تنمية الذهنية
العنصر الغائب في مشروع التنمية في العالم العربي
مجلة الكلمة
2019-08-11 07:03
الدكتور بن أحمد قويدر، أستاذ محاضر جامعة عبدالحميد بن باديس، مستغانم – الجزائر
عالم فايزة، استاذة مساعدة جامعة عبدالحميد بن باديس، مستغانم – الجزائر
تمهيد
يعتبر مفهوم الذهنية من المواضيع المهمة والعميقة في الدراسات الإنسانية، لأنها قليلة بالنظر إلى حجم ما يمثله هذا المفهوم من أثر ووظيفة في دينامية العلاقة بين العالم الداخلي والعالم الخارجي للإنسان، وكيف أنه يصيغ لنا صورة متكاملة عن وجودنا، ومجالات حركتنا وسكناتنا، وكيف يتطور ذلك فينا، وكيف له أن يحقق لنا الشروط التي من أهمها قيمة القيم، التي تنتج عنها العديد من السلوكات والاتجاهات والاعتقادات.
لذلك ركزت الأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي على البيئة التي نعيش فيها، حيث استلهمت ذلك الوصف وفق النظرة الأحادية (التطورية)، التي استأثرت بالأنموذج الغربي وأسقطت سجلاته أي ذهنيتها على ذهنيات أخرى مختلفة عنها.
العديد من الحقائق التي أكدتها الدراسات الأثنوغرافية لمالينوفسكي عندما يحدد الإطار العلمي لنظرية الثقافة تؤكد علاقة هوية الشعوب بذهنيتها التي صاغت واقعها وآفاقها بين الطبيعة والثقافة.
من ضمن الباحثين في هذا المجال ليفي بريهال [Levy Brühl [1 (1927)، وهانري فالون Henri wallon، مرورًا بجان بياجي Jean Piaget، ووصولًا إلى الأنثروبولوجيا البنيوية مع كلود ليفي ستراوس Claude Lévi-Strauss (1908-2009) أن بيّن هذا الأخير خاصية الاختلاف بين منطق الحضارة ومنطق البداوة مبينًا أن «التفكير المتوحش يعتبر منطقيًّا بالمعنى نفسه وبالطريقة نفسها التي نحن عليها، عندما تكون مدعوة إلى معرفة العالم، أن تعترف بملكيتها الفيزيائية والدلالية. عندما يتبدد سوء الفهم لا يعنى أنه غير صحيح، عكس ما قال به بروهيل هذه الذهنية موجودة بطرق العقل، وليس بالعاطفة بمساعدة التميز والمعارضة وليس بالخلط والمشاركة»[2].
بمعنى أن هذه الشعوب لا تفتقد إلى منطق، وإنما البيئة التي وجدت فيها اقتضت المحافظة على الأمن الغذائي، والحماية من الافتراس، ومن الظروف الطبيعية المتوحشة.
1- الذهنية ومشروع التنمية
عندما يتعلّق البحث في الذهنية كمشروع للتنمية، يصبح ذلك معقّدًا لما يتصف به هذا المفهوم من متغيرات يصعب ضبطها، ومن هنا ندرك لماذا بقيت هذه البنية في طور الإنجاز. ما يهمنا هو كيف لنا أن نحدد هذا المفهوم من حيث إنه قابل للتطور، وبإمكانه رفع التحدي لتطوير قيمة الإنسان من خلال إبداعاته وقدراته، ومشروع الاختلاف هنا هو اختلاف نمط التفكير، أنماط تصور العالم، قيمة القيم والسلوكات، قيمة الحاضر والماضي والمستقبل، قيمة الفكر والواقع.
كلها مفاهيم تحتويها الذهنية لتجعل منها أُسُسًا في غاية الأهمية من أجل التنمية والتطوير، ينبغي التركيز عليها من حيث المنهج ومن حيث الإمكانات المادية والمعنوية، لأننا فعلًا بحاجة إلى إنسان ناضج نضج القيم المعطلة في ذاته.
يحدد أي مشروع تنموي بناءً على الموارد المادية والبشرية التي توكل لها كل مراحل الإنجاز منذ بدايته كفكرة إلى نهايته كمشروع منجز. لذلك حاولنا أن نبين أن أي مشروع تنموي خارج إطار تنمية الذهنية هو مشروع يحتاج إلى إعادة النظر، لأنه لم يضبط الاستعدادات ولم يحترم الكفاءات، ولم يهيئ لديهم الوعي كحس مشترك، بمعنى أنه بعيد عن واقع التنمية الحقيقية.
لماذا الذهنية؟
في البداية، كلمة ذهنية لغة: مستمدة من كلمة «ذهن»، والتي تعني الفهم والعقل[3].
وهي مشابهة لكلمة Mental في اللغة الفرنسية فقد جاء في قاموس Robert Historique الذي استعمل المفهوم بمصطلح الذهنية mentalité سنة 1842 لأول مرة من طرف للدلالة على «حالة جودة كل ما هو ذهني»، ويقصد بها الأفكار ذات القيمة من حيث التطوير في مختلف المجالات Radonvilliers [4].
والكلمة «مستمدة من كلمة Mentalis اليونانية التي تعني النفس L’âme وتعني L’intellect الذي هو الذكاء (القدرة العقلية) وهي مبدأ مفكرة وتنشيط تثقيفي»[5].
وقد جاء في اصطلاح القدماء أنها قوة النفس المعدة لاكتساب العلوم التصورية، لكن من الملاحظ أننا نجد أنفسنا أمام مفارقة دلالية ولغوية بين «الذهن» و«العقل»؛ فالعقل يتميز بالكلية وملكة المبادئ وإدراك مطلق للأشياء (نظري مجرد)، أما الذهن فملكة القواعد نطلقه على الأمور التجريبية وهو إدراك جزئي (عملي)»[6].
فالعديد من الدراسات تستعمل كلا المفهومين بالمعنى نفسه، إلَّا أن منها ما يفرق بينهما من حيث طبيعة المدركات الملموسة والمجردة، ومنها ما يعتبر أن الذهن خاص بالتصور، والعقل خاص بالأحكام، فشوبنهور يرى أن الذهن «ملكة ربط التصورات الحدسية بمبدأ السبب الكافي، أما العقل فهو قوة معدة لاكتساب التصورات المجزأة وترتيبها وجمعها في الأحكام والاستدلالات»[7].
فالذهنية هي بناء محدد لسيرورة العمليات العقلية التي تستند إلى كل ما هو ملموس وما هو مجرد، والعقل هو وظيفة الذهنية من المدركات والعمليات التي تقتضي التحليل، فهي في الأخير جملة ما وصل اليه العقل من ملكات كامنة تستدعيها المواقف كلما حضرت.
2- الذهنية في الفكر العربي
بما أننا نريد أن نعمل على تطوير نضج ذهنيتنا هذه في عالمنا العربي، أي إننا نحاول تحديد خصائص تلك القيم التي تميزها وتحركها، فإننا مدعوون إلى معرفة هذا المفهوم الذي حضي بالدراسة في الثقافة العربية الإسلامية، مثلما ذهب إليه كل من ابن خلدون، ابن حزم، أبو حامد الغزالي، والمعاصرون أمثال الجابري، والعروي، ومطاع الصفدي.
