقا..
2- إن المستقبل السياسي والثقافي والاجتماعي للمسلمين الشيعة، مرهون بقدرة المجتمعات الإسلامية الشيعية من تطوير علاقتها الداخلية بين مختلف تعبيراتها ومؤسساتها الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية..لأن الكثير من الجهود والطاقات تصرف في صراعات وتباينات أقل ما يقال عنها أنها لا تخدم راهن هذه المجتمعات ومستقبلها، وإنما تضره وتدفعه نحو خيارات تصرف هذه المجتمعات بكل قواها ومؤسساتها عن القضايا الكبرى والأهداف العليا لهذه المجتمعات والأمة جمعاء..
3- إن الانبعاث والصعود السياسي الذي تشهده بعض المجتمعات الإسلامية الشيعية، إذا لم تسنده إصلاحات ثقافية وفكرية واجتهادية في نمط التفكير وأولويات الحياة وأطر التنشئة والتعليم الديني فإن هذا الانبعاث، سيتعرض إلى مخاطر وتهديدات حقيقية من الداخل تهدد هذا الانبعاث، وتقصر من عمره وزمنه وتحول دون تحقيق مكاسب كبرى ونوعية على هذا الصعيد..
4- في كل حقب ومراحل تطور وتقدم هذه المجتمعات، هي بحاجة إلى مؤسسات للرعاية والحماية الاجتماعية، التي تحتضن الحلقات الضعيفة في المجتمع، وتوفر مؤسسات جادة للتنشئة والتربية والتدريب، وبناء الأطر الاجتماعية والخيرية والتطوعية التي تستوعب طاقات الشباب وتوفر الخدمة على مستويات مهنية راقية لكل المحتاجين والمعوزين..
فالمجتمعات لا تصمد في معاركها وتحدياتها المختلفة فترة زمنية طويلة، بدون مؤسسات الرعاية والحماية..
وفي هذا السياق تدعو الدراسة المؤسسات المرجعية والأطر الدينية والاجتماعية المختلفة، للاهتمام الجدي بهذه المسألة، ودعم وتشجيع الجهات والفعاليات الصالحة في المجتمع للقيام بهذه المهمة الحيوية والهامة في كل مجتمعاتنا ومناطقنا..
فمعركة مجتمعاتنا ليست معركة سياسية أو ثقافية فحسب، وإنما هي أيضا معركة اجتماعية لمحاربة الفقر برعاية مؤسسة للفقراء والتخطيط المستمر والدائم لإنهاء كل موجباته (الفقر) من مجتمعاتنا.. كما إننا بحاجة أن نقدم حلولا عملية لمواجهة كل الصعوبات المعيشية والحياتية التي تواجه مجتمعاتنا وبالخصوص الفئات والشرائح الضعيفة فيها.. ودائما تبقى قوتنا في التزامنا الأخلاقي والقيمي.. وكما يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) (خف من الضعيف إذا كان تحت راية الإنصاف، أكثر من خوفك من القوي وهو تحت راية الجور، فإن النصر يأتيه من حيث لا يشعر، وجرحه لا يندمل) (1)..
مقدمة نظرية:
برزت في الآونة الأخيرة، ظواهر خطيرة في جسم العالم العربي، وهي ظواهر تزيد من محن العالم العربي، وتدخله في نفق مظلم، إذا لم يتسارع الحكماء في هذا العالم لمعالجة هذه الظواهر، وإنهاء مفاعيلها السلبية في واقع العالم العربي.. ولعل من أبرز هذه الظواهر وأخطرها في آن، هي ظاهرة النزوع نحو العصبيات التقليدية في المجتمعات العربية.. فكل المجتمعات العربية اليوم، تبرز فيها عصبيات دينية ومذهبية وقومية وجهوية، بحيث أضحت هذه العصبيات هي العنوان البارز للعديد من المشاكل والأزمات السياسية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات العربية.. ففي السنوات الماضية، كان العربي يعتز بعروبته، ويتعامل مع كل العرب على أساس العروبة الواحدة، دون الاقتراب من دين أو مذهب هذا العربي.. حيث كانت العروبة حاضنة لجميع الأديان السماوية، بل إن رواد القومية العربية المعاصرة، هم من العرب الذين ينتمون إلى الدين المسيحي..
ولكن هذه المسألة لم تشكل لأحد مشكلة يقف عندها أو يستغرب منها.. فكانت العروبة الحضارية بمشروعها الثقافي والاجتماعي حاضنة لكل العرب بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم ومناطقهم.. فكانت المجموعة القومية الواحدة، تضم هذا الخليط الديني والمذهبي، دون أن يشكل أية حساسية لأي طرف..
أما الآن فإن الواقع العربي بأسره، يعيش العصبيات الدينية والمذهبية والمناطقية..
فتراجعت العروبة، وبرزت تلك العصبيات التي تصنف العرب، وتقسمهم إلى فئات ومستويات انطلاقا من أديانهم ومذاهبهم ومناطقهم..
فأضحت هذه العصبيات هي العلامة البارزة في المشهد العربي كله من أقصاه إلى أقصاه..
وفي سياق بروز هذه العصبيات، بدأنا نسمع وبشكل دائم مفاهيم الأقلية والطوائف المختلفة.. وبدأت المواقف تتخذ انطلاقا من هذه المفاهيم، وبدأ البعض يراجع أحداث التاريخ البعيد والقريب على قاعدة هذه العناوين العصبوية، التي ساهمت بشكل سريع في تهتك النسيج الاجتماعي العربي، وبدأت ما أشبه بالحروب الأهلية العربية الكامنة بين جميع عناوين ويافطات تلك العصبويات التي بدأت بالبروز في المشهد العربي..
وحين التأمل في الأسباب والعوامل الحقيقية، التي ساهمت في إيقاظ هذه الخصوصيات والعصبويات على نحو سلبي في العالم العربي، نجد أن العنف والاستبداد، هو الذي أدى إلى تسعير التوترات وتفجير الاحتقانات في مناطق عديدة من العالم العربي..
ونحن نعتقد أن استمرار هذه الأوضاع على حالها، سيزيد من الاحتقانات الأفقية والعمودية في العالم العربي، ويهدد استقراره السياسي والاجتماعي.. وإننا اليوم بحاجة إلى درء الفتنة في العالم العربي، عبر ضبط هذه العصبيات وإعادتها إلى حالتها الإنسانية – الطبيعية..
ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بنقد مفهوم الأقلية في العقل السياسي والاجتماعي العربي.. فالأقليات والأكثريات في العالم العربي ينبغي أن تكون سياسية وليست دينية أو مذهبية.. بمعنى أن هناك مشروعات سياسية وطنية متعددة ومختلفة، وكلها متاحة للنشاط فيها من قبل جميع المواطنين بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم، وعلى ضوء النتائج الانتخابية أو الاجتماعية يتحدد مفهوم الأكثرية والأقلية في العالم العربي..
فهي أكثرية وأقلية خيار سياسي، وليست أكثرية دين أو مذهب أو منطقة معينة.. لأن هذه الانتماءات التاريخية ينبغي أن تكون محل احترام الجميع.. والتنافس والصراع ينبغي أن يكون في الخيارات السياسية بصرف النظر عن أديان ومذاهب القائمين على هذه الخيارات..
والوصول إلى هذا يتطلب بطبيعة الحال تحول نوعي وتطور استراتيجي في فكرنا السياسي والاستراتيجي، حتى نتمكن من تجاوز عصبياتنا التقليدية والتاريخية، إلى رحاب المنافسة والصراع على قاعدة المواطنة الواحدة والمشتركة..
لهذا فإننا بحاجة أن نعيد قراءة مسألة الأقليات والخصوصيات الدينية والمذهبية في العالم العربي.. وحتى تتضح رؤيتنا حول هذه المسألة بشكل جلي نقول الآتي:
إنه وبعيدا عن المضاربات الأيدلوجية والسياسية، بإمكاننا أن نحدد معنى الأقلية بأنها [التكوين البشري، الذي يتمايز مع جماعته الوطنية في أحد العناصر التالية (الدين – المذهب – اللغة – السلالة) وهذا التمايز تعبير عن التنوع الطبيعي بين البشر]..
ولكن هذا التمايز في هذه العناوين الأربعة، لا يعني أن كل من يخالف الأكثرية في أحد هذه العناوين والعناصر هو مناوئ لمطلب الوحدة أو العروبة.. لذلك فإن توصيف اجماعة معينة كأقلية، لا يعني بالضرورة أي حكم مسبق على اتجاهاتها صوب قضايا الوطن أو الأمة الكبرى..
وعليه فإن درجة التمييز وحدته وعمقه الاجتماعي والسياسي، وأهدافه وتطلعاته القريبة والبعيدة، مرهون كل هذا إلى حد بعيد إلى طبيعة التعامل الذي تمارسه الحكومات العربية والقوى الاجتماعية المختلفة.. فإذا كان التعامل جافا وبعيدا عن مقتضيات العدالة والحرية، فإن الشعور بالتمييز الذي يفضي إلى تهميش ونبذ و إقصاء، سيؤدي إلى المزيد من التشبث بالخصوصية وسيدفعه هذا الشعور إلى خلق عصبيات دينية أو مذهبية، تكون هي بمثابة السور الذي يحميه ويدافع عنه في آن..
وعليه فإنه كلما قلت وتضاءلت مستويات الاندماج، برزت في المجتمع مسألة الأقليات وتداعياتها الثقافية والاجتماعية.. بمعنى أن وجود الأقليات في أي فضاء اجتماعي، يتحول إلى مشكلة، حينما يفشل هذا الفضاء في تكريس قيم التسامح واحترام المختلف وصيانة حقوق الإنسان والمزيد من خطوات ومبادرات للاندماج الوطني.
حينذاك تبدأ المشكلة، وتبرز العصبيات والخصوصيات الذاتية، وتنمو الأطر التقليدية لكي تستوعب جماعتها البشرية بعيدا عن تأثيرات المحيط واستراتيجياته المختلفة..
فالأقلية كمفهوم وواقع مجتمعي، لا يكون في قبال ومواجهة القوميات والوطنيات، ويسيء إلى جميع هذه المفاهيم من يجعل من مفهوم الأقلية مواجها لمفهومي القومية والوطنية، لأنه من المكونات الأساسية لكل قومية ووطنية هويات متعددة إما دينية أو مذهبية أو أثنية أو لغوية.. ويبدو إننا من دون فهم واقع الأقليات والأثنيات في العالم العربي، وبلورة المعالجة الحضارية لهذا الواقع، من دون هذا كله سيبقى الواقع الداخلي والمجتمعي للعرب والمسلمين، يعاني الكثير من الأزمات والاختناقات والنكبات، لأن العديد من الصراعات والحروب الصريحة والكامنة، تجد جذورها ومسبباتها العميقة في هذا الواقع الذي يتم التعامل مع الكثير من عناوينه وقضاياه بعيدا عن مقتضيات العدالة والحرية.. وحينما نلح على ضرورة قراءة هذه المسألة ودراستها بشكل معمق، لا نريد تبرير واقع الانقسام والتشظي، أو نشجع أصحاب المصالح والمخططات للاستفادة من هذا الفسيفساء أو التناقضات والتباينات، وإنما نريد بناء مفهوم الوحدة الوطنية في كل بلد عربي على قاعدة أكثر حرية وعدالة ومساواة..
إننا نقف بقوة وحزم ضد كل محاولات التفتيت والانقسام في العالم العربي، كما إننا نقف بنفس الدرجة ضد محاولات التجاهل والتغييب لمشكلاتنا العربية الحقيقية.. ولكي ترتفع الأقليات والأثنيات من دوائرها التقليدية وكياناتها الذاتية، إلى مستوى المواطنة الجامعة، هي بحاجة إلى عوامل موضوعية وسياسية، تساهم في إشراك هذه الدوائر في بناء مفهوم الأمة والأوطان الحديثة..
ولقد علمتنا التجارب أن التعامل القهري مع هذه الكيانات الأقلوية والإثنية، لا ينهي الأزمة، ولا يؤسس لمفهوم حديث للأمة والوطن، وإنما يشحن المجتمع بالعديد من نقاط التوتر، ويدفع هذه الكيانات إلى الانكفاء والانعزال، وبهذا تبقى أزمة الثقة قائمة دون حلول حقيقية لها..
وإن إدامة العصبيات الدينية والمذهبية والأثنية في العالم العربي، سيحول دون القدرة على بناء دولة عربية حديثة، حاضنة لجميع مواطنيها، وهي في ذات الوقت تعبير حقيقي عن كل مكوناتها وتعبيراتها.. ولا سبيل لضبط هذه العصبيات، وإبقائها في حدودها الطبيعية بدون مشروع وطني متكامل في كل بلد عربي، يستهدف دمج كل التعبيرات والأطياف في إطار مشروع وطني متكامل..
الدمج الذي يتم بوسائل حضارية – سلمية، بعيدا عن سياسات القسر والعسف..
وبهذه الطريقة يتمكن العالم العربي، من إخراج مفهوم وحقائق الأقليات من عنوان لمشكلة أو أزمة، إلى عنوان حضاري لاحترام التعددية بكل أشكالها في الجسم العربي بعيدا عن خيارات النبذ والإقصاء والشعور بالتهميش والمظلومية..
عناصر القوة في الواقع الشيعي المعاصر:
لا يمكن أن نتعرف بدقة عن طبيعة الخيارات المستقبلية للشيعة في الواقع المعاصر، إلا بتحديد عناصر القوة التي يمتلكها هذا الوجود، وذلك للانطلاق منها في صياغة الراهن والمستقبل. وتحديد ثغرات الواقع ونقاط ضعفه، ذلك من أجل العمل على ردم هذه الثغرات وسد الفجوات التي تحول دون القبض على المستقبل.
وتأسيسا على هذا نبدأ بتحديد عناصر القوة في الوجود الشيعي المعاصر في النقاط التالية:
1- الموقع الاستراتيجي المتميز:
إذ حبا الله عز وجل أتباع مدرسة أهل البيت (ع) بنعمة كبرى تمثلت في أن أغلب تواجدهم البشري في مناطق وأراض ذات ثروات طبيعية هائلة، مما حول مناطقهم إلى مناطق إستراتيجية وذات تأثير مباشر في مسار العالم كله..
وهذا (أي الموقع الاستراتيجي) الذي نحظى به، يحملنا مسؤولية، كما أنه يضيف إلى رصيدنا عناصر قوة عديدة.. وذلك فإن مناطقنا ذات أهمية سياسية واقتصادية وإستراتيجية قصوى. ولا يمكن البحث عن مستقبل الطائفة، بعيدا عن هذه الميزة الأساسية.
2- الثروات العلمية والفكرية الهائلة:
لعلنا لا نأت بجديد حين القول: إن الثروة العلمية الهائلة، التي يتمتع بها أتباع مدرسة أهل البيت (ع) عبر حقب زمنية متطاولة، هو الذي دفع المحقق السيد حسن الصدر على تأليف كتاب (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) الذي أثبت فيه تاريخيا أن دور مدرسة أهل البيت (ع) في العلوم الإسلامية كان دورا تأسيسيا في أغلب هذه العلوم وأساسيا في الباقي منها. ويشير الشيخ الحر العاملي في آخر الفائدة الرابعة من خاتمة الوسائل من أن أصحاب الأئمة جمعوا تراث الأئمة (ع) في (6600) كتاب ورسالة وأصل، وقد امتازت من تلك الستة آلاف وستمائة أربعمائة كتاب سميت بالأصول الأربعمائة وهي التي جمعت فيما بعد فتكونت منها الكتب الأربعة: الكافي، ومن لا يحضره الفقيه والاستبصار والتهذيب..
ومجموع الأحاديث في هذه الكتب هو: (39263) حديثا بينما لا تبلغ أحاديث الصحاح الستة أكثر من (28200) حديث.
إضافة إلى العطاءات الفقهية والأصولية والعلمية والفكرية التي أبدعها وصاغها علماء الطائفة عبر عقود متواصلة من الزمن.
كل هذا يثبت وبشكل لا لبس فيه، أن من عناصر قوتنا وتميزنا، هو وجود هذه الإمكانات العلمية والفكرية المتميزة والتي جعلت مدرسة أهل البيت (ع) في مقدمة ركب المشهد العلمي والفكري للمسلمين..
3- التراث السياسي المتقدم:
حيث أن قراءة فاحصة لتاريخ المسلمين الحديث والمعاصر، توصلنا إلى حقيقة أساسية وهي: أن مدرسة أهل البيت (ع) كان لها قصب السبق في الكثير من ميادين الجهاد والدفاع عن مقدسات الإسلام والمسلمين وثوابت الأمة.. مما وفر لنا جميعا ثروة هائلة تنير لنا دروب الحياة، وتوفر لنا إمكانية العمل والاستمرار في الحياة بدون الاعتماد على خيارات ظالمة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي..
ولعلنا لا نبالغ أن من أهم عناصر هذا التراث السياسي، هو قدرة المجتمعات الشيعية على تسيير شؤونها وأمورها بعيدا عن مؤسسة الدولة.. مما جعل المجتمعات الشيعية تمتلك تقاليدا راسخة في متطلبات التسيير الذاتي وشروط المجتمع المدني – الأهلي.. عكس الكثير من المدارس والتوجهات الفكرية، التي لا يمكن تسيير شؤونها وأمورها، بعيدا عن دعم الدولة ومؤسساتها السياسية والعلمية والاقتصادية..
والموقع الدولي البارز الذي يمتلكه أتباع مدرسة أهل البيت (ع) في العالم اليوم ممثلا في الجمهورية الإسلامية والوجودات السياسية والثقافية والإعلامية في الكثير من المواقع والمناطق، يدفعنا إلى القول: أن المدرسة الإمامية اليوم، تمتلك إمكانية دولية متقدمة سواء على الصعيد السياسي والدبلوماسي، أو على صعيد الإعلام والثقافة، أو صعيد العمل الجهادي بكل أشكاله ومستوياته.
وإلى جانب ذلك كله فأتباع أهل البيت (ع)، هم وجود بشري يتوزع على منطقة واسعة من العالم الإسلامي تمتد من الهند شرقا إلى المدينة المنورة غربا و من العراق شمالا إلى اليمن والقطيف والأحساء جنوبا. أما مهاجرهم فموزعة على القارات المأهولة بالسكان من الأرض قاطبة. وتمثل أغلب مواطنهم مناطق اقتصادية وسياسية وجغرافية مهمة في الحياة الدولية والمعاصرة..
4- الالتزام بقضايا الأمة:
إن مدرسة أهل البيت (ع) وعبر تاريخها الطويل، هي التزام متواصل بقضايا الأمة. وفي أحلك الظروف وأصعبها لم تنفك العلاقة بين هذه المدرسة الإسلامية الأصيلة وقضايا الأمة المختلفة.. وما نود بيانه في هذا الإطار من قضايا الأمة، هي قضية وحدة الأمة وموقف أهل البيت (ع) وأتباعهم منها.
فالإمام علي (ع) ورغم اعتقاده بأن الإمامة له لا لغيره إلا أنه وحفاظا على وحدة المسلمين غض الطرف عن ذلك..
ويتلو الإمام السجاد (ع) الدعاء لأهل الثغور رغم انحراف الدولة، ورغم ما كان من بني أمية بحق الإمام وآبائه عليهم السلام..
ويقول في هذا الصدد الشيخ واعظ زاده الخراساني " إن الوحدة الإسلامية ركن أساسي كالتوحيد، فكما أن النظرة التوحيدية للذات الإلهية هي أحد أركان الدين، كذلك الوحدة الإسلامية ركن أساسي بالنسبة إلى المسلمين. وينبغي أن يكون هذا الشاخص حاكما على كل الفعاليات والممارسات سواء منها الثقافية والعلمية، أو الكلام والفلسفة، أو الفقه والحديث والرجال، ولا يحق لنا نحن المسلمين أن نقوم بأي عمل يؤدي إلى خدش وحدة الأمة) (2).. ويقول المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين في هذا الصدد " واعني بالأمة الإسلامية: التكوين البشري العقيدي على أساس الإسلام. الأمة الإسلامية هي مجموع من يحملون أصول هذا المعتقد، يحيون ويموتون عليها. ولا أعني مصطلح الدولة، وهو التكوين السياسي – التنظيمي للأمة. أو التكوينات السياسية- التنظيمية للأمة.. هذا المقدس (وحدة الأمة) هو من موضوعات علم الفقه، ولم يوضع له باب خاص في الفقه حتى الآن، وإن كان موضوعا في البحث الفقهي في أبواب كثيرة، ويجب أن يوضع له باب فقهي خاص.
ويجب أن تعاد صياغة علم الكلام على أساس أن وحدة الأمة الإسلامية، أحد الأصلين اللذين يبتني عليها الاعتقاد الإسلامي: الجملة الأولى، الأصل الأول مجموع التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد والأصل الثاني وحدة الأمة الإسلامية " (3)..
وعلى كل حال ما نستطيع الجزم به في هذا السياق، هو أن مدرسة أهل البيت (ع) ملتزمة بكل قضايا الأمة، وقدمت الكثير من التضحيات وتحملت الكثير من الآلام والأعباء في هذا الإطار.
5- نظام المرجعية الدينية:
وهو من المنجزات والمكاسب التاريخية والحضارية لمجتمعاتنا.. حيث أن هذا النظام بوظائفه الدينية وأنشطته الاجتماعية، وتصدي بعض رموزه وشخصياته لشؤون الأمة والسياسة، وشبكة الوكلاء المنتشرة في أصقاع الدنيا، والحوزات العلمية التي يراعاها ويحتضنها هذا النظام، أقول أن هذا النظام هو الذي يحفظ لمجتمعاتنا توازنها النفسي والحضاري والسياسي في زمن المنعطفات والأزمات، وهو الذي يسير شؤون هذه المجتمعات الدينية والاجتماعية، وهو الذي يحتضن فعاليات المجتمع وشخصياته السياسية والعلمية والاجتماعية.. ولقد أبانت العديد من التجارب أن هذا النظام بعمقه التاريخي والاجتماعي، وبالعلاقة المرنة التي تربطه والمجتمعات الإسلامية – الشيعية، أنه صمام أمان ومكسب حضاري، لا يمكن التخلي عنه، أو السماح بإضعافه..
