العوائق التي تواجه عمل القضاء الدستوري في العراق وسبل تذليلها
محور (الاصلاح التشريعي في مجال القانون الدستوري والهيئات الدستورية وضمانات حقوق الانسان)
مؤتمر الإصلاح التشريعي
2019-09-21 06:32
م.د. محمد عبدالرحيم حاتم-قسم القانون/كلية الكفيل الجامعة
(بحث مقدم الى مؤتمر (الاصلاح التشريعي طريق نحو الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد) الذي اقامته مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام وجامعة الكوفة/كلية القانون 25-26 نيسان 2018)
المقدمة
إنَّ الدساتير دائماً ما تكون متضمنة على نصوص غنيَّة بمبادئ الديمقراطيَّة، المتجليَّة من خلال التأكيد على أنَّ الشعب هو مصدر السلطات، وكذلك النصّ على حقوق الأفراد وحرياتهم، مع اعتماد المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصَّة بحقوق الإنسان بنصوص صريحة في الدستور، إضافة ًالى التأكيد على مبدأ الفصل بين السلطات، وعدَه ركيزة من ركائز قيام دولة القانون، إلاَّ أنَّ هذه النصوص –عادةً- ما تأتي مكبَّلة بأغلال التطبيق والممارسة من قِبل الحكَّام -رجال اللعبة السياسية-، الذين يهدفون إلى الانحراف عن جادة النصّ الدستوري لأجل تحقيق غايات سياسيَّة حزبيَّة وكتلويَّة، بعيداً عن الغايات المنصوص عليها دستورياً.
وتحرصُ الدساتيرُ عادةً على ضمانة استقلال ِالقضاءِ الدستوري وبقائِهِ بعيداً عن نفوذِ السلطتينِ التشريعيَّة والتنفيذيَّة، مؤكدة ًعلى أنَّه لا سلطانَ عليه إلاَّ الدستور، وإذا كان من المهم أنْ تُتوِّجُ الدساتير نصوصَها بعناوين ِاستقلال ِالقضاءِ وحصاناتِ رجالِهِ مُعتبرة ًذلك من المنجزات الدستوريَّة، فانَّ الأهمَّ من ذلكَ هو كيفية ُالدفاع ِعن الدستور ذاتِهِ، حين تحاول هذه السلطة ُ أو تلك تجاهله، وذلك عَبْرَ تشريعاتِها وقراراتِها، منتهكة ًبذلك حقوقَ الأفراد، ضاربة ًعَرضَ الحائطِ بحرياتِهِم التي جعلها الدستور عُنواناً له لمنع هذا التعدي، ولأجل الغاء أو شلّ القواعد القانونيَّة -العادية- المخالفة للدستور، يستلزم وجود قضاء دستوري مستقل وقوي، يكون قادر على فرض رقابته على التشريعات، من دون التأثر بالضغوطات التي يمكن أن يمارسها السياسيين، بغية تمرير التشريع المخالف للدستور.
إنَّ دور القضاء الدستوري يمتدّ إلى المحافظة على توازن السلطات في الدولة والحفاظ على وحدة البلاد لا سيما في الدول الفدرالية، أو الدوَل ذات التركيبة الاجتماعيَّة المتنوّعية -طائفياً أو عرقياً-كما هي الحال في العراق-، وكذلك في الحفاظ على التعايش السلمي بين طوائف وأعراق المجتمع المتنوّعة لا سيما في أوقات الأزمات والمِحن.
وعليه فإنَّ وجود القضاء الدستوري كسلطة -دستوريَّة مستقلة- من المستلزمات الأساسية والمرتكزات المهمَّة في الأنظمة الدستوريَّة على اختلاف أشكالها -برلمانيَّة، رئاسيَّة، أو مختلطة- لأجل الحفاظ على حقوق وحريات المواطنين الأساسيَّة، وقيام دولة القانون التي تشكِّل ضمانة للأفراد، كذلك فإنَّ وحدة الدولة الفدراليَّة واستقرارها يتعزَّز بوجود القضاء الدستوري.
إنَّ جوهر الأزمة الدستوريَّة في الأنظمة الدستوريَّة تتمثَّل بإشكالية التطبيق، أي ما يُعرف بالعلاقة بين النصّ الدستوري والممارسة السياسية -الازمة بين النص والممارسة- إنَّ مواجهة هذه الإشكالية والخروج منها يستلزم إيجاد قضاء دستوري مستقلّ وقويّ يكون ضامناً لأحكام الدستور، وحافظاً لنصوصه من جهة، ورقيباً على أداء السلطات داخل الدولة، وضامناً لصلاحياتها الدستوريَّة من التعدِّي والتجاوز عليها من قِبل بعضها البعض من جهة أخرى، وذلك حفاظاً على الشرعية الدستوريَّة.
وفي العراق، نجد ان الازمة بين النص والممارسة موجودة ومؤثرة بشكل واضح على المشهد السياسي، فلم يرتقي عمل سلطات الدولة لمستوى النص الدستوري ولم يلتزم باحكامه، فالممارسة السياسية كانت بعيدة عن معطيات النص الدستوري واحكامه..
واذا كان الحال كذلك، فان وجود وعمل المحكمة الاتحادية العليا في العراق لم يكن في منأى عن ازمة الممارسة السياسية، فثمة فروقات شاسعه بين مانص علية الدستور من احكام منظمة لعمل المحكمة، وبين عملها وممارستها لدورها الدستوري. وعلى الرغم من ذلك فان المحكمة الاتحادية العليا كان لها دور فاعل ومفصلي في تنظيم العملية السياسية وكذلك في حفظ وحدة البلاد.
واذا اردنا الارتقاء بالعملية السياسية في العراق، والخروج من اطار ازمة الممارسة والنص الدستوري، فلا بد من الارتقاء بعمل المحكمة الاتحادية العليا، وهذا الارتقاء يكون من خلال تعديل التشريعات المنظمة لعملها والمحددة لتشكيلها ولاختصاصاتها. فهل من سبيل الى ذلك؟.