فقد ذهب أبو حامد الغزالي إلى اعتبار «أن العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة»، ملكة متأصلة في كينونة الذات، أما ابن حزم فقال بأنه «قوة أفرد الله بها النفس، تميز بها جميع الموجودات على مراتبها، وشاهد على ما هي عليه من صفاتها الحقيقية لها فقط، وينفي عنها ما ليس فيها، وهذا التمييز هو أحد إدراك العقل الذي لا إدراك غيره». فهي قدرة التمييز بين الموجودات وغير الموجودات.
وذهب ابن خلدون إلى اعتبار أن العقل «هو مشخص ومحدد بالممارسة، والتشخيص يحصل للنفس الانتقال من الدلالة إلى المدلولات، وهو معنى النظر العقلي الذي تكتسبه العلوم المجهولة، فتكسب بذلك ملكة من العقل تكون زيادة عقل»[8].
كما اعتبر ابن خلدون أن العقل لا يورث ولا يكتشف إلَّا بالتجربة المتجددة، وعقل الفرد هو حصيلة تجربة جماعية تتلخص في عقلية العقل، إذن فإن «عقول كل واحد مرتبط بسلوك جماعي، فنجد أن ابن خلدون يجري نوعًا من المطابقة تكاد تكون تامة بين نمذجة العقل وهو مورفولوجيا المجتمع أي سوسيولوجيا العقل»[9].
من خلال هذه التحديدات نُبقي على الذهنية بأنها ملكة تتعامل مع المعرفة الفردية والجماعية، تطور من خلالها معاشها، وتحافظ على وجودها وهويتها.
لكن يحدث أن نقف قليلًا مع ذواتنا متسائلين: كيف لهذا الواقع الذي أصبح مشروع هيمنة من الآخر الذي يدير ذهنيتنا، من خلال تلك المثاقفة التي شوشت لنا أفكارنا ومعتقداتنا؛ لأنها لم تكن صلبة بما يسمح لها بالمقاومة، إلى درجة أنها أصبحت ذهنية غير مستقرة على مرفأ ومنفصمة بين قيمة الأفكار وقيمة الواقع الذي أصبح واقعًا غير مؤهل ليستجيب لتلك الأفكار التي لا تنسجم مع متطلباته.
يقول حميد محمد: «إن الحديث عن الذهنية العربية ومكوناتها وسماتها وآلياتها ونتائجها، هو حديث ذو أولوية وضرورة؛ لأن أي حديث عن الفرد والجماعة والطبقة والمجتمع والنظم المعرفية، هو حديث تالٍ للحديث عن الذهنية، والحديث عن التطوير والنهوض والاشتقاق والابتكار والممارسة (الأمم والمجتمعات الاخرى) والتجاوز والتأخر والتقدم والتراجع».
ويضيف: «إن الذهنية كتاب مدون من ثلاث مدونات؛ مدونة الماضي: باعتبارها أفعالًا وأحداثًا وحادثات حدثت وانتهت، مدونة الحاضر: بوصفه الإنجاز الذي يحققه الفرد والجماعة والمجتمع، مدونة المستقبل: بوصفه خطة عمل أبصرت الحاضر ووعت الماضي فاستفادت من دروسه وتجاربه»[10].
3- مقومات الذهنية في فهم التطوير
التطوير بُعدٌ استراتيجي ضمن برنامج الذهنية، لأنها تتمتع بمجموعة من الخصائص التي تدعونا إلى التركيز على هذه المقومات، وهي:
1- أنها مشتركة بين عناصر ذات ثقافية، فالجماعة بالضرورة هي مجموعة أشخاص لهم ذهنية متماثلة.
2- الذهنية هي الرابط الأساسي الذي له مقاومة خارجية، والذي يربط الأفراد بجماعتهم وهي غير متغيرة.
3- هي العنصر الأساسي الأكثر مقاومة في الأنا[11].
4- هي مكثفة داخل الحياة الاجتماعية متموضعة بين العالم الخارجي (الفضاء الخارجي) والداخلي (النحن). مثلها في ذلك مثل الموشور Prisme. يقول إيمانويل كانط E. Kant: «فهي الشكل الأول لمعرفتين، فهي المحدد بشكل واسع لإدراكاتنا، فمن خلالها تمر كل إدراكاتنا الداخلة إلى الذات، وكل الإنجازات الناتجة عن الأنا»[12].
ومن وجهة ظاهرية نستطيع أن نستكشف أن هناك علاقة وطيدة بين الذهنية وتنظيمها الفيزيقي.
5- وجود إطار عام للذهنية، حيث يحدد كونها عالمية، معنوية، تعبر عن نفسها بواسطة وسائل وأدوات مختلفة:
أ) كونية Cosmologie: عبارة عن آلية اتصال الإنسان بعالمه الخارجي، وبذلك فهو يحتاج إلى مجموعة من المعارف تكون بالمرة تجريبية، استنباطية، جدلية، تأويلية، هذه المعارف تكون لها سمة مميزة نتمثل بها العالم[13].
ب) معنوية Moral: عبارة عن مجموعة المعتقدات التي تتحكم في العلاقات الإنسانية فيما بينها. فبالمرجعية إلى الاعتقادات الذهنية نحكم على الأفعال ونتهيأ للمستقبل وكذا على التجربة الحالية النسبية، فالمعنى هو أكبر ثباتًا من الكونية، فكل ديانة مثلًا تحمل مبادئ معنوية التي نجد فيها عمقها وتفسيرها. يقول هوفولينج H. Hooffoling: «هي اعتقاد في ديمومة القيم»[14]. كما نجد إيدجار موران Edgard Morin يقول: «كل ديانة فردية أو جماعية معاشة تشكل ذهنية»[15].
ج) التقنيات Les Techniques: كل حضارة تعتمد في وجودها على المادة كي تحافظ على بقائها، فهي مرتبطة أساسًا ونسبيًّا بالكوسمولوجية (الكون) فتحقّق بذلك روابط بين الكوني والتقني، وكذا المعاني المتوخاة من ذلك، فهي متشابهة، مثلًا عندما ندرس حركة نشأة السحر كما قام بذلك جيمس فرازير J. Fraiser معتبرًا أن السحر بالنسبة للشعوب البدائية مماثلًا للعلم في العصر الحديث[16]. فدراسة السحر تقتضي دراسة الآليات والمواد المستخدمة في العمل، والشيء نفسه بالنسبة للعالم التقني، فهو يحتاج إلى تقنية تحدد له تجاربه، وملاحظاته، تميزة عن غيره من الممارسين.
4- دراسة الذهنية في علم النفس الاجتماعي
البعد النفسي مطلوب لصياغة حقيقية لسيرورات الذهنية من حيث البناء والوظيفة، لذلك تم تناول هذا المفهوم في علم النفس الاجتماعي لما يتمتع به من خاصية المركز في السلوك والاتجاهات والآراء وتحديد القيم، وتمت مناقشته بما يحدد مؤشرات بروزه أو انزواءه.
