البطل والقدر في نظرية الأدب الاسلامي

د. عبد الكريم أحمد عاصي المحمود

2018-12-26 07:10

النموذج الإسلامي للشخصية الانسانية:

يركّز الأدب الإسلامي اهتمامه على تصوير النموذج الإسلامي للشخصية الانسانية أو ما يمكن أن نسميه الشخصية الاسلامية المتوازنة، وأول ما يقدمه من ملامح هذه الشخصية هو جانبها الفطري المتأصل في خلقة الانسان كموجود متميز عن سائر الموجودات بما وهبه الله من عقل وإرادة استحق بهما أن يكون مكلفاً بخلافة الله في الأرض "وهو مسؤول عن خلافته هذه إن عمل صالحاً وفعل خيراً يجاز عليه جزاءاً حسناً، وإن عاث في الارض فساداً لقي في الدنيا شرّ فساده وفي الآخرة شقاءً أبدياً.

ولهذا يحرص الادب الإسلامي على تصوير كلا الموقفين تصويراً فنياً مؤثراً يتمكن من تبصير الانسان وإنارة الطريق له بغية ان يصلح من أحواله ويراجع جلّ مواقفه على أساس مبادىء الإسلام وقيمه ومعاييره الخالدة "(1)، باعتبار أن الإسلام يقدّم أعمق تصور لطبيعة الانسان وحقيقته التي عجزت عن معرفتها معظم الافكار والنظريات الوضعية التي أخضعت الانسان لمختلف الحتميات الأرضية كحتمية التاريخ او الاقتصاد او الجنس او الغريزة او غيرها من الماديات، ومثلها في التطرف تلك النظريات والتصورات التي الّهت الانسان حين أطلقت حريته إلى غير حدّ وفوّضت إليه أمر الكون دون قيد او شرط.

إن جميع هذه التصورات تعدّ خاطئة في فهمها لحقيقة الانسان لما تنطوي عليه من تطرف وانحياز إلى جانب منه دون آخر، ويتفرد الإسلام بفهمه الواقعي العميق لتلك الحقيقة التي يستوحيها الادب الإسلامي في تصوير الانسان، فهو ليس إلهاً ولا راغباً في أن يكون إلهاً أو شِبه إله، وهو من جهة اخرى ليس كمية سالبة تتحكم فيها قوى الاقتصاد والمادة ومختلف الجبريات الارضية، وهو كذلك مخلوق ليس بالملاك ولا بالشيطان، وانما هو انسان مشتمل على قدرات وطاقات ترفعه إلى أعلى حين يعرفها ويحسن استخدامها ولكنه مشتمل كذلك على منافذ للضعف ومنافذ للغزو ينفذ منها عدوه الاصيل(الشيطان)، والانسان يصور في لحظة القوة ولحظة الضعف، ولكن يهتف له دائماً من جانب الصعود فجانب الهبوط موجود من نفسه لايحتاج إلى هتاف، ولحظة الضعف لاتحتاج إلى تسجيل(2) ولذلك يحرص الادب الإسلامي على كشف وإظهار مكامن القوة في شخصية الانسان متمثلة في تصويره متوازناً بانطلاق كل طاقة من طاقاته في حدودها الخاصة، وتوازن قواه المتفاعلة في كيانه "لأن التوازن هو الاعتدال الذي قامت به السماوات والارض، فأجرام السماء متوازنة لايختل نظامها قيد شعرة ولا يفترق جرم عن موعده ثانية ولا أقل من ثانية ولا متراً من شعاع. والارض متوازنة في سهولها وجبالها وبحارها، والانسان متوازن في عضلاته وأعضائه، وكل شيء متوازن في أجزائه التكوينية، فلا بد أن يكون متوازناً في حركاته التشريعية حتى لا يتناقض مع طبيعته، ولا بد أن تتوازن انطلاقات طاقاته في الحياة العملية بمقدار توازن طاقاته في حياته الخلقية بأن تتوازن الأشواق والضرورات وتتوازن النزعة الفردية والنزعة الجماعية وتتوازن الاستجابة المادية والاستجابة الروحية ويتوازن واقع الفكر وواقع الحياة، ويتوازن الحب والكره ويتوازن العمل والعبادة وتتوازن مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الأجيال الطالعة. فالإنسان يؤخذ كما هو، ولا يؤخذ بعضه ويهمل بعضه حتى ينقلب عن حقيقته المفضلة إلى حقيقة مشوهه لا يعرف موقعها من الكون"(3).

التوازن بين الارادة الالهية والارادة الانسانية:

وأهم مظاهر التوازن التي يعتمدها الأدب الإسلامي في تصوير نماذجه البشرية، التوازن بين الارادة الالهية المطلقة والارادة الانسانية المحدودة "فالارادة الالهية مطلقة في مختلف المجالات لن تحد بحد ولن يقف في قبالها شيء لكنها بلطفها منحت الانسان حريته وارادته فيما يعمل وأعطته القدرة على أن يريد وأن يحقق ما يريد وهي تمده في كل آن بهذه القدرة ليتكامل وليصعد سلم الرقي المعنوي بنفسه "(4)، وقد جاءت الآيات القرآنية المتعددة تركز هذا التصور المتوازن في ذهن الانسان، كما في قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (5) وقوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها) (6) وقوله تعالى: (إن هذه تذكرة، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله) (7).

إن هذا التصور المتوازن بين إرادة الله وارادة الانسان يلعب دوراً هاماً " على صعيد شعور الانسان بكرامته وثقته بنفسه وتصميمه على صنع مستقبله ولكن في اطار الاستمداد من الارادة المطلقة والشعور بأن كل هذه القوى منه تعالى. واذا ما اختلّ هذا التوازن – نتيجة جهل بالإسلام – عاد محطماً لسلوك الانسان اذ يجره إما إلى الهزيمة والذوبان الذاتي والتحلل من المسؤولية أو إلى التجبر والتكبر والعلو على واقعه والانفصال عن جذوره الاصلية"(8). ومما يؤسف له أن هذا التصور المتوازن للعلاقة بين ارادة الله وإرادة الانسان، شهد اضطراباً وتزعزعاً في مسيرة الفكر الفلسفي والعقائدي على مدى قرون عديدة من تاريخ الحضارة الاسلامية، حيث ظهرت أفكار وآراء متطرفة في هذا الميدان الذي اتسع لنقاش وجدل طويل حول مسألة القضاء والقدر الالهي وحرية الانسان.

المذاهب المتطرفة في القضاء والقدر:

وأبرز المذاهب المتطرفة في هذا المجال ما سمي بمذهب الجبر الذي مثله الاشاعرة، وما سمي بمذهب التفويض الذي مثله المعتزلة.

ولما كان الاديب الإسلامي مطالباً باستقاء تصوراته الإسلامية من منابعها الاصيلة ليصدق وصف إنتاجه بأنه أدب اسلامي حقاً، فلابد له من التمييز بين المذاهب الكلامية لاستبعاد الآراء المتطرفة التي تصادم في عمقها ثوابت العقيدة الحقة في جهة من جهاتها. لأن اعتماد الأديب على تلك الآراء أو تبنّيه لها يُحدث خللاً في تصوراته عن الانسان وعلاقته بالله والكون والمجتمع مما يؤدي به إلى تصوير نماذج بشرية غير متوازنة فلا يصدق عليها وصف الشخصية الاسلامية التي يسعى الأديب الإسلامي إلى تحقيقها في انتاجه الادبي.

ومن هذا المبدأ المعرفي، تنبغي الاشارة إلى المذهب الحق في مسألة القضاء والقدر الالهي وعلاقته بحرية الانسان لأنها من المسائل المهمة جداً في بناء التصور المتوازن لنموذج الشخصية الانسانية في الأدب الإسلامي، ولايمكن استظهار هذا المذهب المعتدل المتوازن إلاّ بمعرفة ما أحاط به من مذاهب متطرفة وأولها مذهب الجبريين الذين أنكروا إرادة الانسان وحريته وقدرته على الاختيار بإزاء إرادة الله وقضائه المطلق، وهذا الاتجاه الجبري في تفسير سلوك الانسان وأفعاله "مخالف للحس والوجدان، وذلك لأن كل انسان يجد ويدرك بفطرته أنه قادر على جملة من الافعال ويتمكن من أن يفعلها أو يتركها، ولايفعلها إلا ويرى أنه قادر على تركها، وهذا الحكم فطري لايشك فيه أحد إلاّ أن تعتريه شبه من الخارج. وقد اطبق العقلاء على استحقاق فاعل القبيح للذم وفاعل الحسن للمدح مع إطباقهم على أن الذم والمدح إنما يتوجهان إلى المختار دون المضطر.

فكون جملة من الافعال اختيارية مما قام عليه بناء العقلاء. مع أنه يترتب على القول بالجبر عدة نتائج فاسدة وهي: انكار التحسين والتقبيح العقليين، وسلب العدالة عن الله تعالى وأن التكليف بما لايطاق لامحذور فيه. وكل واحدة من هذه النتائج كافٍ في الردّ على الجبرية "(9) بالاضافة إلى أن معرفة المعنى الدقيق للقضاء الالهي كفيل بحلّ إشكال الجبر من ناحية الاعتقاد بالقضاء والقدر "فإنما جعل الله قانوناً للكون لايمكن لعمل أن يؤدّى بخلافه. فكما أن الحوادث الطبيعية لاتحدث بدون علل طبيعية، فكذلك أفعال الانسان الاختيارية لاتحدث بدون ارادة الانسان واختياره. فقانون الله في حق الانسان أنه مخلوق ذو إرادة وقدرة واختيار وهو الذي يصطفي العمل الحسن أو يختار العمل السيء. فالاختيار مقوّم من مقوّمات الوجود الإنساني، ومن المستحيل أن يوجد انسان فاقد للاختيار.

وفرض وجود انسان مع كونه غير مختار فرض خيالي لاواقع له. واذا لم يكن انساناً فهو غير مكلف"(10) فالقضاء والقدر الالهي شاء أن يكون الانسان مخلوقاً حراً مختاراً، وعلى هذا فادّعاء جبرية الانسان في أفعاله مخالف لمشيئة الله وإرادته وعلمه الأزلي وكذلك فإن الاعتقاد بهذه الحتمية التاريخية والسلوكية "يعطّل دور الانسان الفاعل وإرادته في تغيير ظروفه المعيشية وتاريخه السياسي ويحوّله من عنصر فاعل مؤثر في تغيير حركة التاريخ وتغيير ظروفه الاجتماعية والمعيشية إلى عنصر عائم في تيار التاريخ والحياة، يجري حيث يجري التيار، وهذا النوع من التفكير ينفع الأنظمة السياسية الاستبدادية عادة، فلا تكاد تبرز معارضة ظاهرة للنظام السياسي في وسط اجتماعي يؤمن بالتقدير والحتمية والجبر بهذه الصورة ولهذا السبب تلقى النظرية الحتمية في التاريخ تأييداً ودعماً من الأنظمة المعروفة بالاستبداد السياسي غالباً.

ويشجع الحكّام هذا التوجه الفكري في مسألة القضاء والقدر ليأمنوا من غضب الناس وثورتهم واعتراضهم. فلا مجال للغضب والسخط والاعتراض لأحد، اذا كان ما يجري من الظلم وسفك الدماء يجري بقضاء الله وقدره ولم يكن لأحد من الناس قدرة في تغييره وتعديله "(11). والى مثل هذه المساوئ يقود الاعتقاد بمذهب التفويض القائل بأن أفعال الانسان الاختيارية لاعلاقة لها بالله تعالى بل تمام المؤثر فيها هو الانسان واستدلوا على ذلك بأن مبادئ الافعال وإن كانت مخلوقة لله سبحانه إلا أن بقاءها واستمرارها في الوجود لايحتاج إلى المؤثر في كل آن فيكون مثلُ خالق الاشياء معها مثلَ الكاتب لايحتاج اليه الكتاب بعد حدوثه وتبقى الكتابة نفسها أو مثل البنّاء الذي يقيم الجدار ثم يبقى الجدار ويستمر وجوده وإن فني صانعه، وعليه فلا يحتاج الانسان في صدور أفعاله إلى شيء بعد إفاضة الوجود وسائر المباديء، وهو المؤثر التام في أفعاله.

