تداول الثروة والجريمة الاقتصادية في الشريعة
مؤتمر الإصلاح التشريعي
2018-11-17 04:03
أ.م.د. حمود عبد المجيد بهية-كلية القانون ـ جامعة الكوفة
(بحث مقدم الى مؤتمر (الاصلاح التشريعي طريق نحو الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد) الذي اقامته مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام وجامعة الكوفة/كلية القانون 25-26 نيسان 2018)
المقدمة
الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل والصلاة والسلام على نبينا محمد (ص) خاتم النبيين وإمام المرسلين، جدد الله به رسالة السماء واحيا ببعثته سنة الأنبياء ونشر بدعوته آيات الهداية وأتم به مكارم الأخلاق، وعلى آلة وأصحابه الذين فقههم الله في دينه فدعوا إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة فهدى الله بهم العباد وفتح على أيديهم البلاد وجعلهم أمة يهتدون بالحق إلى الحق تحقيقا لسابق وعده فشكروا ربهم على ماهداهم اليه من هداية خلقه والشفقة على عباده وجعلوا مظهر شكرهم بذل النفس والنفيس في الدعوة إلى الله تعالى.
أما بعد: فمن خلال البحث في تداول الثروة في النظام الإسلامي سنحاول بيان الموارد التي يتم فيها تبادل الثروة وبيان الطرق التي يتم من خلالها الحصول على الثروة وبيان مشروعية هذه الطرق وهل هي من الحلال أم من الحرام وكيفية استغلال الأفراد لهذه الثروة وعدم تكديسها في أيادي قليلة في المجتمع للدفع والمنع من حصول الطبقية المالية غي المجتمع.
وقد انتظم البحث في ثلاث مباحث كل منها قسم إلى مطالب ومقاصد:
فتناول في المبحث الأول معنى التداول ومعنى الثروة في اللغة والاصطلاح وبين مفهوم الإسلام للتداول والثروة، وفي المبحث الثاني تناول الجريمة الاقتصادية وتضمن مطلبين المطلب الأول كان في الجرائم في مجال الإنتاج وقد انتظم في ثلاث مقاصد الأول جرائم المسكرات والثاني جرائم الغش والتدليس والثالث جرائم تعطيل المورد، أما المطلب الثاني فقد قسم إلى ثلاث مقاصد أيضاً الأول منها كان في جريمة المعاملات الربوية والثاني في جريمة الاحتكار أما الثالث فقد كان في جريمة إفساد العرض والطلب، أما المبحث الثالث فقد تناول الغايات والنتائج الرئيسة لنظام التداول وكان في مطلبين الأول سرعة التداول والثاني في تحديد الثروة الفردية ثم خلص البحث إلى خاتمة في اهم ما خلص اليه البحث من نتائج ثم جريدة المصادر.
المبحث الأول: معنى التداول والثروة
المطلب الأول: معنى التداول
المقصد الأول: التداول لغة: أي تداولوا الشيء وتبادلوه، أخذه هؤلاء مرة وأولئك مرة (1).
كما عرف التداول: هو انتقال السلعة من يد إلى يد في البيع والشراء (2)
وعرف أيضاَ التداول: تداولوه أخذوه بالدول. وتداولته الأيدي أخذته هذه مرة وهذه مرة، وقوله تعالى "وتلك الأيام نداولها بين الناس". أي نديرها من دار أي دار، وقالوا (دواليك أي مداولة على الأمر)،قال سيبويه وان شئت حملته على أنه وقع في هذه الحال. أو (تداول بعد تداول)(3).
المقصد الثاني: التداول اصطلاحا: هو خلف منفعة جديدة (4)
التداول بمعناه المادي: هو نقل الأشياء من مكان إلى أخر (5)
التداول بمعناه القانوني: هو مجموع العمليات التجارية التي تتم عن طريق عقود
المقايضة من بيع وشراء ونحوه (6).
المطلب الثاني: معنى الثروة
المقصد الأول: الثروة لغة: ثروة من ثرى، ثرى المال ثراء: إنما، وثرى القوم: كثروا، وثرى ثراء كثر ماله فهو ثر وثري، وثرى بكذا: كثر ماله فهو غني عند الناس، والثراء كثرة المال، والثرى:الأرض (7).
وعرفت الثروة أيضا: بأنها كثرت العدد من الناس والمال وليله يلتقي القمر والثريا. وهذا مثراه للمال: مكثرة، وثرى القوم: كثروا ونموا وثري واثرى كأحرى: كثيرة (8)
المقصد الثاني: الثروة اصطلاحا: هي الأشياء الأساسية التي تسهم في الرفاهية وهذه الأشياء تسمى السلع الاقتصادية.
وعرفت الثروة: هي المال الكثير، والإثراء بلا سبب: اغتناء شخص نتيجة لافتقار غيره دون أن يكون هناك سبب شرعي لهذا الاغتناء (9)
المطلب الثالث: مفهوم التداول والثروة في الإسلام
المقصد الأول: مفهوم التداول في الإسلام
إن عملية التداول في الإسلام من حيث المبدأ لا تنفك عن عملية الإنتاج فالتداول يعد شعبة من شعب الإنتاج ولا ينبغي أن ينفصل عن مجاله العام وهذا مفهوم إشارة له عدة نصوص وأحكام تتفق تماماَ مع مسيرة التداول التاريخية ونشوئه والحاجات الموضوعية لولادته.