نجد ذلك مجسدًا من خلال التعاريف التالية، وكلها مفاهيم تأخذ بعين الاعتبار الإطار العام للذهنية، منها: البنية، النسق، الاستعداد، الحركية (الدينامية).
بداية مع ألكس ميكيلي Mucchielli Alex حيث اعتبر أن الذهنية بمثابة: «مجموعة السلوكات والقيم والاتجاهات التي تكون بنية ذهنية، من خلالها تتحدد الأفكار والسلوكات لأفراد المجتمع قيد الدراسة»[17].
فهي مصدر السلوكات والتوجهات التي تحدد نمط التفكير والتصور، بحيث تصبح عندما تتأسس على بناء فعال، عبارة عن مجموعة من المبادئ والقيم الراسخة في منطق الترابط الاجتماعي، ذلك ما ذهب إليه سميل تايسر Symil Tyser معتقدًا أن «الذهنية هي مجموعة مكونة لنسق من المبادئ من خلالها يمكن أن نأخذ مجموع التوجهات النمطية لمجموعة أو أفراد، هذه المبادئ هي المعتقدات، القيم والمعايير، فهي قواعد منطق الجماعة أو الفرد»[18].
من الملاحظ أن الذهنية أصبحت قاعدة جوهرية لكل سلوك فردي أو جماعي، وقد أخذت مفهوم آخر باعتبارها «مجموعة الاستعدادات السيكولوجية التي ترتبط بنظام من القيم، التي تعطي لنا تصورًا للعالم أو معاني للأشياء في الكون تحدد اتجاهنا، وملاحظاتنا، تحدد سلوكاتنا»[19].
في هذا السياق أصبحت أكثر عمقًا، عندما أصبح ينظر إليها على أنها ملكة أو استعداد سيكولوجي، يحدد جملة المعاني والسلوكات التي تحقق التوافق والانسجام بين الفرد والواقع والجماعة التي ينتمي اليها.
وجاء في مقال لـكلود تيشي Claude de Tychey في مجلة علم النفس Bulletin psychologie أنها باعتبارها «سيرورة من خلالها تبرز أهمية شيء ما، يتم أيضًا من خلالها التركيز على حجم من المبادئ والمعتقدات والمعارف، تكون مستقرة نوعًا ما، والتي يمكن أن تكون حاضرة في كل زمن، فهي التي تشكل عمق الذهنية»[20].
ولها وظيفة تقييم الأشياء والأفكار ومختلف العلاقات التي تربط بينها، أما من خلال تجارب شخصية أو معارف حديثة، وهذا يبيّن تلك العلاقة مع الواقع كنمط ملتزم بما يقدمه لنا الواقع أو ما نسقط عليه نحن ما نتصور أنه الواقع، ومن هنا تبدأ درجة النضج في التعامل مع قيمة ما يقدمه لنا الواقع.
5- الذهنية كموضوع في الأنثروبولوجيا؟
لما كانت الأنثروبولوجيا كما عرفها كلود ليفي ستراوس Claude Lévi-Strauss: تركز على «معرفة شاملة للإنسان، تمس ذاته في كل وجوده التاريخي والجغرافي، مستمدة من معرفة قابلة للتطبيق»[21]، فبالنسبة لليفي كان همّه الوحيد الوصول إلى «اكتشاف القوانين العالمية للذهنية الإنسانية في مختلف الثقافات المعروف في الأنثروبولوجيا»[22],
يلتزم فرانسوا لابلنتين François Laplantine بتلك المركزية الغربية في تحديد مفهوم الأنثروبولوجيا على أنها: «دراسة الشعوب المغايرة للشعوب الأوروبية»[23].
رغم أن أصل الكلمة مستمد من Anthropos التي تعني «الأنسان» وLogos تعني علم، أي علم الإنسان، كحقل علمي جديد لملاحظة الاختلافات التي أدت إلى أحكام ذاتية، أدت فيما بعد إلى جملة من الاستعمارات بدعوى إخراج هذه الشعوب من البدائية التي يعيشونها إلى الحداثة والتطور، حيث ركزت على فهم السيرورات الذهنية غير المنطقية أو غير العلمية لتصف الذهنية البدائية على أنها طفلية، خاصة في دراسات ليفي بريال عندما فرّق بين الذهنية الأوروبية على أنها علمية ومنطقية والأخرى ما قبل المنطقية.
الذهنية المرجعية بالنسبة للفرد كمماثلة مع مفهوم الفلسفة في علاقة الإنسان بالعالم، فنجد أن الفلسفة تقوم بالإجابة عن استفهامات الوجود كممارسة عقلية حول الإدراكات العقلية ويحولها إلى معرفة، تفيده في الارتقاء، فهي تقوم بتحديد رؤى للعالم، تتميز بقوانين معرفية، ينتابها المنطق والجدل والاستدلال العقلي، من خلالها يتم تفسير الوجود وتبرير الأفعال[24].
فالذهنية بمثابة الوعاء المعرفي المشكل من نسق من المبادئ التي بدورها تعمل على تحرير الفعل المعرفي من شكله النظري والمجرد إلى شكله العملي، ليتم الاستفادة منه في عملية التكيف، حيث تتحرر مجمل المبادئ الداخلية، المكونة لاستعدادات الفرد من خلال توجيه سلوكاته نحو أهداف نفعية، يتم من خلالها بناء طموحاته الخاصة بمنظومته الإثنية.
هذا ما حدده جيروم برينار Jérôme Bruner بقوله إن: «تطور الإنسان قد وضع الحدود عندما أصبحت الثقافة العامل الأساسي الذي يعطي شكل العقل الذي يعيش في رحمها. ذلك من خلال النسق الثقافي الاجتماعي بتطور الفرد، وبواسطة التنشئة الاجتماعية والتربية واللغة تتكون ذهنيته ومحتوياته ومعاينته للعالم الخارجي، ومن هنا يصاب بالمرض، ومن هنا يكون بحاجة إلى العلاج، العلاج المادي وغير المادي»[25].
لقد عمل الباحثون في حقل الأنثروبولوجيا إلى التفريق بين الذهنية البدائية والذهنية الحديثة، وبتصنيفهما وفق مقومات طبيعية وثقافية، فمن مقوماتها الطبيعية أنها ضرورية في إدراك العالم الخارجي، وإعطاء انطباعات توازي في ذاتها السيرورات النفسية والعقلية المصاحبة لهذه العملية، وتتحدد وفق هذه التركيبة مكانة الفرد وديناميته داخل المنظومة التي ينتمي اليها.
أما من الناحية الثقافية فتتحدد من خلال جملة الإنتاجات، وحصيلة التفاعل واستيعاب تحديات الطبيعة، ليتم توظيفها في حياة الفرد والجماعة التي ينتمي إليها، ومن خلال ذلك تتحدد رؤيته للعالم المتميز عن الآخر، من خلال الخصائص والمميزات التي تفرقه عنه وتجمعه معه من حيث هو إنسان.