ومما يؤخذ على هذا المذهب الكلامي "أن الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى المؤثر كذلك يحتاج في بقائه اليه لأنه لايخرج عن إمكانه بالوجود، ففي كل آن من الآنات - بما أنه ممكن والافتقار من لوازم ذاته – هو محتاج إلى المؤثر ليفيض اليه الوجود ومفتقر إلى مدد مبدعه الاول في كل حين وإلا لانعدم، بل بالنظر الدقي الحقيقي أنه عين الحاجة لا شيئاً محتاجاً، فالإنسان في كل حين حتى حين الفعل مفتقر إلى موجده ليفيض اليه الوجود وسائر المباديء وإلاّ لما تمكن من إيجاد الفعل، ويكون مثله تعالى (ولله المثل الاعلى) كتأثير القوة الكهربائية في الضوء فإن الضوء لايوجد إلاّ حين تمده القوة بتيارها ويفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين. مع أن الله تعالى نصب نفسه في مقام التشريع، والتشريع لايلائم التفويض إذ لامعنى للتكليف المولوي فيما لايملك المولى منه شيئاً. مع أن التفويض لايتم إلا مع سلب إطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه"(12)، وقد قال سبحانه: (له ملك السماوات والارض)(13) وقال: (له الملك وله الحمد)(14) وقال: (لله ما في السماوات وما في الارض)(15) وبهذا فإن الحتمية الكونية في التفويض تؤدّي بشكل قهري إلى عزل سلطان الارادة الالهية عن الكون، مما يضعف إيمان الانسان بسلطان الله ونفوذه وتأثيره المباشر الفعلي في حياته فيشعر باليأس والضعف في مقاومة الصعاب.

وهذا الشعور يخدم الحكّام والأنظمة التي تحكم الناس بالارهاب والاستبداد، بالاضافة إلى أن تصور الحتمية الكونية في مذهب التفويض، يعمّق الاحساس بدور المادة والاسباب المادية في نفس الانسان وعقله اكثر من قيمتها الحقيقية، ويضعف دور الغيب في نفسه ويسطّح ايمانه بقيمته الحقيقية التي اكّد القرآن الكريم على اظهارها وترسيخها في النفس لما يؤديه الغيب من تأثير كبير في طريقة تفكير الانسان ومنهج حركته في طموحاته وآماله وبالتالي في تحركه وقدرته على تحمل مواجهة الصعاب والمتاعب والتحديات. فإضعاف الايمان بالغيب وتسطيحه وترسيخ الايمان بالمادة وتعميقها بأكثر من قيمتها الحقيقية يضعف دور الانسان وفاعليته وحركته ويؤثر بصورة مباشرة على طريقة تفكيره. وهكذا تلتقي الحتميتان – الجبر والتفويض – في مصبّ واحد هو تعطيل دور الانسان التغييري والقيادي للنظام السياسي والاجتماعي، لأن الايمان بهاتين الحتميتين يحجب الانسان عن الله تعالى وعن نفسه وامكاناته، ويسلبه الامل والحرية في الحركة والقرار وبذلك يتحول الانسان إلى خشبة عائمة في مجرى الأحداث. وهذا ما يطلبه الحكام والانظمة التي تحكم الناس بالاستبداد والإرهاب (16). وتلتقي مع هاتين الحتميتين – التاريخية والكونية – في النتائج السيئة، جميع الحتميات المادية المعاصرة التي تنحاز في نسبة الحتمية في حياة الافراد وحركة التاريخ إلى مصادر متعددة غير الله تعالى.

ومن روادهذه النظريات المادية في الغرب، عالم الاجتماع الفرنسي(منتسكيو) في كتابه (روح القوانين)، و(اشبنجلر) في كتابه (تدهور الحضارة الغربية)، و(دوركهايم) عالم الاجتماع الفرنسي الشهير. و(كارل ماركس) صاحب المادية التاريخية، وسيجموند فرويد مؤسس مذهب (الفرويدية) في التحليل النفسي، وغيرهم. ويلتقي مع هؤلاء في تطرفهم نحو (الجبر) فلاسفة آخرون تطرفوا نحو (التفويض) مثل (سارتر) الوجودي، و(نيتشه) العبثي المتشائم وغيرهما. إن جميع هذه النظريات المتطرفة في تحديد حرية الانسان، تلتقي في مساوئها ونتائجها السلبية المتمثلة بتعطيل الدور الحقيقي للانسان في هذه الحياة، وشلّ حركته في بناء التاريخ، وارباك وظيفته في صناعة مصيره ومصير مجتمعه، وينتهي الامر إلى عدم تمكّن الانسان من التحرك والتغيير في حياته الفردية والاجتماعية.

صورة البطل في الأدب الغربي:

لقد انعكس التصور السلبي للإنسان وحريته على مختلف الآداب الغربية الحديثة التي آمن كتّابها بتلك النظريات والفلسفات في استبدالها بفكرة الله والغيب قوىً أرضية خالصة، كقوة الطبيعة أو قوة المجتمع أو قوة الدولة أو قوة الطبقة "ولكنها مع ذلك ظلت محافظة على طبيعة العلاقة بين البشر وهذه القوى، على نفس الصورة التي كانت تشكل علاقة البشر بآلهة اليونان، صورة الصراع والبغضاء.

فصار (البطل) في الأدب الحديث لايصارع الآلهة ولا القدر المغيب في المجهول. وإنما يصارع الطبيعة أو يصارع المجتمع أو يصارع الطبقة التي تملك وتحكم، وكلها صراعات تحكمها البغضاء والشحناء ورغبة تلك القوى في سحق البطل وتفتيته، ثم تكون (المأساة) حين تنجح تلك القوى في التحطيم، كما كانت تنجح آلهة اليونان في سحق المتمردين على سلطانها المهول"(17) مما هو معروف في الأدبين اليوناني والروماني اللذين كانا ينبعثان في تصوير القدر من العقيدة الوثنية القائمة على تعدد الآلهة حتى أصبح عندهم لكل معلم من معالم الحياة المادية والمعنوية إله، ثم إن هؤلاء الآلهة – على الرغم من الصراع الدائم الدائب بينهم – كانت علاقتهم بالبشر علاقة مكايدة ومعاندة ومباغضة، وكانوا يتسلحون دائماً بسلطانهم الذي يزعمون بأنه لايقهر ويجابهون به ضعف الانسان وعجزه، "فكثيراً ما يشتكي أبطال هوميروس من أنهم ليسوا سوى دمى في أيدي الآلهة ويعتقدون أن الآلهة مسؤولة عن مصائبهم كلها"(18)، لأن أولئك الآلهة كانوا على الدوام قادرين على أن ينصروا باطلهم وظلمهم على حق الانسان وعدالة مطالبه.

ولا تغيب عنا قصة بروميثيوس التي جسد فيها أسخيلوس مدى ظلم آلهة اليونان- وعلى رأسهم زيوس- لبني الانسان حيث يبدو كبير الآلهة زيوس طاغية غليظ القلب مستبداً يحتقر الناس ويمجد العنف، وهو حاكم حقود تحركه شهوة الانتقام فيسلط على خصمه بروميثيوس شتى ألوان العذاب لأنه سرق النار فأعطاها للبشر وعلمهم شتى الفنون والحرف مجسداً بذلك عقل الانسان ومدنيته وتقدمه فاصطدمت روحه المتوثبة للمعرفة مع كل ما يمثله زيوس وحاشيته من المخاتلة وسلطة الذات والمداهنة، ونصطدم نحن كذلك بقسوة القدر الذي تنفذه تلك الآلهة البغيضة في مأساة أوديب الملك التي جسد فيها سوفوكليس عجز الانسان أمام مصيره الشرير المحتوم، اذ يقتل أوديب أباه وهو يجهل أنه أبوه ثم يجلس على عرش أبيه القتيل ويتزوج أرملته وهو يجهل أنها أمه. وهكذا بقي الانسان في الأدب اليوناني القديم في صراع دائم مع الآلهة والقدر "وحين ساد المذهب الكلاسيكي أوربا المسيحية ظل الأدب متأثراً بهذه النظرة إلى القدر وصراع الانسان معه، وبقي الكلاسيكيون يشربون من الكأس التي شرب منها أدباء الاغريق والرومان. ولقد ظل الامر كذلك إلى ان تمّ التحول الكبير في أوربا مما وراء الطبيعة إلى الطبيعة ومن المجرد الذهني إلى المجسّد المحسوس.

وعند ذلك استبدل الادباء الاوربيون بقوى عالم الغيب قوىً من عالم الشهادة"(19) فأصبح البطل في الواقعيات الحديثة إنساناً عادياً يصارع من أجل حياة أفضل اذ نجده في الواقعية الاشتراكية مثلاً ينازل التمايز الطبقي والاستغلال الرأسمالي، في جوّ من الاحقاد والحزازات وسوء الظن، طبقاً لفلسفة معينة تستند إلى ما يسمى بحتمية الصراع الطبقي وانتصار طبقة بعينها هي طبقة البروليتاريا. ويتميز البطل (الوجودي) بحساسية مفرطة ووعي عقلي فلسفي يبدو جلياً في تصرفاته وأحكامه وسلوكه، كما يبدو في رفضه الكامل لكل المسلمات.

وفي هذا الجوّ أيضاً ولد البطل العبثي الذي لم يجد في الحقيقة قيمة يتشبث بها حسبما صور له وهمه، فلا هو نعم بالايمان الموروث ولا هو ابتدع بناء خلقياً جديداً، بل لم يجد أي جدوى من هذا أو ذاك فأنطلق من دون وعي أو منهج واعتبر اللافلسفة فلسفة، ورأى أن العشوائية والفوضى تسود كل مافي الوجود. وكفر البطل الرومانسي بالعقل وتشبث بحرقة العواطف وتهويماتها وأخذ يتغنى بحرمانه وعذابه وأساه واستعذب ذلك التوهم وغرق في بحوره العاصفة دون أن يحاول الخروج من هذا الكابوس الرهيب. وكان البطل في اطار المادية والفرويدية والطبيعية وليداً للتقدم المادي الخارق في مجالات العلم والصناعة والتقنية، فهذا البطل لايؤمن إلا بما تدركه حواسه، ولم يعد للجانب الروحي أو الميتافيزيقي في الانسان قيمة يعترف بها علمياً، ما دام خارج التصور المادي للحياة ولايمكن قياسه بالمقاييس أو اثباته في أروقة معامل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وغيرها (20).

مبدأ الأمر بين الأمرين:

بمقابل ذلك كله يأتي التصور الإسلامي لحقيقة الانسان وحريته وعلاقته بالله سبحانه وتعالى، وتمثل هذا التصور السليم بمبدأ (الأمر بين الأمرين) الذي كشف عنه أئمة أهل البيت عليهم السلام ونسبوه إلى القرآن وعُرفوا بأنهم روّاد هذا المذهب القرآني الذي يقع وسطاً بين المذهبين المتطرفين (الجبر والتفويض)، فيقرر أن فعل الانسان الاختياري وسط بين الجبر والتفويض " فالأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد بما انها تصدر منهم دون قهر او اجبار، فهم مختارون فيها والافعال تستند إليهم وهم الموجدون لها، وبما أن فيض الوجود والقدرة وسائر المبادئ يكون بإفاضة الله تعالى آناً فآناً بحيث لو انقطع الفيض لما تمكن العبد من ايجاد الفعل، فالفعل مستند اليه تعالى، وكل من الاسنادين حقيقي، فالعلم ينادي بأعلى صوته موافقاً لمذهب الحق أنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين. والآيات القرآنية ناظرة الى هذا المعنى وأن اختيار العبد في فعل لا يمنع من نفوذ قدرة الله وسلطانه "(21) فمن الآيات التي تقرر مبدأ حرية الاختيار في حياة الانســان قوله تعالــى:

(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)(22) وقوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها)(23) وقوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)(24) وقوله تعالى: (ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)(25) وقوله تعالى: (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس)(26) وقوله تعالى: (ونفس وما سواها، فالهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دسّاها)(27) وقوله تعالى: (فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (28). وغيرها بهذا المعنى كثير في القرآن الذي يثبت حرية الاختيار للانسان وينفي الحتمية في سلوكه الفردي والاجتماعي.