ووجود نقاط ضعف في الأداء والممارسة في هذا النظام، لا يعني غياب حاجتنا إلى هذا النظام وأدواره الحيوية.. وإنما المطلوب العمل على سد هذه الثغرات، وإنهاء نقاط الضعف.. وفي تقديرنا أن تضافر الجهود لتطوير هذا النظام، أو تحسين أداءه في بعض الملفات الهامة، سيعود بالنفع العميم، ليس على مجتمعاتنا فحسب، وإنما على عموم الأمة الإسلامية..
وحتى لا يساء فهم العلاقة بين المؤسسات المرجعية والمجتمعات الإسلامية – الشيعية، نقول أن هذه العلاقة وبالذات بالنسبة إلى المجتمعات التي لا يتواجد فيها الفقيه، هي علاقة دينية وثقافية.. ولم يسجل التاريخ السياسي للمسلمين الشيعة أن مرجعية دينية تدخلت في شؤون المجتمعات الأخرى على الصعيد السياسي اليومي أو التفصيلي.. نعم قد تتخذ موقفا سياسيا عاما، ولكنها لا تعمل على بناء مشروع سياسي خاص لمجتمعات أخرى..
فالمرجعية الدينية في التجربة الإسلامية – الشيعية التاريخية والمعاصرة، هي مظلة عليا للمسلمين الشيعة، يستمدون منها أحكامهم الشرعية والنصائح الأخلاقية والتوجيهات الاجتماعية والثقافية وتدافع عنهم بالرأي والنصيحة والموقف في الظروف الحالكة.. وهي ضمير الناس العام الذين يلجأون إليه، حينما تواجههم مشكلة أو أزمة.. وهي في المحصلة النهائية قيادة الناس الدينية والروحية، وهي ليست نظاما طارئا في المجتمعات الإسلامية – الشيعية، بل هي نظام متجذر في النسيج الاجتماعي والثقافي، ومهما كانت نواقص هذا النظام، ينبغي أن ندافع عنه ونعمل على قاعدة الدفاع والتلاقي المباشر إلى سد الثغرات وإنهاء النواقص.. لأنه من عناصر قوتنا التاريخية والراهنة.. وتصويب الآخرين على هذا النظام أو إطلاق الاتهامات والمقولات حول أهميته وجدوائيته، ينبغي أن لا يحول دون إدراك أن وجود مظلة دينية عامة لأي مجتمع، هي من نقاط القوة التي لا يمكن التفريط بها، أو المساهمة في إضعافها وتوهينها..
ولا ريب أن توظيف عناصر القوة هذه في الوقت الراهن، تتطلب وعيا حضاريا متواصلا، يبتعد عن التوافه، ويعمل على إيقاظ الوعي والمعرفة وحس المسؤولية لدى أبناء الطائفة، وذلك من أجل توظيف هذه العناصر في بناء الواقع الشيعي المعاصر على أسس حضارية ونوعية، تعيد مجدنا، وتصون مكتسباتنا، وتحافظ على مقدساتنا وحقوقنا..
ما العمل:
عديدة هي المشاكل والتحديات التي تواجه الواقع الشيعي المعاصر، لذلك نحن بحاجة إلى بلورة إستراتيجية عامة، تستهدف العمل على بناء الطائفة وسد ثغرات واقعها، وحماية منجزاتها ومكاسبها.. وبإمكاننا أن نحدد هذه الرؤية في النقاط التالية:
أولا: بناء الوجود:
من الطبيعي القول: أن قوة الأمم الحقيقية بمواردها الإنسانية قبل مواردها الطبيعية والاقتصادية، لذلك من الضروري أن تتوجه الجهود والإمكانات لتطوير هذه الموارد وتوفير المناخ الملائم لمشاركتها في شؤون البناء والعمران.. فالإنسان بما يختزن من طاقات وكفاءات، وبما يحمل من اهتمامات وتطلعات، هو رأسمالنا الحقيقي الذي ينبغي أن تتوجه كل الجهود إلى صقل مواهبه وإنضاج خبراته وتطوير قدراته.. لذلك جاء في الحديث الشريف أن (الشرف بالهمم العالية لا بالرسم البالية) (4)..
وفي سياق بناء الطائفة وتطوير قدرات أبناءها، نؤكد على النقاط التالية:
1- إننا لا يمكن أن نجبر النقص العددي والكمي في الدائرة الإسلامية إلا بالتفوق النوعي.. فهو طريقنا لجبر النقص وإنجاز التطلعات ومجابهة التحديات..
2- إعادة صياغة العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع الشيعي (المرجعية والسياسية والاجتماعية والثقافية) على أسس الفهم والتفاهم والاحترام المتبادل.. وذلك لأن الكثير من نقاط الضعف التي نعانيها على الصعيد الداخلي، هي من جراء غياب أدنى حالات الاحترام المتبادل بين تيارات العالم الشيعي وتوجهاته المرجعية والسياسية..
3- بناء ثقافة إسلامية- شيعية تعلي من قيم الحرية والاعتراف بالتعددية وصيانة حقوق الإنسان.. فالتراث الشيعي مليء بالنصوص التي تؤكد على هذه القيم، ونحن بحاجة إلى صياغة ثقافة جديدة قائمة على هذه الأسس، وحث الجميع على الالتزام بكل مقتضياتها ومتطلباتها..
ثانيا: الإصلاح الديني والثقافي:
ثمة مقتضيات وضرورات عديدة، تدفعنا إلى القول: أن الاجتماع الوطني والإسلامي، لا يمكنه الدخول النوعي في حركة العصر واستيعاب منجزاته ومكاسبه، وتمثل القيم والمبادئ الرافعة إلى التطور والتقدم، بدون الانخراط في مشروع الإصلاح الديني والثقافي، نتجاوز من خلاله فهمنا القشري لقيم الدين، ونحرر وعينا الديني من الخرافة والتقليد واجترار الحواشي والشروح، والدفع بعملية الاجتهاد والتجديد والإبداع إلى الأمام.
والإصلاح الديني والثقافي الذي نرى ضرورته ونشعر بأهمية تجاوز الكثير من معوقات التقدم لا يعني رفض قيم الدين أو الخروج عن ضوابطه ومتطلباته. وإنما يعني إعادة تأسيس فهمنا للدين بعيدا عن الآحادية في التفكير والقشرية في الفهم، والتعامل مع الاجتهادات الإنسانية في فهم الدين بعيدا عن التقديس الأعمى أو مفهوم الحقائق المطلقة. بل هي أفهام مرتبطة بزمان ومكان محددين وعلينا فهم هذه الاجتهادات واحترامها، ولكن دون إلغاء عقولنا أو التعامل مع تلك الاجتهادات وكأنها نصوص خالدة لا تقبل المناقشة والجدل والحوار. فبدون تحرير وعينا وفهمنا من عوائق الجمود والحرفية والتأخر، لن نتمكن من الولوج في مشروع التقدم والتطور الإنساني والحضاري.
لذلك فإن الإصلاح الديني وتجاوز الفهم الآحادي والمتعسف لقيم الدين، من الضرورات القصوى التي تؤهلنا لبناء واقع مجتمعي جديد. فالكثير من متطلبات التقدم وعوامل الرقي، لا يمكن القبض عليها اجتماعيا، بدون عملية الإصلاح الديني التي تحرر الفهم والرؤية من الجمود والقشرية، وتعيد صياغة الوعي على أسس القيم الحضارية التي نادى بها الدين، وعمل من أجلها أهله عبر المسيرة التاريخية الطويلة. " نعم، إن المعركة خيضت عربيا ـ على امتداد القرن العشرين ـ من أجل حيازة بعض أسباب الانتهاض المجتمعي، من جنس المعركة ضد الأمية، والتخلف، والاستبداد، ومن أجل التعليم والتنمية والديمقراطية، لم تكن في حصيلتها الإجمالية صفرا على اليسار، بل أنجزت الكثير من المهام وراكمت الكثير من المكتسبات، ومع ذلك، من ينفي أنها كانت دون ما تطلع إليه النهضويون الاصلاحيون منذ أزيد من قرن، ومن ينفي أنها ما زالت ـ حتى اليوم ـ ضعيفة الاستجابة لحاجات موضوعية ضاغطة ومستمرة بل دون معدل مطالبها؟ سيقول قائل إن ذلك من حصيلة سياسات غير رشيدة درجت عليها النخب والسلط، ونحن لا نشك في ذلك، ولكن هل فكرنا ـ مثلا ـ في حلقات نهضوية تحتية عليها يقوم صرح السياسات والبرامج، وعلى هديها تترشد تلك. هل فكرنا في علاقة ذلك القصور بالإخفــــاق الذي مني به مشروع الإصلاح الديني" (5).
فالبنية التحتية لعملية الإصلاح الشامل في الاجتماع الوطني، لا يمكن أن تنجز دون الانخراط الفعلي والنوعي في عملية الإصلاح الديني الذي يوفر لنا إمكانيات هائلة على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
فالنزعة الإصلاحية التي نطالب بها في قراءتنا ووعينا للدين وقيمه تعني فيما تعني النقاط التالية:
- نقد الفهم الآحادي:
إن الدين الإسلامي بقيمه ومبادئه وتاريخه، حافل بالغنى والاتساع والتعدد. إذ أنه شكل علامة فارقة ومنعطفا ضخما في التاريخ الإنساني قاطبة، ولا ريب أن العمل على حصر هذه القيم والمبادئ بفهم بشري واحد، من الخطايا والأخطار الكبرى التي تواجهنا اليوم. وقد كلفنا توجه البعض إلى فرض رؤيتهم وتفسيرهم الخاص للدين على المجتمع الكثير من المآزق والمخاطر.
وذلك لأن هذا الفهم الآحادي للدين يفقر قيم الدين، ولا يجعل المسلمين اليوم على تواصل رحب مع كل قيم وآفاق الدين الواسعة، لذلك فلا يمكن أن يختزل الإسلام بقيمه ومبادئه وثرائه المعرفي والإنساني والحضاري بفهم واحد ورؤية واحدة، لا تمتلك القدرة المنهجية والمعرفية على إدراك واستيعاب كل قيم الدين.
من هنا فإن من أهم خطوات الإصلاح الديني في مجالنا الوطني هو: القبول والاعتراف الصريح والتام بوجود قراءات متعددة للدين. وأن هناك تفسيرات ثرية لقيم الدين، نحن بحاجة إلى احترامها وفسح المجال لنتاجها ومنهجها للعمل في الاجتماع الوطني في مختلف الدوائر والمستويات.
وإن الوعي الديني السائد في كثير من صوره وأشكاله، هو أحد المسئولين المباشرين عن الاحتقانات الاجتماعية والسياسية والمآزق الوطنية. لذلك فإن عملية الإصلاح الوطني، بحاجة إلى ممارسة قطيعة فكرية وعملية مع مقولات الوعي الديني التي تغرس الفرقة والتشتت بدعاوي مذهبية أو طائفية، أو تمارس دور الوصاية والاحتكار لفهم قيم الدين. حيث أن كل فهم، لا ينسجم وتصوراتهم ينعت بالزيغ والضلال والكفر. فلا يمكن بأي حال من الأحوال، اختزال فهم الإسلام بطريقة واحدة، وإصرار البعض على ذلك، وممارسة القهر والفرض والإكراه في سبيل ذلك، ساهم بشكل مباشر في تفاقم التوترات وازدياد المشكلات في الحياة الإسلامية ذات الطابع المذهبي والطائفي. ولقد كلف هذا النهج والمنحى الأمة والوطن الكثير من الإخفاقات والخسائر على المستويين الداخلي والخارجي. فبفعل هذه العقلية وممارساتها الخاطئة والعنيفة ورهاناتها البائسة، تحول الإسلام إلى عدو رئيسي للكثير من الدول والأمم والشعوب، وبدأت من جراء ذلك تمارس مضايقات حقيقية على الوجود الإسلامي هناك.
وعلى المستوى الداخلي تحول هذا النهج إلى صانع للتوترات والأزمات والعنف. ونظرة واحدة إلى مناطق التوتر والعنف والعنف المضاد في العالم الإسلامي، نجد أن لهذا النهج الإقصائي والعنفي دور في بروز هذه الأزمات والمآزق.
وعلى كل حال، إننا لا نستطيع أن نطور فهمنا ومعرفتنا إلى قيم الدين الإسلامي ودورها في الحياة العامة، بدون ممارسة نقد حقيقي ونوعي تجاه الفهم الآحادي للدين، والذي يستخدم القهر والإكراه للخضوع والالتزام بقيم الدين.
إن الإصلاح الديني المنشود، يتطلع للوقوف بحزم ضد كل محاولات حصر الدين الإسلامي بفهم بشري واحد، وممارسة الإكراه في سبيل تثبيت هذا الفهم في الحياة العامة للمسلمين. وذلك لأن الفهم الآحادي للدين بكل توابعه وتأثيراته، هو صانع للفرقة والانشقاق والفتنة في الأمة، ولا يمكن الخروج من هذه المحن لا بنقد وممارسة القطيعة المعرفية مع كل المنهجيات والمحاولات التي تختزل الإسلام في فهم معين.
صحيح أن الدين الإسلامي يحتضن جملة من الثوابت لا يمكن تجاوزها، ولكن فهم هذه الثوابت متعدد ومتنوع، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاء هذه الأفهام والرؤى من الدائرة الإسلامية. والذي يخالف هذا الفهم أو يقف منه موقف المناقض، لا يتهم بالضلال والزيغ والخروج على مقتضيات الصراط المستقيم. وذلك لأن هذا الفهم البشري لا يلزم إلا أصحابه، وأي محاولة لإضفاء صفة الخلود على هذا الفهم، هو إدخال للمجتمع والأمة في أتون الصراعات الدينية والمذهبية.
من هنا ومن منطلق نقد الفهم الآحادي للإسلام، نحن بحاجة إلى إعادة بناء تصوراتنا الثقافية والاجتماعية عن الاجتهاد والتعدد الفكري والمذهبي والاختلاف والتنوع على أسس جديدة، يحتضنها المشترك الديني والوطني.
فالاختلاف ليس حالة مرذولة ومذمومة، وإنما المرذول والمذموم هو الفرقة والانقسام. والتعدد والتنوع المذهبي والفكري، ليس زيغا وضلالا، وإنما هو من طبائع الأمور والحياة ومقتضيات مبدأ الاجتهاد الذي أقره الدين الإسلامي. وأن أي محاولة لقهر التعدد أو إقصاء التنوع، لا يفضي إلا المزيد من التوترات والتشظي وغياب الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وحرصنا على الوحدة ينبغي أن لا يدفعنا إلى ممارسة العسف والإكراه تجاه الآراء والقناعات المغايرة والمختلفة.
لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع الإصلاح الديني وتجديد الخطاب الإسلامي، هي رفض الرؤية الآحادية للإسلام، والتي تبرر لنفسها ممارسة العسف والإكراه وإطلاق أحكام القيمة تجاه غيرها من الرؤى والقناعات.
إن الفهم الآحادي للقيم والمبادئ، هو أحد البذور الأساسية لانتهاك قيم الحرية والعدالة والحقوق الإنسانية.
وذلك لأن هذا الفهم الآحادي يقود صاحبه إلى الاعتقاد الجازم بأنه هو وحده الذي على الحق وغيره يعيش الزيغ والضلال والانحراف. وهذا الاعتقاد بمتوالياته النفسية والسلوكية، هو الذي يساهم في دفع هذا الإنسان إلى ممارسة العسف والإكراه تجاه الآخرين وجودا ورأيا وأفكارا.
إن الرؤية الاصطفائية إلى الذات وما تحتضنها من معارف وعقائد ومواقف، هي التي تقود إلى انتهاك الحقوق والانتقاص من كرامة الآخر المختلف.
إننا هنا لا ندعو إلى جلد الذات أو تحقيرها، وإنما إلى مساواة الآخر بالذات. وإن الفهم الآحادي للدين والاعتقاد من قبل مجموعة بشرية إنها وحدها القابضة على الحقيقة والعارفة لقيم الدين وأهدافه، إن هذا المنحى يقود إلى تلغيم صيغ التعايش السلمي ومجالات التواصل الإنساني. لأن هذا الفهم يعيد ترتيب العلاقات والحقوق على قاعدة المنسجم مع هذا الفهم والمناقض والمخالف له.
وخلاصة الأمر: أن القضية الأساسية التي ينبغي أن تتجه إليها جهود المصلحين والمفكرين، هي نقد الفهم الآحادي وتفكيك النظام المعرفي الذي يبرر ويسوغ لصاحبه ممارسة العسف والقهر ضد الآخر المختلف والمغاير.
وإن هذا النقد هو محاولة فكرية ومعرفية لتجديد أنماط الرؤية وقواعد الفهم، وفحص متواصل لفضح ادعاء القبض على الحقيقة وتفكيك مبررات ومسوغات التمايز والإقصاء.
- تفكيك الاستبداد:
لا ريب أن الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله، من العقبات الكبرى التي تحول دون الإصلاح والتجديد والتطوير. لذلك فإن نشدان التجديد والإصلاح، يقتضي العمل بكفاءة عالية لتفكيك أسس الاستبداد والعمل على تحرير المجال الاجتماعي والسياسي والثقافي من كل أشكال الديكتاتورية والتسلط والاستفراد بالقرار والسلطة. وذلك حتى يتسنى للمجتمع بكل شرائحه من ممارسة دوره في عملية التطوير والتحديث. وإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور إصلاحا من دون الحد من صلاحيات السلطات الشمولية والمطلقة. من هنا فإن تجديد الخطاب الإسلامي، يقتضي العمل على التحرر من كل أشكال ومبررات ممارسة القهر والاستبداد والانعتاق من ذلك العبء والإرث التاريخي المليء بصور الاستبداد وممارسة السلطة القهرية تجاه الأمة والمجتمع.
فتفكيك الاستبداد السياسي والديني ونقد أسسهما الثقافية والسياسية، هو من الروافد الأساسية التي تساهم في تطوير مشروع الإصلاح وتجديد الخطاب الديني. فلا يمكن أن يتم التجديد في ظل ثقافة تبرر الاستبداد وتدعو إلى ممارسته بعناوين ويافطات مموهة.
إننا ينبغي أن نقف ضد كل أشكال وحالات الاستبداد بصرف النظر عن أصحابها أو المشروع الفكري الذي يقف ورائها.
والأحوال السيئة التي يعيشها اليوم المجالين العربي والإسلامي، هي من جراء التسلط السياسي والاستبداد الشمولي الذي ألغى الكثير من عناصر الفعالية والحيوية في جسم الأمة. فهو الداء (الاستبداد) الذي قضى على الكثير من الإمكانات والمكاسب، وهو المسئول عن الكثير من العثرات والإخفاقات، وهو بوابة أزماتنا المزمنة وسيطرة الأجنبي على الكثير من ثرواتنا ومقدراتنا، فهو المرض الذي يختزل كل الأمراض، وهو العاهة التي تغطي كل العاهات، وهو أحد مصادر العنف والإرهاب.
لذلك كله فإن بوابة الإصلاح في المجالين العربي والإسلامي، وجسر الخروج من مآزق الراهن وأزماته، هو العمل على تفكيك الاستبداد وخلق الحقائق والوقائع السياسية والثقافية والمجتمعية التي تحد من تغّول السلطات، وتساهم في منع الاستبداد السياسي من التمدد والانتشار في جسم الأمة. وإن موقعنا في خريطة العالم، يتحدد بمقدار قدرة مجتمعاتنا على الحد من ظاهرة الاستبداد السياسي المستشرية في واقع مجتمعاتنا.
"ولا شك أن علاقة العرب بالخارج تتوقف على وضعيتهم الوجودية بالداخل، أي على ما يصنعونه بأنفسهم وعلى ما يقدمونه للعالم، بمعنى أن ما يرفضونه من التقييمات السلبية التي تصدر بحقهم من جانب الغير، يحملون مسئولياتها هم أنفسهم وإن بصورة جزئية. ذلك أنهم يستعدون للعالم ولا يحسنون التعامل معه، والأخطر أنهم لا يحسنون المشاركة في صناعته عبر المساهمات الغنية والمبتكرة في ميادين الثروة والقيمة أو العلم والتقنية" (6).
فمأزقنا الأكبر يتجسد في الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله ولا نتمكن من تحسين صورتنا في العالم إلا بتغيير واقعنا، وطرد كل موجبات الاستفراد والاستبداد من فضائنا الاجتماعي والوطني. وإن تفكيك الاستبداد من الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي يقتضي القيام بالأمور التالية:
1. تنقية مصادر المعرفة وأنظمة المعنى وسلم القيم الثقافية والاجتماعية، من كل جراثيم الاستبداد، وبذور التسلط والهيمنة. إذ لا يمكن أن نفكك الاستبداد السياسي من دون تطهير وتنقية ثقافتنا ووعينا الديني والاجتماعي والثقافي من كل بذور وموجبات الهيمنة والاستبداد.
ولا تنمو الحرية في واقعنا الاجتماعي والسياسي، إلا إذا نمت في ثقافتنا وأصبح وعينا العام منسجما ومطالبا بهذه القيم والمبادئ الدستورية والديمقراطية.
2. تنمية الإنتاج الثقافي والمعرفي الديني، الذي يتجه إلى تطوير الوعي السياسي والاجتماعي المناقض للاستبداد السياسي والمساهم في تعميق الخيار الديمقراطي في مستويات الحياة المتعددة.
لهذا فإننا نعتقد أن تفكيك الاستبداد السياسي من واقعنا العام، يتطلب العمل على خلق معرفة دينية جديدة تبلور خيار الحرية، وتفكك كل السياقات الثقافية والاجتماعية المولدة لظاهرة الاستئثار والاستبداد.
3. القيام بمبادرات مجتمعية، هدفها خلق الوقائع والحقائق التي تحد من ظاهرة الاستبداد، وتوسع من دائرة المشاركة الشعبية في الشأن العام. فتفكيك هذه الظاهرة الخطيرة من واقعنا الاجتماعي والسياسي، يقتضي تشجيع الخطوات والمبادرات التي تتجه إلى خلق حقائق الحرية والمشاركة في الفضاء الاجتماعي، وتحد من تغوّل السلطة السياسية وهيمنتها على كل مفاصل الحياة. فالحرية والديمقراطية تتطلب عملا متواصلا وجهدا مضاعفا، لتثبيت حقائق الديمقراطية وتوسيع مستوى المشاركة السياسية والحد من تغّول السلطة وهيمنتها الشمولية. فتفكيك الاستبداد، لا يتم بالرغبة والتمني المجرد، بل بالكفاح المتواصل والعمل الشعبي الضاغط باتجاه نيل الحقوق وإصلاح المسار السياسي للدولة والمجتمع.