هذا ما سنحاول الاجابة عليه وذلك في مبحثين، تناولنا في المبحث الاول: تشكيل المحكمة الاتحادية العليا في العراق، وفي المبحث الثاني: اهم العوائق التي تواجه عمل المحكمة الاتحادية العليا وسبل تذليلها. وذلك بالاعتماد على منهج البحث التحليلي العلمي الرصين والمستند لأدلة واسانيد فقهية ودستورية.
المبحث الاول: القضاء الدستوري في العراق
بعد احتلال العراق عام 2003م، وقيام الجمهورية الخامسة في حزيران/يونيو 2004م، ورد إنشاء القضاء الدستوري في متن نصّ قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية 2004م، ومن بعده في الدستور العراقي الدائم 2005م، وعلى أساس قانون إدارة الدولة شُرع قانون إنشاء المحكمة الاتِّحادية لسنة 2005م، وبذلك فإنَّ المحكمة الاتِّحادية تستند في مشروعيتها على النصّ الدستوري لسنة 2004م ابتداءً.
اولا: تشكيل المحكمة الاتِّحادية العليا:
نصّ قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية على أنْ "يجري تشكيل محكمة في العراق بقانون، وتسمى المحكمة الاتِّحادية العليا"(1)، ومن الملاحظ أنَّ هذه المادة أنَّها جاءت في الباب السادس من قانون إدارة الدولة تحت عنوان "السلطة القضائية الاتّحادية"، أي إنَّ المشرِّع الدستوري اعتبر هذه المحكمة من ضمن تشكيلات السلطة القضائية الاتِّحادية في العراق، وجعلها خاضعة لها، وكذلك فإنَّ ميزانيتها المالية تكون من ضمن ميزانية السلطة القضائية، أي إنَّها لا تتمتَّع باستقلال مالي وإداري(2). وهذا خلاف ما سارت عليه الأنظمة الدستوريَّة في إنشاء القضاء الدستوري المركزي.
نصَّ الدستور العراقي الدائم 2005م على أنْ "تتكون السلطة القضائية الاتِّحادية من مجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الاتِّحادية العليا و.. ". ونصّ كذلك على أنَّ "المحكمة الاتِّحادية العليا هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً"(3)، الواضح من هذا النصّ أنَّ المشرِّع الدستوري قد أورد تشكيل المحكمة الاتِّحادية العليا ضمن التشكيلات المكونة للسلطة القضائية الاتِّحادية في العراق، محددًا كذلك الطبيعة القضائيَّة للمحكمة الاتِّحادية العليا، باعتبارها هيئة قضائيَّة مستقلة. والإشكالية التي تثار هنا، هي أنَّ المشرِّع الدستوري أورد في المادة الدستوريَّة المذكورة أعلاه، أنَّ المحكمة الاتِّحادية العليا هي إحدى مكونات السلطة القضائيَّة، أي إنَّها غير مستقلة عن السلطة الثالثة في الدولة (السلطة القضائيَّة)؛ وبالتالي، هي تخضع لأوامرها ونواهيها، ويعود مرة أخرى المشرِّع الدستوري ويمنح المحكمة استقلالاً مادياً وإدارياً؛ إذ تكون لها موازنة خاصة بها مستقلة عن موازنة السلطة القضائية الاتّحادية، وضمن الإطار العام للموازنة العامة للدولة، وكذلك الاستقلال الإداري(4).
وإذا كان الحال كذلك، فما هو وجه الخضوع للسلطة القضائيَّة وخاصةً أنَّ المشرِّع الدستوري ترك أمر تحديد آلية عمل المحكمة إلى قانون يُسنّ لاحقاً وبأغلبية ثلثي عدد أعضاء البرلمان، إقراراً منه بالاستقلال الإداري للمحكمة الاتِّحادية العليا، فلا تخضع بذلك لقانون السلطة القضائيَّة؟. لعلنا نستطيع تبرير هذا الخلط والالتباس بعدم اكتمال الرؤية والفهم الكامل لدور القضاء الدستوري وآلية عمله لدى المشرِّع الدستوري، وذلك لحداثة مبدأ العدالة الدستوريَّة في الأنظمة الدستوريَّة التي تبنتها الأنظمة الجمهورية في العراق، على الرغم من أنَّ هذا المبدأ كان مُطبَّق في النظام الدستوري الملكي 1925م.
من الملاحظ أنَّ المشرِّع الدستوري لقانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، قد تناول تشكيل المحكمة الاتِّحادية العليا بالتفصيل في متن الدستور؛ إذ نصّ بأنْ "تتكوَّن المحكمة العليا الاتِّحادية من تسعة أعضاء، ويقوم مجلس القضاء الأعلى أولياً بالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم بتشريح ما لا يقل عن ثمانية عشر إلى سبعة وعشرين فرداً لغرض ملء الشواغر في المحكمة المذكورة، ويقوم بالطريقة نفسها في ما بعد بترشيح ثلاثة أعضاء لكلّ مركز لاحق يحصل بسبب الوفاة، أو الاستقالة أو العزل، ويقوم مجلس الرئاسة بتعين أعضاء هذه المحكمة وتسمية أحدهم رئيساً لها..."(5).
أما الدستور العراقي الدائم لسنة 2005م، فإنَّه لم يفصل في تشكيل المحكمة، ولم يتطرَّق إلى تحديد عدد أعضاء المحكمة الاتِّحادية العليا، فقد ترك أمر تحديدهم إلى قانون لاحق، يُسَنّ بغالبية ثلثي أعضاء البرلمان، مكتفياً بتحديد الإطار العام لتشكيلة المحكمة، بأنْ تشكل من القضاة وعدد من فقهاء الشريعة وفقهاء القانون(6).