وتبين الدراسات النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجية في هذا المجال، أن الذهنية بنية خاصة، تحدد مختلف الخصائص التي تميز حضارة عن أخرى بما يحقق وجودها في عالمه المميز، مركزين في ذلك على:
1- المحيط أي البيئة الطبيعية، والتي تشكل المادة الأولى المتمثلة في الفضاء البيئي الذي يوجد فيه الفرد وينمو داخله.
2- التقنية أو الوسيلة الإنتاجية لعلاقة الإنسان مع الطبيعة، وهذه الوسيلة أو الآلية التي تحقق التكيف والتفاعل، قصد التكيف والمعرفة والاعتماد على النفس من أجل التواصل وتحقيق الذات والشعور بالوجود.
3- خصائص البنية المكون لمختلف المركبات الداخلية للمجتمع، ضمن هذه الجدلية بين البيئة والوسائل الناتجة عن عملية الاحتكاك، تتشكل لديه بنية تركيبية لمختلف السلوكات والقرارات والتصرفات الفردية والاجتماعية، فكل ما يحرك ذلك هو ما نصطلح عليه بالذهنية.
بالنسبة إلى الخصائص الإنسانية، فإنها تتشكل وفق «خصائص البنية الأولية لهذه العلاقة، ذلك لأن كل عنصر له قيمته الترابطية والوظيفية والإنتاجية في علاقاته مع العناصر الأخرى لتصل في الأخير إلى العنصر الأساسي الذي له خصائص نفسية وهو الذهنية»[26].
ومن ثم أصبحت الذهنية هي وظيفة الثقافة كمغايرة للآخر، كما رأى بذلك هيركوفسكي حينما قال: «يجب البحث عن إمكانية حل المشاكل النفسية، واكتشاف كيف ان الإنسان يكتسب ثقافته ويتحرك كفرد في المجتمع، وأن المسألة الفلسفية لمعرفة اذا كانت الثقافة وظيفة للذهنية الإنسانية أو إذا كانت موجودة في ذاتها ومن ذاتها»[27].
صاغ مرسل موس Marcel Mauss نمطًا للذهنية التي تختلف عن تلك التي تميز الإنسان الغربي، من خلال دراسته للشعوب البدائية حدده كالتالي: «أولًا إذا استطعنا أن نتصور الذهنيات البدائية، فالفرق الموجود بين كلماتهم وأفعالهم ليس كبيرًا مما هو عليه في عقولهم، فهو أقل ما هو عند الغربيين»[28].
موضحًا بذلك الاختلاف في التصور بين كلا العالمين، ومبرزًا أهم علاقة بين الفكر المتمثل في اللغة والأفعال والمتمثل في الممارسات اليومية، التي ترتبط بالحماية لهم ولأبنائهم من حيث الغذاء والأمن والإشباعات المختلفة، بين هذه الشعوب الطبيعية والشعوب المتطورة (المعتمدة على التقنية).
إن أهم عنصر جدلي كان له الأهمية القصوى في تحديد وظيفة الذهنيات هو منطقها الخاص الذي نشأت فيه، ومن خلاله تشكلت لديها رؤية للواقع وللغيب، فالذهنية الحديثة تفسيرها للظواهر ليس مؤسسًا فقط على التفسير العلمي الخالص، هناك العديد من الظواهر التي يعجز العلم عن إيجاد تفسير منطقي لها.
ومن هنا جاءت فكرة القطيعة الإبستمولوجية لغاستون باشلار G. Bachelard على اعتبار أن «الواقع لا يمكن أن يكون ما نعتقده، ولكن هو دائمًا ما يتعين علينا التفكير فيه»[29].
فالمعرفة العلمية تحتاج منا الموضوعية كمنهج حقيقي في تعاملنا مع الظاهرة المدروسة، ليتسنى للباحث التخلي على الأحكام المسبقة، التي مصدرها التأويلات الذاتية، حيث يجب تجاوزها بنزاهة الموضوعية لوضع مسافة بين الباحث والظاهرة المدروسة.
في هذا السياق أجرى جيمس فرازير J.Fraiser مقاربة بين السحر عند الشعوب البدائية، والعلم عند الشعوب الأوروبية المتحضرة، بيّن فيه: «الفرق الموجود بين الذهنيات من خلال دراسة العلاقة بين الساحر البدائي والعالم الأوروبي»[30].
مبينًا كذلك الاختلاف في الطريقة في فهم ما يدور حولنا، ووحدة المصير التي تجمع بين أفراد منظومة إثنية ما، ليفرق بين الذهنية البدائية التي تستمد قوتها من تلك العلاقة الانصهارية بين الفرد والطبيعة، بينما الذهنية الأوروبية تستمد قوتها من إبداعات الإنسان والتغيرات التي أحدثها على الطبيعة، محرزًا تقدمًا نوعيًّا بلغ به الحال إلى تدمير الطبيعة لأنه يحرز انسجامًا غير متوازٍ مع الطبيعة، لقد تجاوزها من أجل أن يحقق الرفاهية، ولكنه في الواقع يظهر أزمات مثل الجوع والفيضانات والاختلالات المناخية التي بدأت تنخر جسد الطبيعة التي طورت إنسان ما فوق الطبيعة.
أما بروهل Brühl فقد فرّق بين الذهنية ما قبل المنطقية المتمثلة في الشعوب غير الأوروبية، بقوله: إن كليهما سطر طرقًا متقاربة نحو علم السحر كشكل من أشكال الحياة الذهنية لثقافات دون علم، ولا تقنية[31]. إلا أن الواقع بين الشعوب حريص على أن يبين لنا الاختلاف الثقافي من مجتمع إلى آخر، كدليل على اختلاف في المنظومة الذهنية.
6- معيار النضج وتطور الذهنية
إن محتوى الذهنيات يختلف حسب الطريقة التي يظهر بها، وعلى حسب المجتمعات والحضارات، فإذا تحدثنا عن ذهنية مجتمع، على ماذا نتحدث في الحقيقة، وكيف نميزها؟
يمكن الكشف عن ذلك في الملاحظات الآتية:
1) هناك من يرى أنه يجب البحث عن الأفراد الممثلين لكل مجتمع، نحدد ونصف نفسية الأفراد الأكثر بروزًا، والأكثر تمثيلًا لمعارفهم الأصلية، ولاختراعاتهم وكل خصائصهم، فكل الحضارات والتقاليد مهما كانت دينية أو عسكرية أو فنية (إنتاج ثقافي)، فهي دائمًا معروفة[32] بأنها خاصة بجماعة دون أخرى.
2) هناك من يرى أن الإنسان هو الممثل للمجتمع كمعيار، والذي من خلاله يؤكد تطوره، ففهم ذهنية المجتمع لا يقوم إلَّا من خلال بحث عن هذا الإنسان، وفي أغلب الأحيان قد لا يمد لنا إلَّا صورة فقيرة عن محتوى مجتمعنا[33].