الى جانب هذا ينفي القرآن كذلك بشكل قاطع مبدأ التفويض واستقلال الانسان في أفعاله عن الله تعالى، ومن آياته في هذا المجال قوله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغنيّ الحميد)(29). وقوله تعالى: (قل لا املك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله)(30) وقوله تعالى: (وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين)(31) وقوله تعالى: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا باذن الله)(32) وقوله تعالى: (وما هم بضارين به من احد إلاّ باذن الله)(33) وقوله تعالى: (ولوشاء الله مافعلوه)(34) وقوله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله)(35) وقوله تعالى: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين).(36)

فهذه الآيات جميعها واضحة الدلالة على نفي التفويض واستقلال الانسان في أفعاله واراداته. ومع هذا التأكيد العجيب في القرآن على ارتباط الانسان بالله تعالى في كل شيء وفي كل حال فكيف تصح دعوى استقلال الانسان عن الله ودعوى تفويض الامر اليه؟ ان القران الكريم في آياته السابقة لا يقر للإنسان بالاستقلالية والتفويض، كما لايقر بالجبر والاكراه، بل يشير الى مبدأ وسط بينهما يتضمن التأثير المباشر لسلطان ارادة الله تعالى في حياة الانسان وتاريخه الى جانب حرية ارادة الانسان وقراره، وهو المبدأ المعروف ب(الأمر بين الأمرين) الوارد عن أهل البيت عليهم السلام في روايات عديدة منها ما رواه الصدوق عن حريز بن عبد الله عن الصادق (ع) قال: "إن الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أن الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله في حكمه، فهو كافر. ورجل يزعم أن الامر مفوّض اليهم، فهذا قد أوهن الله عز وجل في سلطانه، فهو كافر. ورجل يزعم أن الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لايطيقون واذا أحسن حمد الله واذا أساء استغفرالله، فهذا مسلم بالغ"(37).

وروى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري عن الرضا (ع) قال: ذكر عنده الجبر والتفويض فقال(ع): "ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً الا كسرتموه؟ قلنا: إن رأيت ذلك، قال (ع): إن الله عز وجل لم يُطَع باكراه ولم يُعصَ بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فان ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ولا منها مانعاً، وان ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحُل فعلوه فليس هو الذي ادخلهم فيه. ثم قال (ع): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه "(38) وروى الصدوق عن المفضل بن عمر عن ابي عبد الله (ع) قال: "لا جبر ولاتفويض ولكن أمر بين الأمرين. قال: فقلت وما أمر بين الأمرين؟ قال(ع): مثل ذلك: مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية"(39). وروى الكليني عن يونس بن عبد الرحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: "إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون. فسُئلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا(ع): نعم أوسع مما بين السماء والارض"(40).

وروى الكليني مرفوعاً قال: كان أمير المؤمنين(ع) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثى بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن مسيرنا الى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال أمير المؤمنين(ع): أجل ياشيخ، ما علوتم تلعة ولاهبطتم بطن وادٍ إلاّ بقضاء من الله وقدر. فقال له الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال له: مه ياشيخ، فوالله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم قائمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين. فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال(ع): وتظن أنه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟! إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب ولامحمدة للمحسن، ولكان المذنب اولى بالاحسان من المحسن، ولكان المحسن اولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الاوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها، إن الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يُعصَ مغلوباً ولم يُطَع مكرهاً، ولم يُملّك مفوّضاً ولم يخلق السماوات والارض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. قال فـنهض الشيخ وهو يقول:

أنت الامـام الـذي نرجـو بطاعـته.....يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً.....جزاك ربك بالاحسان إحسانا(41)

وروى الصدوق عن رسول الله (ص) قال: لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومرّه"(42) وروى الكليني عن ابي عبد الله الصادق(ع): كان امير المؤمنين (ع) يقول: " لايجد عبد طعم الايمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن الضار النافع هو الله عز وجل"(43) وروى الصدوق عن رسول الله (ص) أنه قال: "عن الله أروي حديثي، أن الله تبارك وتعالى يقول: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبعصمتي وعوني أدّيت اليّ فرائضي"(44) وروى الصدوق عن حفص بن قرط عن ابي عبد الله الصادق(ع) قال: " قال رسول الله (ص): من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ومن كذب على الله أدخله الله النار"(45). وروى الكليني بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: " أمر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، أمر ابليس أن يسجد لآدم، وشاء أن لايسجد، ولو شاء لسجد. ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها، ولو لم يشأ لم يأكل"(46) وروى الأصبغ بن نباتة أن أمير المؤمنين(ع) عدل من عند حائط مائل الى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله؟ قال(ع): أفرّ من قضاء الله الى قدر الله عز وجل"(47).

ومن خلال هذه الروايات الواردة عن أهل بيت النبوة عليهم السلام، يتضح مذهبهم في الأمر بين الأمرين الذي جمعوا فيه بين ما ورد في القرآن الكريم من نفوذ سلطان الله على عباده وأفعالهم، وبين تنزيه الله سبحانه عن الظلم والسوء، وذلك بأن الانسان يبقى فقيراً الى الله تعالى في كل شؤونه وحاجاته وفي كل مراحله، لا ينقطع سلطان الله وإرادته وهيمنته وتدبيره عن الانسان واختياره وفعله في لحظة من اللحظات، وذلك لأن المعلول محتاج الى علته في الحدوث والبقاء على حد سواء، فهو قائم بعلته وليس له وجود مستقل غير ما تفيضه العلة عليه من وجوده التعلقي، ومتى انقطعت هذه العلاقة وانتهت هذ الافاضة، ينتهي المعلول بطبيعة الحال، وبحسب قانون العلية هذا فان الوجود كله مرتبط بالله تعالى بصورة متصلة ومستمرة، والانسان في هذا الكون يرتبط بالله سبحانه بالفقر والحاجة وبالإفاضة والايجاد. وهذه الافاضة متصلة ومستمرة، ولو أنها انقطعت لحظة واحدة عن الانسان لانتهى وتلاشى بجميع ما يملك، وإرادة الانسان ومشيئته وفعله من ذلك.

فلولا هذه الافاضة المتصلة لم يكن للإنسان أن يكون أو يريد شيئاً أو يفعل شيئاً ولكن الانسان هو الذي يريد ويختار. ولولا ذلك لم يفرض عليه الله عملاً. بلى لو أن الله قطع عنه فيض الوجود وامداد القوة والعزم والعقل والوعي والبصيرة والمشيئة والاختيار، لم يكن له أن يختار أو يفعل شيئاً، إلاّ أنه على كل حال هو الذي يريد ويختار ويفعل وليس يصح لذلك أن ينسب فعله الى غيره فهو المسؤول عن فعله. ولعل من أفضل الامثلة التي تذكر في هذا المجال من حيث الدقة العلمية هو المثل الذي ضربه آية الله المحقق السيد الخوئي رحمه الله حيث قال: لنفرض انساناً كانت يده شلاء لايستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة ارادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء، واذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلاً، فإذا اوصل هذا الطبيب هذه اليد بالسلك للتجربة مثلاً، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ومباشرة الاعمال بها، والطبيب يمده بالقوة في كل آن، فلا شبهة في أن تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين، فلا يستند الى الرجل مستقلاً لأنه موقوف على إيصال القوة الى يده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب، ولا يستند الى الطبيب مستقلاً لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد، ولم يفوض اليه الفعل بجميع مبادئه لان المدد من غيره، والافعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلها من هذا النوع.

فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئاً إلا بمشيئة الله. والآيات القرآنية كلها تشير الى هذا الغرض، فهي تبطل الجبر – الذي يقول به أكثر أهل السنّة – لأنها تثبت الاختيار، وتبطل التفويض المحض– الذي يقول به بعضهم– لأنها تسند الفعل الى الله.(48). وقد لخص الشيخ المفيد هذا الرأي الوسط بين قولي الجبر والتفويض فقال: " والواسطة بين هذين القولين أن الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم وحدّ لهم الحدود... فلم يكن بتمكينهم من الاعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض اليهم الاعمال لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها "49) واذا استفدنا لشرح هذا الرأي الوسط من روايات أهل البيت(ع) المتقدمة، فسيتضح لنا أن القضاء والقدر المذكور في هذه الروايات، ما هو إلا نظام العلية الحاكم على الكون بأكمله، وهو نظام ضروري وحتميّ ومتقن ودقيق ولا يختص بالعالم المادي الفيزيائي بل يشمل العالم الميتافيزيقي كذلك ومن أصول العلّيّة حتمية وجود المعلول عند وجود العلة، وتشخّص المعلول من حيث الكم والكيف. وحتمية حدوث المعلول هي (القضاء) وتشخّص المعلول من حيث النوع و الكم والكيف هو (القدر). فالقضاء يعني الحتم والحكم الالزامي، والقدر يعني التقدير والمقدار.

فهذا الكون مجموعة منظمة مرتبة من حلقات متسلسلة والقانون العام الذي يجري في هذا الكون هو الحتمية والضرورة والتقدير والتحديد. وحياة الانسان الفردية والاجتماعية ليست بدعاً ولا استثناء في هذا الكون. وإنما يعمّه ما يعمّ الكون من الاصول والقوانين، فيدخل الانسان وفعله وحركته الفردية والاجتماعية في دائرة القضاء والقدر التي يعيش فيها بشكل كامل بما للقضاء والقدر من حتمية ونظام وتقدير.

وهذا النظام بكل تفاصيله من خلق الله تعالى وابداعه، وهو تجسيد لإرادة الله ومشيئته، وما نجده في الكون كله وفي حياة الانسان من فعل وانفعال وحركة وولادة وهلاك ونمو وضعف، انما يجري بموجب ارادة الله تعالى ومشيئته في دائرة القضاء والقدر ونظام السببية الساري في الكون.فلابد للمسلم من الايمان بأن كل مايجري في الكون وفي حياة الانسان من خير وشر هو من قضاء الله تعالى وقدره، ونظام القضاء والقدر هذا ليس مستقلاً عن ارادة الله ومشيئته فلا ينفصل عنها لحظة واحدة.حتى إن مشيئة الانسان تجري بمشيئة الله. فلا يوجد في حياة الانسان والكون قبض وبسط وسعة وضيق ويسر وعسر إلا بحكم الله ومشيئته، فلله الحضور الدائم المتصل في هذا الكون كله، وفي كل مساحة القضاء والقدر، لا يغيب عنه شيء، ولا يجري في هذه المساحة شيء من دون حضوره وله قيمومة دائمة على كل الكون وهو الحيّ القيوم، وعلى هذا فان أفعال الانسان جميعاً من خير وشر وطاعة ومعصية، تجري بإذن الله وارادته، ولا يمكن أن يقع من الانسان عصيان او ذنب خارج دائرة سلطانه وقضائه وقدره وإذنه، فاذا عصى الانسان ربه عزوجل فإنما يعصيه بما آتاه من سلطان وحول وقوة، ولو ان الله سبحانه وتعالى سلب عنه حوله وقوته لما تمكن من معصيته.

فجميع المعاصي والذنوب هي بقضاء الله وقدره وعلمه وليست بأمر الله. واذ كان الله تعالى لايعصى مقهوراً، فلابد أن تكون المعصية باذنه ومشيئته وارادته. وهذه حقيقة لابد أن ننتهي اليها. وعندئذٍ من الحق أن نتساءل: كيف يريد الله معصية الله وهو ينهى عنها ولا يرضاها ولايريدها؟ وهذه عقدة كان يقف عندها غالباً الحوار الذي يجري بين الاشاعرة والمعتزلة في التاريخ، وتنحلّ هذه العقدة العجيبة بالتفكيك بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية، وهو ما صنعه أهل البيت(ع) في حل هذه المشكلة، إذ يكون الجواب: ان الله لا يُعصى كارهاً ولامقهوراً، اذا كان المقصود من الكراهية والقهر (الارادة التكوينية) وانما يعصى بإرادته سبحانه وتعالى من دون كراهية وقهر. وأما ان كان المقصود منها (الارادة التشريعية) فليس من بأس أن يعصى الله تعالى وهو يكره المعصية، فان الناس يكثرون من معصية الله تعالى، والله يكره معصيتهم ويمقتها ويغضب عليهم من أجلها، وإن كانت هذه المعاصي تجري جميعاً بإرادته واذنه وفي ملكه وسلطانه وبما آتى عباده من حول وقوة وطول. واختلاف الارادتين في الاذن وعدم الاذن ليس من التناقض في شيء، اذا ميزنا بشكل دقيق بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية.