إنَّ تشكيل المحكمة في الدستور الدائم جاء مغايراً لما هو عليه في قانون إدارة الدولة، إذ نصّ على أنَّ تشكيل المحكمة يجب أن يكون من فئة القضاة ومن فئات أخرى حدَّدها الدستور، بخبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون(7)، من خلا ذلك يظهر لنا أنَّ التشكيل في الدستور الدائم مغاير بشكل كبير وتام عمَّا هو عليه في قانون إدارة الدولة، فقد اتَّجه مشرِّع الدستور نحو المزج في التشكيلة بين القضاة وبين خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون كما هو واضح، وهذا المزج يثير إشكالية فقهية وقانونيَّة، متعلقة بدور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون في عمل المحكمة وتأثيرهم في إصدار قراراتها، فهل هو دور استشاري وحسب؟ أي يختص بتقديم الخبرة والاستشارة غير الملزمة؟، أم أنَّ آرائهم تكون مساوية لقرارات وآراء القضاة، من حيث الإلزام في الآراء والاستشارات المقدّمة من قبلهم للمحكمة؟، وهل إنَّ دور هؤلاء الفقهاء والخبراء يقتصر على إعطاء الرأي والمشورة فقط، أم أنَّ لهم التدخل والتأثير في إصدار الحكم القضائي من خلال التصويت والمناقشة على الحكم، أسوة بالقضاة أصحاب القرار؟.
هنا، لا بدَّ أنْ نبيِّن أوَّلاً ماهية دور ووظيفة الخبير من جهة، والقاضي من جهة أخرى، فالقاضي يُقصد به اصطلاحاً هو "من يقوم بالفصل في الخصومات والمنازعات حسماً للتداعي وقطعاً للنزاع"(8)، أما الخبير فيُقصد به "من يقوم بإجراء تحقيق بقصد الحصول على المعلومات الضرورية ويكون صاحب فن واختصاص في مثل هذه الأمور، ليتسنى للقاضي البت بمسائل فنية تكون محلاً للنزاع المعروض أمامه، وبغية الوصول إلى الحقيقة التي تمكِّنه من الفصل في النزاع، ولا يلجأ القاضي إليه إلاَّ إذا صعب عليه إدراك المسائل الفنية بنفسه"(9).
أما خبراء الفقه الإسلامي، الوارد ذكرهم في تشكيل المحكمة فيمكن تعريفهم بأنَّهم "أهل العلم والفضل، وتعتمد مشورتهم في ما يعرض من نزاع ما، لمعرفة ماهية الحكم الشرعي المناسب، وهذه المشورة تكون مطلوبة وضرورية أحياناً في العمل القضائي"(10).
استناداً على ذلك، نلاحظ أنَّ هناك اختلافاً كبيراً بين طبيعة عمل القاضي وعمل الخبير، ونتيجة لهذا الفرق الظاهر، ولكون الدستور لم يحدِّد طبيعة عمل هذه الفئات، تاركاً أمر تحديد ذلك إلى قانون يُسنّ لاحقاً، أي ترك الأمر إلى اجتهاد المشرِّع العادي دون أنْ يلزمه بأية حدود وضوابط، وإلى حين وضع قانون للمحكمة على أساس الدستور الدائم، فإنَّه ظهرت عدة اتّجاهات فقهية كمحاولة لتحديد طبيعة عمل الخبراء والفقهاء في تشكيلة المحكمة، فذهب اتجاه إلى أنَّ دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون، هو دور استشاري يتمثَّل في إعطاء الرأي في القضية المعروضة، فيقدم الخبير رأياً شخصياً معللاً، ويستلزم هذا تحديد المهمة الموكولة من قبل المحكمة إلى الخبير وعلى وجه من الدقة والوضوح ويقوم الخبير على هذا الأساس بتقديم خبرته ومشورته، وبذلك تنتهي مهمة الخبير، ويكون اتخاذ القرار النهائي والفصل في النزاع المعروض موكول إلى المحكمة بصورة حصرية، فلا يكون لرأي الخبراء أية قوَّة أو حجة قانونيَّة ملزمة تجاه قرار القاضي سوى أنّه وسيلة لإقناعهم؛ إذ إنَّ أقصى ما يكون عليه رأي الخبير، هو قوَّة إقناع تتجه إلى عقل القاضي مع ما يتجه إليه الخصوم في تفنيد رأي الخبير، وينبغي على القاضي تكوين عقيدته في القضية المعروضة من خلال هذا الصراع(11).
وهذا الرأي يتفق مع ما ذهب إليه قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1979م؛ حيث أعطى صلاحية للمحكمة أنْ تتَّخذ من تقرير الخبير سبباً لحكمها، مع إنَّ تقرير الخبير غير ملزم أو مقيد لرأي المحكمة وقرارها(12).
وهناك اتجاه فقهي يأسس رأيه استناداً على نصّ الفقرة (أ) من المادة (2) من الدستور الدائم، والمتضمنة عدم جواز سَنّ أي قانون يتعارض وأحكام الإسلام وثوابته، وبما أنَّ أحكام الإسلام متشعبة ومتداخلة ولا يمكن الإلمام بها من دون اللجوء إلى خبراء (فقهاء) مختصين في العلوم الإسلامية وأحكام الشريعة، وعليه تكون الحاجة ماسة لوجود هذه الطائفة في تشكيل المحكمة، وإنّ من الضروري أنْ يكون رأي هذه الفئة مساويا لرأي القضاة من حيث الإلزام والتأثير بالقرار أثناء المناقشة والتصويت، فالاستشارة التي يبديها هؤلاء الخبراء تكون ملزمة للقضاة الذين يعتمدون على هذه الاستشارة في إصدار قرارهم القضائي، وبذلك فإنَّ مشاركة خبراء الفقه الإسلامي في تشكيل المحكمة تكون ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها إذا ما أردنا من الأحكام الصادرة أنْ تكون على درجة من الإلزام والحجية التامة، وانطلاقاً من نصّ الفقرة (ب) من المادة (2) من الدستور الدائم، التي نصَّت على عدم جواز سن أي قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطيَّة، أسس أصحاب هذا الاتّجاه رأيهم في ما يتعلق بطبيعة عضوية فقهاء القانون، وبحسب رأيهم أنَّ مبادئ الديمقراطيَّة ليست لها محددات واضحة وحدود معلومة؛ وبالتالي، لا بدَّ أن تكون هناك هيئة مسؤولة تأخذ على عاتقها تفسير هذه المحددات وتوضيح حدودها، على هذا الأساس فإنَّ وجود فقهاء القانون يكون ضرورياً، وعليه فإنَّ رأيهم الاستشاري يكون رأياً ملزماً للقضاة الذين يعتمدون عليه كأساس لحكمهم(13).