3) قام إميل دوركايم Emile Durkheim بنقد الإنسان الأنموذج، حيث يرى أنه يجب إظهار المعارف الخاصة بكل مجتمع من خلال موارده التي يمثلها، وليس متعارضًا مع الواقع، فهو جزء يقع ضمن أحكامنا وقراراتنا، وأن يكون بمثابة المرجع، فهو مهم لأفعالنا، أي نتصل بالأقرب على أنه نموذج حاضر دائمًا.
ففحص الذهنية بربط التوائم الثلاثة: شخص أكثر تمثيلًا، إنسان معياري ممثل، ودراسة معارف المجتمع ومُثُله.
أما دراسة الحضارات فتقاس بالنظر إلى النخب التي تظهر لنا أفعالهم ويبينون لنا قدراتهم، ونختبر بذلك وظائفهم واكتشافاتهم واختراعاتهم، ونماذج تفاعل المادة بالإنسان الممثل والوسيط[34].
أما الحس المشترك عمومًا فهو مرتبط بحالة الثقافة والعلم وبالكيفية المعيشة في الوقت نفسه ومن خلال النخب. فالسّمة الأساسية للنخبة أنها تقدم على مستوى الحس المشترك، وهي تختلف باختلاف الأقسام الموجهة، والمواصفات التي من خلالها يتم اختيار السلطة، وضمن هذه المحتويات يركز على العناصر التالية:
أ- أحكام القيم والواقع: من وجهة تصنيف معارفنا الممكنة وأفكارنا يجب الاعتماد على بعض المميزات، ومن الجهة السوسيولوجية نجد أن دوركايم قد فرّق بين حكم قيمي وحكم حقيقي.
فالحكم الحقيقي: يعبر عن اكتساب بسيط، مثلًا: الأشجار خضراء، وهي تعبر عن كل حكم واقعي. والحكم القيمي: هو عامل لا يمكن أن يكون في معزل عن الحياة الاجتماعية، إذا أضاف تقديرًا في الأخير هو نسبي، مثلًا: الإنسان حسن[35]، وهنا يختلف باختلاف السجلات الثقافية للمجتمعات.
ب- درجة المعتقدات وقوة الأفكار: في أي مجتمع بعض الأفكار تتمكن من المنظومة عندما تكون قيمها الروحية وهيمنتها عالية فتقبل من طرف الجميع، فهي تظهر قوة انفعالية (عاطفية) هامة. وهذا ما يسميه الفيلسوف فويي Fouillé (قوة الأفكار) Puissance des idées، فالكلمات التي تمثلها تنتج نوعًا من الضغط (القوة) السحرية النقية الدافعة للرعب والخوف الجماعي والحماس أو الجنون.
مجموع الأحكام والأفكار التي هي عبارة عن أدوات لاعتقاد كل الأفراد المكونين للمجتمع تعبر عن حسهم المشترك. فهي تلعب دور المنسق العام للمرجعية الذي تقوم عليه أفعالنا وتفكيرنا، كل ذهنية هي نتيجة جهد كبير، عبارة عن أعمال لعدد كبير من الأجيال السابقة التي تترك الانسجام في أفكارنا ومعارفنا فيما بيننا[36].
ج) درجة الانسجام بين الذهنيات: الذهنية عمومًا تكون على الأقل منسجمة، فمثلًا الشعوب البدائية مرتبطة بطقوس وعادات، فهم يشكلون ما يسميه هانري بارغسون Henri Bergson حضارات مغلقة Civilisations fermés، ينعدم فيها الحراك نحو التبادل والمبادرة. والشيء نفسه في المجتمعات المركبة، إذ يوجد دائمًا بعض المعتقدات العامة يتفق عليها بأشكال ومفاهيم أساسية تكون ذات انسجام مستقر عند إقصاء خصائص كل الجماعات. إذن فقط عندما يتغير الحس المشترك يمكن أن نتحدث عن تغير معتبر في الذهنية[37].
7- مشروع تطوير الذهنية
7- 1- مشروع تنمية ذهنية الفرد
نعتقد أن مشروع التنمية يبدأ كمرحلة أولى على مستوى الأفراد للتشبع بالنضج، والوعي بقضايا المجتمع والمحيط ومستقبل الأجيال، مفوضًا في ذلك إمكاناته من موقعه وجهوده وحرصه وطموحه، معززًا ذلك الشعور بالوطنية كقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، وبالهوية في الدرجة الثانية.
لصياغة هذا المفهوم الإجرائي، استندنا إلى تعريف مطاع الصفدي حيث يرى أن «العقل يصير هو النقد الخالص، باعتباره يردف إنتاجه ويصاحبه دائمًا، لا يعلو فوقه، ولا يتخلّى عنه، وقراءة العقل صارت تعني اكتشاف جاهزية الملفوظ والمفعول من حيث إنه فاعل دائمًا، ولا ينتهي فعله»[38].
تلك هي الصفة التي وصف بها العقل من حيث هو جاهزية فعالة ومستمرة في الفعل لتشكل إمكانات المحتوى العقلي وما يدل عليه، فجل المعاني هي مجردة وجوفاء إذا لم تحقق جانب الفعالية، عندما تشكل الإطار المرجعي للفهم والسلوك، «فهي المحتوى الثقافي الذي تتشكل فيه أداة الإنتاج العلمي والعملي، بثقافة معينة، تعبر عن واقعها بسلوكات، واتجاهات، وقيم وتصورات وطموحات».
ترتكز هذه الفكرة على تلك العلاقة بين الذهنية كمصدر للفعل والفكر والكيفيات التي يتم التعامل معها في سياق التنمية، والتعبير عن الرؤية المستقبلية، وعن القيم ودروس الماضي، ويتم تداولها بين الأجيال وفق نظم معرفية، يحددون من خلالها رؤية للعالم وصورة عن الذات محملة بثقافة أساسية وأخرى فرعية، لإنجاز ذلك العمق من الهوية.
ومعبرة في الوقت ذاته عن واقعهم وطموحاتهم، على حد تعبير محمد عابد الجابري حين يحلل العقل العربي بمستوياته حيث يقول: «العقل العربي الذي سنقوم بتحليله، نقصد به جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تتحكم بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، ومجال إنتاجها وإعادة إنتاجها. العقل العربي هو البنية الذهنية الثانوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين»[39].
وبذلك يبرز لنا أن الفعالية الذهنية في تعاملها مع عالم الأشياء والأفكار من حيث الاستنتاجات والإنتاجات المعرفية، والتي تعكس بالضرورة قيم المحتويات التي شكلت الذهنية التي تصبح فيما بعد القاعدة والمنطق المنظم والمنسق لكل عناصرها، فمثله كمثل منبع الماء الذي يستوفي تدفق مياهه دون أن يعير حجم ما استوفى كل جدول من الماء؛ لأن قدرة كل جدول هي المقدار الذي ليس للمنبع أي دور في تصريفه، لكنه يضمن النبع الصافي.