4. تنظيم وصياغة العلاقة بين مختلف قوى المجتمع وتعبيراته الفكرية والسياسية والمدنية على أسس الاحترام المتبادل ومشاركة الجميع في مقاومة ومجابهة الاضطهاد ومحاربة كل أشكال الاستبداد. وذلك لأنه لا يمكن تفكيك ظاهرة الاستبداد السياسي بمجتمع مفكك ومبعثر. ولا شك أن الخطوة الأولى في مشروع الوحدة الاجتماعية هو تنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع، ونبذ كل حالات الاحتراب الداخلي والتهميش المتبادل، والعمل على بناء نظام علاقات وعمل تضم كل الأطياف والتعبيرات، وذلك من أجل العمل على تعميق الخيار الديمقراطي في الفضاء الاجتماعي والسياسي، وتفكيك القاعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يستمد منها الاستبداد آلياته وفعاليته. لذلك ينبغي دائما وفي كل الأحوال، الاهتمام بموضوع العلاقات الداخلية بين قوى المجتمع وأطرافه المتعددة. لأنه لا يمكن بناء القوة الاجتماعية الحقيقية والقادرة على مواجهة الاستبداد السياسي، بدون تنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع.
من هنا فإننا مع كل مبادرة وخطوة عملية تتجه أو تستهدف توطيد العلاقات الداخلية أو لامتصاص بعض السلبيات العالقة في طبيعة العلاقة السائدة بين أطراف المجتمع.
فضبط الاختلافات الداخلية وتنظيم تباينات المجتمع الثقافية والسياسية، يساهم بشكل كبير في خلق القدرة المؤاتية لمواجهة الاستبداد بكل آلياته ومخططاته.
والفكر الديني المعاصر ينبغي أن لا يكون منعزلا أو بعيدا عن قضايا الحرية والديمقراطية، ونقد الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله. وإنما من المهم أن يستفيد الفكر الديني المعاصر من التراث والقيم التحررية التي يتضمنها الدين الإسلامي، والعمل على بلورتها في سياق خطاب إسلامي جديد، يتجه صوب تفكيك الاستبداد وخلق حقائق الحرية والديمقراطية في الفضاء الاجتماعي. فالدين الإسلامي بقيمه ومبادئه ونظمه، هو مناقض جوهري لنزعة الهيمنة والتسلط السياسي. لذلك من الضروري أن يتوجه معنى وسؤال الإصلاح الديني إلى تحرير الدين من استغلال وتوظيف المجال السياسي، وخلق الوعي والثقافة المنطلقة من قيم الدين ومبادئه الرافضة لخيار الاستبداد ونزعات التسلط والهيمنة. وأي محاولة لتسويغ الاستبداد دينيا، هي محاولة مصلحية ولا تنسجم والقيم الكبرى والأصيلة للدين. فالإسلام جاء من أجل تحرير الإنسان من أهواءه وشهواته ونزعاته الشيطانية، ومن كل القوى البشرية الضاغطة أو المانعة لحريته واستقلاله.
فالتوجيهات الإسلامية تحث الإنسان على رفض الذل والخضوع للظلم والاستبداد. فقد جاء في الحديث الشريف (ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب. فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال تعالى: [إن الله لا يغفر أن يشرك به]، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات. وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا. القصاص هناك شديد، ليس هو جرحا بالمدى ولا ضربا بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه. فإياكم والتلون في دين الله، فإنه جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل " (7). وفي حديث آخر " فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة. وإن السنن لنيرة لها أعلام، وإن البدع لظاهرة لها أعلام. وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضُلّ به، فأمات سنة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة. وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها" (8)..
فالإسلام لا يشرع للظلم والاستبداد، بل يدعو المسلمين إلى رفض الظلم ومقاومة الاستبداد ونشدان المساواة والعدل في كل الأحوال والظروف.
- صيانة حقوق الإنسان:
لعل من المفارقات الصارخة في واقعنا الإسلامي المعاصر، هي تلك المفارقة المرتبطة بحقوق الإنسان في فضائنا الثقافي والسياسي والاجتماعي. حيث إننا نمتلك من جهة تراثا ونصوصا دينية هائلة، تحث على احترام الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته، والتعامل معه وفق رؤية أخلاقية نبيلة. وبين واقع لا يتوانى من انتهاك حقوق الإنسان وتدمير كرامته وهتك خصوصياته. فنحن في المجال الإسلامي نعيش هذه المفارقة بكل مستوياتها وتأثيراتها. فنصوصنا الدينية تحثنا على الالتزام بحقوق الإنسان وصيانة كرامته وتلبية حاجاته. ولكن في المقابل هناك الحياة الواقعية المليئة على مختلف المستويات بأشكال تجاوز وانتهاك حقوق الإنسان. ولا يمكن ردم هذه الفجوة وتوحيد الواقع مع المثال على هذا الصعيد إلا بتطوير خطابنا الديني وإبراز مضمونه الإنساني والحضاري.
وذلك لأن هذا الخطاب في أحد أطواره ومستوياته كان يمارس التبرير والتسويغ لتلك المفارقة الحضارية التي يعيشها واقعنا العربي والإسلامي. وإن تجاوز هذه المفارقة، يتطلب العمل على بلورة خطاب حقوقي إسلامي، يرفض كل أشكال التجاوز والانتهاك لحقوق الإنسان الخاصة والعامة، ويبلور ثقافة اجتماعية عامة، تعلي من شأن الإنسان وتحث الناس بكل فئاتهم وشرائحهم إلى احترام آدمية الإنسان وصيانة كرامته والحفاظ على مقدساته. وإن صيانة حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي، بحاجة إلى نظام الحرية والديمقراطية. لأنه لا يمكن أن تصان حقوق الإنسان بعيدا عن الحريات السياسية والديمقراطية. وإن ضمان الحقوق الأساسية للإنسان، بحاجة إلى نظام، ينظم العلاقات، ويضبطها بعيدا عن الإفراط والتفريط. فلا حقوق للفرد والمجتمع، بدون مرجعية عليا ينتظم تحت لوائها ومظلتها الجميع.
فلا يمكن أن تصان الحقوق، حينما تنتشر الفوضى، ويغيب النظام وذلك لأن كل متواليات هذا الغياب تنعكس سلبا على واقع حقوق الإنسان في المجتمع. لذلك نجد أن المجتمع الذي يعاني من حروب داخلية أو أهلية، لا يتمكن من صيانة حقوق الإنسان فيه. وذلك لأن مفاعيل غياب النظام تحول دون احترام الإنسان وصيانة حقوقه. ولعل في مقولة الإمام علي (ع) التالية إشارة إلى هذه المسألة. "لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في أمرته المؤمنون، ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتؤمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر أو يستراح به من فاجر".
والدعوة إلى النظام لضمان الحقوق، لا تشرع بطبيعة الحال إلى الاستبداد والحكم المطلق. لأن هذا بدوره أيضا يمتهن الكرامات ويدمر نظام الحقوق في المجتمع. من هنا نصل إلى حقيقة أساسية وهي: أن النظام الذي يكفل الحريات للمجتمع، هو النظام القادر على صيانة حقوق الإنسان. ولا يمكن أن نصل إلى هذه الحقيقة، إلا بحيوية وفعالية اجتماعية تنتظم في أطر ومؤسسات وتعمل وتكافح لخلق الحقائق في واقعها، وتفرض ظرفا جديدا، بحيث تكون صيانة حقوق الإنسان من الحقائق الثابتة في الفضاء الاجتماعي.
إننا بدون تغيير واقعنا الاجتماعي، لن نتمكن من خلق نظام سياسي يصون الحريات والحقوق.
من هنا تنبع أهمية العمل الاجتماعي والثقافي المتواصل، باتجاه تنقية واقعنا الاجتماعي من كل رواسب التخلف والانحطاط، ومقاومة كل الكوابح التي تحول دون التنمية والبناء الحضاري. إن حيويتنا الاجتماعية وفعلنا الثقافي المتميز والنوعي من الروافد الأساسية لبلورة قيم حقوق الإنسان في فضائنا الاجتماعي والثقافي. فلا يكفينا أن تكون النصوص الدينية حاضنة لحقوق الإنسان ومشرعة لها وإنما لا بد من العمل والكفاح لسن القوانين واتخاذ الإجراءات وخلق الوقائع المفضية جميعا إلى صيانة حقوق الإنسان. وعليه فإننا نشعر بأهمية أن يتجه الخطاب الديني إلى مسألة حقوق الإنسان، ليس باعتبارها مسألة تكتيكية أو مرحلية، وإنما باعتبارها جزء أصيل من التوجيهات الإسلامية والمنظومة الدينية. لذلك ينبغي أن يتجه هذا الخطاب إلى الإعلاء من شأن هذه المسألة، وتنقية مفرداته ووقائعه من كل الشوائب التي لا تنسجم والحقوق الأساسية للإنسان.
فالإنسان بصرف النظر عن منبته الأيدلوجي أو انتماءه المذهبي أو القومي أو العرقي، يجب أن تحترم آدميته وتصان حقوقه. وأي فهم لأي قيمة من قيم الدين، لا تنسجم وهذه الرؤية، هو فهم مشوب وملتبس، ولا يتناغم والقيم العليا للدين.
فالإسلام بكل قيمه ومبادئه ونظمه وتشريعاته، هو حرب ضد كل العناوين والعناصر التي تنتقص من قيمة الإنسان أو تنتهك حقوقه.
فهي قيم من أجل الإنسان وفي سبيله، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يشرع الإسلام لأي فعل أو سلوك يفضي إلى انتهاك حقوق الإنسان.
لذلك كله نستطيع القول: أن الانتهاكات المتوفرة في المجالين العربي والإسلامي لحقوق الإنسان، هي وليدة الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تمارس كل أنواع الظلم والعسف والقهر لبقاء سلطانها الاستبدادي، والإسلام بريء من هذه الانتهاكات. وإن المحاولات التي يبذلها علماء السلطان لسبغ الشرعية على تجاوزات السلطة الاستبدادية، لا تنطلي على الواعين من أبناء الأمة، ولا تحسب بأي شكل من الأشكال على الإسلام كمبادئ وقيم ومثل عليا.
والإصلاح الديني والثقافي المنشود، هو الذي يتجه إلى العناصر التالية:
1. تحرير المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي من كل أشكال الهيمنة وانتهاك الحقوق وتجاوز ثوابت الدين القائمة على العدل والحرية والمساواة.
2. تنقية الثقافة الدينية السائدة، من كل رواسب التخلف السياسي والانحطاط الثقافي والأخلاقي. فلا يمكن أن تكون ثقافة دينية أصيلة، تلك الثقافة التي تبرر الظلم أو تسوغ التعذيب أو تشـرع للعسف وانتهاك الحقوق والحريات العامة للإنسان.
3. بناء المجال السياسي والثقافي في الأمة، على أسس العدل والحرية والمساواة وصيانة حقوق الإنسان. فالمهم أولا ودائما أن يكون واقعنا بكل مستوياته منسجما ومقتضيات الإسلام ومثله العليا.
4. تحرير العلاقات وأنماط التواصل بين مختلف المكونات والتعبيرات، من كل أشكال التمييز والتهميش والإقصاء بدعاوي ومسوغات دينية أو فكرية أو سياسية. وبناء العلاقة بين هذه التعبيرات على أساس الجوامع المشتركة ومقتضيات الشراكة والمسؤولية المتبادلة.
وهذا يتطلب تطوير علاقتنا المنهجية والمعرفية بالنصوص الإسلامية، وتجسير الفجوة بين مؤسساتنا ومعاهدنا العلمية ومصادر المعرفة الإسلامية الأساسية. وذلك من أجل إنتـاج ثقافة إسلامية أصيلة ومنفتحة ومتفاعلة مع مكاسب العصر والحضارة.
وعلى ضوء ما ذكر أعلاه، نصل إلى قناعة أساسية مفادها: أن المآزق والتوترات والاختناقات التي نعانيها على أكثر من صعيد، هي نتاج شبكة من الأسباب والعوامل. لذلك تتأكد حاجتنا إلى عملية الإصلاح الديني، الذي يتجه إلى إرساء حقائق ومعالم التعددية وإحترام التنوع وحق الاختلاف والحريات العامة والتسامح وحقوق الإنسان.
وهذا بطبيعة الحال، ليس سهل المنال، وإنما هو بحاجة إلى جهود فكرية ومؤسسية متواصلة، لتنقية المجال السياسي والثقافي والاجتماعي من كل مظاهر الأنانية والآحادية والاستبداد.
وإن مشروع النهضة الوطنية على الصعد كافة اليوم، بحاجة إلى وعي وثقافة دينية جديدة، تتصالح مع الحرية وتنبذ العسف والاستبداد، وتتفاعل على نحو إيجابي مع التنوع والتعددية، وتقطع نفسيا ومعرفيا مع الرؤية الآحادية التي لا ترى إلا قناعاتها وتتعامل معها باعتبارها الحقائق المطلقة.
ويتحمل العلماء والمفكرون المسلمون اليوم، مسؤولية بلورة وخلق خطاب ديني جديد، يجيب على أسئلة وتحديات الراهن، ويصيغ حركة المجتمع باتجاه البناء والتنمية والعمران الحضاري.
ووفق معطيات الراهن بكل مستوياته، فإن الإصلاح الديني في فضائنا الاجتماعي والوطني، هو جسر الاستقرار والتقدم وامتلاك ناصية المستقبل.
ثالثا: العلاقات الداخلية:
المجتمعات الإسلامية – الشيعية كغيرها من المجتمعات الإنسانية، تحتضن آراء وأفكار وميولات وتوجهات متعددة ومتنوعة، كما أن بها مراكز قوى مختلفة دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية.. وإن هذا التعدد والتنوع في الفضاء الاجتماعي، هو من لوازم هذه المجتمعات وثوابتها القارة.. ولعل من نقاط الضعف الكبرى التي تعانيها مجتمعاتنا على المستوى الداخلي هي ضمور حالات التضامن والتعاون بين أطرافه ومكوناته، وحضور عناوين التباين والخلاف في الكثير من المحطات والمنعطفات..
ويبدو أن هذه المجتمعات لن تتمكن من القبض على أهدافها وتطلعاتها، بدون تنظيم العلاقة الداخلية بين تعبيرات وأطياف المجتمعات الإسلامية- الشيعية.. وفي سياق العمل على تطوير العلاقة الداخلية وتنقية الأجواء بين أطراف المجتمعات الإسلامية – الشيعية، نود التأكيد على النقاط التالية:
1- ثمة حاجة مستديمة في فضائنا الاجتماعي والثقافي والسياسي، إلى ضرورة أن تلتقي النخب الإسلامية – الشيعية مع بعضها البعض لتدارس شؤون الأمة وتبادل الرأي والخبرة والوصول إلى سبل التنسيق والتعاون في القضايا العامة.. فلا يكفي أن نتعاطف قلبيا مع بعضنا البعض، وإنما نحن بحاجة في كل مواقعنا إلى المبادرة باتجاه اللقاء والتنسيق بين مجموع النخب لصياغة رؤية مشتركة تجاه الراهن والاستفادة من نقاط القوة لدى بعضنا.. فالتحديات التي تواجهنا كبيرة ومركبة، وتتطلب منا باستمرار التنسيق والتعاون.. ولعل السبيل للوصول إلى ذلك هو تأسيس مبادرات للحوار والتواصل المستديم بين مجموع النخب الإسلامية – الشيعية..
2- إننا على الصعيد الواقعي لا يمكن أن ننهي كل عناوين التباين والاختلاف من فضائنا الاجتماعي والثقافي والسياسي، لهذا فإن المطلوب هو تنظيم هذه الاختلافات، بحيث لا تتحول إلى عناوين للصراع والتشظي النفسي والعملي.. وتنظيم الاختلافات في أوساطنا الاجتماعية والسياسية يقتضي الآتي:
أ- الاستمرار في التنسيق والتعاون في الموضوعات والمساحات المشتركة والتي لم تشملها عناوين التباين والاختلاف.. فمن الضروري أن نحصر موضوعات الاختلاف ونحددها، حتى لا تشمل كل حياتنا..
ب- أن نرفع الغطاء الديني والاجتماعي عن كل الشخصيات التي تمارس الإساءة والتحريض ضد الشخصيات والفعاليات الاجتماعية والسياسية والدينية الأخرى.. فالإساءات ينبغي أن لا تغطى من أحد، والتحريض تجاه بعضنا البعض ينبغي أن يرفض من جميع الأطراف والأطياف..
ج- ضرورة حضور المناقبيات الأخلاقية والضوابط الشرعية في كل مراحل الاختلاف والتباين في الآراء والقناعات والخيارات..
3- في كل الظروف والأحوال، تحتاج مجتمعاتنا إلى حكماء وضمائر جماعية، تساهم في تذليل العقبات، وتدوير الزوايا، وترطيب الأجواء، وتنفيس الاحتقان والتواصل مع الجميع من أجل تجسير العلاقة بين المختلفين.. فالشخصيات الخيرة في المجتمع، ينبغي أن لا تكون متفرجة وسلبية تجاه خلافات المؤمنين مع بعضهم البعض، وإنما عليها المبادرة باتجاه معالجة الإشكاليات وإزالة الالتباسات ورفع سوء الظن الذي يديم الجفاء بين المؤمنين.. وفي كل الساحات هناك حاجة ماسة إلى هذه الشخصيات التي تكون هي بمثابة الضمير في المجتمع، التي تعيد الحق إلى نصابه، وتصلح الاعوجاجات وتحافظ على العلاقة الإيجابية بين مختلف أطياف وأطراف المجتمع الواحد..
ونحن نعتقد أن غياب مثل هذه الشخصيات، ساهم ويساهم في إدامة الجفاء وتعميق الخلافات والتباينات بين أطراف المجتمع الواحد..
4- في كل الساحات الاجتماعية والسياسية، لا يمكن اختزالها برأي أو توجه أو خيار واحد، وإنما في كل الساحات هناك آراء وأفكار وتوجهات متعددة.. وبدل الانشغال في إفشال خيارات بعضنا البعض، من الضروري أن نتجه إلى العمل الحقيقي الذي يسع كل هذه الآراء والأفكار والتوجهات. وفي المحصلة الأخيرة الخيار الذي يحظى بأغلبية اجتماعية أو أوصل المجتمع إلى أهدافه الأساسية، هو الذي سيتبوأ موقع الصدارة في المجتمع.. وإن أية محاولة لاختزال المجتمع بكل فعالياته برأي أو خيار واحد، ستفضي هذه المحاولة إلى ممانعة اجتماعية وثقافية وسياسية، وستديم عناصر التوتر في المجتمع.. لهذا فإن المطلوب من جميع الأطياف الإيمان العميق والعملي بأن الساحة الاجتماعية تتسع لأكثر من خيار ورأي، ولا وصاية لأحد على الساحة.. فمن حق الجميع أن يعبر عن رأيه، ويحشد الطاقات والكفاءات من أجل خياره ومشروعه، بدون افتئات على أحد أو ممارسة النبذ والإقصاء على طرف من الأطراف.. والخيار الحقيقي والسليم في كل مجتمعاتنا هو التعاون بين هذه الخيارات والمشروعات فيما يمكن أن يتم التعاون فيه، ونعذر بعضنا البعض في الأمور والقضايا الأخرى.. فالأصل هو أن نتعاون مع بعضنا البعض، دون إلغاء لحقيقة التنوع الموجودة في المجتمع.. فالمطلوب هو احترام خيارات بعضنا البعض مع الاستعداد النفسي والعملي للتعاون في القضايا التي يمكن أن نتعاون فيها..
5- أغلب الأفكار والآراء المذكورة أعلاه، تتضمن بعد أخلاقيا ووعظيا، لهذا ومن أجل أن تتحول العلاقات الداخلية بين مكونات وتعبيرات مجتمعاتنا، إلى علاقة إيجابية ومتطورة باستمرار، نحن بحاجة إلى إرادة إنسانية تتجلى في رفض الانخراط في كل مشروعات الفتنة والتسقيط والتشويه لبعضنا البعض..
فلو قرر كل واحد منا، أنه إذا لم يكن جزء من الحل والمعالجة، فإنه يرفض أن يكون جزء من المشكلة أو الأزمة.. فإن قدرة الفتنة على الانتشار ستتضاءل..
والسبب في ذلك هو وعينا والتزامنا الأخلاقي ورفضنا الدائم لممارسة الغيبة أو الكذب أو النميمة تجاه بعضنا البعض..
فالاختلاف والتباين بين الجماعات والتيارات والفعاليات المختلفة، لا يشرع لأي طرف ممارسة الظلم تجاه الطرف الآخر..
فالمطلوب دائما ومن الجميع الالتزام بمقتضيات العدالة.. إذ يقول تبارك وتعالى (ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (سورة المائدة –الآية 8)..
6- إن تنظيم الاختلافات بين أطياف وأطراف المجتمع والأمة، لن يتحقق على الصعيد العملي إلا بتنمية فقه الوحدة والائتلاف والاتحاد بين مجموع تعبيرات وتوجهات الأمة..
فالوحدة لا تنجز بالمواعظ الأخلاقية بوحدها، وإنما ببناء حقائق الألفة والوحدة والتلاقي.. وإن المجتمع الذي يتراخى في بناء حقائق ومتطلبات وحدته، فإنه لن يقبض عليها حتى لو تحدث عن الوحدة في كل أوقاته.. فالوحدة ليست رغبة مجردة، وإنما هي مجموعة من الشروط والمقدمات والحقائق والمعطيات، ولا يمكن القبض على قيمة الوحدة بدون إيجاد هذه المعطيات والحقائق..
لهذا فإننا نعتقد أن إنهاء حالة التباين والخلافات بين توجهات الأمة، يقتضي العمل على بناء حقائق الاتحاد والألفة بين هذه التوجهات.. لهذا فإنه لا يكفي أن نتحدث عن الألفة والوحدة، وإنما من الضروري العمل على بناء معطيات وحقائق للألفة والوحدة في الفضاء الاجتماعي..
وعلى كل حال ما نود أن نقوله في هذا السياق، أن العلاقات الداخلية بين تعبيرات وأطياف ومؤسسات المجتمعات الإسلامية – الشيعية تحتاج إلى مبادرات وخطوات جادة من الجميع لتحسين العلاقة وتطويرها.. وإن استمرار حالة الجفاء والتباعد وسوء الظن والفهم وغياب التنسيق والتعاون يفضي إلى نتائج سلبية على عموم الواقع الإسلامي – الشيعي..