وبهذا فان الانسان يملك حرية الاختيار ضمن دائرة القضاء والقدر وحكمه القطعي المتقن والدقيق فاختيار الانسان يكون في المبادئ دائماً، وأحكام القضاء والقدر القطعية تكون في النتائج دائماً. والمبادئ تستتبع النتائج دائماً بصورة قطعية ومتقنة، ولا سبيل للإنسان للتخلص من هذه النتائج القطعية، وإن كان له مطلق الحرية في اجتناب واحد او اكثر من هذه السبل في البدء. وبهذه الصورة نرى أن الله تعالى مكّن الانسان أن يمارس اختياره وحريته في وسط نظام محكم ومتقن من القضاء والقدر في الحياة الاجتماعية وفي الكون.

فلا يضرّ الاختيار بحتمية القضاء والقدر ولا يمس القضاء والقدر من حرية الانسان في الاختيار على الاطلاق لأن الانسان وان كان يعيش في وسط نظام محكم متقن ولكن بإمكانه ان يتحول من قضاء الى قضاء ومن قدر الى قدر وبهذا تتحقق مسؤولية الانسان في اختياره السبيل الذي يسلكه ويتحمل بالضرورة نتائج ما يترتب على فعله من آثار ونتائج قطعية ومتقنة. هذا فيما يخص الانسان أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فان علاقته بالكون لا تقف عند حدود القيمومة وحفظ النظام بل هو (المهيمن) على الكون بجميع ابعاده بمعنى ان نظام القضاء والقدر الحاكم في الكون ليس نظاماً ذا بعد واحد وانما هو نظام متعدد الابعاد وكل بعد منه يجري بموجب النظام بشكل قطعي ومتقن والله تعالى مهيمن على هذه الابعاد جميعاً يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فنظام القضاء والقدر في الوقت الذي لا يتخلف ولا يتزعزع هو نظام خاضع لسلطان الله تعالى وهيمنته بالمحو والاثبات فيثبت منه ما يشاء ويمحو منه ما يشاء ويغيره، وليس معنى المحو الغاء نظام القضاء والقدر أو تعطيله وانما معناه تبديله بغيره. وهذا أمر يدخل في حيز سلطان الله المطلق يقول الله تعالى: (يمحو الله مايشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (50) والانسان يتعامل مع نظام القضاء والقدر ويتحرك ويعمل ويختار ضمن هذا النظام الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته المطلقة. فلا يمكن ان ينفصل او يستقل عن ارادة الله ومشيئته في حركته وعمله في دائرة هذا النظام. كيف وهذا النظام وسيط متصل بالله سبحانه وخاضع لقيمومته وهيمنته في كل لحظة.

وهذا التعلق بالله هو رحمته الفائضة على الكون والانسان وبالإضافة الى هذه الرحمة فإن الله سبحانه يمد الانسان عند كل مفترق في الطرق، رغم ما وهبه من عقل ووعي وتمييز وبينات. فكلما شق الاختيار على الانسان باتجاه الهدى، أمده الله تعالى من عنده بالتوفيق والتأييد والتسديد اذا اراد الطاعة. واذا أراد المعصية لم يتركه لنفسه وانما يخذله عن المعصية ويدفعه عنها. فإذا أصر وأبى وركب رأسه وعاند تخلى عنه ووكله الى نفسه وأضله (51).. إن هذا الفهم المتوازن لعلاقة الانسان بالله وحدود الحرية الانسانية، ضروري جداً للأديب الاسلامي في تصويره النماذج البشرية بشكل عام، اذ يصبح مبدأ (الأمربين الأمرين) معياراً نقدياً صائباً في تحديد ملامح الشخصيات وتمييز المتوازنة منها عن غيرها. فبمقدار ما تكون الشخصية مستوعبة لمبدأ الامر بين الامرين ومؤمنة به في تفكيرها وسلوكها ومنهج حياتها، تكون شخصية اسلامية متوازنة، وبمقدار ما تبتعد عن هذا المبدأ في الاعتقاد والتفكير والسلوك، تكون مختلّة التوازن ولايمكن وصفها بأنها شخصية اسلامية.

صورة البطل في الأدب الاسلامي:

فهذا المبدأ القرآني يعد أساساً محكماً في صياغة صورة البطل في الادب الاسلامي بمقابل صورته في الآداب الاوربية المعاصرة التي تناهبتها الفلسفات والأفكار المتصارعة على مدى القرون الأربعة الاخيرة، فتمزقت بين المدارس المختلفة في الفكر والفن وتوزعت بين التيارات المتنازعة حتى في اطار المدرسة الواحدة كما شهدنا هذا التنازع بين التيارات والمدارس الفرعية المتولدة عن الواقعية او الرمزية او الرومانسية وغيرها، فلم تعد هناك حقيقة واحدة مؤكدة يستطيع الباحث أن يصل اليها في هذا البحر الهائج من الفلسفات والاتجاهات والتفسيرات و"في هذا الجو المشحون بالجنون الفكري والفني، أصبح لشخصية (البطل) في الآداب الاوربية الجديدة سمات وملامح تعبر بقوة عن هذه التيارات الصاخبة التي كانت وما زالت غير قادرة على الرسوخ والصمود، وبدا البطل بصفة عامة - كإنسان العصر- غريباً، هذه الغربة المحزنة وصمت البطل وجعلته ساخطاً رافضاً متمرداً لايعرف الطمأنينة والاستقرار ولاينعم بالسعادة او الحب الحقيقي، إنه يعاني الأرق والاكتئاب والوحدة والعجز، إن خواءه الروحي وامكاناته المحدودة وخضوعه لسيطرة الآلة ودورانه في ساقية المطالب المعيشية الآنية، قد أفرغت كيانه من مكونات القوة والارادة القادرة على صنع التغيير، وإن فقره العقائدي قد جرده من أهم أسلحة معركة الحياة، ذلك هو البطل المعاصر في الآداب الأوربية، بل وفي آداب الشرق التي تقلد وتعيش عالة على التراث العلمي والتكنولوجي والفكري للغرب"(52).

ومن هنا تأتي الحاجة الملحة لتغيير هذه الصورة اليائسة الكالحة للبطل، التي شكلها التصور الجاهلي الناقص والمنحرف للانسان وعلاقته بالله سبحانه وتعالى وأملتها المعرفة السطحية لحدود الحرية الانسانية في نظام القضاء والقدر الالهي وقاد إليها الجهل بمبدأ(الأمر بين الأمرين) الذي يعد ركيزة أساسية في بناء التصور المتوازن لعلاقة الانسان بخالقه وعلاقته بالكون والمجتمع كذلك، وهو تصور تتكامل فيه الرؤية لنظام القضاء والقدر الالهي ودور الانسان في هذا النظام، فلاشيء في الوجود يحدث مصادفة ولا شيء يحدث جزافاً بلا حساب ولا شيء يحدث بلا غاية وهذه حقيقة يؤيدها العلم يوماً بعد يوم وهي تشهد أن للكون خالقاً مدبراً يخلق بقدر ما يشاء ويدبر الأمر. وهذه حقيقة كذلك تدركها روح الانسان بالبداهة حين تجري مع فطرتها السليمة "وليس من طبائع الاشياء ان تكون الدقة العجيبة المتناهية موجودة في خلق السماوات والارض، وغائبة بعد ذلك عن حياة الانسان...

حقاً ان الله كرم الانسان وجعله خليفة له في الارض ولكن هذا ليس معناه انه اخرج حياته من الناموس الاكبر الذي شاء سبحانه ان يحكم الوجود كله، ناموس الحق. بل كان من التكريم له ان يصله بالناموس الاكبر، فلا يتركه ضائعاً منقطعاً متفرداً وحده بالتيه والضلال في الكون المهتدي كله بهداية الله" (53) والدالّ على ان يد القدرة الالهية لم تترك ذرة من ذرات هذا الكون دون تدبير، وهذه الرؤية الكونية تقع في صميم التوحيد الافعالي لله عزوجل، وهذا التوحيد الضروري في نظر الاسلام " يعني معرفة ان العالم بكل أنظمته وسننه وعلله ومعلولاته وأسبابه ومسبباته وكل الافعال والاعمال ناشئة من إرادته جل وعلا فكما أن موجودات العالم ليست مستقلة بذاتها، بل كلها قائمة به متوقفة عليه وهو سبحانه (قيّوم) العالم حسب تعبير القرآن، فهي أيضاً ليست مستقلة في مجال التأثير والعلية. وينتج من هذا ان الله سبحانه وتعالى ليس له شريك في الذات ولا في الفاعلية. وكل فاعل وسبب فهو قد اكتسب وجوده وحقيقته وتأثيره وفاعليته من الله سبحانه. وهذه كلها متوقفة عليه وكل حول وقوة مرتبطة به عزوجل: (ماشاء الله ولاقوة إلاّ به) (لاحول ولا قوة إلاّ بالله) ولما كان الانسان واحداً من مخلوقاته فهو مثلها مؤثر في أفعاله وهو أرفع منها حيث يؤثر في مصيره الخاص ولكن هذا لا يعني أن الأمر قد فوّض اليه ولا يعني أن حبله قد ترك على غاربه "(54) بل هو محكوم لإرادة الله النافذة بقضائه وتقديره لنظام الوجود وناموسه الاكبر.

ومن هذا الفهم العميق للوجود وارتباطه بتوحيد الله في ذاته وصفاته وأفعاله، ينطلق الأديب الاسلامي في تصوير نماذجه البشرية وتحديد ملامحها الاسلامية حين تقترب من أصل التوحيد، وملامحها غير الاسلامية حين تبتعد عن هذا الاصل المكين.

نماذج البطولة المكتملة:

فالبطل في المنظور الاسلامي هو القدوة او النموذج او المثال الحي الذي يجسد القيم الاسلامية، ونجد لهذا البطل القدوة أمثلة عديدة في القرآن الكريم وبخاصة في قصص الأنبياء الذين جسدوا معالم الشخصية المتوازنة الثابتة على موقفها المبدئي رغم ما تتعرض له من آلام ومصاعب، وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل (نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد) وغيرهم من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ونجد أمثلة كذلك في قصص الصالحين كمؤمن آل فرعون وأهل الكهف ومريم وغيرهم، فقد امتاز أولئك الأبطال بميزة التوحيد الخالص لله فانبعثت نفوسهم بحرارة الايمان والتقوى وعزيمة الصبر والرضا بقضاء الله وقدره الموجه اليهم وعرفوا أن كل ما يصيبهم من متاعب ذلك القضاء وآلامه ومصاعبه إنما عاقبته خيرهم وخير الانسانية جمعاء وعلى مدى القرون والأجيال ولذلك فقد انسجموا مع أدوارهم ومواقعهم في نظام القضاء والقدر الالهي وتحققت الغاية من وجودهم في سنّة التطور الحضاري والتكامل الانساني.

ومن النادر أن نجد أمثالهم في القصص والروايات التي يكتبها الأدباء، ولكنهم يظلون نماذج وقدوات لكل بطل اسلامي يتطلع الى اظهاره الأديب المسلم في عمل فني هادف. وفي هذا السبيل قد يتناول الأديب الاسلامي شخصية مألوفة من سائر الناس فيضفي عليها من الصفات- في الفكر والأخلاق والسلوك- ما يجعلها قدوة صالحة ومثالاً في المجتمع الذي تعيش فيه، كما نلمس ذلك في شخصية (الشيخ محمد حسب الله) أحد الشخصيات الرئيسة في رواية (ملكة العنب) للكاتب نجيب الكيلاني، حيث يظهر لنا هذا البطل شاباً مستقيماً يواجه الواقع بصلابة وارادة ممثلاً صورة عالم الدين المثلى حتى كانوا يطلقون عليه لقب (الرجل الصالح)، فهو عدوّ لدود للكذب والنفاق والظلم والتعالم. مهنته الأصلية التدريس ولكنه يصلي بالناس ويخطب الجمعة، كافح بعد وفاة والده الفقير حتى حصل على الشهادة العالية، ومن منطلق وعيه الاسلامي يثير في خطبته قضية زكاة العنب الذي يزرعه الفلاحون بدلاً من الحبوب، فيسود اللغط والجدل حول مدى مشروعية هذه الزكاة بعد أن اندفع بعض الفقراء الى القول بأنهم سيأخذون حقهم بالقوة اذا لم يأخذوه بالشرع، ولا يأبه الشيخ محمد حسب الله بتهديدات أصحاب العنب ممثلين في(براعم) أو ملكة العنب التي تواجهه بالغضب والحنق والاتهام باثارة الفتنة(55) قائلة:

ـ"لقد بدأت العصابات تسطو على الحقول بسببك، يظنون أن لهم حقوقاً عندنا. كان يمكنك أن تتفاهم معي قبل الخطبة فقد أستطيع أن أتدبر الأمر.