ومن ثم فالأفراد يتلقون تلك القيم الأصيلة من الذهنية الجماعية حتى تطور لديهم الحرص على تنظيم ذلك التفاعل المفضي إلى قناعات الوعي بجلِّ ما يطرح من مشكلات وما ينجز كحلول!
7- 2- تطوير الذهنية كمشروع جماعي
عندما يتطور ذلك الجانب من الفرد إلى مستوى أعلى من حيث الاستعداد والطموح، تصبح الجماعة في ذاتها مشروعًا ناجحًا عندما تجمع قواها وأفكارها ووعيها المشترك وحرصها على وحدة المصير، ويصبح مشروع التنمية مسألة إرادة ووقت؛ لأن البنيات الأساسية أصبحت جاهزة لتحمل على عاتقها مشروعًا بهذا الحجم.
من المعلوم أن هذا الترابط هو نتيجة التنازع الحاصل على أن البنيات الذهنية تتشابه بشكل كبير مع البنيات الاجتماعية، واتضح أنهما متلازمان وغير متفرقين[40].
فالبنيات الاجتماعية تفترض وجود تبادلات واعية أو غير واعية بين المجتمع والأفراد، فهي موضوع من مواضيع علم النفس الاجتماعي في دراسته للتفاعل القائم على أساس الأدوار، وتبادل المنفعة، كالتعاون والتضامن والتعلم[41].
فإذا عدنا لما قال به ريني ديكارت R. Descartes: «أنا أفكر إذن أنا موجود» فمن جهة علم النفس الاجتماعي «أنا أفكر بواسطة ذهنية غير محدودة»، أما من الناحية الأنثروبولوجية «أنا موجود بواسطة ذهنية أنتمي إليها»، فالذهنية هي جزء مندمج في الأنا الذي لا يعرف الاتفاق بدونها[42].
لقد اقترح إميل دوركايم E. Durkheim من أجل التفريق بين ما يسمى بالأفكار Idées الفكر والتصورات الفردية والمفاهيم Concepts، وهي التمثلات الاجتماعية، وراء كل هذه الاختلافات والتنوعات، تستمر بشكل مستقر، لها وظيفة الحكم على المفاهيم والمعتقدات التي ترتكز عليها، في عمق كل فرد من أفراد المجتمع، هذا الكل يمثل البنية الذهنية الخاصة بكل حضارة.
فالإنتاج بكل أشكاله المادي واللامادي مرتبط بقدرات تضافر جهود الجماعة ككتلة ممثلة لذهنية محددة، كما وضح ذلك محمد عابد الجابري بقوله: إن «الفكر والذي يقصد به الذهنية بصفتها المحتوى الذي تتشكل فيه أداة الإنتاج النظري خاصة بثقافة معينة، لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام، وتعكس واقعهم، أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية، كما تحمل وتعكس وتعبر في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن»[43].
لأن حياة الجماعة إذا لم تعتمد على إنتاجات أفرادها وطموحاتهم وجهودهم يمكن أن نفسر ذلك بعجز في عقولهم وسواعدهم، فهي الاستعداد الموكل به حق الانتماء لجماعة أو لثقافة أو لحضارة، فهي رؤية للعالم تتحكم وتوجه سلوكات أفراده اليومية[44].
نستطيع أن نحدد التنمية كمشروع تغذيه الإمكانات النفسية والروح الاجتماعية، وتستمد منها مرجعيتها، فهما متلازمتان، فالبنية الذهنية أكسيوما Axiome محتوى يظهر من خلال الجانب المادي المتمثل في البنية الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي. وهو ما يمثله لنا روني كياس René Kaes حين يقترح وجود جهاز نفسي جماعي يحتاج لكي يتكون أن يشكل غلافًا، ولكي يتوصل إلى ذلك يستعين بمصافة مشتركة للأجهزة الفردية، المكونة للجماعة، ويختلف الفعل اللاواعي عن الواعي للجماعة، بحسب المصافة التي تستخدم كغلاف للجماعة مع ما يتبع ذلك من تأثيرات في تصرف الجماعة بالنسبة لأهدافها وبالنسبة للواقع الخارجي[45].
تكمن التنمية الاجتماعية بالنسبة لبيون W. R. Bion الذي اعتبر أنها: «تمثل وحدة النسق للتوترات بين الحاجات الفردية وثقافة الجماعة، وذهنيتها يشير إلى النشاط الذهني الذي يشكل في الجماعة من خلال الرأي المراد أو الرغبات اللاشعورية المتفق عليها بين أعضاء الجماعة»[46].
واقعنا الحالي يتجاوز ذلك الإدراك الذي نمتلكه عن الواقع فقد أصبح واقعنا مصدرًا مهمًّا من مصادر الإحباط والقلق، نتيجة غياب معنى حقيقي وواقعي لمعانٍ مختلفة تطبع حياتنا الاجتماعية بكثير من المصداقية.
8- كيف نطور الذهنية؟
كتب إيتيان بيبي نجون Etienne Bebbe – njohn متسائلًا عن ذهنية الأفارقة في مواجهة التحديات التي فرضتها التطورات العلمية، «وجد الأفارقة أنفسهم أمام القيام بخيار ما، من جهة اكتساب الذهنية العلمية والتي تبدو لهم غريبة، ولكنها مهمة من أجل الحصول على نظرة جديدة للعالم، ودفع عجلة تطورهم، ومن جهة أخرى المحافظة على هويتهم الحالية والدفع بها إلى التطور دون الاعتماد على الغرباء»[47].
هذه الخلاصة تبين لنا أن هذا الفهم يشكل فعلًا عائقًا إبستمولوجيًّا من شكل آخر، حين تتعارض الحاجة مع مصدر الإشباع، لذلك من قدرة الذهنية أنها تستطيع أن تتفنن في التوفيق بينهما من خلال الميكانيزمات التي تراعي ثوابت الهوية ومتغيرات الخارجية ليضمن استمرارها واستقلاليتها.
8- 1- مصادر بناء ذهنية متطورة
بداية إن اهم عنصر في عملية التنمية والتطوير هو المثقف كمنتج للمعرفة وللتقنية وللمناهج والاستراتيجيات، وكشخص مهتم بقضايا المجتمع الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، هذا ما وجدته Marie-Louis Ropivia التي اعتبرت أن أهم عنصر في عملية التطوير هو «المثقف على أساس الملكات العقلية من أجل إيجاد حلول لتطوير التنمية الوطنية. والاستفادة من العقول المهاجرة التي تمتلك من الخبرة والتجربة التي امتلكتها في المؤسسات الغربية والمختبرات للاستفادة من هذه الخبرة. ومن الطاقات المبدعة في شروط ديمقراطية، إنها بمثابة مقدمة لثورة فكرية حقيقية من شأنها أن تعزز ظاهرة تحول في العقول التي تحتاج إلى مشروع تنموي»[48].