وإن تحسين وتطوير العلاقات الداخلية، ليست مسؤولية طرف أو جهة دون أخرى، وإنما هي مسؤولية جميع الجهات والأطراف والفعاليات..
وإن الشعور العميق بأهمية تطوير العلاقة هي الخطوة الأولى في مشروع بناء العلاقة بين أطياف المجتمع على أسس الاحترام المتبادل والفهم والتفاهم وحسن الظن والإعذار المتبادل في القضايا والأمور التي يتم الاختلاف فيها أو حولها.. فمن حق كل أحد أن يختلف عن الآخر، ولكن ليس من حق أحد الافتئات على الآخر أو تشويه سمعته أو النيل من دينه أو أخلاقه..
ولا يمكن أن نطور العلاقة الداخلية بين فئات وتيارات وفعاليات المجتمع الواحد، إلا بفك الارتباط بين حق الاختلاف وبين حالات انتهاك حقوق المختلف معنا..
ومهمة الجميع في هذا السياق هي ضمان حق الاختلاف دون أن يقود هذا الاختلاف إلى التعدي على حقوق الآخرين المادية والمعنوية.. وحتى نصل إلى هذه المسألة نحن بحاجة أفرادا وجماعات إلى شعور بالمسؤولية وأخلاق فاضلة تضبط مواقفنا وسلوكياتنا والتزام بهدي الإسلام وتشريعاته التي تجرم الظلم بكل مستوياته وتعتبر أن دم الإنسان وماله وعرضه حرام.. فلنوطن نفوسنا جميعا على عدم مقابلة الإساءة بإساءة، وإنما بالغض والكف عن الانخراط في سفاسف الأمور أو حروب الأوراق الصفراء التي لا تنتج إلا الكره والبغضاء وسوء الظن.. إذ يقول تبارك وتعالى (ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (سورة فصلت، الآية 34)..
رابعا: العلاقة مع المحيط:
لعلنا لا نبالغ ولأسباب عديدة ذاتية وموضوعية، إذا قلنا إن من أهم التحديات التي تواجه المسلمين الشيعة المعاصرين في مجتمعاتهم هي طبيعة علاقتهم مع محيطهم.. إذ أن هذه المسألة بكل عناوينها وحمولتها السياسية والمعرفية والاجتماعية، تشكل من أهم المسائل، التي تتعدد فيها آراء واتجاهات الشيعة..
وبعيدا عن المضاربات الأيدلوجية، أرى أن المسلمين الشيعة في كل مجتمعاتهم، معنيون بشكل مباشر على صياغة رؤية متكاملة لطبيعة علاقتهم مع محيطهم وشركاءهم في الوطن..
وأرى أن محددات هذه العلاقة ستة عناوين رئيسية وهي:
أولا: نقد الطائفية والخطاب الطائفي:
ثمة سباق محموم ومريب في آن في الساحات العربية والإسلامية التي يتواجد فيها تعدديات دينية ومذهبية.. فجميع الأطراف المذهبية اليوم، تتحدث عن مظلومية قد لحقت بها، وتعمل في ظل هذه الظروف لإنهاء هذه المظلومية والقبض على حقائق الإنصاف التي افتقدتها منذ فترة زمنية طويلة..
وهذا المنطق لا يقتصر على فئة دون أخرى، بل هو يشمل جميع الفئات والمكونات..
والذي يثير الهلع والخوف على حاضر ومستقبل هذه المجتمعات والأوطان، هو شعور الجميع أن حقه المغتصب موجود لدى الطرف والمكون الآخر.. فالجميع يطالب الجميع، والكل يشعر بالظلم من الكل.. ونحن هنا لا نود التدقيق في هذه الإدعاءات ومدى صوابيتها وأحقيتها، وإنما ما نود التأكيد عليه وإبرازه أن هذا السباق المحموم نحو الصراعات الطائفية والفتن المذهبية، لا يستثني أحدا.. فالطرف الغالب والمسيطر يعمل على إدامة سيطرته، دون الالتفات إلى حقوق الأطراف والمكونات الأخرى..
والأطراف المغلوبة تشعر أن هذا الزمن بتحولاته المتسارعة هو الزمن النموذجي للمطالبة بالإنصاف والحقوق.. وكل طرف يعمل عبر وسائل عديدة لإبراز أحقيته، وأن حقوقه المستلبة هي موجودة لدى الطرف والمكون الآخر.. مما يوفر للسجالات المذهبية والفتن الطائفية، أبعادا أخرى، تمس الاستقرار السياسي والاجتماعي في كل المجتمعات التي تحتضن تعدديات وتنوعات دينية ومذهبية.. ونحن نعتقد أن استمرار عمليات التحريض الطائفي، ودفع الأمور نحو الصدام بين أهل الطوائف والمذاهب، هو مضر للجميع ولا رابح من وراءه..
ذلك لأن الحروب الطائفية لها دينامية خطيرة، لا يمكن لأي طرف أن يتحكم فيها.. لهذا فإننا نرى أن اللعب بالنار الطائفية، من المخاطر الجسيمة التي تلقي بشررها على الجميع..
وفي سياق نقد الطائفية في مجتمعاتنا، وضرورة العمل على إيقاف الفتن الطائفية المقيتة نود التأكيد على النقاط التالية:
1 – من الضروري التفريق بين حالة التمذهب الكلامي والفقهي وبين النزعة الطائفية. فمن حق الجميع في الدائرة الإسلامية والإنسانية، أن يلتزم بمدرسة عقدية أو فقهية، لأن عملية التمذهب الفقهي هي من خواص كل إنسان..
ولا يحق لأي إنسان أن يعارض خيارات الإنسان الآخر (الفردية).. وهذا الحق ينبغي أن يكفل للجميع، بصرف النظر عن نظرتنا وموقفنا من الحالة المذهبية التي تمذهب بها هذا الإنسان أو ذاك.. لأن الإنسان بطبعه ميال ونزاع إلى تعميم قناعاته ومرتكزاته العقدية أو الفلسفية، ولكن هذا الميل والنزوع لا يشرع لأي إنسان، أن يمارس القسر والفرض لتعميم قناعاته وأفكاره..
فالتمذهب حالة طبيعية في حياة الإنسان، وهي من خواصه كفرد في الوجود الإنساني.. ولكن إذا تطورت عملية النزوع والميل لتعميم القناعات إلى استخدام وسائل العنف بكل مستوياتها، حينذاك تتحول حالة التمذهب الطبيعية والسوية إلى نزعة طائفية مقيتة ومرفوضة..
فرفضنا للنزعات الطائفية، لا يعني بأي حال من الأحوال، رفضنا لحالات التمذهب والالتزام القيمي لكل إنسان.. فمن حق الإنسان (أي إنسان) أن يلتزم برؤية ومنظومة فكرية ومذهبية معينة، ولكن ليس من حقه أن يقسر الناس على هذا الالتزام وهذه الرؤية. لأن عملية القسر والعنف في تعميم قناعات وعقائد الذات، هي ذاتها النزعة الطائفية، التي تشحن النفوس والعقول بأغلال وأحقاد اتجاه الطرف المذهبي أو الطائفي الآخر..
لهذا فإننا نعتقد وعلى ضوء هذه الرؤية التي تميز بين حالة التمذهب والحالة الطائفية.. أن التعددية الدينية والمذهبية في أي مجتمع، ليس مشكلة بحد ذاتها، بل هي معطى واقعي إذا تم التعامل معه بحكمة وبوعي حضاري، يكون عامل إثراء لهذا الوطن أو ذاك المجتمع..
وإن المشكلة الحقيقية تبدأ بالبروز، حينما تفشل النخب السياسية والثقافية من التعامل الإيجابي مع حقائق التعدد الديني والتنوع المذهبي..
2 – إن النزوع إلى تفسير الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا وفق النسق الطائفي والمذهبي، يساهم في خلق المزيد من التوترات والتشنجات.
إذ يعمل البعض ووفق رؤية أيدلوجية مغلقة، إلى التعامل مع المجتمعات المذهبية، وكأنها مجتمعات ذات لون واحد ورأي واحد، وتسعى جميعها من أجل أجندة واحدة.. فيتم التعامل مع هذه المجتمعات، وكأنها حزبا شموليا لا يمكن أن تتعدد فيه الآراء أو تتباين فيه المواقف.. ومهما حاولت لإعادة الأمور إلى ميزانها الموضوعي على هذا الصعيد فإنك تقابل بالاتهامات وسوء الظن الذي يسوغ لصاحب التحليل أو الموقف الأيدلوجي الذي لا يتزحزح حتى ولو كانت الحقائق مناقضة لهذا الموقف..
فنحن كآحاد بصرف النظر عن عقائدنا ومذاهبنا، ننتمي إلى جماعات وانتماءات متعددة
بدون شعور بأن هذه الانتماءات مناقضة لبعضها البعض.. فانتماءات الإنسان المتعددة تتكامل مع بعضها البعض.. وإذا كان أبناء الوطن الواحد متمايزون في دائرة من دوائر الانتماء المتعددة، هذا لا يعني أن جميع مصالحهم متناقضة أو أنهم أعداء أبديون لبعضهم البعض.. وعلى ضوء تجارب العديد من المجتمعات المتعددة، نصل إلى هذه الحقيقة وهي: أن استخدام العنف القولي أو الفعلي ضد المخالف أو المختلف، لا ينهي ظاهرة التنوع المذهبي من الوجود الاجتماعي، بل يزيدها تصلبا ورسوخا..
3 – لعل من المفارقات العجيبة والتي تحتاج إلى المزيد من الفحص والتأمل، هي أن الأفراد أو الجماعات المتشددة مذهبيا والمغالية طائفيا، والتي تعلن صباح مساء أهمية الحفاظ على الأمة ووحدتها ورفض المؤامرات الأجنبية التي تستهدف راهن ومستقبل الأمة، هي جماعات توغل في عمليات الخصومة والعداوة مع المختلف المذهبي، دون أن تسأل نفسها أن إيغالها في هذه الخصومة هي الثغرة الكبرى التي ينفذ منها أعداء الأمة.
فالأطراف والإرادات الطائفية المتصادمة، والتي تدفع الأمور بكل الوسائل لإدامة التوتر الطائفي هي المسئولة عن توفر المناخ لتأثيرات ونجاح الأجنبي في مؤامراته على الأمة الإسلامية..
لأن الشرخ الطائفي هو من نقاط الضعف الكبرى في جسم الأمة، والذي من خلالها ينفذ خصوم الأمة، ويديموا ضعفها وتراجعها الحضاري والسياسي.. وإن كل من يساهم في تعميق الشرخ الطائفي في الأمة، مهما كانت نيته ودوافعه، هو يساهم بشكل موضوعي في توفير القابلية لكي يتمكن الأجنبي في إنجاح خططه ومؤامراته على راهن ومستقبل الأمة..
لهذا فإننا ينبغي أن لا نتساهل في أمر الفتن الطائفية أو نتعامل معها بعقلية منغلقة تساهم بدورها في عمليات التأجيج والتحريض..
إننا ومن منطلق مبدئي نرفض عمليات التحريض الطائفي، ونعتبر هذه العمليات مهما كان صانعها، من الأمور التي تمهد الطريق للقوى الأجنبية للسيطرة على مقدرات وثروات المسلمين.. فالفجور في الخصومة واستسهال الطعن في عقائد الناس وسوء الظن بالآخرين كلها تقود إذا سادت العلاقة بين مكونات الأمة والمجتمع إلى الاهتراء والتآكل الداخلي مما يسهل عملية السيطرة الأجنبية إما بشكل مباشر أو غير مباشر..
وفي خاتمة المطاف نقول: أن الأزمات الطائفية بكل مستوياتها لا تربح أحدا، وإن جميع الأطراف هم متضررون من تداعيات هذه الأزمات..
وإننا جميعا مسؤولون ومطالبون للعمل من أجل وأد الفتن الطائفية ومعالجة موجباتها وآثارها.. وأن لا خيار أمامنا جميعا إلا أوطاننا، ونسج علاقات إيجابية بين مختلف مكونات الوطن والمجتمع..
وجماع القول: إننا نخسر على المستوى الخاص والعام، حينما ننجر إلى المربع الطائفي.. لهذا فإن بمقدار ما نتخلص من النزعة الطائفية، بذات القدر، نتمكن من بناء علاقة إيجابية مع محيطنا وفضائنا الوطني والإسلامي..
وحتى لا يساء فهمنا في هذا السياق من الضروري التفريق بين مفهوم الطائفية الذي يساوي الانغلاق والانكفاء واستحضار مشاكل التاريخ بنفس صدامي – سجالي، وبين المذهبية كحالة فكرية ومعرفية واجتماعية.. فنحن نعتز بإنتماءنا إلى مدرسة أهل البيت (ع)، ونعتقد أن هذه المدرسة بقيمها ومبادئها ومثلها العامة، تشكل جسر عبور للخلاص من مآزق الراهن والتباساته العديدة.. ولكن اعتزازنا بهذا الانتماء وهذه المدرسة الرسالية، لا يشرع لنا تبيئة النزعات الطائفية في واقعنا ومحيطنا.. لهذا فإننا نعتقد وبشكل عميق أن خصوم هذه المدرسة هم الذين يدفعوننا إلى الانكفاء والتكور الطائفي.. وإن الانزلاق في هذا الطريق، يعني فيما يعني نجاح الخصوم في دفعنا إلى تبني مواقف والوقوف على أرضية لا تفيدنا على مستوى الراهن ولا على مستوى المستقبل، كما أنها لا تنسجم وفهمنا لقيم وتوجيهات أئمة أهل البيت (ع)..
لهذا فإننا بحاجة إلى خطاب ديني – ثقافي – سياسي، يخرج المجتمعات الإسلامية - الشيعية من الصندوق الطائفي، ويفتح المجال لهم للتفاعل الخلاق على قدم المساواة مع شركاءهم في الوطن والأمة..
فأمن مجتمعاتنا ومصالحها الحيوية، لا يمكن أن تصان في ظل بيئة اجتماعية معادية أو متشنجة ضد المسلمين الشيعة.. لهذا فإننا معنيون قبل غيرنا بأهمية تنقية المحيط من أمراض التعصب ونزعات الكراهية، وكلما تمكنا من تعميم ثقافة الاعتدال والتسامح، استطعنا الوصول إلى بيئة اجتماعية متفهمة لقضايانا المختلفة..
ونحن معنيون جميعا في كل مواقعنا إلى بلورة مبادرات ومشروعات، تستهدف تجسير العلاقة وبناء الثقة مع مكونات وتعبيرات المحيط، حتى نتمكن من محاصرة القوى الاستئصالية والتكفيرية، وحتى نرفع عن كاهلنا الكثير من الاتهامات والهواجس التي تكلف أمننا واستقرارنا الشيء الكثير..
ثانيا: وحدة المسلمين ومخاطر الفتنة المذهبية:
يبدو ووفق المعطيات والمؤشرات القائمة، أن العلاقة الداخلية بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية، تمر بمرحلة خطيرة وحساسة، حيث التوترات المتنقلة، والحروب الكلامية والتي وصلت في بعض المناطق جد الاقتتال المذهبي، إضافة إلى الإعلام الفضائي والأنترنتي، الذي يؤجج الفتن، ويشعل الحروب، ويغذي الأحقاد والضغائن بين المسلمين..
وكل المؤشرات توحي أن التطرف المذهبي بكل صوره وأشكاله، هو المسئول إلى حد بعيد عن كثير من صور التوتر والاقتتال بين المسلمين..
ولا ريب أن استمرار التوتر والحروب الصريحة والكامنة بمستوياتها المختلفة بين المسلمين، يهدد استقرار المجال الإسلامي بكل دوله وشعوبه، ويؤثر على أحوالها السياسية والأمنية وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.. وأن لهذه التوترات كلف اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية وإستراتيجية خطيرة على أوضاع المسلمين، وعلى راهن الدول الإسلامية ومستقبلها..
ومن الضروري أن يدرك الجميع، أن هذه التوترات والحروب المذهبية المتنقلة ستصيب الجميع.. أي لا توجد دولة عربية وإسلامية بمنأى عن هذه التوترات ومتوالياتها الكارثية. لذلك فإن تغذية هذه الأحقاد المذهبية، يعد من الخطايا الكبرى، لأنها ستنهي استقرار العديد من البلدان العربية والإسلامية. كما أن التفرج على ما يجري، وعدم القيام بخطوات ومبادرات، تستهدف إصلاح العلاقة بين طوائف المسلمين، أو الحد من استخدام اختلافاتهم الفقهية والسياسية في الشارع، يعد بشكل أو بآخر مشاركة في الجريمة الكبرى التي تطال العالم الإسلامي اليوم.. فما يجري من احتقان طائفي وتوتر مذهبي، ومقولة نابية وبذيئة هنا، ومقولة مماثلة هناك، وسب وشتيمة للمقدسات والرموز هنا، وممارسات مماثلة هناك، وإطلاق أحكام جائرة على بعضنا البعض، كل هذه الصور، إذا لم يتم تدارك الأمر من عقلاء الأمة وحكمائها، سيزيد من أوار التطرف المذهبي، وستدخل الأمة الإسلامية بأسرها في فتنة مذهبية عمياء..
فالفرجة على ما يجري في الأمة من فتن مذهبية وطائفية متنقلة، يعد تشجيعا لهذا النهج.. فالمطلوب ليس الفرجة أو الحياد، وإنما القيام بمبادرات تحاصر الفتن المذهبية، وترفع الغطاء الديني عنها، والعمل من أجل تفكيك موجباتها وأسبابها..
وأود في سياق العمل على وأد الفتن المذهبية التي بدأت بالبروز في جسم الأمة، أن أوضح النقاط التالية:
1- المكتبة الإسلامية ومنذ أزمان سحيقة، مليئة بالكتب والدراسات والأبحاث، التي توضح الحدود بين المذاهب ونقاط التباين وموضوعات الاختلاف بين الطوائف. فكل موضوعات الخلاف بين المسلمين العقدية والتاريخية، هناك المئات من الكتب حولها.. لذلك فإن جميع الأطراف تعيش حالة تشبع وتخمة في الكتب الخلافية بين المسلمين.. لهذا فإن ما ينقص المسلمين اليوم، هو تلك الكتب والدراسات والأبحاث، التي توضح وتبلور فقه الوفاق والائتلاف والوحدة بين المسلمين.. فالمكتبة الإسلامية التاريخية والمعاصرة على هذا الصعيد فقيرة، لهذا فإننا ندعو العلماء والدعاة والكتاب، إلى الكتابة والتأليف والبحث العلمي حول فقه الوفاق بين المذاهب الإسلامية، وكيفية تعزيز وحدة المسلمين بكل دولهم وشعوبهم..
فالكتابة حول موضوعات الاختلاف والتباين، أضحت مكرورة، ولا تقدم جديدا على صعيد العلم والمعرفة الدينية.. أما كتابات الوفاق والائتلاف فهي شحيحة، والأمة بكل أطرافها وأطيافها تحتاج إلى المزيد من الدراسات والأبحاث، التي تدعو إلى فقه الوفاق بين المسلمين، وتبلور خيار الائتلاف بين أهل المذاهب الإسلامية، وتعطي الأولوية لوحدة الأمة الإسلامية..
فالفتن المذهبية لا تواجه إلا بقيام كل المؤسسات والمعاهد والجامعات الدينية، بإغراق الساحة بكتابات ومؤلفات، تؤكد على قيم الوحدة والائتلاف بين المسلمين..
2 - عجيب أمر المسلمين بكل طوائفهم في العصر الراهن، فبدل أن ينشغلوا بأمر التنمية والبناء العلمي وتطوير أوضاعهم السياسية والاقتصادية والحياتية، هم ينشغلون بحروب التاريخ وخلافاته.
فالتحدي الكبير الذي يواجهنا، ليس الموقف من أحداث التاريخ ورجاله [مع أهمية وضرورة أن نحترم قناعات ومقدسات بعضنا البعض على هذا الصعيد] وإنما تنمية أوضاعنا وتطوير أحوالنا، وبناء حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أسس الحرية والعدالة والمساواة..
فجهود المسلمين وطاقاتهم، ينبغي أن لا تصرف في حروب عبثية أو لا طائل من وراءها، وإنما يجب أن تصرف في سبيل البناء والتنمية والعمران..
ومن يبحث عن الدفاع عن قيم الإسلام ومقدساته، فلينخرط في معركة البناء والتنمية ومحاربة الفقر والجهل والمرض.. فإن هذه المعركة بكل مقتضياتها، هي التي توضح قيم الإسلام الأساسية، وتعززها في نفوس المسلمين.. لأنه وببساطة شديدة ثمة علاقة سببية وطردية بين إيمان الإنسان وبين تلبية حاجاته، فكلما كانت استجابة الدين لتلك الحاجات أعلى، تضاعف إيمان الإنسان وازداد قوة وصلابة وثباتا، فضلا عن ازدياد تعلقه وشغفه بهذا الدين الذي سيضحى قضية محببة للإنسان..
والدين إذا نكص عن النهوض بمتطلبات المجتمع الحي المتجدد عبر القرون والأعصار، وعجز عن توفير أسباب الازدهار والارتقاء للمجتمع، فإنه لن يفلح في فرض المعتقدات عليه..
وينقل أن أحد المستشرقين الألمان زار أحد العلماء ورأى غلاف مجلته التي كان يصدرها باسم [العلم] وكان غلافها مزينا في زواياه الأربعة بأربعة أحاديث عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم عن فضل العلم وأهميته، فسأله عنها، وبعد أن ترجمت له الأحاديث أظهر تعجبه وقال: عندكم هذه الأوامر عن نبيكم بالعلم وكونه فريضة مطلقا دون قيد من ناحية المكان أو الزمان أو القومية، وأنتم تعيشون هذه الحالة من الجهل والأمية..
فالانشغال بالتوافه والجزئيات وأحداث التاريخ، لا تبني قوة لمجتمعاتنا، ولا تعيد أمجاد حضارتنا، وإنما تزيد من هامشيتنا وبعدنا عن قيم الإسلام العليا..
3- ثمة إشكالية عميقة تسود العلاقة بين المسلمين في كل أطوارها ومراحلها، أنها ليست علاقة اكتشاف ومعرفة، وعقل وإدراك أي فكر ووعي، يؤدي إلى علاقة شعور ووجدان وعاطفة، بل هي علاقة مساجلة وتباعد نفسي واجتماعي، وقراءة الآخر من خلال كتب الأنا، فتتضخم في النفوس والعقول موضوعات التباين وقضايا النزاع التاريخي، مع حضور دائم للأقوال الشاذة لدى كل الأطراف، وهي أقوال تزيد الإحن، وتسوغ التمترس المذهبي والتخندق الطائفي..