من خلال الآراء الفقهية الواردة أعلاه، يتبيَّن أن الاتّجاه الغالب في الفقه يعتبر مؤيد لوجود هذا التنوع في تشكيلية المحكمة؛ حيث إنَّ الفقهاء ناقشوا موقع وطبيعة هذه الفئة في تشكيل المحكمة من دون أن يعارضوا وجودها، لأنَّهم يرون في وجود هذه الفئة حالة صحية وإيجابية يمكن أن تغدق على المحكمة بالفائدة، كون هذا التنوع والمزج في الاختصاصات والخبرات سيساعد المحكمة على أداء دورها على الوجه الأفضل، لاسيما وإنَّ مبادئ الديمقراطيَّة وأحكام الإسلام هي جزء من الدستور ولا يجوز معارضتها بأي تشريع كما أسلفنا(14).
هناك من يخالف الاتّجاهات الفقهية السالفة الذكر؛ إذ يُعَد وجود خبراء الفقه الإسلامي مدعاة لتنشيط التعصب الديني والطائفي، وذلك من خلال اختلاف الآراء المذهبية في قضايا دينية، ما يظهر الحس الطائفي والبُعد المذهبي في قرارات المحكمة؛ وبالتالي، تكون المحكمة فاقدة لواحدة من الوظائف المهمة في الحفاظ على الوحدة الوطنية، إذا ما عرفنا أنَّ طبيعة التركيبة الاجتماعيَّة للفرد والمجتمع العراقي تتجه إلى إعطاء علماء الدين مكانة سامية يسعى الجميع إلى إرضائهم ما يجعل أثرهم واضحاً في قرار المحكمة، وهذا على حساب البُعد القانوني في قرارات المحكمة(15). علاوة على ذلك، فإنَّ وجود فقهاء القانون وخبراء الفقهية الإسلامي في تشكيلة المحكمة، يشكِّل عبئاً وثقلاً على كاهل المحكمة، عندما تنظر في المنازعات القضائية غير المتعلقة بدستوريَّة القوانين وتفسير الدستور(16).
لم يتطرق الدستور الدائم إلى آلية اختيار أعضاء المحكمة الاتِّحادية العليا تاركاً هذا الأمر إلى قانون يُسنّ لاحقاً كما أوضحنا، وكان الأجدر بالمشرِّع الدستوري أنْ يحدّد الأُطر العامة لتشكيل المحكمة من حيث الجهة التي لها حق الترشيح، والجهة التي لها حق التعيين، والضمانات الدستوريَّة لأعضائها، لا أنْ يعهد بالأمر بصورة كاملة إلى قانون عادي يشرع لاحقاً، أي إنَّه جعل تحديد الأسس الرئيسة في استراتيجية عمل المحكمة وسياستها العامة رهينة بإرادة المشرِّع العادي (السلطة التشريعية) يوجهها بما تخدم مصالحه، ونصّ قانون إدارة الدولة على أنْ "يترأس رئيس المحكمة الاتِّحادية العليا المجلس الأعلى للقضاء"(17).
ثانيا: اختصاصات المحكمة الاتِّحادية العليا:
أعطى المشرِّع الدستوري العراقي للمحكمة اختصاصات كبيرة وشاملة بما يتماشى والمكانة الدستوريَّة للمحكمة الاتّحادية، فقد وردت هذه الاختصاصات في الدستور بشكل أوسع مما كانت عليه في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية؛ إذ حدَّد قانون إدارة الدولة اختصاص المحكمة الاتِّحادية بالفصل في الدعاوى المُقامة بين الحكومة الاتِّحادية وحكومات الأقاليم أو إدارات المحافظات والإدارات المحلية، وكذلك اختصاصها بالنظر في دستوريَّة القوانين والأنظمة الصادرة عن الحكومة الاتِّحادية أو حكومات الأقاليم أو إدارات المحافظات والإدارات المحلية(18).
إنَّ اختصاصات المحكمة الواردة في دستور 2005م يمكن تقسيمها وبصورة عامة إلى قسمين:
اولا- اختصاصات قضائية - سياسيَّة، وتشمل الرقابة على دستوريَّة القوانين وتفسير نصوص الدستور.
ثانيا- اختصاصات سياسيَّة، وتشمل بصورة عامة، الفصل في النزاعات القائمة بين السلطات الاتِّحادية، أو النزاعات بين الحكومة المركزية وسلطات الأقاليم، أو الوحدات الإدارية غير الخاضعة لإقليم، وكذلك صلاحية المحكمة في الفصل في الاتهامات الموجهة لرئيس الجمهورية والحكومة، والفصل في تنازع الهيئات القضائيَّة في الاتّحاد من حيث الاختصاص، كما منح الدستور المحكمة الاتِّحادية صلاحية المصادقة على نتائج الانتخابات البرلمانيَّة، كما هو محدد في نصّ المادة أعلاه، ومن خلال النصّ الدستوري – أعلاه- نجد أنَّ المشرِّع الدستوري عقد لواء الاختصاص للمحكمة الاتِّحادية العليا بالرقابة على دستوريَّة القوانين، جاعلاً الرقابة على دستوريَّة القوانين، هي الاختصاص الأوَّل والرئيس للمحكمة. استناداً لهذا النصّ، فإنَّ المشرِّع الدستوري حصر حق الرقابة على دستوريَّة القوانين بالمحكمة الاتِّحادية العليا دون غيرها، أي إنَّه تبنى الرقابة المركزية على دستوريَّة القوانين بواسطة هيئة قضائيَّة مختصة، فلا يحق لأي هيئة قضائيَّة أخرى في الدولة عدلية أو إدارية ممارسة هذه الرقابة.