زم شفتيه وبدا الضيق على وجهه وظل مخفضاً بصره، وقال بصرامة وهو يغالب غضبه:

ـ إن عالم الدين لا يأخذ إذناً من أحد حينما يريد أن يقول الحق، وفي حديث أبي ذر: أوصاني خليلي بأن أقول الحق وإن كان مرّاً.

ـ لكنك يا شيخ محمد تفتح باباً للفتنة.

ـ حاشا لله.. أردت أن أدعو الناس لإخراج زكاة العنب.

ـ لك أن تقول ما تشاء، لكن بطريقة لا تحدث بلبلة"(56)

ويرد عليها الشيخ محمد بأنه يقول كلمته ويمضي وللناس أن يطيعوا أو يعصوا، وهو انما يفسر مبادئ الدين وليس المنبر عنده بوقاً من أبواق الحكومة ولكنه مكان طاهر تنطلق منه كلمات الله. وبهذه الارادة الصلبة ربض الشيخ محمد بجوار جثة قريبه الذي قتله العراقيون وظل ممسكاً بالنعش رغم ما عاناه من الاختناق بالقنابل المسيلة للدموع، ومن ايذاء العسكر له حيث ضربه أحدهم بعصاه على جسده ورأسه فسالت الدماء على جلبابه الأبيض لكنه لم يتزحزح من مكانه في المظاهرة، وقد انهالت عليه بعد ذلك سياط الجلادين فلم يستغث أو يبك بل أغمض عينيه وأغلق فمه وكان قلبه يخفق بذكر الله(57). وهكذا يستمر الشيخ محمد حسب الله بالتزام طريق الحق مكافحاً صابراً متوكلاً على الله راضياً بقضائه وقدره الذي يتوالى في تمحيصه بشتى الابتلاءات والمواقف الصعبة، ثم ينتقل به من العسر الى اليسر ومن الضيق الى السعة حتى ينتهي به في آخر الرواية الى الانتصار على الأشرار والعودة الى قريته مرفوع الرأس مستعيداً ثقته الكاملة بالحياة والناس والزواج من ملكة العنب.

وهناك روايتان أخريان للكاتب نجيب الكيلاني احداهما بعنوان (اعترافات عبد المتجلي) والأخرى بعنوان(امرأة عبد المتجلي)، عايش فيهما الكاتب شخصية من أقوى الشخصيات الحية التي رسمها حيث أطلعنا على شخصية البطل(عبد المتجلي) وعرفّنا على معالم تكوينه الثقافي والاجتماعي وكيف أثر هذا التكوين في توجهاته وانفعالاته وطموحاته، وفي مقاومته للعالم المضطرم الذي يعيش فيه ويصطلي بآلامه اذ يجسد هذا البطل مأساة جيل بأكمله ووطن بأكمله، وتفكيره يتجاوز المألوف ويكشف عن الفساد السائد فيرى أن حلّ التناقضات لا يتم إلا بالبحث عن الجذور وتعمق الأسباب، ويسعى الى تحقيق التقدم المادي والتكنولوجي في بلده فحين "التقى به الحاج إسماعيل المغربي وقال له مداعباً:

ـ أنت تتحدث عن التكنولوجيا يا عبد المتجلي مع أنك لم تزل تروي الأرض بالطنبور والشادوف وتشقها بالمحراث كما كان يفعل أبوك، وكما كان يفعل الفراعنة.

تفكر عبد المتجلي برهة ثم ابتسم ثم قهقه عالياً:

ـ أنت على حق يا عم إسماعيل.

واستطرد وهو يلوح بسبابته اليمنى:

ـ أريد أن يكون الكومبيوتر حقاً لكل مواطن.

أمسك الحاج تهامي بكتفه وقال وهو يرمقه بنظرات جادة:

ـ أتمزج الجد بالهزل؟؟

ـ كل الجد

ـ إنني لا أصدق ما تطلقه من شعارات.

ـ لماذا؟

ـ الرغيف أولاً.

ـ هذه مقولة ساقطة نرددها دائماً.. فالرغيف موجود والله لن يحرمنا من الحد الأدنى لحياتنا الحيوانية.. والكمبيوتر لن يمدنا بالأرقام والمعلومات فحسب ولكن سيثمر خبزاً وفاكهة وشيكولاتة أيضاً"(58).

وهكذا يبدو هذا البطل مثالياً في تصوراته حالماً في طموحاته حتى أطلقوا عليه(عبد المتجلي المجذوب) ولكن الواقع المرير يشده بعنف ويوقظه من أحلامه وتصوراته ويعرضه للنكسات والهزائم والمساءلات القانونية، والضرب والتعذيب أيضاً. ولكنه رغم كل ذلك يظل مصراً على تحقيق أهدافه مقاوماً في استماتة حتى ينسيه الاصرار الألم والأسى ويظل يحلم ويواصل الحلم مستمداً صموده من قوة مبادئه الاسلامية. وبهذا يصبح عبد المتجلي نموذجاً حياً لشخصية البطل المتنامي الذي يحمل نبض الانسان ومشاعره وأشواقه في الحرية والعدل والتقدم والطهارة(59).

نماذج البطولة النامية:

وبالاضافة الى ما تقدم يهتم الأدب الاسلامي بنماذج الضعف البشري او البطولة الناقصة التي تحتاج الى تجربة ومعاناة وهي في طريقها الى النمو والاكتمال. و"ربما كانت هذه النماذج الناقصة اكثر جاذبية بالنسبة لحامل القلم لأنه يجد فيها مادة خصبة للمعالجة ومحاولة إخضاعها للعديد من العوامل والمؤثرات او الاحداث حتى تحقق من خلالها نموها وتطورها بأسلوب مقنع لتصل الى المثال المطلوب او القدوة المنشودة لأن مهمة الدعاة ليست قصراً على النماذج الصالحة الطيبة وحمايتها من الاًنزلاق او المروق فحسب، ولكن المهمة الاكبر تكمن من استنقاذ الجانحين واصلاح الفاسدين وفتح باب الامل امام اليائسين او المترددين والاخذ بأيدي التائهين الى طريق الحق والخير والجمال، البطل في العمل الادبي الاسلامي هذا وذاك، لأن الخروج من المأزق بطولة وكذلك التخلص من سلبيات السلوك وهواجس الضعف واغراءات الحياة الزائفة والانتقال من حال متردية الى حال متسامية، والخروج من السلبية الى الايجابية والتخلص من ادران الشك والخوف والتسيب والقدرة على بدأ حياة نقية جديدة، كل هذا يعتبر ضرباً من البطولة الجديرة بالإبراز والتمجيد لأنه يعني انتصار الخير على الشر في قلب الانسان اولاً وفي معترك الحياة ثانياً "(60)، ولذلك فإن الأديب الإسلامي لايقف عند مرحلة سقوط البطل وفشله بل يتجاوزها إلى مرحلة النهوض والنجاح وهذا المسار الإسلامي يختلف عن المسار الذي اندفعت فيه الآداب الجاهلية في تركيزها على خيبة البطل ومأساويته حتى النهاية، فمن "اللافت للنظر أن أجناس الأدب الموضوعية كالمسرحية والقصة منذ أرسطو والى اليوم وهي تولي اهتماماً كبيراً لسقوط هذا البطل وانكساره فيما يسمى بالخطأ المأساوي وهو خطأ في السلوك تخالف نتيجته ما يستحقه هذا البطل لقاء بطولته، وهذا خطأ وليس خطيئة حيث أن الاخيرة أخلاقية بينما الخطأ قد يكون منشؤه سوء ترتيب المقدمات أو عدم تنظيم الأفعال التي يقوم بها هذا البطل أو أن هذه الافعال برغم سلامتها يعوزها بعد النظرومحاولة استبصار النتائج مما يؤدي إلى التحول في مصير هذا البطل فيفشل أو يسقط. وبرغم انسانية هذه اللحظة أو هذا المنعطف فهو لايتناسب مع الانسان الذي كرمه الله على كثير من خلقه.

فليس السقوط أو الفشل هو فقط الذي يشكل حياة الانسان وإنما الحياة السوية مزيج من النجاح والفشل واستبصار واعتبار ينتقل به الانسان من الفشل إلى النجاح فلا بأس من الجمع بينهما ولكن على اساس نقلة الانسان إلى ما يليق به "(61) من بناء الحياة وعمارة الكون كما أراد له الله سبحانه وتعالى وهيّأ – بعدله وحكمته – جميع الاسباب الموصلة إلى النجاح في تحقيق هذا الهدف، فلا ينبغي للإنسان ان يصيبه اليأس والقنوط إذا فشل، بل يجب عليه ان يعيد المحاولة بصبر اكبر ودقة اكثر في اختيار الاسباب والمبادئ المؤدية إلى تحقيق ذلك الهدف السامي، وهذا الاصرار على تحقيق النجاح في الحياة مرتبط بمدى ايمان الانسان بوجود الله وعدله وحكمته واتقانه لنظام القضاء والقدر الحاكم لجميع الوجود الصادر عنه سبحانه، ويتعزز هذا الايمان باتخاذ منهج التوحيد والعبودية لله وصولاً الى الكمال الإنساني المنشود، فالإنسان من بين كل الكائنات هو الكائن الذي انصبت عليه الرحمة الالهية الفائضة فوهبته العقل والارادة وجعلته لوحده الموجود الذي يقبل الوصول إلى درجات الكمال الممكنة فكان هو الموجود المكرم (ولقد كرمنا بني آدم)(62) وكان هو الموجود الذي سخرت له الموجودات وخلقت لأجله لكي يواصل مسيرته في طريق الكمال من جميع جهات حياته. قال تعالى: (وما خلقت الجن والانس إلاّ ليعبدون)(63).

"وجعل الهدف من الخلقة هو العبادة إشارة إلى أن درجة العبودية لله تعالى كلما ترقت ترقى الانسان في مدارج الكمال وأصبح اكثر قرباً من اعظم حقيقة في الكون واكثر علماً وارتباطاً بواقعه كعبد لخالق الكون العظيم"(64). فالارتقاء الروحي هو أسمى هدف في حياة الانسان، وهو أشد ما يهتم بابرازه الأدب الإسلامي دون أن يغضّ الطرف عن الجانب المادي.

التصوير الواقعي للبطل:

إن سمة الواقعية في الأدب الاسلامي تجعله يصور الانسان جسداً وروحاً ويبين مظاهر التكامل بينهما مع التركيز على أهمية الروح في توجيه الكيان بعامة. ويفضح الدعوات المادية الجامحة التي تحطّ من قيمة الانسان وتسقط كرامته وشخصيته اذ تصوره تصويراً حيوانياً خالصاً لاهمّ له إلاّ اشباع شهواته الغريزية بأي طريق دون حياء أو خجل أو اعتبار لدين أو خلق متأثرة في ذلك بالتفسيرات المادية لطبيعة الانسان كالتفسير الفرويدي الجنسي والتفسير الاجتماعي لدوركايم والتفسير الاقتصادي الماركسي والتفسير الوجودي وغيرها. لذا يسعى الأدب الإسلامي إلى بيان مساويء المجتمعات المعاصرة وعلاقتها بالنظريات الالحادية والتفسيرات المادية. وهذا عنصر هام يدعم الوعي الإسلامي الصحيح ويقوي نظرتنا العامة بغية التخلص من براثن الفكر الجاهلي.