وتتم دراسة الذهنيات وفق ثلاثة مستويات، ذلك لأنه ليس بالإمكان ملاحظتها بصفة مباشرة، فهي تظهر في شكل تعبيرات لغوية جسدية أو سلوكات فعلية، إضافة إلى الاتجاهات نحو مواضع مختلفة، وآراء حول مواضيع تلفت الانتباه، ولفهم هذه العلاقات لمعرفة جودة القيم السائدة في المجتمع والتي تحرك سلوكاتنا واتجاهاتنا نحو العديد من القضايا البسيطة والمعقدة الفردية والجماعية.
لأننا حين نحدد قيمة معينة فإننا ندرك موقعنا من قيمة الحياة التي نحياها، من خلال الحصول أولًا على بعض الأفكار حول الذهنية السائدة. ففي البلدان المتقدمة تنتشر العديد من المراكز الخاصة بسبر الآراء والاتجاهات نحو قيم معينة، مطورة بذلك الحس الاجتماعي والمشاركة في تقييم جودة الحياة السائدة.
دراسة تلك الاستعدادات السيكولوجية والمعرفية والاتجاهات الاجتماعية نحو القضايا التي لها قيمة لدى الرأي العام من أجل تنمية الحس الاجتماعي، وإعطاء فرصة لحرية الراي وقيمة تصوره بغرض إما تثبيت قيمة معينة أو تغييرها بما يتماشى وأهداف التنمية، إعطاء فرصة للمواطن من أجل المشاركة في بناء منظومة واقعية واضحة المعالم تنعكس على جملة الخطوات التي تساعده على النضج والتطور، وهي ممارسة ديمقراطية بامتياز.
ودراسة الوضعيات السلوكية، هناك أسئلة حول وضعيات مختلفة لدراسة السلوك من خلال مبدأ الاستمارة، بحيث إن الذهنية لها صفة البنية الكامنة عبر أشكال التغييرات البارزة من خلال الملاحظة المباشرة، ففي الماضي اعتبر أن السلوكات والآراء تعبر فعلًا عن هذه البنية، فهي تعتبر طريقة منطقية للتعبير عن القيم المكونة للذهنية[49].
من خلال ملاحظة السلوك وهو الجانب الإيثنوغرافي (الميدان)، «إنه من الضروري الملاحظة لتحديد السلوك العيني»[50]. هذا ما يؤكده مالينوفسكي Bronislow Malinowski، وهو ما ذهب إليه براون Brown حيث يعتبره مرحلة مهمة في السيرورة العلمية، لجمع المعلومات من خلال فرضيات تأويلية ومن جهة أخرى مراقبة واختيار هذه الفرضيات[51]. لتقدير الحاجات والإمكانات والمقدرات البشرية والكفاءة المهنية.
8- 2- مجالات تطوير الذهنيات:
يورد سارج موسكوفيسي S. Moscovici مقارنة بين ما يسمى بالبحث العلمي (العمل العلمي)، والحس المشترك للجماعة المدروسة، ويرى أن هذا الاختلاف يعطي فرصة للباحث لفهم وظائف ذهنية الإنسان، وحسب قوله: «الاختلاف موجود بين التمثلات العلمية وتمثلات الحس المشترك، وهذا الاختلاف ضروري لمن يريد فهم الوظائف الذهنية للإنسان»[52].
لقد استعمل مفهوم (العمل الذهني) Mentalisation في أول القرن من طرف كلبرادE. Clapaède للدلالة على حضور الوعي، كما استعمل مفهوم التمثل Représentation للدلالة على عمل الذهنية. فغياب هذين يؤدي إلى عدم العبور إلى الفعل بسبب خلل في الذهن على المستوى السيكولوجي[53].
أما على مستوى الثقافة التي تشكل مجموعة التمثلات والعادات الذهنية للأفراد أو الجماعات[54]، فغياب التمثل الذهني يؤدي إلى عدم التجانس بين أفراد الثقافة الواحدة.
وقد أورد كياس R. kaès مفهوم الذهنية الجماعية Mentalité du groupe، من أن عمل الفكر الخاص بالفرد على تمثلاته في جانب قياسي، فهي سيرورة لتكوين التمثلات[55]، باعتبار التمثل هو استحضار في الذهن لشيء غائب أو شيء مجرد بواسطة شيء آخر رمزي يشبههن.
أما دجور Dejour فيرى «أن عمل الذهنية هو عمل الفكر الخاص بالفرد على تمثلاته في جانب قياسي، فهي سيرورة لتكوين التمثلات»[56]. فالمعرفة والفعل والسلوك نتاج عمليات تحليل وفهم وإنتاج محددات تضمن تطوير الذهنية.
8- 2-1- الذهنية والوعي بالفعل اليومي
قيمة تتجلى في مدى إدراكنا وتموقعنا في الزمن والمكان، وقيمة كل لحظة من اللحظات التي نعيشها على أنها من إنتاجنا نحن، أي نحن من أنتجها الآن. والسؤال: كيف يمكن أن ننتج لحظة بمساهمتنا نحن ولا نلقي اللوم على الآخرين.
هذا يشير إلى وجود نسق مرجعي داخلي مكون بذلك الذهنية، متمثل في شبكة من الرموز والمعلومات المستقلة التي تختار عناصر المعنى، وعناصر مشابهة لها، مشكلة بذلك معاني مختلفة، هذه المعاني تعمل على شكل علامات أو مثرات غير عادية، كما أنها تجعل العلامات الأخرى المغايرة للجانب الداخلي كمعالم، وكأصناف مختلفة، ومن هنا تأخذ تركيب الرموز لعملها تحت مجموعة من القيم الذهنية التي تذهب إلى حد تكوين المعلومة في شكل نسق أو توقعات، وفي حضور عمل المعتقدات كمجموعة تقوم عليها الأحكام القبلة للذهنية.
8- 2-2 - الذهنية وادراك الواقع
نرى أن فكرة الواقع عندنا، فيها خلل ما ينم على خلل في الذهنية التي تدرك هذا الواقع، وتتعامل معه من أجل إيجاد ميكانيزمات التكيف والاستفادة من مقدراته المادية الزمانية والمكانية، كما أنها تعطي صورة للعالم، من خلال نظام عقلي على شكل أيديولوجية (أفكار) تحمل في ذاتها معنى لواقع مألوف ليس ألَّا، ممَّا تجعلنا نعيش هامش الواقع أكثر من الواقع في ذاته، بحيث تقوم بإرضاء حاجة الفهم والمعرفة بطريقتها الخاصة.
ومن خلال الذهن أيضًا وما توفره من معنى، يتحصل الفرد على شبكة تمكنه من تطبيقها على تشابك الأحداث الحالية، فالعمليات الذهنية مطالبة بإيجاد ذلك التجانس والانسجام مع متطلبات الواقع، وبالتالي فإن عملية استيعابه تصبح جزءًا مهمًّا في عمل الذهنية.
الوعي بالمتغيرات التي تدور حولنا من أجل استثمارها وفق إمكاناتنا، وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف ذات البعد المحلي والإقليمي، من هنا يمكن أن نقول: إننا في علاقة توافقية بين التغيرات المحلية والإقليمية ممَّا يعطي لنا دفعًا إلى ممارسة حقنا في الاستيعاب والنقد بما يخدم تطورنا.