ومع ثورة الاتصالات والمعلومات وتوفر الكتب بشتى صنوفها، إلا أنني أعتقد أن المسلمين جميعا يجهلون عن بعضهم البعض أكثر مما يعلمون.. وإن الجهل وسوء الظن بقناعات الخصوم دون التأكد من صحتها، هي التي تساهم في ابتعاد المسلمين عن بعضهم البعض..
لذلك وفي إطار محاربتنا للجهل ببعضنا البعض، أدعو الجامعات والمعاهد العلمية إلى إدخال مادة الفقه والعلوم الإسلامية المقارنة، حتى يتسنى للجميع معرفة الجميع في الدائرة الإسلامية، من خلال منهج علمي- موضوعي، يساهم في معرفة القناعات العميقة والثابتة لدى جميع الأطراف سواء في الأصول أو الفروع..
فالجهل يزيد الفرقة ويعمق الخلاف، بينما العلم يساهم في توطيد أركان التضامن والوحدة بين المسلمين..
فحينما نتربى جميعا على الفقه المقارن، ستزول من طريقنا الكثير من النتوءات، التي تشوه بعضنا البعض، أو توفر إمكانية نفسية واجتماعية للتوتر المذهبي.. فلننفتح على بعضنا البعض، انفتاحا علميا – منهجيا بعيدا عن ضغوطات الواقع وسجالات التاريخ..
ثالثا: الحوار الإسلامي وتفكيك الرؤية النمطية:
في إطار العلاقة الداخلية بين المسلمين، بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية والفلسفية والفكرية، ثمة مشاكل وعقبات عديدة، تحول دون تطوير هذه العلاقة، وإيصالها إلى مصاف العلاقات المتميزة على كل الأصعدة والمستويات..
ففي كل البلدان العربية والإسلامية، حيث تتواجد المذاهب الإسلامية المختلفة، والمدارس الفقهية المتعددة، هناك مشاكل وحساسيات، تعرقل مشروع التفاهم والتعاون والوحدة بين المسلمين..
مما يجعل الجفاء والتشرذم وسوء الظن وغياب التواصل الحيوي والفعال، هو سمة العلاقة الداخلية بين المسلمين في كل البلدان والمناطق.. وأقول وأدون هذا الكلام، ليس من أجل جلد الذات، أو تبرير وتسويغ الواقع القائم، وإنما من أجل التفكير في بناء مقاربة ورؤية جديدة، تساهم في تطوير العلاقة الداخلية بين المسلمين..
فليس قدرنا أن نعيش متباعدين ومتجافين، كما أن مشاكلنا سواء التاريخية أو الراهنة، ليست مستحيلة المعالجة. وإنما نحن نحتاج إلى وعي جديد وإرادة مجتمعية جديدة، تعطي الأولوية لإصلاح حقل العلاقات الإسلامية الداخلية. لأننا نعتقد أن الكثير من المشاكل والأزمات الداخلية في كل بلداننا ومناطقنا، لا يمكن التغلب عليها، بدون ترتيب البيت الداخلي للمسلمين.. فتوزع المسلمين بين مذاهب ومدارس فقهية متعددة، ليس مبررا لاستمرار القطيعة والتباعد، كما أن وجود آراء وقناعات مختلفة بين المسلمين، لا يشرع لأي طرف إعلان الخصومة والعداوة بين المسلمين..
فالباري عز وجل يقرر في كتابه الحكيم، أن طبيعة العلاقة الداخلية بين المسلمين بمختلف ألوانهم ومناطقهم ومدارسهم هو الرحمة. امتثالا لقوله تعالى [ رحماء بينهم ] (سورة الفتح الآية 29)..
فالمطلوب هو أن تكون قيمة الرحمة، هي السائدة والحاكمة في علاقة المسلمين مع بعضهم البعض. والاختلافات المذهبية أو الفكرية أو القومية بين المسلمين، ليست مبررا لتجاوز مقتضيات الرحمة..
وما يجري اليوم في العديد من البلدان بين المسلمين سنة وشيعة، حيث القتل المجاني وحروب الإلغاء والتمييز والتكفير والتضليل، لا تنسجم والدعوة القرآنية إلى أن تكون العلاقة بين المسلمين تجسيدا واقعيا لقيمة [ رحماء بينهم ]..
فليس من الرحمة قتل المختلف معك مذهبيا أو الإساءة إلى معتقداته ومقدساته، أو التعدي على حقوقه المادية والمعنوية..
إن مقتضى الرحمة هو حماية المختلف والاعتراف في حقه في الوجود والتعبير واحترام رموزه ومقدساته..
فلا يليق بأي إنسان مسلم، أن يسيء إلى أخيه المسلم، أو ينتهك حقوقه ومقدساته، مهما كانت حجم الاختلافات والتباينات..
فالاختلافات بكل مستوياتها، لا تشرع لأحد إطلاق الأحكام جزافا، أو امتهان كرامات الناس، وإنما هي تشرع لضرورة الحوار والتواصل والبحث العلمي والموضوعي في الآراء والقناعات بعيدا عن الآراء والمواقف المنمطة السابقة..
وفي سياق ضرورة العمل لتنقية الأجواء الإسلامية الداخلية، من كل الأشياء التي تعكر صفو العلاقة الإيجابية، أود التأكيد على النقاط التالية:
1- إننا كمسلمين بمختلف مذاهبنا ومدارسنا، لا يمكن أن نعيد عقارب الساعة للوراء. وأحداث التاريخ وتطوراته المختلفة، لا يمكن إعادتها مجددا، لهذا فإن إحياء هذه المشاكل، يفاقم من أزمات العلاقة الراهنة..
والمطلوب من الجميع هو بلورة وعي جديد من أحداث التاريخ..
وقوام الوعي الجديد هو قراءة أحداث التاريخ قراءة علمية وموضوعية، مع احترام تام لكل الرموز التاريخية للمسلمين. فوجود تقييمات تاريخية مختلفة بين المسلمين، لا يشرع لأي طرف الإساءة إلى رموز الطرف الآخر ومقدساته. لهذا فإننا نرفض ولاعتبارات دينية وأخلاقية وإنسانية، نهج الشتائم والسب، ونعتقد أن هذا النهج لا ينسجم وأخلاق الإسلام ومثله العليا، كما أنه لا يتناغم ومقتضيات الأخوة والشراكة.
2- في تقديرنا أن التعايش هو مصيرنا كعرب ومسلمين. وإن علينا أن نفتح عقولنا وكياننا على آفاق هذه العملية، ليس لأنها تنسجم وقيم الإسلام فحسب، بل لأنها تفاعل وانفتاح على المصير..
وهذا يعني أن نخرج من التناحر والاقتتال، وأوهام التميز و الفرادة. ونعلن بعقل ناضج ضرورة تجاوز معاناتنا الطويلة، بالوعي الكامل لتحديات راهننا وآمال مستقبلنا. فالتعايش الاجتماعي جهد متواصل ضد اللامقبول على مختلف الصعد والمستويات. وقوامه تسالم الإرادات الوطنية، وانصهار مصالحها في الكيان الاجتماعي الوطني..
3- إن البداية الفعلية للتغلب على الكثير من النوازع والغرائز، التي تميز وتفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتزرع الشقاق، وتؤكد الخصام، هي مساواة الآخر بالذات.
لهذا نجد ا التوجيهات الإسلامية، تؤكد على ضرورة أن يتم التعامل مع الآخرين، وفق القاعدة النفسية والاجتماعية، التي يتضمنها الحديث الشريف. (ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك) (9)..
من منا لا يحب أن يحترمه الناس، ويتعاملون معه بإنسانية راقية، وأخلاق حضارية.. من منا لا يشعر بالاشمئزاز، حينما لا تكون علاقة الآخرين معه سوية وسليمة، وذلك لدواعي ليست من كسبه..
إن بوابة تصحيح كل هذا الاعوجاج، يبدأ بتعاملي مع الآخرين. فإن مساواة الآخر مع الذات هو الذي يخلق النسيج الاجتماعي المتداخل والمتواصل والمنسجم في حركته وعلاقاته المتعددة..
ولا شك أن مساواة الآخر مع الذات، سيعلي من شأن القيم المشتركة، وسيجعلها حاضرة باستمرار في الوسط الاجتماعي. كما أنها تزيد من حالة الإحساس بالمسؤولية المشتركة تجاه بعضنا البعض. وكل هذه العناصر ضرورية لبناء سلم اجتماعي متراص ومستديم..
4- إن صياغة العلاقة بين مختلف المذاهب الإسلامية، على أسس جديدة، يتطلب من جميع الأطراف العمل الجاد لتفكيك الصور النمطية القائمة بين أتباع المذاهب الإسلامية تجاه بعضهم البعض.. حيث أن الصور النمطية السائدة، هي التي تعمق الحواجز النفسية بين المسلمين، وهي التي تحول دون تطوير مستوى التفاهم والتعاون بين أتباع المذاهب الإسلامية..
فالمذاهب الإسلامية ليست رأيا واحدا، أو حزبا واحدا، وإنما هي مجموعة من الاجتهادات والآراء، التي تعتمد على قيم وثوابت عليا محددة. وإن مستوى التباين على صعيد هذه القيم والثوابت العليا بين المذاهب الإسلامية محدود وضئيل.. كما أن سنة اليوم كمجتمع وحراك ثقافي واجتماعي، ليست كسنة الأمس.. وشيعة اليوم على الصعيد ذاته، ليست كشيعة الأمس.. والتعامل مع هذه العناوين وكأنها أقانيم ثابتة ونهائية، ولا يصيبها التغير والتحول، هو الذي يعمق الفجوات بين المسلمين..
لهذا كله فإننا نعتقد أن تطوير العلاقات الداخلية بين المسلمين، يتطلب العمل على تفكيك الصور النمطية المتبادلة بين المسلمين، وصياغة العلاقة على أسس الراهن وقناعات المعاصرين بعيدا عن إرث التاريخ وحقب الصدام الأعمى...
رابعا: التمسك بقضايا الأمة الكبرى والدفاع عنها:
من الضروري لاعتبارات قيمية وسياسية ومجتمعية، أن يبقى المسلمون الشيعة في كل مناطقهم ومجتمعاتهم متمسكين بقضايا الأمة الكبرى ومدافعين عنها.. صحيح أن هذا التمسك سيكلف المجتمعات الإسلامية - الشيعية الشيء الكثير، ولكن التخلي عن هذه القضايا سيكلف أكثر.. ودعوتنا إلى التمسك بقضايا الأمة الكبرى والدفاع عنها يعود للاعتبارات القيمية، حيث أن قيمنا ومبادئنا تدفعنا إلى ضرورة نصرة المظلوم والدفاع عن العدل والحرية، ولاعتبارات إستراتيجية إذ أن تخلي مجتمعاتنا عن هذه القضايا، قد يفضي خسارة الأمة الإسلامية جمعاء الشيء الكثير.. لهذا فإن من أهم محددات علاقتنا بمحيطنا الاجتماعي والوطني، هو التزامنا بقضايا الأمة الكبرى.. وكما كان فقهاؤنا وزعماؤنا عبر التاريخ مع حقوق كل الشعوب المظلومة، ومدافعين عن حقوق المحرومين وناصرين بكل ما يملكون لقضايا العدل والحرية.. نحن اليوم ومن مختلف مواقعنا ينبغي أن نكون رواد العدل والحرية، فلا نكف بكل إمكاناتنا عن محاربة الاستبداد وتفكيك حوامله، ودعوة الأمة إلى قيم العدل والحرية والحوار..
فنحن رواد الإصلاح الديني والسياسي، ومن الضروري أن نستمر في كل مجتمعاتنا في حمل مشعل الإصلاح بشقيه الديني والسياسي.. فنحن الذين عانينا في كل حقب تاريخنا من الظلم والاضطهاد والافتئات على الحقوق والكرامات، ولا يمكننا إلا أن نكون مع كل طالب حرية، ومع كل مجتمع يسعى لإنصافه ووقف الاستهتار بقيمه وبكرامته، ومع كل أمة تكافح من أجل تحرير أرضها وإنسانها من نير الاستعمار وربقته..
ومن الضروري أن ندرك أن إنهاء أزمات وجودنا، مرهون بقدرة مجتمعاتنا العربية والإسلامية على التحرر من ربقة الاستبداد، وتعزيز الحياة الدستورية والديمقراطية وقيام دولة المواطنين التي لا تفرق لاعتبارات دينية أو مذهبية أو عرقية بين مواطن وآخر..
فخلاصنا في كل مجتمعاتنا من مشكلاتنا السياسية والأمنية والاقتصادية، يعتمد على قدرتنا مع شركائنا في الوطن، على بناء دولة مدنية عادلة تستوعب جميع الأطياف وتكون تعبيرا أمينا عن مكونات شعبها ومصالحه الحيوية.. فالوقوف في وجه الدول الديكتاتورية والنضال الوطني من أجل الإصلاح والحرية والديمقراطية، هو سبيلنا لإنهاء مشاكلنا الخاصة والعامة.. فلا خلاص لنا بمعزل عن إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية العامة في مجتمعاتنا ودولنا..
من هنا فإن النخب السياسية والدينية والثقافية الشيعية في كل المجتمعات، معنية بتجسير العلاقة مع بقية النخب الوطنية، لبناء كتل وطنية تطالب بالإصلاح وتعمل من أجله.. بحيث تكون المشاكل الخاصة بالشيعة هي جزء من الأجندة الوطنية العامة.. فالشراكة هي خيارنا، والتفاعل الإيجابي مع محيطنا، هو سبيلنا من أجل كسر حاجز العزلة والانطواء والتمترسات الطائفية.. فنحن لن ننصف في كل مجتمعاتنا ودولنا إلا بتسويد قيم العدالة والحرية والكرامة، ولن ننهي معاناتنا المركبة إلا بدولة المواطنين جميعا بدون تحيز أو افتئات على أحد..
ولا يمكن أن نواجه المعادلات الطائفية القائمة في أغلب البلدان العربية والإسلامية، بالانخراط فيها والخضوع إلى مقتضياتها، لأن هذا الانخراط سيمد المعادلات الطائفية بدماء ومبررات ومسوغات جديدة.. فمواجهة المعادلات الطائفية لا تتم إلا بالانخراط الفعال في بناء حقائق مضادة لهذه المعادلات في الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي.. وهذا يتطلب منا العمل في الاتجاهات التالية:
1- رفع الغطاء الديني والاجتماعي عن كل الممارسات الطائفية، التي تغذي نزعات الكراهية بين الناس لاعتبارات مذهبية..
2- القيام بمبادرات حوارية ووحدوية تتجه لتجسير العلاقة بين مختلف المكونات والتعبيرات..
3- زيادة وتيرة التلاقي والتواصل بين النخب الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية، لمحاصرة نزعات التطرف والمفاصلة الشعورية بين المسلمين..
4- بناء المؤسسات الإعلامية والدينية التي تعطي أولوية لوحدة المسلمين، وصياغة العلاقة بين المسلمين على أسس الحوار وتوسيع المساحات المشتركة وصيانة حقوق الإنسان..
خامسا: تعزيز خطاب الاعتدال في الأمة:
ثمة ضرورات ومؤشرات عديدة، تدفعنا إلى الاعتقاد أن المنطقة والظروف الحساسة التي تمر بها، وطبيعة التحديات والمشاكل التي تواجهنا، كل هذا يدفعنا إلى الاعتقاد أن هذه المنطقة بحاجة إلى مبادرات نوعية من أهلها، تستهدف فضح الإرهابيين ورفع الغطاء الديني عنهم، وبناء حقائق وخطاب إسلامي جديد قوامه الاعتدال والوسطية واحترام المكاسب الإنسانية والحضارية. وخطاب الاعتدال، لا يمكن تعزيزه، وتعميق موجباته في الفضاء الاجتماعي، بدون الحرية. فطريق الاعتدال الحقيقي، هو في توسيع دائرة الحرية والحريات. فهي الوسيلة الحضارية الكبرى لتجذير مفهوم الاعتدال في الوسط الاجتماعي والوطني.
وكل الممارسات الخاصة والعامة، المناقضة لمفهوم الحرية، هي ممارسات مناقضة لمفهوم تعزيز الاعتدال في الفضاء الاجتماعي. فالعلاقة عميقة بين مفهومي الاعتدال والحرية.
فالحريات بطبعها إذا توفرت في البيئة الاجتماعية، فإنها تدفع الناس إلى المزيد من الوسطية والاعتدال. كما أن الاعتدال سيكرس الممارسة السليمة لقيم ومتطلبات الحرية.
والمجتمع الذي يبحث عن الحرية، لا يمكن تحقيقها، بتبني خطاب الغلو والتطرف والتعصب. لأن هذا الخطاب يباعد على المستوى النفسي والعملي بين المجتمع والحرية.
والمؤسسة السياسية التي تبحث عن الاعتدال، بوسائل القهر والعنف، فإنها لن تحقق إلا المزيد من الغلظة والشدة والعنف.
لهذا فإننا نستطيع القول: أن الطريق الحيوي لتعزيز خطاب الاعتدال في الوطن، هو توسيع دائرة الحرية والحريات، والمزيد من الإجراءات والمبادرات التي تصون حقوق الإنسان وتحول دون امتهان كرامته.
ومشكلات الحرية بكل مستوياتها، لا تعالج بإفنائها أو تقليص مساحتها، وإنما بحمايتها، وتعزيز مقتضياتها بالقانون. وبهذا نصل إلى معادلة واضحة لعملية تفكيك جذور خطاب وحقائق التطرف والتعصب، وبناء حقائق التسامح والاعتدال. وهي [الحرية – الاعتدال – سيادة القانون].
فهذه هي العناصر الجوهرية لصياغة الفضاء الاجتماعي، بعيدا عن كل أشكال الغلو والتعصب ونزعات الفوضى والخروج على النظام.
فالحرية هي طريق الاعتدال، ولا حماية لهما إلا بسيادة القانون الذي يمارس دور الحماية والردع في آن.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن المنطقة تعيش اليوم مرحلة النتائج والتداعيات الخطيرة لخطاب ديني متطرف، وإلغائي، ويعمل على طمس معالم الاعتدال والتعايش السلمي في المنطقة.
لذلك فإن الحاجة ماسة اليوم، لبلورة استراتيجية وطنية وإسلامية جديدة، تتبنى قيم الاعتدال والتسامح وحقوق الإنسان، وتتكيف مع مقتضيات العصر، بحيث تتحول القيم الدينية إلى قيم دافعة إلى البناء والتنمية والتعايش.
ويعاني المجال الإسلامي في هذه اللحظة التاريخية الحساسة الكثير من عناصر التوتر المذهبي والتطرف الديني. بحيث أصبحنا نعاني في الكثير من البلدان والمناطق من ظاهرة التوتر المذهبي أو القومي أو العرقي أو السياسي المفتوح على احتمالات خطيرة تهدد الجميع في حاضرهم ومستقبلهم. لهذا ومن أجل وقف الانحدار إلى الصراعات والتوترات المذهبية والداخلية، نحن بحاجة إلى مبادرات وطنية وقومية وإسلامية تحول دون المزيد من الانحدار على هذا الصعيد وتعمل عبر وسائل ومنهجيات مختلفة من أجل إشاعة وتعميم ثقافة الاعتدال ومنهج العمل والفكر الوسطي بدون غلو أو تنطع. ونحن نعتقد أن المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، تتحمل مسؤولية عظيمة في هذا السياق، وتمتلك القدرة الفعلية للمساهمة في توجيه الرأي العام باتجاه هذه القضايا والمتطلبات، التي تضبط نزعات التطرف والتوتر الداخلي في العديد من البلدان العربية والإسلامية.
وفي هذا السياق نقدم مجموعة من التصورات والمقترحات التي تساهم في تقديرنا في تعزيز خطاب وواقع الاعتدال في الوطن والأمة في مختلف المجالات والحقول.
1- نشعر بأهمية أن تقود المؤسسات الثقافية والإعلامية حملة إعلامية لتعزيز خيار الاعتدال والوسطية في الوطن والأمة، لتعريف أبناء الوطن بأسس وآفاق الاعتدال والوسطية. وكلنا ثقة أن تبني حملة ثقافية وإعلامية مدروسة وموضوعية من قبل المؤسسات الوطنية والإسلامية لتعزيز خيار الاعتدال ونبذ ثقافة الكراهية والتطرف سيؤتي ثماره وسينعكس بشكل إيجابي على حاضر ومستقبل الوطن والأمة في العديد من الميادين والحقول.
2- تأسيس منتدى وطني للاعتدال والوسطية، ومهمة هذا المنتدى عقد الندوات والمحاضرات، والتعريف بالكتب والإصدارات التي تنسجم وخطاب الاعتدال، والعمل الثقافي الذي يتجه إلى معالجة الإشكاليات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تحول دون بروز خيار الاعتدال والوسطية بشكل مؤسسي في الوطن والأمة.
3- الدعوة إلى تأسيس ميثاق إعلامي ينبذ العنف ويمنع بث كل المواد الإعلامية التي تحض وتحث على الكراهية بكل أشكالها، وتدعو إلى التسامح واحترام حقوق الإنسان والاعتدال والوسطية. وإننا اليوم نعتقد وبشكل عميق أهمية أن يسعى الإعلام الحر لإنتاج صيغ احتضان ورعاية لكل المناشط والمبادرات والتوجهات التي تعتبر معتدلة، وتدعو إلى التعايش ونبذ الكراهية والعنف.
وإن حاجة أمتنا اليوم إلى خطاب الاعتدال، ليس حاجة ترفية، بل من الحاجات الضرورية التي تساهم في حفظ وصيانة المكتسبات الحضارية، وتوفير البيئة الملائمة لمواجهة الكثير من التحديات والصعوبات التي تستهدف أمتنا في حاضرها ومستقبلها.
ويحدونا الأمل باتجاه أن تتبنى المؤسسات الثقافية والإعلامية الوطنية هذه المسألة، وتقود الحملة الإعلامية والتثقيفية لتأكيد خيار الاعتدال والوسطية في الوطن والأمة.
والاعتدال الذي نقصده، لا يعنى بأي حال من الأحوال التخلي عن ثوابت الدين والوطن، وإنما يعني قراءة هذه الثوابت بعيدا عن الغلو والتطرف..