إضافة إلى هذا يصور الأدب الإسلامي حقيقة الدوافع الانسانية وطبيعتها واضعاً لها الضوابط المانعة من انطلاقها في الاتجاهات العمياء وسبل الضلال، فهو لاينكر ما أودعه الله تعالى في كيان الانسان من دوافع وطاقات وغرائز، لكنه لايلقي الحبل على الغارب وإنما يمسك بكل جانب من جوانب النفس البشرية فيوجهه الوجهة المطلوبة ويضعه في موضعه الصحيح حاثّاً المرء على التسامي والتجرّد من سفاسف الدنيا ليلحق برتبة الملائكة من حيث التقوى والعبادة والاخلاص، دون حدوث انفصام بين ضرورات الجسد واشراقات الروح وهذا هو التوازن التربوي الإسلامي الرائع الذي تشع أنواره فتبعث السعادة الحقة والدفء الروحي والايماني في النفوس والأفئدة ولهذا التوازن قيمة عظمى في تحقيق الحياة الانسانية الهادئة بمراعاة التكامل الوظيفي في صفات الانسان وخصائصه الفطرية وحاجاته الاساسية.

ولهذا يحرص الأدب الإسلامي على تصوير مظاهر التكامل النفسي وأنواعه وتجلياته في الحياة الخاصة والحياة الاجتماعية العامة. فمن البديهي أن ذات الانسان تتفاعل كلها مع المحيط الخارجي دون استثناء جزء منها كالعقل أو الروح أو الغرائز، وبهذا التفسير الشمولي أو التكاملي يتفرد الأدب الإسلامي و يختلف جذرياً عن الآداب الجاهلية التي قطّعت أوصال النفس البشرية وبعثرتها فاقتصرت على مخاطبة الغرائز والعواطف الهوجاء والشهوات الصاخبة. ومن الطبيعي أن الأدب الإسلامي لاينكر قيمة الجسد والانفعالات والغرائز ولكنه يضبطها بالمقاييس الروحية والضوابط الربانية، ذلك لأنه منهج وسط بين الاتجاهات المتطرفة المنحرفة، لايؤمن – كالدارونية – بحيوانية الانسان، ولايؤمن – كالهندوكية والبوذية – برهبانية الانسان. بل يؤمن أن الانسان قبضة من طين الارض ونفخة من روح الله وقد امتزج هذان العنصران في كيان واحد لايقبل التقسيم. ومن هذا المنطلق يختلف الادب الإسلامي عن الآداب الجاهلية حين يعرض للحظة الضعف التي يمر بها البشر بعامة.

فالإنسان معّرض بطبعه للزلاّت والهفوات والانحرافات، لذا فتح الإسلام باب التوبة على مصراعيه وكثيرة هي النصوص القرآنية والنبوية التي تحث الانسان على الانابة إلى الله تعالى وترك المعاصي وطلب الغفران، ولذلك يلتزم الأدب الإسلامي بتصوير هذا الجانب الهام وتسليط الاضواء الساطعة عليه اعترافاً بوجود لحظة الضعف ووقوعها في حياة البشر ولكنه لايقرّ أن تصوّر تصويراً مركزياً يخرجها عن حدودها ويرفعها إلى حيث الفضيلة والرفعة كما يفعل أدباء الجاهلية حين يصورون لحظة الضعف على أنها لحظة بطولة وانتصار مستخدمين المصطلحات المزيفة والعبارات الجوفاء التي تزيّن مواطن الانحرافات وتستر معايبها ونتنها لتغري النفوس الساذجة وتوقع القلوب الضعيفة. فالبطل في هذا الادب الجاهلي هو الرجل الشاذ الذي يؤثر دوماً الفساد والانحراف على الاستقامة والرشاد والصلاح، هو الشخص العادي معروضاً من نقطة الضعف المسيطرة عليه ومرسومة لوحاته من هذه الزاوية وحدها أو بصفة غالبة، ولايتحرج أدباء الجاهلية من أطلاق اسم (الواقعية) على هذا التشويه لطبيعة الانسان وطبيعة الحياة.

تصوير الأشرار:

إن الواقعية الحقة – بمنظورها الإسلامي – لاتزعم أن الانسان خير كله ولاتزورّ عن تصوير الشرّ في تصرفاته، ولكنها تقول عنه إنه شرّ وتصوره على أنه خطأ لاينبغي أن يكون (65). وإن الادب الإسلامي ليحذو حذو القرآن الكريم في تصويره الهادف لظواهر الشر الصادر من بني الانسان، فكما أن القرآن صوّر فضل المؤمنين واحسان المحسنين فقد صور أيضاً رجس المشركين وفساد المفسدين ولكن كلاً من التصويرين كان يهدف إلى غاية واحدة هي إرساء قواعد الخير والفضيلة في المجتمعات واقتلاع جذور الشرّ والرذيلة منها. ولذلك فهو حين يصور الشرّ إنما يصوره من أجل الخير. وهذا هو واجب الأديب المسلم الذي يتخذ القرآن الكريم رائداً وقائداً في هذا المجال فلا ينكر أن في البشرية ضعفاً ولكنه لايريد أن يبرّر هذا الضعف ويهوّنه في نفوس الناس "فكتاب الله وحديث رسول الله كثيراً ما ألمّا بهذا الضعف ولكنهما لم يعرضا ذلك لمجرّد تسجيل الواقع وإنما عرضاه رغبة في بيان بشاعة هذا الواقع وسعياً إلى الارتفاع بالإنسان من وهدته التي ينحدر اليها وتطوير حياته وترقيتها واعلاء غرائزه والسموّ بها وقد كانت الحياة منذ آدم عليه السلام وظلّت إلى يومنا هذا ميداناً عريضاً يصطرع فيه الخير والشر ويلتقي على صعيده البرّ والفاجر. والأدب كان وما يزال يتغذى من هذا الصراع وينمو، وانه ليس من المنطق في شيء أن نقصر هذا الأدب على خير الخيرّين وأن نختار أبطاله من كملة الرجال وفضليات النساء وأن ندير ظهورنا للشرّ والرذيلة وأن نعتبرهما غير موجودين.

إن حرية تصوير الخير والشرّ مكفولة للأديب المسلم، ففي وسعه أن يختار أبطاله من الأطهار الأبرار أو من الأخباث الأشرار أو من كليهما معاً، وذلك بشرط واحد هو أن يكون الاحساس الذي يستقر في نفس المتلقّين هو نفس الاحساس الذي يتركه القرآن الكريم في النفوس عند تصويره لهذين الضربين من الناس"(66)، وذلك الاحساس هو النفور من الشرّ وكراهية الأشرار ورفض ما يصدر عنهم من القبائح، وهذا الاسلوب الإسلامي في تصوير الشر والقبح يختلف عن اسلوب الادباء الغربيين اختلافاً جوهرياً" فالشرّ الذي نراه مصوراً في المسرحيات والقصص والنحوت الاوربية أو بعضه على الأقل لاينتهي إلا بمزيد من الشرّ وإتاحة فرص تغيير الفطرة الانسانية التي فطر الله الناس عليها... إن الأدب الإسلامي قد يصوّر القبح أحياناً ولكن بطريقة نظيفة تنتهي إلى رفض هذا القبح والاعتبار به وعدم الاغراء به"(67) فهناك فرق واضح بين تصوير الرذيلة على أنها لحظة من لحظات ضعف الانسان، وبين تقديمها للقراء على أنها بطولة تستحق التمجيد ومُثُل ينبغي أن يحذو الناس حذوها.

والحكم الفصل في هذه المسألة هو القرآن الكريم اذ نجده حين صوّر خطيئة آدم عليه السلام فقد صورها على أنها لحظة من لحظات ضعفه أمام إغراء الشيطان لا لحظة بطولة حقق فيها ذاته كما زعم بعضهم، وحين عرض لقصة قابيل وهابيل فقد جعلها صورة فذّة لأعنف ضروب الصراع بين الخير والشر وأشدها قسوة اذ وصفت الانسان المؤمن المسالم المفوّض أمره إلى الله الراضي بقضائه، والانسان الشرير العدوانيّ الذي ينقاد إلى نفسه الامارة بالسوء ولكن الاحساس الأخير الذي تتركه قصة الأخوين عند القرّاء إنما هو الإحساس بالأسى والحسرة على القتيل المغدور والكراهية والازدراء للقاتل الغادر، والاجتواء والنفور من جريمة القتل. بل إن القرآن الكريم صوّر لنا ندامة القاتل على فعلته ليزيدنا عمقاً في كراهية جريمة قتل النفس التي حرّم الله قتلها إلاّ بالحق(68).

وكذلك نجد في قصة يوسف عليه السلام حيث يبدأ الصراع الخارجي فيها بقول يعقوب(ع)لابنه يوسف: (يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)(69)، فهذا القول يكشف عن أن اخوة يوسف كانوا منطوين على الغيرة والحسد والكره ليوسف وهم- بهذه الأهواء النفسية- مستعدون لاستقبال ايحاءات الشيطان ووسوساته لهم بالكيد والمكر بيوسف حتى لو أدى ذلك الى ارتكاب الحد الأقصى من الجريمة وهو القتل، وقد غابت عنهم حقيقة مهمة وهي أن هذا الطفل الصغير وراءه ارادة عظيمة هي ارادة الله الغالبة على المدى البعيد، وهنا يتضاءل دور الشيطان قياساً الى فاعلية القدر الالهي الذي يصل بالصراع الى نهايته المرسومة بانتصار قوة الخير ممثلة بيوسف(البطل) وهزيمة قوى الشر ممثلة باخوته في قولهم: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين)(70) وممثلة قبل ذلك بامرأة العزيز في قولها: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(71)، فان هذا التبدل في مواقفهم يكشف عن تبدل في نوازعهم الداخلية بعد صراع ينهزم فيه الشيطان وتنتصر قوة الخير على قوة الشر في نفوسهم، ورغم ما في القصة من تصوير لحظات الضعف والهبوط لدى امرأة العزيز، ولكن المحصّلة النهائية لهذه القصة هي انتصار قيم الفضيلة واندحار الرذيلة وخيبتها وندمها وهزيمة الشيطان.

تصوير الصراع بين البطل والشيطان:

وفي ميدان الصراع بين الانسان والشيطان يجد الأدب الإسلامي آفاقاً واسعة وجوانب رائعة وحقولاً خصبة للابداع الفني الأصيل، ويمكن أن نمثل في هذا المجال بقصة(وسوسة الشيطان) للكاتب عبد الحميد جودة السحار ضمن مجموعته القصصية (همزات الشياطين) حيث يظهر لنا بطل القصة (صلاح) مأخوذاً بفتنة الشيطان حتى سقوطه بارتكاب الخطيئة مع (بديعة) ولكن الكاتب لا يتوقف عند لحظة السقوط والهبوط بل يتجاوزها الى رسم الحركة المضادة لحركة الهبوط فينهي قصته بلحظة الافاقة والارتفاع عن مستوى الحيوان والعودة الى الانسانية فيقول: "وانتهى كل شيء فانسلت بديعة في خفة الى مسكنها، وقام صلاح الى الباب يجر عاره، وأغلقه وهو في ذهول عميق وعاد الى فراشه كسير الفؤاد يتساءل عما فعل وارتمى في سريره كأنما ارتمى في أتون من النار فجعل يتفزع ويتأوه وتحرك ضميره وراح يصرخ: ضيعك شيطانك فيما جنيت؟ لذة عبرت يعقبها حسرة طويلة وعذاب مقيم، لقد هويت فحق عليك عذاب الحريق. واستمر ضميره يخزه وخزاً شديداً وهو يتلوى من العذاب، وضاق صدره فترقرق الدمع في عينيه فلم يستطع حبسه فجرى على خديه واستمر في عذاب حتى ارتفع صوت المؤذن يؤذن بالفجر، فأحس كأن صوته نار تصب في أذنيه فوضع اصبعيه في أذنيه ليصمهما عن سماع الأذان الذي يزيد من أشجانه ولكن صوت المؤذن كان يقرع سمعه، فكأنما شواظ من نار سددت الى قلبه فأحرقته احراقاً، وارتفعت النار الى صدره فأضنته وأحس سميرة[زوجته]تنهض من فراشها فأحس عرق الخجل يتصبب منه حتى يغمره، واقتربت من سريره فود أن تبتلعه الأرض قبل أن تمسه ولكن يد سميرة لمست كتفه في رفق وهمست في حنان:

ـ صلاح.. صلاح انهض قد أذن المؤذن.

فهمّ بأن يصيح فيها أن تبتعد عنه وألا تلمسه، ولكن صوته انحبس ولم يجد مخرجاً، فعادت تهزه وتهتف:

ـ صلاح.. صلاح.. قم. الصلاة خير من النوم

واقتربت بوجهها من وجهه، فلمحت دموعه تجري على خده، فهمست في فزع:

ـ صلاح، ما بك؟ أتبكي؟.. قم يا حبيبي.