وبالرجوع إلى نصّ المادة (93/سابعاً)، نجد أن المشرِّع الدستوري قد منح المحكمة الاتِّحادية صلاحية المصادقة على نتائج الانتخابات البرلمانيَّة، وبموجب هذا النصّ لا يحق للمحكمة النظر في النزاعات الناشئة عن الانتخابات، محيلاً هذا الأمر إلى المفوضية المستقلة للانتخابات والتي نصّ على إنشائها في الدستور؛ إذ منحت هذه المفوضية الولاية العامة على العملية الانتخابية، بدءًا من تقديم طلبات الترشيح وانتهاءً بالإعلان النهائي للنتائج الانتخابية.
وهناك صلاحية أخرى منحها الدستور للمحكمة الاتِّحادية - وهي خارج أحكام نصّ المادة أعلاه - حيث منح المشرِّع الدستوري المحكمة الاتِّحادية العليا، حق فض المنازعات الناشئة عن الانتخابات، فإذا ما طعن بشرعية أحد اعضاء مجلس النواب بصحة عضويته، بناءً على تصويت ثلثي أعضاء البرلمان، يجوز لهذا العضو (المطعون بشرعيته) الطعن بقرار مجلس النواب أمام المحكمة الاتِّحادية العليا، وذلك بموجب نصّ المادة (52) من الدستور.
ثالثا: حجية الأحكام الصادرة عن المحكمة الاتِّحادية العليا والأثر المترتب عليها:
إنَّ قرارات المحكمة الاتِّحادية العليا تكون محكومة بنصّ قانون إدارة الدولة، الذي حكم بإلزامية القرارات الصادرة عن المحكمة(19)، وعلى أثره نصّ النظام الداخلي للمحكمة الاتِّحادية على أنَّ قرارات المحكمة "....باتة لا تقبل أي طرُق من طرائق الطعن"(20)، وبالاتّجاه ذاته ذهب الدستور الدائم في المادة (94)، والتي تنصّ على أنَّ "قرارات المحكمة الاتِّحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة"، وعلى هذا الأساس تُعدّ القرارات الصادرة عن هيئة المحكمة الاتِّحادية العليا قرارات تتمتع بصفة البتات والإلزام المطلق في الوقت ذاته، والبتات المقصود هنا هو أنَّ قرارات المحكمة قطعية لا تقبل أية وسيلة أو طريقة من طرائق الطعن في الأحكام التي نصّ عليها قانون المرافعات المدنية العراقية والتي تستعمل بمواجهة الأحكام الصادرة عن المحاكم العادية(*).
إضافة إلى صفة البتات، فإنَّ قرارات المحكمة تعتبر ملزمة، والمقصود بالإلزام هنا هو أنَّ القرارات والآراء التفسيرية تكون في مواجهة الكافة وتطبق على الكافة من دون تمييز، سواء أكانوا أشخاصاً أم مؤسَّسات أهلية أم حكومية، والغاية من هذا الإلزام هو توحيد تطبيق النصوص الدستوريَّة بغية صون الدستور والحفاظ على الحقوق المنصوص عليها دستورياً(21)، كما أنَّ صفة الإلزام في قرارات المحكمة تؤدِّي إلى تصفية النزاع حول دستوريَّة النصّ التشريعي مرة واحدة وبصفة نهائية بما لا يسمح لأية احتمالات باختلاف الاجتهاد في شأنه أو التناقض بين الآراء حوله؛ وبالتالي، فإنَّ أي فرد لا يملك أن يثير مستقبلاً، نزاعاً أو شكاً حول نصّ قضى بعدم دستوريته، كما أنَّ المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها ملتزمة بالامتناع عن تطبيق النصّ الذي قضي بعدم دستوريته، بمعنى أنَّه إذا ما دفع أمام المحكمة بعدم دستوريَّة نصّ معيَّن واتخذ الدفع مساره حتى قضى بعدم دستوريته، فإنَّ الحكم بعدم دستوريَّة النصّ مُلزم للمحاكم كافة سواء تلك التي قد أثير الدفع أمامها أم غيرها من المحاكم على اختلاف درجاتها وأنواعها، بل يصبح من واجب المشرِّع أنْ يُعيد النظر في النصّ الذي قضى بعدم دستوريته، فيعدِّله أو يلغيه ليحقق اتفاقه مع الدستور، كما أنَّ من واجب السلطة التنفيذيَّة أنْ تمتنع عن تطبيق هذا النصّ على ما ينشأ مستقبلاً من حالات فردية يمكن أنْ يحكمها هذا النص(22).
وبالرجوع إلى النصوص الدستوريَّة المتعلقة بتنظيم القضاء الدستوري في دستور 2005، نجد أنَّها خلت من أي نصّ يحدِّد الأثر المترتِّب على القرارات الصادرة من المحكمة الاتّحادية، فلم نجد حتى إشارة في متن الدستور بهذا الخصوص، خلافاً لما هو موجود في قانون إدارة الدولة؛ إذ أورد المشرِّع نصاً صريحاً حدَّد بموجبه، أنَّ الجزاء المترتب على الحكم الصادر من المحكمة الاتِّحادية والمتضمن عدم دستوريَّة قانون أو نظام، هو الإلغاء(23).
واستناداً إلى قانون إدارة الدولة، نصَّت المادة (4/ ثانياً) من قانون المحكمة الاتِّحادية العليا على أنَّ الإلغاء هو الجزاء المترتب على كلّ نصّ يخالف أحكام (قانون إدارة الدولة العراقية)، وبما أنَّ قانون إدارة الدولة قد أُلغيَ بموجب صدور دستور 2005، فإنَّ بعض أحكام قانون المحكمة الاتِّحادية قد عدلت ضمناً، وذلك من خلال تطبيقها. وعليه، فإنَّ رقابة المحكمة على دستوريَّة القوانين أضحت تقوم على فحص القوانين ومدى مطابقة التشريعات النافذة لنصوص 2005 دستوره ومبادئه، بدلاً من قانون إدارة الدولة، وهذا خلاف نصّ المادة (4/ثانياً) من قانون المحكمة الاتِّحادية العليا، ما يثير إشكاليه في شرعية عمل المحكمة ومشروعيَّة الأحكام الصادرة عنها، بما يخص الرقابة على دستوريَّة القوانين.