وبالتالي فالمطلوب على هذا الصعيد، هو تظهير قيم الاعتدال والوسطية ونسج العلاقات الإيجابية بين مختلف الأمم والشعوب والثقافات والحضارات. وهذا التظهير ليس خاصا بحقل دون آخر، وإنما جميع حقول المجتمع ودوائره المتعددة، معنية بشكل أساسي بتظهير قيم الاعتدال والوسطية في المجتمع..
ولا يكفي في هذا السياق، أن نعلن الخطاب المتطرف والمغالي والمتشدد، وإنما ينبغي أن يسند مشروع تفكيك وفضح الخطاب المتطرف، بصياغة خطاب معتدل، وسطي، متوازن، ويبني حقائقه ووقائعه في الساحتين الثقافية والاجتماعية..
فالمطلوب اليوم على الصعيد الوطني، وفي ظل هذه الظروف الحساسة والتحديات الصعبة، العمل على صياغة خطاب وطني وسطي يفكك نزعات التطرف والغلو، كما يبني حقائق الاعتدال والتسامح في الفضاء الاجتماعي..
وفي سياق الاهتمام والدعوة إلى ضرورة الانفتاح والتواصل بين المسلمين جميعا بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية والكلامية، نود التأكيد على النقاط التالية:
1- إننا ندعو المجتمعات الإسلامية – الشيعية إلى الانفتاح والتواصل والتلاقي والتفاهم مع المسلمين الشيعة من غير الإمامية وهم الشيعة الزيدية والشيعة الإسماعيلية.. فالجميع له مصلحة في عملية التفاهم والانفتاح والتواصل، ومن الضروري أن نشجع وندعم كل خطوة ومبادرة، تستهدف تجسير العلاقة بين المسلمين بكل مذاهبهم..
وفي هذا الإطار نقترح الخطوات التالية:
• تبادل الزيارات واللقاءات بين النخب العلمية والاجتماعية والثقافية، لزيادة الأواصر وكسر حاجز الجهل المتبادل..
• التعاون في المشروعات الوطنية المشتركة كصيانة حقوق الإنسان والدفاع عن الانتهاكات التي تتعرض إليها بعض المجتمعات لدواعي مذهبية..
• تظهير المساحات المشتركة وتنشئة الأجيال الطالعة على هذه الحقائق ومقتضياتها المتنوعة..
• بناء تفاهمات راهنة على قضايا حيوية، تهم جميع الأطراف ضمن الأطر الوطنية أو الإسلامية العامة..
وهذه الرؤية في الانفتاح وضرورة التواصل مع بقية المسلمين الشيعة من غير الإمامية، تنطبق أيضا على العلويين المتواجدين في تركيا وسوريا ولبنان.. فالحاجة اليوم ماسة لإعادة الاهتمام بهذا الوجود، والذي أرسى دعائم الاهتمام بهم سماحة المرجع الديني الراحل السيد محسن الحكيم والشيخ حبيب آل إبراهيم والسيد حسن الشيرازي.. فهم جزء من أمتنا ومجتمعاتنا ولا ينبغي أن تستمر حالة الجفاء أو القطيعة أو اللا اهتمام.. وإن هذا التواصل لا يستهدف أن ينتقل أحد الأطراف من موقع مذهبي إلى آخر، وإنما يستهدف تعزيز حالة التعارف بين جميع هذه التعبيرات وتعميق أواصر العلاقة والتعاون وإفشال كل المخططات التي تستهدف إدامة حالة الفرقة والتشظي المذهبي في الأمة..
والمدرسة الإمامية كما أرسى دعائمها وركائزها أئمة أهل البيت (ع) تتحرك وتعمل على صعد الحياة المختلفة وقلبها وعقلها على الأمة جمعاء.. فهي مدرسة رائدة في الأمة الإسلامية، ولا يمكن للمدرسة الرائدة مهما كانت الظروف والتحديات، أن تقبل لنفسها الانكفاء والانطواء والانحباس في أطر مذهبية ضيقة.. فنحن نعتز بانتماءنا لمدرسة أهل البيت (ع)، ولكن هذا الاعتزاز لا يدفعنا إلى الانكفاء، وإنما إلى الانفتاح على قضايا الأمة المختلفة والالتزام بمسائلها الكبرى.. فالتشيع مدرسة الحرية والكرامة والعزة ومن يحمل هذه القيم، لا يمكن أن يقبل لنفسه أو مجتمعه الانزواء والانكفاء، وإنما الانفتاح والتواصل.. وهذا لا يعني الميوعة في الالتزام بثوابت المدرسة ومقدساتها، وإنما يعني العمل على التعريف بأسس هذه المدرسة في إطار من الفهم والتلاقي والتواصل.. فليس لنا مصلحة في أن نعيش في ظل بيئة اجتماعية متوترة تجاهنا، وسعينا للعمل على تفكيك ظاهرة التوتر تجاهنا، لا يعني بأي حال من الأحوال التضحية بالثوابت..
سادسا: بناء العلاقة على أساس المواطنة:
المواطنة في جوهرها وحقيقتها العميقة، ليست هي العلاقة العاطفية و الوجدانية التي تربط الإنسان بمسقط رأسه، وإنما هي مشاركة متكاملة، وتكافؤ دائم في الحقوق و الواجبات، و علاقات اجتماعية وثقافية ودستورية متكاملة، تفرض حقوقا متبادلة بين جميع أطراف الوطن والمواطنين. والمجتمعات الإنسانية اليوم، لا تختلف عن بعضها البعض، في علاقتها الوجدانية والعاطفية بأوطانها. إذن كل الأمم والمجتمعات، تحب أوطانها، وتربط أبناء هذه المجتمعات بأرضها وتاريخها وشخوصها علاقات وجدانية وعاطفية. إنما المجتمعات الإنسانية تختلف وتتمايز عن بعضها البعض في مدى تحقق معنى المواطنة في أبعادها الدستورية والسياسية والحقوقية..
فالمجتمعات المتقدمة، هي تلك المجتمعات التي ترتبط ببعضها البعض على الصعيد الداخلي برباط المواطنة، الذي يحدد الحقوق والواجبات، ويفرض أنماطا للعلاقة لا يمكن تجاوز مقتضياتها ومتطلباتها. أما المجتمعات المتخلفة والمتأخرة حضاريا، فهي التي لازال نظام العلاقة الداخلي فيها، يستند إلى عناوين ويافطات ما قبل المواطنة والدولة الدستورية الحديثة.
لذلك تكثر في هذه المجتمعات عناوين الانتماء التقليدية، التي تحبس الجميع، وتحول دون بناء وحدتهم وتضامنهم على قاعدة حقوق المواطنة وواجباتها. من هنا ومن أجل بناء مجتمعاتنا العربية والإسلامية على أسس تحفظ حقوقها من الجميع، وتصون الخصوصيات الثقافية واللغوية الموجودة في الفضائين العربي والإسلامي، من المهم أن تبادر المؤسسات والمعاهد العلمية والفقهية إلى إنضاج رؤيتها تجاه مفهوم المواطنة، والعمل على بناء العلاقات الداخلية في المجتمع الواحد على أساس المواطنة. وإننا نعتقد أن انفتاح الفقه الإسلامي بعدته العلمية وثروته القانونية ومرجعيته المعرفية، سيساهم في إثراء مفهوم المواطنة ثقافيا وقانونيا، وسيوفر الأرضية النظرية المناسبة للخروج من الكثير المآزق والتوترات التي تسود بين مكونات المجتمع الواحد..
فالمواطنة بما تتضمن من واجبات وحقوق متساوية بين جميع أبناء الوطن الواحد، هي خشبة الخلاص من الكثير من التوترات التي تسود اليوم في العلاقة بين المكونات المتعددة التي يحتضنها الوطن الواحد.
فالأوطان الواحدة، لا تتشكل من كانتونات دينية أو مذهبية أو قومية متحاجزة ومنفصلة عن بعضها البعض، وإنما من وطن ومجتمع واحد، يحتضن كل التنوعات والتعدديات، ويحترم وفق إجراءات قانونية ودستورية كل الخصوصيات الثقافية، ولكن دون الانحباس فيها.. بمعنى أن العلاقة التي تربط الدولة بمواطنيها، علاقة قائمة على قاعدة المواطنة، وليس على قاعدة الانتماءات الدينية أو المذهبية أو القومية. كما أن علاقة أبناء المجتمع والوطن الواحد، لا تستند إلى الانتماءات التقليدية للمواطنين، وإنما للعقد الجديد الذي يربط أبناء المجتمع الواحد، والذي يتجلى في مفهوم المواطنة..
ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر المغربي (طه عبد الرحمن) بقوله "إن هذا المفهوم (المواطنة) اقترن بالفصل بين دائرتين من دوائر الحياة و هما: الدائرة العامة والدائرة الخاصة، ويدخل في دائرة الحياة العامة ـ كما هو معلوم ـ كل المعايير والقوانين والمؤسسات التي تتوسل بها الدولة في تنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، حفظا للصالح العام، في حين يدخل في دائرة الحياة الخاصة كل ما اختص به الأفراد من حريات وحقوق لا تشملها سلطة القانون ولا تخضع لنظام المجتمع. والمواطنة تتحدد في سياق نظرية مخصوصة في العدل قائمة على هذا الفصل الحداثي بين الدائرتين.إذ تقتضي هذه النظرية بأن يتمتع أفراد المجتمع الحداثي بحق المساواة في وضعهم القانوني بما يمكنهم من النهوض بواجب المشاركة في تدبير الحياة العامة، بصرف النظر عن اختلافاتهم في الاختيارات والانتماءات التي تعد جزءا من الحياة الخاصة" (10)..
وخلاصة القول: إن المطلوب اليوم هو العمل على تظهير مفهوم المواطنة وبناء المواطن على أسس الحرية والعدالة والمساواة..
من هنا تكمن أهمية أن تبادر المؤسسات التعليمية والتربوية، لصياغة إستراتيجية تربوية وتعليمية متكاملة، تستهدف تربية الأجيال الصاعدة في الوطن وفق مقتضيات ومتطلبات المواطنة.. وذلك لأن المواطنة أبعد في آفاقها وحقائقها الجوهرية، من العلاقة الوجدانية التي تربط الإنسان بأرضه. لذلك فإن غرس مفاهيم وحقائق المواطنة، بحاجة إلى استراتيجية تربوية متكاملة، تتحمل المؤسسات التعليمية مسؤولية أساسية في هذا السبيل. والتربية الوطنية على حد تعبير (ناصيف نصار) هي التربية التي تعنى بتنمية الشعور الوطني وحب الوطن والاعتزاز به، وبتغذية الولاء الوطني في نفوس أفراد الجماعة الوطنية وفئاتها. ولكنها في الواقع تحمل، بالإضافة إلى هذا المعنى الضيق، معنى واسعا شاملا، حيث تدل على التربية التي تتم على مستوى الوطن، بإشراف الدولة الوطنية، وتشمل كل النشاطات التربوية والتعليمية، وتتفاعل مع ظروف الوطن وحاجاته وتراثه وتطلعاته وأنظمته، وتحمل معنى وسطا، حيث تدل على مجموعة مواد ونشاطات من شأنها أن تغذي الوعي الوطني والالتزام الوطني والعمل الوطني بطبيعة مضمونها. وعليه فإن الإستراتيجية التربوية الوطنية، تستهدف تشكيل المواطن وتنمية قدراته ومواهبه، لكي يصبح مواطنا مشاركا وفاعلا في قضايا مجتمعه ووطنه.
ومن الأهمية بمكان وعلى جميع الصعد والمستويات، أن لا تدفعنا اختلافاتنا الفكرية والسياسية إلى القطيعة والجفاء والتباعد، وإنما ينبغي أن تكون هذه الاختلافات مدعاة إلى الحوارات العميقة، لا لكي نتنقل في قناعاتنا، وإنما من أجل أن نتعرف على وجهات نظر بعضنا البعض، ومن أجل إزالة الاحتقانات النفسية المصاحبة للاختلافات الفكرية والسياسية، ولكي يتم تنشيط دور الجوامع المشتركة بين الجميع، بحيث الاختلافات لا تلغي المشتركات وتحول دون ممارسة دورها ووظيفتها في الحوار والتعاون والتضامن..
وإن ما نشهده من أحداث وتطورات في العديد من مناطق المجال الإسلامي، تدفعنا وتلزمنا إلى ضرورة التأكيد على قيمة الحوار بين مختلف مكونات الأمة ومؤسساتها المتعددة. لذلك فإننا ينبغي أن نتعامل مع مفهوم الحوار باعتباره خيارنا الوحيد لتعميق مشروع التفاهم والتعايش. فالحوار هو طريق إجلاء الحقائق والوصول إلى صيغ لتفعيل المشترك الوطني والإسلامي والإنساني، وسبيلنا للحفاظ على مكتسبات الأمة والوطن. لقد عانت شعوبنا الويلات وما زالت تعاني من جراء التعصب وسوء الظن والعقلية المتحجرة التي تساوي بين أفكارها ومشروعاتها وبين الحق والحقيقة.
والدرس العميق الذي ينبغي أن نستفيده من تجارب العديد من المجالات العربية والإسلامية، التي عانت وما زال بعضها يعاني من العنف و التطرف والقتل المجاني والحروب العبثية هو: أن الحوار بكل مستوياته، هو مشروعنا لصون الحرمات، وإدارة التنوعات والاختلافات.
و بالحوار في دوائر الوطن والأمة، يتكامل منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولا إلى تأسيس دينامية اجتماعية جديدة، تتجه صوب التطلعات الكبرى للوطن والأمة..
خامسا: ثقافة سياسية جديدة:
عديدة هي الدوافع والمعطيات التي تدفعنا إلى القول: أن هناك ضرورات ذاتية وموضوعية قصوى لتنمية ثقافة سياسية - ديمقراطية جديدة في المجالين العربي والإسلامي، تتجاوز كل عناصر التخلف والانحطاط والاستبداد العالقة في الثقافة السياسية السائدة.
وذلك لأنه لا يمكن الخروج من مآزق الراهن والتفاعل الإيجابي مع مكاسب الحضارة، بدون ممارسة قطيعة معرفية وسياسية مع ثقافة التخلف والاستبداد وتقاليدهما. وذلك لأنها هي المسئولة عن عرقلة الكثير من مشروعات التقدم والحرية في الأمة.
فالاستبداد السياسي الجاثم على صدر الأمة، هو الذي يعرقل انطلاقتها الحضارية الجديدة، وهو الذي يكبل الأمة بالمزيد من الكوابح التي تحول دون التقدم والتطور السياسي والحقوقي والحضاري. من هنا تتشكل الحاجة الماسة إلى تفكيك ثقافة الاستبداد والديكتاتورية في الفضاء الثقافي والسياسي العربي، وبناء فكر وثقافة سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وصيانتها.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن المسئول الأول عن إخفاقات الأمة المتتالية في كل حقول الحياة، هو الاستبداد والاستئثار بالرأي والقرار والاستفراد بالسلطة.
وذلك لأن الاستبداد بمتوالياته العديدة والخطيرة، هو الذي يؤسس للفشل والإخفاق، ويشرع للهزيمة والانكسار. فحيثما كان هناك استبداد سياسي، توافرت كل موجبات الإخفاق والهزيمة. بل لا يكتفي فعل الاستبداد بذلك، بل يحاول إسقاط كل عناصر القوة في الأمة، وذلك من أجل ضمان ديمومة استبداده واستمرار ديكتاتوريته.
لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع التقدم في المجالين العربي والإسلامي، هو نبذ الاستبداد وتفكيك ثقافته وموجباته، ودحر مبرراته، ومقاومة رجاله ومؤسساته. وبدون إزالة الاستبداد السياسي، ستبقى كل التطلعات مجردة، وكل الأعمال والأنشطة بدون أفق حقيقي.
من هنا ينبغي أن تتجه كل الجهود والطاقات لمقاومة الاستبداد، وإرساء معالم وحقائق سياسية - اجتماعية جديدة تستند إلى قيم الديمقراطية والشورى والتداول السلمي للسلطة. وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تتجه إلى صياغة العقول وبناء الحقائق على هدي هذه الأسس والمرتكزات.
فالاستبداد هو أم الرذائل كلها، ولا خيار أمامنا إذا أردنا الأمن والتنمية والاستقرار، إلا التحول نحو الديمقراطية وبناء أنظمتنا السياسية والتربوية والثقافية على أسس الديمقراطية والمشاركة وحقوق الإنسان.
فالاستبداد بمتوالياته وتأثيراته المتواصلة، هو الذي أوصل العديد من المناطق والدول في المجالين العربي والإسلامي إلى دوامة العنف والقتل المجاني. وذلك لأنه (الاستبداد) هو الذي يغذي مصادر العنف وينشط حركة الصراع السلبي في المجتمع. وهو الذي يشرع في كل الأحوال إلى ممارسة القهر والقوة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية. فالاستقرار لا يتحقق بالإرغام والإكراه المتعسف، بل بالرضا والمشاركة والتوزيع العادل للثروات وتكافؤ الفرص.
و"الاستبداد أو الطغيان (Tyranny) يمكن تعريفه على أنه ذلك الإكراه الذي تمارسه سلطة ليس لها الحق في استعمال القوة، أو حتى سلطة شرعية تتجاوز القيود والحدود في استعمالها. والإرغام (أو الإكراه) الذي (قد) تمارسه السلطة المستبدة هو عادة إرغام يمكن تجنبه (أو تجنب القسط الكبير منه) من ناحية، ويتعذر التنبؤ به (في أغلب الأحيان) من ناحية أخرى. أما ضحيته الأولى فواضحة وجلية: الفرد وحريته. ومن الشرور البارزة لهذا الإكراه الاستبدادي أنه يلغي الفرد كشخص مفكر ومقيم ويجعله مجرد أداة لتحقيق أهداف الآخرين. فهو مرغم على التصرف وفق خطة حياة ليست له. وعلى خدمة أهداف لا تخصه. والاستبداد، دون أدنى شك، من الممارسات الملازمة لأي نظام ديكتاتوري أو قل، لأي نظام حكم مطلق" (11)..
والاستبداد كثقافة وممارسة لا تتوقف فقط عند طبيعة وآليات صنع القرار السياسي وتسيير شؤون الدولة الكبرى، بل هي تتسرب إلى كل الحياة والتفاصيل. بحيث يكون الطابع الاستبدادي هو المسيطر على مختلف شؤون المجتمع وقضايا الوطن. وحاجتنا الطبيعية والإنسانية إلى الانضباط والنظام والوحدة، ينبغي ألا تقودنا إلى ممارسة الكبت والاستبداد.
وذلك لأن هذه الممارسات لا تؤدي إلى الغاية المنشودة، بل على العكس من ذلك تماماً. حيث إن الكبت لا يصنع انضباطاً، والاستبداد لا يخلق وحدة، بل تشتتا وتداعياً مستمراً. فالاستبداد ليس هو الحل العبقري والحضاري لتلبية حاجات الإنسان المتعددة. بل هو حل العاجزين والجاهلين لسنن الاجتماع الإنساني.
و"إن الدول الاستبدادية التي تبدو قوية للمراقبين في الخارج، كما بدا الاتحاد السوفيتي، وكما تبدو الصين نسبياً حتى الآن، هي في واقع الأمر دول ضعيفة من الداخل لا تجرؤ على الخيار الديمقراطي وعلى حمل جنين الديمقراطية في جوفها الضعيف والمريض. أما الدول القوية، فعلى ما نسمع عنها من مشكلات داخلية، فهي التي تواصل المسار الديمقراطي على رغم تلك المشكلات الداخلية، بل تحلها بالديمقراطية". (12)
حاجتنا إلى ثقافة سياسية جديدة:
من المهم القول: إن عملية تأسيس ثقافة سياسية جديدة وبنائها، تتجاوز رواسب الانحطاط وموروثات الاستبداد السياسي، ترتبط بطبيعة الهدف أو الأهداف المتوخاة من هذه العملية. وعليه فإن الغاية المتوخاة من الثقافة السياسية الجديدة، هي إشاعة النمط الديمقراطي في الحياة العامة للعرب والمسلمين. بحيث تكون الديمقراطية كثقافة وآليات ووسائل ونظم، هي السائدة في الحياة السياسية وإدارة شؤون الدولة والسلطة، كما هي جزء حيوي في النسيج الاجتماعي والثقافي.
فالثقافة السياسية الجديدة التي ننشدها ونتطلع إليها، هي تلك الثقافة التي تعزز التطور الديمقراطي والحقوقي في مجتمعاتنا، وتحول دون بروز السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية المفضية والمؤسسة إلى الديكتاتورية والاستبداد.
إننا بحاجة إلى ثقافة سياسية تعزز الخيار الديمقراطي في صفوف المجتمع، وتعمل على تهيئة المناخ لرفض كل محاولات تكميم الأفواه والعودة بالمجتمع إلى الأنظمة الشمولية التي تلغي الإنسان وحقوقه، وتحارب كل محاولاته للتحرر والانعتاق من ربقة الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي.
ومحاولات الأنظمة الشمولية في رفع شعارات تقدمية لتعبئة المجتمع باتجاهها، دون خطوات عملية تترجم هذه المحاولات، أضحت عملية مكشوفة، ولا تثمر إلا المزيد من التوتر والاحتقان. لذلك فإن حاجتنا إلى ثقافة سياسية جديدة، تتكثف في النقاط التالية:
1- بناء الوعي الاجتماعي والسياسي على أسس العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتجاوز كل أشكال الوعي الاجتماعي والسياسي المشوه، الذي يبرر استخدام القهر ويسوغ ممارسة الاستبداد ويقبل بتأجيل مشروع حقوق الإنسان وامتهان كرامته.
إننا لا نبالغ حين القول: إن الذي ساعد بشكل مباشر في تغول الأنظمة الاستبدادية - الشمولية في العديد من دولنا ومجتمعاتنا، هو الوعي الاجتماعي والسياسي المشوه، الذي لم يتعامل بفعالية وصدق مع مشروع الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن هذا الوعي الممسوخ الذي يرحب بالاستبداد السياسي ما دامت السلطة في يده، ويتجاوز عن كثير من الانتهاكات التي تتعرض لها الحريات السياسية وحقوق الإنسان، هو أحد المسئولين المباشرين عن تردي أوضاعنا وتدهور استقرارنا السياسي.