ـ دعيني

ـ ما بك يا حبيبي؟

ـ رأيت رؤيا مفزعة، رأيت نفسي أطرد من الجنة.

ـ أضغاث أحلام

ـ لا يا سميرة، هتف بي هاتف: تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار.. تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار.

فضمته سميرة الى صدرها في حنان وقالت:

ـ لا يا صلاح، إنها وسوسة الشيطان، نعوذ بالله منه وقم يا حبيبي.

ونهض صلاح ليغتسل من اثمه، وانطلق حزيناً كئيباً يحتقر نفسه، ويعجب لضعفه. وسمع صوتاً آتياً من أغوار نفسه كأنه همس ينبعث من مكان سحيق، ولكنه بلغ أذنيه واضحاً قوياً، وانساب فيها عذباً ندياً: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون

فتمتم والدموع تخضب وجهه: اللهم إني أستغفرك وأتوب اليك "(72)

فهنا يصل الكاتب الى القمة التي تدخل قصته في المنهج الاسلامي حيث الواقع الكبير الذي يشمل لحظة الضرورة ولحظة الانفلات من الضرورة والانطلاق مع الأشواق العليا العميقة في كيان الانسان اذ إن بطل القصة- في غمرته بعد ارتكاب الخطيئة- يستمع الى صوت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فتنساب في نفسه نغمات الأذان مع نسمات الفجر وتغسل من نفسه رويداً رويداً أدران الخطيئة فيفيق الى نفسه ويتوجه بمشاعره الى الله يستغفره ويترضاه، وهكذا نتحدث عن الخطيئة ومع ذلك نكون في فننا مسلمين ونكون واقعيين، واقعيين مع الانسان كما هو في حقيقته كلها: الحقيقة الكبيرة المعقدة المتعددة الجوانب، لا كما هو في جانب واحد من جوانب تكوينه الكثيرة الكبيرة، الجانب الذي يجتزئ به (الواقعيون) الصغار ثم يزعمون أنهم هم الواقعيون! ويزعمون أن الواقعية لا تكون الا حين نعزل الحيوان الذي يشتمل عليه الانسان ونملأ به فراغ الصورة كله، وكل فن يصور لحظة الضعف البشري على أنها انتصار الانسان واثباته لذاته ومن ثم يشيد بها ويجعلها لحظة بطولة ويسلط عليها الأضواء ويتركها هي النهاية التي يقف عندها الانسان لا يبرح ولا يريم، هو فن يقلب الحقيقة البشرية كلها بل حقيقة الحياة في جميع مجالاتها ويزور هذه الحقيقة ويشوهها ؛ لأنه لا يستمد من نبعها الحقيقي وانما يستمد من خيالات مخبولة كخيالات الحشيش والأفيون(73).

ونجد في أدبنا الاسلامي مثالاً آخر لهذا البطل المتحول من الضعف الى القوة ومن السقوط في الرذائل الى النهوض والارتفاع في مدارج الحق والفضائل، نجد هذا المثال في رواية(قضية أبو الفتوح الشرقاوي) للكاتب نجيب الكيلاني، حيث تظهر لنا شخصية أبو الفتوح الشرقاوي الذي حملت الرواية اسمه، شخصية متحولة انتقلت من عالم الضياع والضلال، الى عالم السكينة والسلام والهدى. فقد كان هذا الرجل لصاً يهوى الكذب وقد جلب على نفسه المتاعب بادعائه أنه رأى جثة القتيلة المزعومة(عنايات هانم) زوجة (اللواء الشريجي)، وتطور هذا الادعاء على يد الشرطة نتيجة للتعذيب الى اعتراف تفصيلي كاذب بأنه هو الذي قتل عنايات البحيري وتقاضى مقابل ذلك مبلغاً ضخماً، ولكنه لا يعرف أين ذهبوا بالجثة ولا الأشخاص الذين كلفوه بالمهمة ودفعوا له الثمن، ثم تتطور المسألة الى ملابسات يدفع أبو الفتوح ثمناً لها معاناة وتعذيباً الى أن تتحول قضيته الى قضية عامة تشغل المجتمع كله، الدولة والأحزاب والصحافة وعامة الناس. وبعد الافراج عنه تبدأ حياته بالتحول والانتقال الى التدين والتزام الطريق المستقيم في أخلاقه وسلوكه عقب انضمامه الى جمعية اسلامية كان لها الأثر القوي في أفكاره ووجدانه. وهكذا أصبح أبو الفتوح الشرقاوي رجلاً صالحاً بعد أن تخلى عن الكذب واللصوصية وبعد أن مرّ بتجربة مريرة وقاسية ذاق فيها الويل والعذاب، وصار يدعو الى الله والى نظافة القول والسلوك(74).

أسلوب المقابلة بين النماذج البشرية:

تتعدد صور البطل في ميدان الأدب الاسلامي المتأسي بالقرآن الكريم في رسم النماذج البشرية المتنوعة، ولتأكيد قيم الخير وترسيخها في النفس، يتخذ القرآن أسلوب المقابلة بين تلك النماذج ليظهر من احتكاكها الوجه الامثل للحياة حيث يتجلى الطهر والعفة والجمال كقيم مطلقة للإنسان الامثل والحياة التي يرتضيها الإسلام للبشر، ونجد لهذا الأسلوب القرآني مثالاً في قصة اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام حيث يسلم هذا الابن البارّ نفسه لأبيه لينفذ فيه رؤياه في تسليم كامل وطاعة خالصة يجليها القرآن الكريم في دقة وإحكام وايحاء ثرّ حيث يقول: (فلما بلغ معه السعي قال يابني اني أرى في المنام أني اذبحك فانظر ما ذا ترى. قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين فلما اسلما وتله للجبين وناديناه أن يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجزي المحسنين ان هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم)(75).

يقابل ذلك تماماً ويفارقه موقف ابن نوح عليه السلام حين يرفض هذا الابن العاقّ نصح ابيه وتأخذه العزة بالإثم فيوغل في عقوقه الذي يجليه القرآن الكريم في قوله: (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابنيّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من امر الله إلاّ من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين)(76). "وكلا الموقفين يتسم بالدقة والاعجاب البالغين، فمن حركة ونماء يجليهما اتصال الافعال وتراسل ماهياتها إلى حشد ردود الافعال في ترابط وتصاعد يؤذن بنهاية تحسم الموقف لصالح الخير والخيرين... وهذا ما يجب ان يتسامى اليه كل نتاج ادبي. هذا فضلاً عن الاسلوب القصصي الذي يسري في هذه الآيات ويجذب إليه عقل المتلقي ووجدانه معاً"(77). ولا تظل النماذج البشرية المتباينة في القرآن متباعدة بمواقعها من السور، بل "انها لتتجاور ويقترن بعضها ببعض في السورة القرآنية كامرأة نوح وامرأة لوط يقابلهما صلاح امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، ويلاحظ ما في النماذج من ثراء يجليه تعدد العلاقات حيث ان الاوليين كانتا زوجتين لرجلين صالحين بينما كانت الثالثة زوجة لرجل مشرك... وهكذا يتضح اتجاه النماذج الانسانية في محاولتها التطلع نحو كل ما هو حق وخير من خلال الجمع بين مختلف الجوانب لتتكامل الصورة العامة الفضلى التي تجلي رقي الانسان وتكريم الله تعالى له "(78)

وفضلاً عما تتجه إليه النماذج القرآنية من اهداف تربوية وتعليمية، فهي شخصيات واقعية وليست افتراضية، اذ تبقى متعلّقة بمواقعها التاريخية المعروفة رغم ما تقدمه من المفاهيم والقيم العامة غير المحددة بزمان او مكان، وهذا ما يفيد منه الادب الإسلامي حيث "يصور خطين متقابلين متعارضين كل التعارض، خط الاستقامة الذي يسير وفقه الانسان حين يجعل نصب عينيه تحكيم شرع الله وتمثل مقومات العقيدة الصافية، لكن التصوير الادبي هنا لا يأخذ مساراً نظرياً تجريدياً، بل انه يشفعه بالنماذج التطبيقية والامثلة الواقعية التي شهدتها حياة السلف الصالح اما الخط الثاني المعارض للأول فهو خط الانحراف والاعوجاج وهو الذي عليه اكثرية الامم والمجتمعات في كل عصر فضلاً عن مجتمعات اليوم، وانه يظهر بقوة كلما اتخذ الانسان الشيطان خليلاً له يستشيره في كل شأن من شؤونه ويرجع إلى وساوسه في كل امر من امور حياته "(79) وإن اهتمام الادب الإسلامي بعرض وتصوير الخطين معاً انما هو لتحذير الانسان من الوقوع في مخاطر الخط الثاني عن جهل أو ضلال.

وهكذا يتخذ تصوير الشر في الادب الإسلامي وسيلة لتحقيق الخير في حياة الانسان والسير به في مدارج الفضيلة والكمال، وهذا عكس ما تسعى اليه الآداب الجاهلية حين تجعل تصوير الشر غاية في ذاته بحجة الواقعية والامانة في نقل الواقع ومن هذا الشر المقصود في تلك الآداب ما تدّعيه من عداء الطبيعة للإنسان وما يتعلق بهذا العداء من مشاعر سيئة وحالات نفسية مؤلمة حاولت تلك الآداب المنحرفة تعميقها في وعي الانسان بما يجعل حياته مظلمة مكفهرة لا أمن فيها ولا استقرار اما الادب الإسلامي فهو يتفرد ويستقل بنظرته الخاصة التي ترى في الانسان كائناً ايجابياً خلقه الله سبحانه وكرمه بالخلافة في هذه الارض وسخر له سائر المخلوقات ليستغلها في سبل الخير والصلاح، لذلك فإن المسلم المؤمن بهذا التصور الإسلامي لا يجزع ولا يقلق ولا يضطرب بعد ايمانه بقضاء الله وقدره واطمئنانه إلى انه لا يريد له إلا الخير، تهديه في ذلك علاقة المودة لله والحب والرضى المتبادل(رضي الله عنهم ورضوا عنه)(80) ولا تحكمه قط علاقة البغضاء والشحناء والصراع مع الله والطبيعة، تلك العلاقة التي تلوث الآداب الجاهلية الحديثة كما لوثت اساطير الاغريق من قبل(81).

ارتباط البطل بالواقع العملي:

ولا ينفصل الايمان بالله في ضمير المسلم عن العمل الصالح في حياته اليومية، بل شرط الايمان في الإسلام ان يقترن بالعمل ليتحقق من ذلك توازن الانسان المطلوب في مجال العلاقة مع الله تعالى " فيكون مؤمناً به ايماناً صادقاً وفي نفس الوقت عاملاً في سبيله بصدق واخلاص من اجل ان تكون شخصيته اسلامية صالحة تنفع الإسلام والمسلمين وترتفع في هذه الاجواء الايمانية نحو درجات التكامل.

ان الإسلام يعتبر ان أي اختلال في هذه العلاقة من شأنه ان يضعف محصلتها النهائية ومن ثم تفقد الشخصية روحيتها الاسلامية، بل انها تبتعد عن منهج الإسلام فيما لو فقد احد العنصرين (الايمان أو العمل) "(82) كما ورد هذا المفهوم عن الامام الصادق(ع) في تفسيره قوله تعالى: (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله) (83) قال: " كفرهم به ترك العمل بالذي اقرّوا به "(84) ومن الواضح جداً في القرآن الكريم تأكيده في آيات كثيرة على الارتباط الوثيق بين الايمان والعمل الصالح، كقوله تعالى: (ان الذين آمنو وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير)(85)، وقوله تعالى: (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فاولئك لهم الدرجات العُلى)(86)، كما ورد هذا التأكيد على ارتباط الايمان بالعمل في احاديث عديدة من السنة المطهرة، كقول النبي(ص): (الايمان عقد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان)(87) وقول الامام علي(ع) (الايمان والعمل أخوان توأمان ورفيقان لا يفترقان لا يقبل الله احدهما إلا بصاحبه)(88) فهذا الارتباط بالواقع العملي يبتعد بالشخصية الاسلامية عن المثالية الخيالية والانكفاء على الذات والعزلة عن الحياة والناس، ويجعلها اكثر تفاعلاً مع اجزاء الحياة ومفرداتها ويهبها حسّاً اجتماعياً يعد ضرورياً في بناء المجتمع الإسلامي المتماسك.