وإذا كان الأثر المترتب على مخالفة أحكام الدستور ومبادئه هو الإلغاء، أي انعدام النصّ التشريعي المخالف لأحكام الدستور ومبادئه وزوال آثاره المادية والقانونيَّة، فالنص التشريعي المطعون في دستوريته يبقى قائماً (من حيث الوجود المادي) ويكون جزءاً من الانتظام القانوني للدولة، ولكنه يكون فاقداً لقوّة إلزامه القانونيَّة، فلا يمكن له أنْ ينتج أي أثر قانوني يعتد به، ويكون حكمه من الناحية العملية حكم النصّ الذي لا وجود له أساساً، وتكون مهمة إلغاء وجوده المادي من الانتظام القانوني مسؤولية السلطة التشريعيَّة التي تلزم بإلغائه بنصّ جديد أو تعديله بما يتوافق مع نصوص الدستور ومبادئه(24).
المبحث الثاني
المعوقات التي تواجه القضاء الدستوري وسبل تذليلها
ان القضاء الدستوري في العراق –كما اوضحنا سلفا- هو قضا حديث وتطبيقه لا يزال هش وضعيف، ولكن ما هي اسباب هذا الضعف؟، وما هي سبل المعالجة له؟ هذا ما سنحاول ايضاحه من خلال هذا المبحث.
أوَّلاً: العوائق التي تواجه القضاء الدستوري:
إنَّ أهم المعوقات التي تواجه المحاكم والمجالس الدستوريَّة في الأنظمة الدستوريَّة العربية – بصورة عامة ومن ضمنها العراق - عادةً ما تتعلَّق بالجانب التكويني والتنظيمي في إطار النصّ الدستوري، فنجد أنَّ جل مواضع الخلل في هذا التنظيم تتعلق بآلية اختيار الأعضاء أو طرُق المراجعة ومُددها القانونيَّة، إضافة إلى محتوى ومضمون النصّ الدستوري المنظم لسلطة القضاء الدستوري، وسنحاول تفصيل جوانب الخلل هذه في الفقرات التالية:
1- من حيث محتوى ومضمون النصّ الدستوري:
عادةً ما نجد الدساتير العربية تتناول تنظيم القضاء الدستوري بشيء من الاختصار والاقتضاب؛ حيث تحدد الخطوط العريضة لهذه السلطة. وهذا التحديد هو بالأساس لإضفاء الشرعية الدستوريَّة؛ حيث يكون للمحكمة الدستورية سند دستوري يرتكز عليه في عمله وبه يواجه السلطات الأخرى في الدولة، فيقرر المشرع الدستوري إنشاء سلطة قضائية دستوريَّة وتحدد صلاحياتها أما بشكل نهائي أو يترك للمشرع العادي تحديدها أو الزيادة عليها، وكذلك قد يحدد الشروط العامة اللازم توافرها في عضو المحكمة الدستورية مع ترك تحديد الشروط الدقيقة وآلية الاختيار ومدة الولاية إلى قانون يشرع لاحقاً، وبالتالي يكون موقع القضاء الدستوري ضعيفاً من جهة النصّ الدستوري(25). وعليه، تكون سلطة القضاء الدستوري من حيث التشكيل والتنظيم القضائي والإداري تابعة لإرادة السلطة التشريعيَّة والسلطة التنفيذيَّة. فالحكومة لها اليد الطولى في تحديد توجهات المحكمة الدستورية ورسم الخطوط الأساسية لعمل هذه السلطة، وذلك من خلال مشروع القانون المنظم لها والذي يرفع من قبل الحكومة إلى السلطة التشريعيَّة، والتي عادةً لا تخرج عن إرادة السلطة التنفيذيَّة، كونها بطبيعة الحال حكومة توافقات حزبية أو أكثرية برلمانيَّة.
واتَّجه المشرِّع الدستوري العراقي إلى الاتّجاه أعلاه، إذ اكتفى بتحديد الصفة الدستوريَّة للمحكمة الاتِّحادية العليا والصفات العامة لأعضائها من دون تحديد عددهم، مع تحديد اختصاصات المحكمة -على سبيل الحصر- تاركاً الأمور الأخرى إلى قانون عضوي يشرِّع لهذا الغرض مختصراً ذلك في ثلاث مواد دستوريَّة لا يغنن ولا يسمن من جوع.
إضافة لذلك، فإنَّ المشرِّع الدستوري وقع في مطب دستوري تنظيمي، من خلال النصّ على أنَّ المحكمة الاتِّحادية العليا هي إحدى مكونات السلطة القضائية في العراق(26)، أي إنَّه لم يعتد بها كسلطة مستقلة تعلو على السلطة القضائية في تشكيلها ومكانتها الدستوريَّة. وفي نصّ آخر نجد أن المشرِّع الدستوري قد جعل المحكمة الاتِّحادية " مستقلة مالياً وإدارياً "(27)، وهنا يثار التساؤل إذا كانت هي مستقلة من حيث التنظيم المالي والإداري ولها نظامها الداخلي الخاص بها الذي تعمل بموجبه، فما هو وجه خضوعها للسلطة القضائية؟
من خلال هذه الصياغة الدستوريَّة المرتبكة وغير الدقيقة، نستطيع أنْ نستشف مقدار الخلل البنيوي في النصّ الدستوري المنظَّم لتكوين وعمل المحكمة، وهذا كله يؤثر سلباً على إدائها واستقلالها.