8- 2-3- الذهنية والهوية
نحن دائمًا إدراكنا للواقع مشوش، وصورتنا للواقع تعكسها صورتنا لأنفسنا، إضافة إلى أننا بعيدين عن الواقع إلى درجة أننا لا نستفيد من تجاربنا مع الوقت ومع المسؤوليات، الصرامة في العمل كلها مؤشرات على زعزعة تصورنا للواقع.
هوية الفاعل في مجتمعه ثقافية متكونة من جملة العناصر المشكلة لوجوده بحيث تميزه عن الفاعلين الآخرين، في معاييره وأملاكه وقدراته، وكذا أصوله وتاريخه وعلاقاته وقيمه، فالذهنية عنصر فهم في الهوية أي إن تكوينها وتنظيمها وقيمها هي بصفة مباشرة تابعة للعناصر الأخرى.
8- 2-4- مشاريع الاستثمار
عندما ندقق في هذين المفهومين نجد أن كل واحد منها يكمل الآخر، فالاستثمار أصلًا مبني على الأفكار، وذات قيمة في التحقيق وفي الاستمرارية، وتحقيق الأهداف والهوية تقترن بكل ما هو خصوصي نابع من أصالة أفكارنا وثقافتنا وتعاملاتنا وأهدافنا في الحياة التي تحددها الثقافة التي ننتمي إليها، على اعتبار أنها مصدرًا حقيقيًّا لكل ذلك، فهي تقوم بالتمكين لمقومات، من خلال عناصرها الفاعلة أثناء سلوكاتهم، والتدخل على مستوى العالمي والشمولي.
8- 2-5- ميكانيزمات الحماية والدفاع
المشاريع التي ترتبط بالذهنية والتي لا تحقق الأمن والحماية هي مهددة للذهنية، وتجعلها بعيدة كل البعد عن المركز الذي يشع بجملة الأفكار التي لها الأثر على تكوينه أصلًا، فهو يحتاج لها لتحقيق وجوده ومن ثم تكون له إمكانية الحكم على قيمة ما يعرض عليه، وبالتالي فقيمة الأفكار التي لا يحصل انسجام بينها تُلغى وتدفع إلى الخارج ويصدق عليه مبدأ البقاء للأجود.
من خلال المحافظة على توسعها وأملاكها، تعمل هذه السيرورات على المحافظة على مختلف الإصابات التي يمكن أن تصيب الذهنية. تقوم الذهنية بتسخير وسائل الاتصال، والاتجاهات والآراء والخطابات، وكذا التوجيهات التي تسيرها، لتصل بذلك إلى وظيفة التعرف والتعبير عن الهوية. فهي مصدر السلوك بحيث إن كل فاعل من الجماعة يبحث عن وضعيات من خلالها يتحصل على الارتياح، ويعبر عن هويته، فالذهنية تتدخل في بحث عن وضعيات القوة للتبريرات، وبذلك تفرض قيمها»[57].
وتقوم أيضًا بتنظيم شخصية الفاعل في المجتمع بواسطة الجانب السيكولوجي للشخصية، بحيث تعرف أن وجود قلق أو اضطرابات عميقة يصاحب حالة ما، تسبب اضطرابًا في نسق مرجعية الفرد، لأنها المصمم الذهني للفرد عندما يهاجم بقلق أو شك، ويقوم بسلوكات كرد فعل دفاعية تنعكس عليه، من خلال ما يصطلح عليه (عدوانية دفاعية)، ثم تترجم إلى تبريرات وهروب.
ونجد أيضًا مجموعة ظواهر من خلال دراسة المثاقفة حين تقوم مجموعات ثقافية بإحداث مفعولات تفكك العلاقات لمجموعة ثقافية أخرى فاتحة المجال لهيمنة كبيرة.
وفي هذا المعنى نجد روجي باستيد Bastide Roger متحدثًا عن مفعول المثاقفة في إفريقيا، بقوله: «إن المثاقفة لم تتمكن من الوصول إلى داخل الذهنيات، إلَّا باعتمادها مبدأ القطيعة أو التفكيك، فالذهنيات لم تتغير إلَّا في بعض الميادين السياسية والاقتصادية، ولكن لم يتم ذلك في الجانب الديني، فإعادة التغيير تكون دائمًا لإيجاد قيم ومعايير وأفكار خاصة»[58].
وذلك باعتبار أن المثاقفة سيرورة مدمجة بالعديد من الأفكار والمناهج والتصورات، جسدت حضورها بالأرضيات التي هيّأها لها العديد من الباحثين الغربيين الذين كان هدفهم الغنيمة بهذا البلد أو ذاك، وكان الاستعمار ثقافيًّا يجسد فكرة السيد والمسود، المتحضر والبدائي، كانت الزعامة الاستعلائية أهم مصادر المثاقفة، وما نشهده اليوم من الفوضى بين ما نحمل من أفكار وكيف نتعايش مع الواقع، لأكبر دليل على أثر هذه المثاقفة كإعادة بناء لهذه الذهنية.
الخلاصة
من خلال ما تم طرحه فإن مسعانا هو البحث عن قيمة الواقع في حياتنا، هذه القيمة ليست وحدها المحددة لذهنيتنا، بل تصورنا للعالم المحيط هو فعلًا جزء من الواقع، ولكنه أيضًا يسهم في تشكيل ثقافة متميزة، لكن الواقع الذي أنتجها يعطي لنا مؤشرات بأنها غير متطورة، فكيف لنا أن نطورها ليتطور على أثرها واقعنا، ونثق في قدراتنا الإبداعية بما يفسح المجال أمام قدراتنا بمنهج وتحديد دقيق للأهداف، وذات قيمة إنتاجية وجودة عالية، يمكن أن تكون مثالية لأنها تضفي على الواقع أسباب التطور والتنمية.
وعمومًا عندما نتحدث عن مشروع التنمية نتحدث عن النضج في كل المجالات، هو الجوهر في التعليم وفي الاقتصاد والسياسة والثقافة، وفي الاستثمار والاستفادة من مقدرات البلد في خدمة التنمية.
يمكن أن يكون مشروعًا ذا أهداف إذا تشكلت تلك الإرادة المرهونة بجملة الشروط الموضوعية والذاتية التي تدفع بها إلى الإبداع، ومن ثم يصبح الإقبال على المبادرة مشبع بالأفكار الجادة، حين يحقق فيها الفرد ذاته وطموحاته، فالقيم يجب أن تعاش كقيمة حقيقية في دينامية شخصية الفرد لتنقله من عالم اغترابي إلى عالم إبداعي حر في تفكيره وفي سلوكاته.
أخيرًا نعتقد أن العولمة في حد ذاتها هي عولمة للذهنيات، ومن ثم الاستثمار في هذا المجال، خاصة من خلال الإعلام الذي أصبح بُعدًا استراتيجيًّا ذا مردودية عالية بالنظر إلى إلى حجم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعيشها بعض البلدان.