التصوير الفني للبطل:

وبناء على ماتقدم فان صورة البطل في الادب الإسلامي لا تكتسب صفتها الاسلامية التامة إلاّ في سياقها الاجتماعي ودورها الفاعل في تطوير المجتمع وتمردها على مظاهر الشرّ والظلم فيه وسعيها الحثيث في نشر القيم الاسلامية في جميع انحائه ومفاصله، وعندها يصبح هذا البطل تجسيداً حياً لفكرة الاديب الإسلامي "لتؤدي دوراً تمتزج فيه المنفعة بالمتعة لدى المتلقي، فيتفاعل معها ويتأثر بها، ومن ثم تتولد لدى ذلك المتلقي قناعات بعينها قد تدفعه إلى اتخاذ موقف، وهذا التأثير واسع الآفاق رحب المدى، فقد ينمو ويتسع اكثر مما في شخصية البطل. وهذا راجع إلى عاملين اساسيين: اولهما قدرة الكاتب على الوفاء بمقتضيات الفن والفكر بحيث لايحد من رؤية المتلقي، ولكن يدفعه إلى مزيد من التفاعل والتفكير فيخرج بإضافات وتخيلات وابتكارات تجعل الرؤية اكثر عمقاً وشمولاً، وكأن المتلقي في هذه الحال يتحول - تلقائياً-إلى امتداد طبيعي لفكر الكاتب وتصوراته المتنامية المتفاعلة، اما العامل الثاني فهو اندماج المتلقي مع العمل الادبي وتقبله بحساسية ورضى صادق، ولاشك ان اكتمال هذه الدائرة يحقق الهدف الاسمى من الادب، فالادب الإسلامي بالضرورة قوة فاعلة مغيرة إلى الافضل"(89) إذا استطاع الاديب الإسلامي ان يجذب المتلقي ويقنعه بشخصية البطل المتميزة بقوتها ونقائها وصمودها وجهادها في سبيل الله وتضحياتها، وبالأخص حين تكون تلك الشخصية حقيقية يطوعها الكاتب الإسلامي لعمله الادبي " لكن الامر لا يقف عند هذا الحد، لان الكاتب لاينقل الحياة او الشخصية كما هي باسلوب فوتوغرافي، انه يضيف إلى تلك الشخصية لمسات وظلالاً وسمات جديدة ويحشد لها الاحداث المناسبة ويتخيل الحوار المناسب ويدخل بها ومعها في وقائع وممارسات متخيلة تكشف عن دخيلة الشخصية وتفسر حركتها وفكرها، المهم ان الكاتب قد يحذف وقد يضيف حتى يستوي امامه النموذج الذي يريد وهكذا نرى ان شخصية البطل ليست صورة طبق الاصل من الواقع ولكنها كائن حي جديد تكاملت لديه المواصفات والاسباب التي تجعله قادراَ على اداء دوره، وفي هذه النقطة بالذات تتفاوت القُدرات الابداعية من كاتب إلى آخر ويتميز نتاج كاتب عن آخر"(90) بقدر ما يمتلك الكاتب من تصور شامل ودقيق لطبيعة الانسان في عناصره الاساسية ومكوناته الفطرية وما يطرأ عليها بمسيره في سبل الخير او الشر وطبيعة علاقاته بالله والكون والمجتمع.

* أ.م.د.عبد الكريم أحمد عاصي المحمود-جامعة الكوفة-كلية الفقه/قسم اللغة العربية

.............................
هوامش البحث
(1) د. عبد الحميد بوزوينة، نظرية الادب في ضوء الإسلام 3/132
(2) محمد قطب، منهج الفن الإسلامي /181 (بتصرف)
(3) السيد حسن الشيرازي، العمل الادبي / 150
(4) محمد علي التسخيري، التوازن في الإسلام /18
(5) سورة التوبة، الآية (51)
(6) سورة الشمس، الآيات (7-10)
(7) سورة الانسان، الآيتان (29-30)
(8) التوازن في الإسلام /19
(9) محمد صادق الحسيني الروحاني، الجبر والاختيار / 78
(10) مرتضى المطهري، العدل الإلهي / 149
(11) مركز الرسالة، الأمر بين الأمرين /16
(12) الجبر والاختيار/ 87
(13) سورة الحديد، الآية (5)
(14) سورة التغابن، الآية (1)
(15) سورة البقرة، الاية (284)
(16) ينظر: الأمر بين الأمرين /17-20 (بتصرف)
(17) منهج الفن الإسلامي /151
(18) د. فؤاد المرعي، المدخل الى الآداب الأوربية / 29
(19) د. عبد الرحمن رأفت الباشا، نحو مذهب اسلامي في الأدب والنقد / 185
(20) د. نجيب الكيلاني، مدخل إلى الأدب الإسلامي /51-52
(21) الجبر والإختيار /88
(22) سورة الأنسان، الآية (3)
(23) سورة الانعام، الآية (104)
(24) سورة الشورى، الآية (30)
(25) سورة يونس، الآية (108)
(26) سورة الروم، الآية (41)
(27) سورة الشمس، الآيات (7-10)
(28) سورة التوبة، الآية (70)
(29) سورة فاطر، الآية (15)
(30) سورة يونس، الآية (49)
(31) سورة التكوير، الآية (29)
(32) سورة يونس، الآية (100)
(33) سورة البقرة، الآية (102)
(34) سورة الانعام، الآية (137)
(35) سورة البقرة، الآية (249)
(36) سورة الصافات، الآية (102)
(37) المجلسي، بحار الأنوار 5/9-10
(38) الصدوق، التوحيد / 361. وانظر بحار الانوار 5/16
(39) الكليني، أصول الكافي 1/122
(40) الكافي 1/159
(41) التوحيد / 380. وكذلك: الكافي 1/119-120
(42) التوحيد / 380
(43) الكافي 2/58
(44) التوحيد / 340. وانظر الكافي 1/142، وبحار الانوار 5/57
(45) الكافي 1/ 158. وانظر التوحيد / 359
(46) الكافي 1/117. وانظر التوحيد / 343
(47) التوحيد / 369
(48) ابو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن / 88
(49) الشيخ المفيد، تصحيح اعتقادات الامامية / 202
(50) سورة الرعد، الآية (39)
(51) الامر بين الامرين /96
(52) مدخل إلى الأدب الإسلامي / 53-54
(53) منهج الفن الإسلامي / 155
(54) مرتضى المطهري، الرؤية الكونية التوحيدية /44
(55) ينظر: د.حلمي محمد القاعود، الواقعية الاسلامية في روايات نجيب الكيلاني / 59
(56) نجيب الكيلاني، ملكة العنب / 9
(57) ينظر: ملكة العنب / 10، 40، 96
(58) نجيب الكيلاني، اعترافات عبد المتجلي / 24- 25
(59) ينظر: الواقعية الاسلامية في روايات نجيب الكيلاني / 58- 59
(60) مدخل إلى الادب الإسلامي / 55
(61) الأدب الإسلامي. قضية وبناء /20
(62) سورة الاسراء، الآية (70)
(63) سورة الذاريات، الآية (56)
(64) التوازن في الإسلام / 33
(65) ينظر: نظرية الأدب في ضوء الإسلام 3/246
(66) نحو مذهب اسلامي في الأدب والنقد /196
(67) الملامح العامة لنظرية الأدب الإسلامي /110
(68) ينظر: نحو مذهب اسلامي في الادب والنقد/ 197
(69) سورة يوسف، الآية (5)
(70) سورة يوسف، الآية (97)
(71) سورة يوسف، الآية (53)
(72) عبد الحميد جودة السحار، همزات الشياطين / 46- 47
(73) ينظر: منهج الفن الاسلامي / 304- 307
(74) ينظر: الواقعية الاسلامية في روايات نجيب الكيلاني / 63- 64
(75) سورة الصافات، الآيات (102-107)
(76) سورة هود، الآيتان (42-43)
(77) الادب الإسلامي. قضية وبناء / 13
(78) المصدر السابق / 15
(79) نظرية الأدب في ضوء الإسلام 3/231
(80) سورة المائدة، الآية (119)
(81) ينظر: نظرية الادب في ضوء الإسلام 3/246
(82) حسين بركة الشامي، التوازن في الشخصية الاسلامية /34
(83) سورة المائدة، الآية (5)
(84) حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل 11/136
(85) سورة البروج، الآية (11)
(86) سورة طه، الآية (75)
(87) الطوسي، الامالي 2/64
(88) عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم /55
(89) مدخل إلى الأدب الإسلامي /57
(90) المصدر السابق / 58
.........................................
المصادر والمراجع
1- الأدب الاسلامي. قضية وبناء، د. سعد أبو الرضا، عالم المعرفة – جدة 1983م.
2- اعترافات عبد المتجلي(رواية)، نجيب الكيلاني، مؤسسة الرسالة – بيروت 1991م.
3- الأمالي، الشيخ الطوسي، تحقيق مؤسسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر- قم 1414هـ.
4- الأمر بين الأمرين، مركز الرسالة، نشر مركز الرسالة 1417هـ.
5- بحار الانوار، محمد باقرالمجلسي، شركة طباعة البحار، سراي حاج حسن- طهران 1376هـ
6- البيان في تفسير القرآن، أبو القاسم الموسوي الخوئي، دارالزهراء للطباعة – بيروت 1975م.
7- تصحيح اعتقادات الامامية، الشيخ المفيد، تحقيق حسين دركاهي، دارالمفيد للطباعة والنشر– بيروت 1993م.
8- التوازن في الاسلام، محمد علي التسخيري، الدار الاسلامية 1979م.
9- التوازن في الشخصية الاسلامية، حسين بركة الشامي، ديوان الوقف الشيعي 2004م ط2.
10- التوحيد، الشيخ الصدوق، تحقيق هاشم الحسيني الطهراني، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية – قم. د.ت
11- الجبر والاختيار، محمد صادق الحسيني الروحاني، دار الزهراء للطباعة والنشر- بيروت 1975م. ط2.
12- الرؤية الكونية التوحيدية، مرتضى المطهري، مؤسسة مسلم بن عقيل – النجف الأشرف.
13- العدل الالهي، مرتضى المطهري، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، مؤسسة النشر الاسلامي – قم 1405هـ. ط3.
14- العمل الأدبي، السيد حسن الشيرازي، مؤسسة البلاغ – بيروت 2005 م.
15- غررالحكم ودررالكلم، عبد الواحد الآمدي، نشرمكتب التبليغات الاسلامي – قم 1366هـ ش.
16- الكافي، ثقة الاسلام الكليني، دار الكتب الاسلامية – طهران 1365هـ ش.ط4.
17- المدخل الى الآداب الأوربية، د. فؤاد المرعي، مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية – حلب 1996م.
18- مدخل إلى الأدب الإسلامي، د. نجيب الكيلاني، دار ابن حزم للطباعة – بيروت 1992م.
19- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري الطبرسي، تحقيق مؤسسة آل البيت(ع) لاحياء التراث – بيروت 1988م.
20- الملامح العامة لنظرية الأدب الإسلامي، د. شلتاغ عبود، دار المعرفة – دمشق 1992م.
21- ملكة العنب(رواية)، نجيب الكيلاني، دار ابن حزم – بيروت 1994م.
22- منهج الفن الاسلامي، محمد قطب، دار الشروق – بيروت.د.ت.
23- نحو مذهب اسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا، دار الأدب الاسلامي للنشر والتوزيع 1998م.
24- نظرية الأدب في ضوء الاسلام، د. عبد الحميد بوزوينة، دار البشير – عمان / الأردن 1990م.
25- همزات الشياطين(مجموعة قصصية)، عبد الحميد جودة السحار، دار مصر للطباعة، د.ت.
26- الواقعية الاسلامية في روايات نجيب الكيلاني، د. حلمي محمد القاعود، دار البشير– عمان/الأردن 1996م.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدةهل شارك تيك توك في جريمة هدم القيم الاجتماعية؟استطلاع: كيف يمكن تعزيز وتطوير الفرص أمام المرأة لتصبح قيادية في المجتمع؟السياسة الخارجية لرئاسة ترامب الثانية: الرؤية والتوقعات