2- أسلوب تعيين الأعضاء:
إنَّ من أهم العوائق التي تواجه القضاء الدستوري، هو البعد السياسي في تعيين أعضاء المحكمة الدستوريَّة وهذه الإشكالية تكون من حيث الممارسة أكثر منها من جهة النصّ التشريعي، إذ عادةً ما ينصّ على تأليف المحكمة الدستورية على وفق آلية معيَّنة وبشروط محددة من دون الإشارة إلى وجوب مراعاة التمثيل الطائفي أو العرقي داخل المجتمع، أو الحزبي داخل البرلمان أو الحكومة، لكننا نجد أن تطبيق الآلية المنصوص عليها يكون بأسلوب المحاصصة والتوازن الطائفي والعرقي والتوازن الحزبي أو الكتلوي داخل البرلمان، كما هو الحال في العراق.
وعليه، فإنَّ تحكم السلطة السياسية في تعيين أعضاء القضاء الدستوري يُعدّ من أهم العوائق التي تواجه عمل هذه المؤسسة، ولعلَّ العامل الرئيس في تحكم السلطة السياسي هو القصور الوارد في النصّ الدستوري من جهة عدم تحديد آلية اختيار أعضاء المحكمة أو المجلس الدستوري وترك هذا الأمر إلى المشرِّع العادي ما يعطي مجال قانوني وشرعي للسلطة التنفيذيَّة باعتبارها شريكة في العملية التشريعية إضافة إلى دور السلطة التشريعية في إضفاء البُعد السياسي في تأليف هذه المؤسسة الدستوريَّة؛ حيث يكون أمر التعيين مناطاً بهاتين السلطتين، وهذا ما ذهب اليه المشرع الدستوري في العراق، فنجد الدستور العراقي الدائم لسنة 2005م، فإنَّه لم يفصل في تشكيل المحكمة، ولم يتطرَّق إلى تحديد عدد أعضاء المحكمة الاتِّحادية العليا، فقد ترك أمر تحديدهم إلى قانون لاحق، يُسَنّ بغالبية ثلثي أعضاء البرلمان، مكتفياً بتحديد الإطار العام لتشكيلة المحكمة(28).
وعليه، فإنَّ إخضاع القضاء الدستوري للاعتبارات والتوازنات السياسية سواء من حيث التشكيل، أو من حيث الأداء يؤثر سلباً على موقف هذا القضاء وعلى استقلاليته التي تُعدّ ضمانة من الضمانات المهمة لحقوق الأفراد وحرياتهم.
ثانياً: الحلول المفترضة لمواجهة مشاكل القضاء الدستوري:
نعتقد أنَّه بالإمكان الارتقاء بأداء القضاء الدستوري، إذا ما عملت الأنظمة الدستوريَّة متمثلة بالقابضين على السلطة، على وضع استراتيجية (29) مستقبلية للنهوض بواقع القضاء الدستوري، وهذا يلزم أنْ يكون رجال القضاء الدستوري قد أطلعوا على تجارب الدول الغربية ذات الباع الطويل في هذا المجال مع ضرورة توافر الإقناع التام لديهم بالحاجة لتطوير القضاء الدستوري، باعتباره ضرورة ملزمة لتحقيق الاستقرار، والذي يُعَد شرطاً أساسياً للنمو والتنمية الشاملة، ما يضمن العيش، ويساعد على تحقيق العدالة، وصون حقوق الأفراد وحرياتهم الدستوريَّة، وإذا ما توافرت الاستراتيجية المستقبلية المطلوبة، فإنَّه يمكن النهوض بواقع القضاء الدستوري من خلال الالتزام بـ:
1- توافر البيئة المجتمعية الصحية دستوريا، حيث إنَّه لا يمكن أنْ يعمل بشكل فاعل بمعزل عن مجتمع ديمقراطي فاعل، يعضده ويدعم مسيرته (الاجتماعيَّة الدستوريَّة) الهادفة إلى حماية أفراده، كون الكلمة الأخيرة في استقرار النظام الدستوري والسياسي في الدولة يعود للشعب بحدّ ذاته، فمن خلال تمسكه بقواعد الديمقراطيَّة وبحرياته الأساسية يستطيع هذا الشعب أنْ يقدم الدعم المعنوي الذي يساعد القاضي الدستوري في مسيرته الاجتهادية الخلاقة.
لذلك فإنَّه من الضروري نشر ثقافة العدالة الدستوريَّة على أوسع نطاق في أوساط المجتمع، بالشكل الذي يولد شعور وعقيدة لدى الأفراد بأنَّه لا يمكن قيام نظام دستوري قادر على حفظ حقوق الأفراد وحرياتهم من دون قضاء دستوري، وان نشر الثقافة يكون على مستوى مؤسَّسات المجتمع المدني والوسط الأكاديمي حتى يمكن -بعد ذلك- إدخاله في أدبيات الأحزاب الحاكمة. أن هذا الأمر إذا ما تحقق فإنَّه سيكون أداة ضغط على رجال السلطة باتجاه لزوم وجود سلطة قضائية دستوريَّة مستقلة تكون بمثابة سلطة رابعة مساوية للسلطات الثلاث في الدولة من حيث التنظيم والمكانة الدستوريَّة والحاجة العملية، لضمان حريات الأفراد وحقوقهم وضمان التوازن والاستقلال بين السلطات في الدول.
2- إعادة النظر في البناء التشريعي الدستوري، بما يخص المحكمة الدستورية في نصّ الدستور، فيجب أن يكون النصّ الدستوري ضامن لاستقلال القضاء الدستوري وساند لدوره في تنظيم سلطات الدولة وحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم. وذلك بالنص على صلاحياته وعدم تركها لإرادة المشرع العادي، ومنح أحكامه حجية وقوة حكم بموجب النصّ الدستوري، كي تكون لحجية أحكامه صفة دستوريَّة.