وحاجتنا إلى الثقافة السياسية الجديدة، تنبع من حاجتنا إلى بناء وعي اجتماعي وسياسي جديد، يمارس القطيعة بكل مستوياتها مع الديكتاتورية والاستبداد وكل مسوغات تعطيل مشروع الحريات السياسية والديمقراطية الشاملة. ويبني هذا الوعي الجديد حقائق العدالة والمساواة وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة واحترام حق التعبير والاختلاف، وصياغة واقعنا كله وفق مقتضيات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
2- إن الديمقراطية كبنية وآلية وممارسة، ترتكز على مفهوم المشاركة السياسية. إذ لا يمكن أن تبنى الديمقراطية في أي بيئة اجتماعية، بدون مشاركة سياسية - مجتمعية فاعلة.
إذ إن مستوى المشاركة هو الذي يحدد مستوى الديمقراطية، كما أن توسع دائرة المشاركة السياسية في الفضاء الاجتماعي، هو أحد التعبيرات المهمة على الوعي الديمقراطي في المجتمع.
لذلك كله فإننا بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تدفع المجتمع وتحفزه بكل فئاته وشرائحه وأجياله إلى المشاركة السياسية وشؤون إدارة الشأن العام. من هنا فإن حاجتنا إلى الثقافة السياسية الجديدة، بمستوى حاجتنا إلى الديمقراطية والحريات السياسية. وذلك لأنه لا يمكن انجاز ديمقراطية في بنائنا الاجتماعي والسياسي من دون مشاركة الناس.
ووسيلتنا الحضارية لتحفيز الناس للمشاركة في هذا المضمار، هو خلق ثقافة سياسية جديدة، تدفعهم بشكل ذاتي - دينامي إلى تحمل المسؤولية العامة والمشاركة بحيوية وفعالية في الشأن السياسي العام.
"والثقافة السياسية الجديدة التي تفترضها استراتيجية الانتقال الديمقراطي هي - باختصار - الثقافة التي تحمل النزعة النسبية في وعي السياسة والمجال السياسي محل النزعة الشمولية (أي التوتاليتارية)، وتحمل التوافق والتراضي، والتعاقد، والتنازل المتبادل، محل قواعد التسلط، والاحتكار، والإلغاء.... إلخ، فتفتح المجال السياسي - بذلك - أمام المشاركة الطبيعية للجميع. وتفتح معه السلطة أمام إرادة التداول السلمي عليها. هذا يعني أن في قاع هذه الثقافة السياسية النظري مفهوماً مركزياً تأسيسياً للسياسة والسلطة: إنهما - معا بحسبها - ملكية عمومية للمجتمع برمته يلتقي معها أي سلم معياري تتوزع بموجبه أقساط ومستحقات السياسية والسلطة على قواعد الامتياز أو الأفضلية أو ما في معناها من أسباب السطو على الرأسمال الجماعي السياسي.
وغني عن البيان أن مفهوم السياسة والسلطة، بهذا المعنى، يعيد تعريف الشرعية السياسية بوصفها تلك التي تتحصل برضا الشعب وحرية اختياره، من حيث هو مصدر السلطة والتشريع في النظام المدني الحديث، وليس بوصفها حاصل امتياز ما: عرقي، أو فئوي، أو ثيولوجي، أو أيدلوجي... إلخ". (13).
3- إن كثيراً من التناقضات والتوترات السياسية والاجتماعية الداخلية، لا يمكن معالجتها بدون ثقافة سياسية جديدة، تؤسس لنمط جديد من العلاقة والتواصل بين مكونات المجتمع وقواه قوامها التسامح والحرية وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان. فكثير من مشكلات الداخل في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى رؤية وحلول جديدة، تتجاوز النمط التقليدي في معالجة هذه المشكلات. فأزمات السلطة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته المتعددة وطبيعة الموقف من التعدد والتنوع المذهبي والقومي والعرقي المتوافر في العديد من المجتمعات، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تعيد صياغة العلاقة على أسس جديدة بين السلطة والمجتمع، كما أنه لا يمكن تجاوز معضلات التمييز الطائفي والعرقي والقومي، بدون ثقافة سياسية، تعيد إلى التنوع كينونته ومتطلباته، وترسي دعائم المواطنة وأسس الوحدة وفق رؤية وثقافة لا تلغي الخصوصيات الثقافية لكل فئة أو شريحة في المجتمع والوطن، دون أن تشرع إلى الانكفاء والإنحباس في الذات.
من هنا فإن إعادة بناء أسس الثقافة السياسية في المجالين العربي والإسلامي، وبناء أنماط جديدة للعلاقة بين مختلف مكونات المجتمع والوطن على أسس الحرية والعدالة من المداخل والروافد الأساسية لبناء واقع ديمقراطي وسياسي جديد.
فالثقافة السياسية الجديدة، هي الإطار الضروري لتمكين أفراد المجتمع من ممارسة وظائفهم العامة والقيام بمسؤولياتهم السياسية وتنظيم العلاقات بين تنوعات المجتمع تنظيماً حضارياً وبعيداً عن الصراعات والحروب المفتوحة.
4- إن الإصلاح السياسي الذي تتطلع إليه الشعوب العربية والإسلامية اليوم، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تبلور تطلعات الإصلاح السياسي، وتنضج المضامين السياسية والمجتمعية لعملية الإصلاح السياسي. وبالتالي فإن الثقافة السياسية المنشودة هي التي تساهم في إنضاج الشروط الاجتماعية والثقافية والسياسية للانخراط في مشروع الإصلاح السياسي.
فالقطع المعرفي والعملي مع حقائق التسلط والهيمنة وموجبات احتكار السلطة والقرار والرأي وانتهاك حقوق المواطنين وإرادتهم، بحاجة إلى رؤية سياسية جديدة وثقافة مجتمعية ودستورية، تأخذ على عاتقها بلورة برنامج وطني متكامل للإنعتاق من كل أشكال الاستبداد السياسي وموجباته، والانخراط الفعلي في بناء حياة سياسية جديدة للمجالين العربي والإسلامي على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إننا في العالم العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى ثقافة سياسية تعيد تنظيم أولوياتنا السياسية وتصيغ علاقات مكوناتنا بعضها مع بعض على أسس الحرية والعدالة، وتولي اهتماماً خاصاً وحيوياً لمسائل التنمية والتعايش الأهلي والمواطنة الدستورية، وتدعم سياق التحديث السياسي القيمي والمؤسسي الذي يتطلب القبول القانوني بالتعددية وتشكيل الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية والتشكيلات النقابية وضمان المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين.
وبكلمة: إننا بحاجة إلى ثقافة سياسية تنسجم ومتطلبات الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية وقيم الحوار والتسامح وحقوق الإنسان.
إننا بهذه العناصر والقيم الأساسية، نتمكن من تجديد حياتنا السياسية وتجاوز تحديات المرحلة والانطلاق من إمكانات الواقع وممكناته لبناء واقعنا الوطني على هدى هذه القيم ومقتضياتها الثقافية والمؤسسية.
سادسا: الإعلام الفضائي الديني.. رؤية في السياسات والمهام:
ثمة حقيقة شاخصة اليوم في المشهد العالمي، وهي أن العالم من أقصاه إلى أقصاه، يعيش ثورة في وسائل الاتصال والتواصل والإعلام.. ولهذا انتشرت الفضائيات وتعددت المحطات التلفزيونية، وعملت كل الشعوب والأمم والجماعات باختلاف منابتها وأيدلوجياتها للحضور الفضائي..
ونفسر اندفاع جميع الخصوصيات للتعبير عن ذاتها فضائيا في الإطار العربي، إلى أن الوضع السياسي والإعلامي العربي، استند خلال عقود عديدة إلى إستراتيجية تغييب الخصوصيات الدينية والمذهبية والقومية والجهوية والقبلية لصالح رؤية مركزية واحدة.. ومع التطورات السياسية والإعلامية الجديدة، شعرت جميع الخصوصيات أن بإمكانها التعبير عن نفسها فضائيا.. فتسارعت كل الخصوصيات الموجودة في الفضاء العربي إلى الحضور التلفزيوني.. ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول، أن أغلب حالات التسارع تمت بدون رؤية واضحة، وإستراتيجية إعلامية مدروسة.. وإنما هو تسارع عفوي، يستهدف الوجود الفضائي بذاته.. وبطبيعة الحال أن الاندفاع السريع نحو تأسيس فضائيات، كان التحدي الرئيسي الأساسي الذي يواجهه هو إثبات الوجود والذات..
بمعنى أن المشروع الإعلامي يمر بمرحلتين أساسيتين على هذا الصعيد:
1- مرحلة إثبات الوجود و الذات سواء كانت دينية أو قومية أو مذهبية أو قبلية.. وعادة في هذه المرحلة تتراجع شروط الجودة على مختلف المستويات لصالح الحضور كيفما كان.
ولكن غياب الاستراتيجية الإعلامية الواضحة، وكذلك الكادر البشري المؤهل، يجعل مرحلة إثبات الوجود كيفما كان طويلة، والثمن الذي تدفعه المجتمعات من جراء هذا الإعلام كبيرا..
2- مرحلة إدارة الوجود الإعلامي بما ينسجم ومشروع القاعدة الاجتماعية التي انطلقت منه هذه الفضائية التلفزيونية أو تلك..
وأعتقد أن الفضائيات الدينية في غالبها، لا زالت تعيش المرحلة الأولى بكل التباساتها وهواجسها. وهذا يتطلب من القائمين عليها، التفكير الجاد في إيجاد آليات مدروسة، في سبل تجاوز الإعلام الهاوي إلى الإعلام المحترف. وهذا يتطلب الاهتمام بالنقاط التالية:
1- الإعلام والمشروع الثقافي والسياسي:
على الصعيد الواقعي هناك علاقة وظيفية بين الإعلام والسياسة.. بمعنى أن الإعلام هو أحد روافد العمل السياسي، كما أنه هو وسيلة الترويج والتسويق للمثل و المشروعات والشخصيات.. ولكن وجود هذه العلاقة ينبغي أن لا يقلل من شروط المهنية والاحتراف الإعلامي..
فكل المحطات التلفزيونية لها أجندتها، ولكن تختلف عن بعضها في طبيعة التعامل مع هذه الأجندة..
فهناك التعامل المباشر الفج الذي لا يوسع من دائرة المشاهدين والمتابعين.
وهناك التعامل الذكي المحترف، الذي يعمل للوصول إلى أجندته وغاياته عن طريق أنشطة إعلامية متعددة، تلتزم بشروط العمل الإعلامي الصحيح والمتقن..
2- التدريب والتكوين المهني:
لا يكفي أن تكون أهداف المحطة التلفزيونية وغاياتها نبيلة، وإنما من الضروري الاهتمام بكل مسائل التدريب والتأهيل المهني والعلمي لكل الكوادر الإعلامية..
وأعتقد على هذا الصعيد أن أغلب الفضائيات الدينية بحاجة إلى الكثير من الجهود النوعية التي ينبغي أن تبذلها على هذا المستوى..
إضافة إلى أنه لا يمكن أن يتقدم الأداء التلفزيوني في أي محطة تلفزيونية، بدون مؤسسات إنتاج فني وبرامجي، قادر على رفد الفضائية بالعديد من المشاريع التلفزيونية والبرامج الإعلامية المتميزة..
3- الفضائيات الدينية وروح المسجد:
لا ريب أن للفضائيات الدينية إيجابيات ومكاسب عديدة، ولكن ما أود أن أثيره في هذا السياق، هو إصرار أغلب هذه الفضائيات على الخطاب الذي يفرق بين الناس، ويشحن نفوسهم بالحقد والبغضاء على مخالفيهم في الرأي أو المعتقد. مما حول أغلب هذه الفضائيات إلى مصدر في إشاعة خطاب الكراهية والفتنة..
لذلك فإننا ندعو هذه الفضائيات إلى العودة والالتزام بروح المسجد.. فهي روح جامعة وحاضنة للجميع، وتلبي حاجات الجميع..
ولا يمكن أن تقترب هذه الفضائيات من روح المسجد إلا بخلق مبادرة من قبل القائمين عليها للاجتماع وتدارس الأمر وصياغة ميثاق إعلامي متكامل، ينبذ الفرقة والشقاق، ويؤكد على قيم الحوار والوئام والتسامح والمحبة وحقوق الإنسان..
وبكلمة: إن التزام جميع هذه الفضائيات بروح المسجد الجامع والحاضن، هو الذي يخرجها من مأزقها الحالي..
ففي لحظة زمنية وجيزة، توالدت وانتشرت الفضائيات الدينية، وأصبحنا يوميا نكتشف قناة إعلامية – دينية جديدة، وأضحى الجميع في زمن انفجار الهويات الفرعية، يحدث نفسه وجماعته الأثنية أو القبلية أو المذهبية حول ضرورة التواجد الفضائي..
ونحن نعتقد أن ظاهرة انتشار الفضائيات الدينية، بحاجة إلى دراسة عميقة ومتأنية، حتى نستطيع أن نصل إلى حكم نهائي حول مسارها ومسيرتها وتجربتها..
ولكن ما نستطيع قوله في هذا السياق أن أغلب هذه الفضائيات تتبنى خطابا وسياسة إعلامية مغلقة وعاطفية وشوفينية، وإن هذه الفضائيات تعمل على إبراز مفاهيمها الخاصة وشخصياتها المقربة، والتغافل التام والتجاهل الكلي عن كل المفاهيم والقيم والشخصيات الأخرى، التي لا تلتقي بشكل أو بآخر وهذا الطرح..
أي إنها فضائيات فئوية – مغلقة، لا تمارس الانفتاح مع الرأي الآخر..
ولا تكتفي بذلك، بل تقوم بشحن الساحة العربية والإسلامية شحنا قبليا أو طائفيا.. لهذا نجد وفي زمن الفضاء المفتوح، ازدادت الإحن والأحقاد بين القبائل والطوائف، وأضحت الحرب الإعلامية المفتوحة على كل الاحتمالات، هي السمة البارزة في المشهد الإعلامي العربي والإسلامي..
والذي يثير الغرابة في هذا الإطار، هو أن الفضاء والإعلام المفتوح، لم يساعد جميع الأطراف على التعرف على بعضها البعض، وإنما تمترس كل طرف وراء إعلامه الخاص، وبدأ يطلق السهام والنبال ضد الأطراف الأخرى.. فأصبحنا جميعا نعيش هذه المفارقة، حيث الإعلام المفتوح الذي يصل إلى كل بيت، مع جهل عميق بالآخر وتغييب متعمد إلى تلك الحقائق والقضايا التي تنصفه..
فالإعلام الفضائي الإسلامي، لم يؤد إلى أن يتعارف المسلمون على بعضهم البعض، وإنما أدى إلى التخندق والتخندق المضاد..
فغابت الحقيقة الجامعة، واضمحلت المساحة المشتركة، وازدادت الإحن والأحقاد، وتراجع الفهم والتفاهم بين جميع الأطراف في الدائرة الإسلامية..
وفي هذا السياق، تحول الفضاء الإسلامي المفتوح من فرصة للتواصل والتعارف، إلى منصة لزرع الفتن والأحقاد بين المسلمين.. ونماذجنا على ما نقول كثيرة وعديدة.. ونعتقد أن استمرار هذا النهج والتوجه، سيفضي إلى المزيد من الكوارث على صعيد الأمن الاجتماعي والسياسي..
وإننا هنا ندعو جميع القائمين على الفضائيات الدينية إلى مراجعة استراتيجياتهم الإعلامية، والعمل على بناء إعلام تلفزيوني، يساهم في تعميق الوفاق بين المسلمين، ولا يشحن النفوس والعقول للمزيد من التشظي والفتن..
فالإعلام مسئولية والتزام، وما يجري اليوم على الشاشات الإسلامية، يتجاوز الحدود بكل مستوياتها.. حيث الألفاظ النابية، والتهريج المفجع الذي يعيد أحقاد التاريخ، ويهيئ الأرضية للمزيد من الحروب والفتن في كل المجتمعات والدول العربية والإسلامية. إننا ندعو أصحاب هذه الفضائيات إلى أن يتقوا الله في أمتهم ومجتمعاتهم، وإن ما يمارسوه عبر العديد من برامجهم التلفزيونية، لا يخرج عن نطاق تهيئة المناخ والأرضية للفتنة بكل صورها بين المسلمين.. لذلك نحن بحاجة إلى وقفة جادة لإعادة هذه الفضائيات إلى جادة الصواب بالابتعاد التام عن البرامج التي تشحن الناس ضد بعضها البعض لاعتبارات قبلية أو مذهبية أو جهوية، وتعمل على ترسيخ قيم الوحدة والتسامح وصيانة حقوق الإنسان..
فالإعلام الفضائي هو فرصة ذهبية، لتعريف العالم بقيم الإسلام الخالدة، وليس لنشر غسيلنا الوسخ على رؤوس الأشهاد..
والحرية لا تشرع لأحد ممارسة الحيف والظلم ضد الآخرين.. ومن يريد أن يدافع عن آراءه وأفكاره ومعتقداته، يستطيع أن يدافع عنها بوسائل حضارية، لا تقلل من قيمة الآخرين، ولا تدخل المشاهدين في حلبة من الصراع المفتوح الذي يبدأ بالشتائم المقززة، ولا ينتهي إلا بالدعاء على الآخرين بالويل والثبور وعظائم الأمور..
فالإسلام هو دين الرحمة والمحبة والألفة، ولكن من يشاهد هذه الفضائيات، يكتشف أن القيم المبثوثة في برامجها هي قيم مضادة شكلا وجوهرا لقيم الرحمة والمحبة والألفة..
وإننا في هذا السياق ندعو إلى الآتي:
1- ضرورة العمل على تطوير النخب الإعلامية والثقافية في مجتمعاتنا على المستويين الفني والفكري.. لأنه لا يمكن تطوير وسائل الإعلام الفضائي بدون تطوير الكادر البشري الذي يعمل في هذه المؤسسات..
وفي إطار عملية تطوير الكادر البشري، من الضروري الاستفادة من كل الخبرات الإعلامية العربية والدولية وكذلك مراكز التدريب الإعلامية المشهود لها بالمهنية والتميز..
2- إقامة الملتقيات والمؤتمرات الخاصة بالإعلاميين العاملين في الإعلام الفضائي، وذلك لمدارسة القضايا المشتركة وتبادل الرأي والخبرات وصياغة إستراتيجية إعلامية مشتركة..
3- ثمة ضرورة قصوى في ظل الظروف الحالية التي تعيشها الأمة الإسلامية على أكثر من صعيد إلى صياغة خطاب إعلامي جديد، يحترم حقيقة التعددية المذهبية في الأمة، ويدعو إلى صيانة حقوق الإنسان وسيادة قيم الحوار والحرية والتسامح وقبول المختلف رأيا ووجودا، وتفكيك خطاب ونزعات الكراهية لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قومية..
4- من المهم أن يتبنى الإعلام الفضائي قضايا الأمة الكبرى ورفض دعوات الانعزال أو الانحباس في القضايا الخاصة..
فالإعلام ينبغي أن يكون رافعة لكل قضايا الأمة الكبرى ومدافعا عنها، وحاثا على الالتزام بها وصانعا للوعي الحامي والمدافع عن معطياتها ومتطلباتها..
5- لكون الساحة الإسلامية – الشيعية تمتلك اليوم العشرات من الفضائيات، من الضروري التفكير في مسألة التكامل في الإعلام الفضائي.. حتى لا تكرر هذه الفضائيات برامجها الدينية، وحتى تستوعب كل القضايا ذات الاهتمام والضرورة.. فما أحوج ساحتنا اليوم إلى فضائية سياسية – خبرية، تهتم بقضايا الأمة السياسية، وتعطي أولوية للبرامج السياسية التي تستهدف صناعة الوعي السياسي وصياغة ثقافة سياسية في الأمة.. كما أنه ما أحوج الساحة اليوم إلى فضائية حقوقية، تعتني بقيم حقوق الإنسان، وتعمل للدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته، وتفضح كل الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان، وتعمل على خلق البيئة الحقوقية الضامنة لحقوق الإنسان والمدافعة عنه..
فالتكامل بين أجهزة ومؤسسات الإعلام الفضائي، أضحى ضرورة قصوى، حتى لا تتكرر الجهود أو تكون ذات صيغة واحدة..
فمدرسة أهل البيت (ع) لا يمكن أن نحصرها في الأنشطة والبرامج الشعائرية، وإنما هي تتسع وتستوعب كل قضايا ومجالات الحياة.. والإعلام الفضائي ينبغي أن يعكس كل معارف أهل البيت (ع) وقضايا مجتمعاتنا المعاصرة، وهذا يتطلب بناء رؤية إعلامية جديدة للمؤسسات الإعلامية الفضائية – الدينية.
رؤية مستقبلية:
(1)
لعلنا لا نبالغ حين القول: أن المسلمين الشيعة اليوم وفي مختلف مواقعهم ومناطقهم، يعيشوا فرصة تاريخية سانحة، حيث أن المتغيرات السياسية الحالية لا زالت تسير في صالحهم. حيث تم القضاء على نظامين سياسيين كانا يكنا العداء للشيعة وخياراتهم السياسية والثقافية وهما نظام طالبان ونظام صدام حسين ولقد تنفس الشيعة في أفغانستان والعراق الصعداء مع هذه التغيرات التي انسجمت ورغبتهم وطموحهم في إسقاط هذه الأنظمة والمشروعات التي أبادت الكثير من الشيعة وحالت دون استقرارهم السياسي والاجتماعي.
لذلك فإننا نقول: أن طبيعة التطورات السياسية والإستراتيجية في المنطقة، لا تتناقض في جملتها وخطوطها الكبرى مع تطلعات الشيعة ومطامحهم المعاصرة. وإن الشيعة بكل أطيافهم ومواقعهم يعيشوا فرصة سانحة لتحسين أوضاعهم، وتطوير مكاسبهم، وصيانة حقوقهم.
فالظروف الموضوعية كلها، مؤاتية لكي ينشط الشيعة ويطالبوا بحقوقهم في كل أوطانهم. وإن تلكؤ الشيعة أو تراخيهم تجاه هذه الفرصة، قد يكلفهم الكثير. حيث أن ضياع الفرصة غصة، وأن الفرص تمر مر السحاب.
فلتتكاتف كل الجهود، ونتجاوز كل الاختلافات الداخلية، وذلك من أجل استثمار هذه اللحظة، والاستفادة القصوى من هذه الفرص السانحة.