3- العمل على مراقبة أداء عمل القضاء الدستوري، والاتّجاه إلى تعديل النصّ الدستوري - المتعلق بالقضاء الدستوري - لما فيه توسيع لصلاحياته وتقوية لمركزه، فالمجتمع دوماً في تطور، والدول العربية بالذات في تغيير وعدم استقرار لجهة الوضع السياسي وموازين القوى الحاكمة، وهذا يتطلب من القضاء الدستوري إذا ما أراد أن يكون ذو دور فاعل وحاسم في التنظيم الدستوري للدولة أن يكون مواكب لهذه التطوُّرات، فلا يمكن تقييد دوره بموجب نصّ تشريعي، فيكون هذا النصّ عبء مقيد لنشاطه بدلاً من أن يكون ساند لعمله وإدائه الدستوري.
وإذا كان تعديل الدستور يعد معرقلاً في اتجاه إحداث إصلاحات في النصّ الدستوري لجهة التعديل في صلاحيات القضاء الدستوري، كون الدساتير العربية أجمعها دساتير جامدة وتعديلها يتطلب جهد وإرادة دستوريَّة قد لا تتحقق نظراً للظروف السياسية المتغيرة والتقلبات في موازين القوى داخل اللعبة السياسية الوطنية، لذلك فإنَّ الحل -في هذه الحالة- يتمثَّل في تحديد صلاحيات واختصاصات القضاء الدستوري بنصّ الدستور بشكل صريح ودقيق مع إعطاء المشرع العادي صلاحية إضافة صلاحيات أخرى بموجب نصّ تشريعي، على أن يكون تشريع هذا النصّ بأغلبية خاصة، أي جعله قانوناً عضوياً لضمان عدم استغلاله من طرف إحدى السلطات في الدولة وتسيير القضاء الدستوري - بموجبه - باتجاه معيَّن يتماشى وغاياتها.
4- العمل على تحسين أداء أعضاء القضاء الدستوري وذلك من خلال الاطلاع على تجارب القضاء الدستوري الغربي والاحتكاك بهذا القضاء، من خلال الندوات وورش العمل والمؤتمرات وفتح مراكز بحوث ودراسات تكون تابعة للمحكمة والمجلس الدستوري وتكون إحدى تشكيلاته أو أقسامه الإدارية التابعة له.
5- حتى لا يُتخذ القضاء الدستوري وسيلة للمماطلة السياسية والتسويف القانوني، كأن تقدم إحدى الجهات طعناً بعدم دستوريَّة نصّ تشريعي، ويصحب هذا التقديم، ضغط على المحكمة أو المجلس الدستوري، لأجل تعطيل حسم الطعن مدة من الزمن لتحقيق مآرب سياسيَّة، كأن تكون الغاية من ذلك، هو سحب نقمة وغضب الجماهير تجاه هذا القانون، أو تأجيل نفاذه مدة معيَّنة، أي تعطيل أحكامه، أو غيرها.
حتى لا يحدث هذا، يجب تحديد وإلزام المحكمة أو المجلس الدستوري بمدة زمنية -مهلة محددة- لإصدار الحكم وحسم النزاع، ويجب أنْ تكون هذه المهلة قصيرة ومتناسبة مع إجراءات المحكمة الدستورية.
الخاتمة
ولكل ما تقدم، فإننا ومن خلال بحثنا هذا توصلنا الى النتائج العلمية الاتية:
النتائج:
1- ان تجربة القضاء الدستوري في العراق هي حديثة العهد، وأنها نشأت تحت تأثير التوجه العالمي لإرساء دستورية الحكم، كوسيلة لضمان مشروعية عمل السلطات في الدولة، فلم تكن متشبعة في النفوس، ولم تقم القناعة على أنها ضرورة دستورية لا غنى عنها كما هي الحال في الأنظمة الدستورية الغربية.
2- بما أن " قيمة المؤسسات الدستورية من قيمة العاملين فيها " على حد قول الفقيه الفرنسي ليون ديكي(30)، فإن الضعف في البناء التشريعي الدستوري بالنسبة للنصوص المنظمة لتكوين وعمل السلطة القضائية سيؤدي إلى إضعاف مكانة أعضاء هذه السلطة ـ المحكمة أو المجلس الدستوري ـ، لجهة عدم النص على الشروط اللازم توفرها في الأعضاء، ومدة الولاية، وآلية الإختيار، والإمتيازات، والحصانات والضمانات الوظيفية الأخرى الواجب تحديدها بنص الدستور، كي لا تتخذ هذه الأمور وسيلة من قبل السلطات الأخرى وبالأخص السلطة الإجرائية للتحكم فيهم ـ أعضاء السلطة القضائية الدستورية ـ، وبالتالي المساس بمكانتهم الدستورية ـ المفترضة ـ وبإستقلالهم القضائي، مما يؤثر سلباً على أدائهم ودورهم الدستوري، كضمانة لحقوق الأفراد وحرياتهم من جهة، ولإنتظام السلطات العامة في الدولة وتوازنها من جهة أخرى.
3- لا يمكن تحميل القضاء الدستوري أكثر من طاقته، بأن نحمله مسؤولية الإخفاقات العملية التي وقع فيها، فهو وإن لم يرتقِ إلى مستوى المسؤولية المناطة به ولم يحقق الغاية الدستورية التي أنشيء من أجلها فإن هذا يعود لأمور وظروف وأطراف كلها خارج نطاق القضاء الدستوري ـ كما أسلفنا ـ وعليه فإننا نرى أنه بالإمكان النهوض بواقع هذه المؤسسة الدستورية القضائية ـ والتي تمثل سلطة عليا بحد ذاتها ـ وذلك من خلال اتباع الحلول المقترحة.
الاقتراحات:
كي نرتقي بعمل القضاء الدستوري في العراق، فاننا نؤكد على كل ماتم ذكره في (المبحث الثاني \ الفقرة ثانيا) من هذا البحث، والعمل على تطبيقه على ارض الواقع، كوننا نعتقد بانه –اذا ما طبق– سيكون وافيا لتطوير عمل المحكمة الاتحادية العليا في العراق.
وآخر دعوانا، أن الحمد لله رب العالمين