فرؤيتنا لمستقبل الطائفة متفائلة وإيجابية، ولكن هذه الرؤية لا تدفعنا إلى الراحة والنوم. بل تحملنا مسؤولية اليقظة التامة والدائمة، والعمل المتواصل من مختلف المواقع لاستثمار اللحظة وتحقيق التطلعات وردم الفجوة بين الوعد والانجاز.
ولنتذكر دائما: أن الأمم التي تهرب من عصرها، تفسح المجال واسعا لخصومها وأعدائها لصياغة راهنها ومستقبلها. ولقد جاء في الحديث الشريف (من ساء تدبيره كان هلاكه في تدبيره) (14)..
فالفرص اليوم أمام الشيعة قائمة، والتحديات شاخصة، وكلاهما بحاجة إلى رؤية حضارية وعزيمة راسخة وإرادة صلبة من أجل نيل الحقوق ورفع الحيف والظلم. وكما جاء في الحديث (بالصبر يتوقع الفرج ومن يدمن قرع الباب يلج) (15)..
فمستقبل الطائفة رهن بإرادة أبناءها وعزيمة رجالها.. فالظروف الموضوعية جد مؤاتية، لكي نرفع من وعن واقعنا ظلامات تاريخية. واللحظة مناسبة وفق كل المقاييس لكي تبرز إرادتنا الذاتية في استثمار وتوظيف الظروف الموضوعية لصالح حقوقنا وتطلعاتنا التاريخية.
وثورات الربيع العربي، فتحت آفاقا جديدة، ومن الضروري الاستفادة منها على مختلف الصعد والمستويات..
فالأنظمة الديكتاتورية حينما تتهاوى، والشعوب حين تعبر عن إرادتها، وتكسر حاجز الخوف، فإن القوى الاجتماعية الصاعدة، تعيش أزهى عصورها.. لأنها تتمكن من الحركة والنشاط، بدون ضغط من الأجهزة الأمنية، التي كانت بالمرصاد لكل عمل ثقافي أو سياسي جاد في المنطقة.. وبالذات في الدول التي كسحتها الإرادة الشعبية وأسقطت أنظمتها الاستبدادية..
وإننا هنا ندعو الفعاليات والمؤسسات الإسلامية – الشيعية، إلى الإسراع في الانفتاح والتواصل مع هذه الساحات الجديدة، ونسج العلاقات الإيجابية مع القوى الحية والمؤثرة فيها..
فالفرصة سانحة لتجاوز متواليات المرحلة الأمنية والسياسية السابقة، والتفاعل الإيجابي والمستديم مع الآفاق الجديدة، التي بلورها الربيع العربي في المنطقة العربية..
وإننا ندعو المسلمين الشيعة في دول الربيع العربي، إلى التفاعل مع شركاءهم في الوطن والانخراط في مؤسسات المجتمع المدني، وبناء مؤسساتهم وجمعياتهم الثقافية والاجتماعية والمدنية، والمساهمة مع بقية الفعاليات والقوى لبناء دولهم وتجاربهم السياسية الجديدة، على أسس الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان..
ولعل الخدمة الكبرى التي تقدمها الجمهورية الإسلامية في إيران وجمهورية العراق إلى المدرسة الإمامية وإلى الأمة جمعاء في هذه الحقبة، هي السعي الحثيث للتحول إلى دول ديمقراطية مستقرة سياسيا واقتصاديا ويسود فيها حكم القانون ويتلاحم فيها الشعب مع دولته، وتحترم فيها كل التعبيرات والأطياف، دولة لجميع مواطنيها، تصان فيها حرياتهم وكراماتهم، ويفسح المجال فيها لكل الكفاءات والطاقات بصرف النظر عن الانتماء المذهبي والقومي، لخدمة الوطن من موقع المسؤولية في مؤسسات الدولة المختلفة.. فوجود دول ناجحة ديمقراطيا واقتصاديا، هو من أهم الخدمات التي يمكن أن تقدمها دولة إلى الأمة والمجتمعات الإسلامية المختلفة.. وان هذه التجارب السياسية معنية بإطعام شعبها وتحقيق الاكتفاء الذاتي في موارد الحياة،وتوفر كل مقتضيات الأمن بالمعنى الشامل.وان تعمل على بناء شرعيتها السياسية على قاعدة الحرية والديمقراطية وبعيدا عن الإكراه والقوة الغاشمة. فلاخير في سلطة مهما كانت أيدلوجيتها تستند شرعيتها من القهر والعنف والإكراه. أسوق هذا الكلام ليس من اجل انعزال هذه التجارب عن الأمة وقضاياها المختلفة،وإنما لبيان الأولويات،وأهمية صناعة النموذج القادر على الاستقطاب بقوته الناعمة.
(2)
تعمل دوائر عديدة في الفضاء الإقليمي والدولي، إلى شيطنة المسلمين الشيعة، والتعامل معهم وكأنهم جالية ليست جزءا من نسيج الدوائر. من أجل هذه الغاية العديد من الأساليب والوسائل، التي تضخم الخلافات الطائفية والمذهبية، وتشعل الأحقاد في النفوس والعقول بين المسلمين.. ونحن إزاء هذه الممارسة الخطيرة، من الضروري أن لا نقع في شراكها، ولا نعمل على إنجاحها.. وذلك عبر الخروج من مربع الاتهام والانعزال والقيام بمبادرات تطور من العلاقة بين المسلمين، وتظهير الحقائق التاريخية السياسية والاجتماعية، التي توضح دور المسلمين الشيعة في الدفاع عن أوطانهم وقضايا أمتهم المختلفة..
وإن حقوق المسلمين الشيعة السياسية والمدنية والمذهبية، لا يمكن الحصول عليها بمعزل عن المطالبة مع بقية شركاء الوطن بالإصلاح السياسي والثقافي والاجتماعي.. فالمسلمين الشيعة في كل أوطانهم، هم جزء من الوطن والشعب، وما يتعرض إليه الجميع من صعوبات ومشاكل، يتعرض إليه المسلمون الشيعة، لهذا فإننا نعتقد بأهمية العمل على تجسير العلاقة مع مكونات الوطن والمجتمع، حتى يتسنى للجميع بناء مشروع وطني شامل، يستوعب جميع التعبيرات، ويعمل على المطالبة بالإصلاح السياسي الوطني الشامل.. فالانحباس الطائفي يضر بالمسلمين الشيعة على مستوى راهنهم ومستقبلهم، ويوفر لخصومهم باستمرار فرصة الانقضاض عليهم وحشرهم في زاوية ضيقة.
لهذا فإن الرؤية المستقبلية التي ندعو إليها في هذا الصدد: هي دعوة النخب الإسلامية – الشيعية بكل مستوياتها إلى الانفتاح والتواصل مع شركاءهم في الوطن.. ووجود صعوبات ومماحكات طائفية ورفض وممانعة من بعض المتشددين والمتعصبين مذهبيا، ينبغي أن لا يدفعنا عن التخلي عن مشروع الانفتاح وتجسير العلاقة والمساهمة في بناء مشروع وطني يستوعب جميع الأطياف، بل على العكس من ذلك تماما.. إذ أن وجود الصعوبات الطائفية يحملنا مسؤولية العمل المضاعف من أجل تجاوز هذه الصعوبات والخروج من المآزق المذهبية التي يعمل المتطرفون على إسقاطنا فيها.. والظلامات الدينية والمدنية التي يتعرض إليها المسلمون الشيعة في أكثر من بلد، ينبغي أن تكون مشكلة وطنية، يتحمل مسؤولية معالجتها كل أبناء الوطن الواعين إلى مخاطر الفتن الطائفية.. وفي هذا السياق نحن نلتقي مع جوهر الوصايا التي أطلقها المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ودعا فيها أبناء الطائفة الإسلامية الشيعية إلى الاندماج في أوطانهم والتفاعل مع بقية المواطنين على أساس الشراكة الوطنية..
إذ يقول "أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أوطانهم.. وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص.. وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعا خاصا يميزهم عن غيرهم " (16)..
فلتتبلور المبادرات التي تتجه إلى تجسير العلاقة بين أطياف الأمة، وإخراج الجميع من أتون الطائفية المقيتة.. ومن الضروري في هذا السياق،أن يناضل المسلمون الشيعة في كل أوطانهم للحصول على حقوقهم الدينية والمدنية. لأنه لايمكن أن يتحقق الاندماج الوطني في كل أوطاننا،دون الاعتراف بحقوق كل المكونات والتعبيرات. ولان الحقوق لايمكن أن تحصل عليها الأمم والشعوب، بدون عمل وسعي وكفاح ونضال، فإننا في الوقت الذي ندعو إلى خيار الاندماج والتواصل، فإننا في ذات الوقت ندعو الوجودات الإسلامية – الشيعية إلى تكثيف العمل والسعي للحصول على الحقوق والتعامل معهم على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، مثلهم مثل بقية المواطنين. بحيث لايكون الانتماء المذهبي حائلا دون القبض على الحقوق في كل مجلات الحياة. ومشروع نيل الحقوق الدينية والمدنية يتطلب الكفاح الثقافي والمدني والسياسي والاقتصادي والحقوقي، من كل قوى وفعاليات المجتمع. والرهان يبقى دائما على القوة الذاتية والسعي الحثيث والمنظم للقبض على الحقوق، وليس على مكرمات الآخرين وهباتهم.
(3)
ليس خافيا على أحد، أن أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، تحتضن تعدديات مذهبية، وإن هذه التعدديات حقيقة راسخة في النسيج الاجتماعي والثقافي، ولا يمكن بناء وحدات وطنية صلبة في كل هذه المجتمعات، بدون بناء رؤية أو نظرية متكاملة في طريقة التعامل أو إدارة هذه الحقائق المذهبية الموجودة في أغلب المجتمعات العربية والإسلامية..
ونحن من جهتنا نعتقد أن أغلب المشاكل الطائفية الموجودة في العالم الإسلامي، هي ليست وليدة التنوع والتعدد المذهبي والفقهي الموجود في مجتمعاتنا، وإنما هي وليدة الإدارة الخاطئة أو السلبية لهذه الحقيقة..
فما هو موقع التعدديات المذهبية في مجتمعاتنا المعاصرة، وكيف نتصور العلاقة التي ينبغي أن تكون بين حقائق التعددية المذهبية، وكيف تبنى الوحدة الاجتماعية والوطنية على قاعدة الاحترام القانوني والمؤسسي لحقائق التعددية المذهبية؟
نجيب على هذه الأسئلة من خلال الرؤية التالية:
في بداية الأمر لعلنا لا نضيف شيئا إلى علم القارئ والمتتبع حين القول:أن المجتمعات الإنسانية كلها اليوم، تعيش تعدديات وتنوعات متفاوتة. بحيث لا يخلو مجتمعا إنسانيا من وجود حالة تعدد وتنوع.. فهناك مجتمعات تتعدد دينيا، حيث يوجد فيها أتباع ديانات مختلفة.وهنالك مجتمعات تشترك في الانتماء الديني إلا أنها تتنوع على الصعيد المذهبي. وهناك مجتمعات تتفق في المذهب إلا أنها تختلف وتتنوع على الصعيد العرقي والقومي. ولو بحثنا اليوم في واقع كل المجتمعات الإنسانية، سنجد أن التعدد بكل مستوياته هو السمة الملازمة لهذه المجتمعات. ولكن الاختلاف الحقيقي على هذا الصعيد بين هذه المجتمعات، يكمن في طبيعة وآلية إدارة هذه التعددية القائمة في المجتمعات.
فهناك مجتمعات تعاملت مع حقيقة تعددها بعقلية حضارية، لذلك صاغت لنفسها أنظمة وقوانين استوعبت هذه الحقيقة، وضمنت لها المشاركة في بناء مجتمعها ووطنها..وهناك مجتمعات أخرى ضاقت ذرعا بالتعدد الموجود في فضائها، وسعت عبر وسائل مختلفة لدحر هذه الحقيقة بوسائل قسرية - قهرية.. فأضحت التعددية بكل مستوياتها في المجتمعات الأولى، أي المجتمعات التي تعاملت بعقلية حضارية معها، إلى مصدر للقوة والثراء المعرفي والمجتمعي. أما المجتمعات التي ضاق صدر بعضها لحقيقة التعددية الموجودة فيها، فإن هذه التعددية تكون عنوانا للخلاف والاختلاف ورافدا من روافد التشظي والاهتراء الداخلي.
من هنا فإننا نشعر بأهمية العمل على تعزيز وحداتنا الاجتماعية والوطنية على قاعدة احترام واقع التعددية الموجود في كل مجتمعاتنا وأوطاننا.. لأن هذا الاحترام بكل مضامينه ومداليله، هو القادر على إفشال كل المخططات التي تستهدف تمزيق الأوطان وإدخالها في نفق الحروب والصراعات والنزاعات على أساس مذهبي - طائفي.. فهذه الطريقة والوسيلة هي القادرة على إفشال هذه المخططات والمؤامرات التي تستهدف أمن واستقرار أوطاننا ومجتمعاتنا.
ومن الضروري أن ندرك أن تقسيم أبناء الوطن على أسس مذهبية، لا يضر حاضر الوطن فقط، بل يهدد مستقبله. لذلك فإننا جميعا ومن مختلف مواقعنا، ينبغي أن نقف ضد كل مظاهر التقسيم الطائفي والمذهبي، وذلك لأن هذا التقسيم لا يضر فقط الطرف الموجهة ضده، بل يضر وحدة الوطن والمواطنين، ويزيد من فرص الاحتراب الداخلي.
فنقد الطائفية وفضح ورفض كل مظاهرها ووقائعها، هو الخطوة الأولى في مشروع بناء الوحدة الوطنية الصلبة وتطوير مستوى الانسجام والاندماج الاجتماعي.والاجتماع الوطني الصلب، لا يبنى على قاعدة محاربة حقيقة التعدد بكل مستوياتها الموجودة في المجتمع. فكل المجتمعات تحتضن تعدديات، وبنيت الأوطان دائما على احترام هذه التعدديات..
والأوطان التي عملت سلطتها السياسية على دحر حقيقة التعدد ومحاربة وقائع التنوع، فإنها أوطان هشة لا تستطيع أن تصمد أمام رياح التغيير والتحديات المختلفة.. والاتحاد السوفيتي كتجربة مجتمعية، ليس بعيدا عنا، بل هو أحد النماذج الصارخة على أن الأوطان لا تبنى بمحاربة وقائع التعدد بل باحترامها وتقديرها وتوفير كل مستلزمات فعاليتها الإيجابية..
وتجربة العراق الحديث ليست خافية علينا، فمهما كانت سطوة الحكم وقسوته، إلا أن حالة التعدد في المجتمع العراقي قائمة وراسخة.والمطلوب ليس محاربتها وإنما إدارتها على نحو سليم وحضاري، حتى يتسنى لجميع الأطياف المشاركة الفعالة..فقوة الأوطان في قدرتها على صياغة نظام متسامح وقادر على استيعاب كل التعدديات وفسح المجال لها بل تشجيعها للمزيد من الاندماج الوطني..
والمواطنة لا تقتضي بأي حال من الأحوال أن تندثر خصوصيات الأفراد، بل إنها تقتضي صياغة منظومة قانونية وسياسية لجميع المواطنين على قاعدة الاعتراف بتلك الخصوصيات، والتعامل الإيجابي والحضاري مع متطلبات التعدد بمختلف أشكاله ومستوياته.
فالتعدد المذهبي ليس حالة مضادة للمواطنة، بل هو الجذر الثقافي والاجتماعي لبناء مواطنة حقيقية بعيدا عن الشعارات الشوفينية واليافطات الشعبوية والعدمية. فاحترام التعدد المذهبي وحمايته القانونية والسياسية، هو الذي يوجد الشروط المجتمعية الحقيقية لبناء مواطنة مندمجة مع بعضها البعض في مجتمع متعدد مذهبيا أو قوميا أو سياسيا.. فالتعدد المذهبي في الاجتماع الوطني الحديث، لا يؤسس للانزواء والانكفاء، بل يؤسس للتواصل المستديم بكل صوره على قاعدة المواطنة الجامعة. ولا سبيل لخلق مجتمع وطني متراص ومتماسك ونسيجه الداخلي صلب إلا بحماية هذا التعدد ودفعه صوب المشاركة الإيجابية والاندماج الوطني، الذي لا يعني الإلغاء والنبذ والخصومة، وإنما المشاركة والمسؤولية والبعد عن النزاعات الشوفينية والنرجسية سواء إلى الذات أو إلى الآخر.
والحوار الدائم والمتواصل بين مختلف المكونات والتعبيرات، هو الذي يسمح للجميع من التجاوز الدائم للمشاكل والأزمات. لهذا كله فإن نقد العصبية والوقوف بحزم ضد كل أشكالها ومستوياتها، هو الذي يؤسس لثراء معرفي ومجتمعي من جراء حقيقة التعدد في الاجتماع الوطني.. فالتعددية ليست هي الحالة المضادة للمواطنة، وإنما الحالة المضادة للمواطنة هي التعصب وبناء التكتلات الاجتماعية على قاعدة عصبانية طاردة ونابذة للغير والآخر.. فالتعصب الأعمى للذات بكل عناوينها، هو الذي يخلق حالة العداء بين المختلفين.
والنسيج الاجتماعي لأي مجتمع، يصاب بالضعف والاهتراء، حينما تستحكم فيه نزعات العصبية والتعصب.لذلك فإن العدو الحقيقي لاستقرار المجتمعات والأوطان، هو التعصب. لأنه هو الذي يقضم المساحات المشتركة بين المواطنين، وهو الذي يثير النعرات والغرائز. وليست هناك علاقة عميقة وطردية بين التعددية والتعصب. فبإمكان المجتمع المتعدد أن يخلق ثقافة التسامح والحوار والتواصل.كما بإمكانه أن يخلق ثقافة القطيعة والنبذ والإقصاء. وجذر التحول في هذا يعتمد على طريقة التعامل مع واقع التعددية في الاجتماع الوطني.. فإذا كان التعامل راقيا وحضاريا وبعيدا عن لغة الإلغاء والنبذ، فإن هذا التعامل يؤسس لثقافة التسامح والأخوة والاندماج. أما إذا كان التعامل فوقيا وإقصائيا وطاردا، فإنه ينم عن عصبية تخلق بدورها عصبية معكوسة. فتكون النتيجة العملية لكل ذلك سيادة العصبية ونزعات التعصب في الفضاء الاجتماعي والثقافي، فتضمحل المساحات المشتركة، وتغيب الحكمة، وتتصاعد نزعات الاتهام والاتهام المضاد.. فعدو الوحدة والاندماج، ليس التعدد والتنوع، وإنما هو التعصب الذي لا يرى وقائع الحياة والمجتمعات، وإذا رأى لا يرى إلا بعين واحدة، وهي عين مهما كان اتساعها فإنها قاصرة ولا تستطيع الإلمام بكل الحقائق والوقائع.
ولعل من العناوين المعبرة عن هذه الحقيقة، هو عنوان الكتاب الأخير للدكتور (وجيه كوثراني) وهو (هويات فائضة..مواطنة منقوصة). وكذلك عنوان كتاب الأديب أمين معلوف (الهويات القاتلة). فحينما يتعصب الإنسان لجماعته المذهبية أو العرقية أو القومية أو ما أشبه ذلك، تعصبا أعمى، فإن هذه الهوية القائمة على العصبية، إما أن تنتقص من مضامين المواطنة وحقوقها، أو تتحول إلى منطلق النبذ والإقصاء والذي قد يصل إلى ذروته القصوى وهو القتل والإعدام.
فالهويات الوطنية لا تتشكل على نحو إيجابي وبعيد عن نزعات الشوفينية والتعصب الأعمى، إلا إذا انفتحت هذه الهويات على حقائق مجتمعها، وتواصلت مع مكونات وطنها الدينية والمذهبية والقومية والأثنية.. بحيث تكون الهوية أو الهويات الوطنية، تعبير دقيق عن حياة المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بكل تنوعها وتعددها. وفي المحصلة النهائية فإن الثقافات الإنسانية في أي بيئة اجتماعية كانت، هي ثقافات متداخلة ومتشابكة، بحيث أن الأفكار الرئيسية موجودة في كل الثقافات. ونزعات الاصطفاء الثقافي، لا توجد إلا في عقول أصحابها. حيث أن جميع الثقافات والهويات متداخلة مع بعضها، ومن الصعوبة بمكان أن تعبر ثقافة أو هوية عن نفسها بعيدا عن روافدها المتعددة القادمة إليها من ثقافات وهويات مجاورة.
وتشير الباحثة (سعيدة لطفيان) إلى أن 95 بالمئة من دول العالم هي دول متعددة القوميات، أي تتألف من أمم متعددة. فإذا أحصيت الأثنيات والأقوام أي الجماعات المتمايزة لغويا أو دينيا أو مذهبيا أو عرقيا في العالم لاستنتجنا أن دول العالم تمارس السيادة على خمسة آلاف أمة وشعب.
لهذا فإن نزعات الاصطفاء، هي نزعات ذهنية أكثر منها اجتماعية واقعية. حيث أن الهويات متداخلة والثقافات متشابكة. ولا يمكن بناء الاجتماع الوطني الحديث بلغة الاصطفاء والهويات الخالصة. لأن هذه اللغة لا تبني مجتمعا وطنيا بل تبني كيانا اجتماعيا خاصا ومنعزلا وغير قادر على استيعاب كل التعبيرات والمكونات. والأوطان دائما تتسع لكل القوى والتعبيرات، وأية محاولة لحصر الوطن بفئة أو شريحة، فإن هذه المحاولة تضر بالوطن مفهوما وكيانا أولا، وتضر بالنسيج الاجتماعي ثانيا.
فالاجتماع الوطني المستقر والحيوي في آن، لا يبنى على دحر التعدديات أو محاربتها، وإنما ببناء نظام اجتماعي - ثقافي - سياسي، قادر على استيعاب كل حقائق التعددية، ويبلور للجميع خيار المشاركة الذي يزيد من فرص التفاعل والاندماج الوطني. وإننا هنا لا ندعو إلى إيقاظ العصبيات المذهبية أو القومية أو الأثنية، وإنما ندعو إلى التعامل مع الوجودات المذهبية والقومية والأثنية، بعقلية الاستيعاب وبمنهج الجوامع المشتركة، التي تضبط بطبيعة الحال إذا أحسنا التعامل معها، كل النزعات التي تضر بمفهوم الوحدة وحقائق الشراكة الوطنية.