فلم يكن التداول موجوداَ على نطاق واسع في المجتمعات البدائية والتي كان فيها الفرد يعتمد في معيشته و إشباع حاجاته ومتطلباته بما ينتجه بيده حيث كان يعيش الاكتفاء الذاتي فلا يشعر بالحاجة إلى ما ينتجه الأخرون ولذلك فلم يكن ذلك الإنسان يمارس أي لون من الوان التداول والتبادل.
ولكن بمرور الزمن وتطور وازدياد حاجات ومتطلبات الإنسان اصبح بأمس الحاجة إلى تطوير وسائل الإنتاج وبالتالي كان لا بد من تقسيم العمل الذي اصبح بموجبه كل فرد يمارس فرعاً خاصاً من فروع الإنتاج وينتج في ذلك الفرع كمية اكبر من حاجته فنشأت الحاجة للتبادل للحصول على ما ينتجه الأخر فضلا ً عن تصريف الإنتاج الزائد عن الحاجة، فإن تنوع الحاجات وكثرتها فرض تقسيم العمل بهذا الشكل وبالتالي أدى إلى انتشار التداول ووجوده في حياة الإنسان على نطاق واسع.
وقد كان التداول بشكله الأولي البسيط يوفر التقاء مباشر بين المنتج والمستهلك فمنتج المحاصيل الزراعية يلتقي مباشرة بمن يحتاجها كمالك الغنم مثلا ً وهكذا يتم التبادل بشكل مباشر وبدون الحاجة إلى وسيط في الأمر (10).
ولكن وبمرور الزمن وتنوع الحاجات تطور التداول فأوجد الوسيط بين المنتج والمستهلك واصبح منتج الصوف مثلا ً لا يبادل او يبيع الصوف مباشرة لمنتج الحنطة بل اخد شخص ثالث يقوم بدور الوساطة بينهما فيشتري الكميات المنتجة من الصوف لا لاستهلاكها في حاجته الخاصة بل لإعدادها وجعلها في متناول أيدي المستهلكين فبدلاً عن أن يتصل منتج الحنطة بمنتج الصوف ابتداء اصبح يلتقي بهذا الوسيط الذي اعد الصوف في السوق وهيأه للبيع للمستهلك.
إذن التداول أو نقل الملكية في كلا الدورين دور التقاء المنتجين مباشرة ودور الوسيط التاجر كان يسبقه عمل من أعمال الإنتاج والخلاصة فان عملية التبادل مرت بدورين:
الدور الأول: كان المنتج للصوف يمارس بنفسه عملية إنتاج الصوف ثم يبيعه وينقل ملكيته إلى أخر بعوض.
وفي الدور الثاني: كان الوسيط يمارس عملية نقل الصوف إلى السوق والمحافظة عليه وإعداده في متناول يد المستهلك متى أراد، وهذا يعني أن الفوائد التي يجنيها البائع من نقل ملكية المال إلى غيره بعوض وهي ما نسميه الآن بالأرباح كانت لعمل إنتاجي يمارسه البائع ولم تكن نتيجة لنفس عملية نقل الملكية.
وعلى كل حال فقد أولى الإسلام التداول والإنتاج اهتمام بالغ، فالإسلام يضع التجار وذوي الصناعات في صف ومرتبة واحدة فقد جاء في كتاب الإمام علي (ع) إلى واليه على مصر مالك الأشتر حيث يضع له منهاج الإدارة والقيادة من منظور إسلامي (ثم استوصى بالتجار وذوي الصناعات وأوصى بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فانهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يحرتون عليها)(11)
فمن الواضح الجلي إن أمير المؤمنين عليه السلام وضع التجار والمنتجين الصناعيين في منزلة واحدة واطلق عليهم جميعاَ انهم مواد المنافع، فالمتاجر يخلق منفعة كما يخلق الصانع، وفصل عليه السلام في المنافع التي يخلقها التجار والعمليات التي يمارسونها في جلب المال من المباعد والمطارح ومن حيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليهما.
إذن ففي الإسلام لا ينفك التداول عن الإنتاج ولكن حب الذات ودوافع الأنانية التي سيطرت على التجارة أدت إلى انجرافها عن وضعها الطبيعي الذي كان ناتجاَ عن حاجة موضوعية سليمة وبخاصة في الرأسمالية الحديثة ونتج عن ذلك انفصال التداول في كثير من الأحيان عن الإنتاج واصبح نقل الملكية عملية تقصد لذاتها دون أن يسبقها أي عمل إنتاجي من الناقل وتمارس لأجل الحصول على فوائد وأرباح بينما كانت التجارة مصدراً لهذه الفوائد والأرباح بوصفها شبعة من الإنتاج أصبحت مصدراَ لذلك لمجرد كونها عملية قانونية لنقل الملكية ولهذا نجد في التجارة الرسمالية إن العمليات القانونية لنقل الملكية قد تتعدد على مال واحد تبعاً لتعدد الوسطاء بين المنتج والمستهلك لا لشيء إلا لكي يحصل اكبر عدد ممكن من التجار الرأسمالين على أرباح تلك العمليات ومكاسبها ومن الطبيعي يرفض الإسلام هذا الانجراف الرأسمالي في عمليات التداول لأنه يتعارض مع مفهومه عن المبادلة وينظمها دائماَ في ضوء نظرته الخاصة اليهما ويتجه إلى عدم فصل التداول تشريعياً في التنظيمات القانونية لعقود المقايضة عن الإنتاج فصلاَ حاسماَ (12).
المقصد الثاني: مفهوم الثروة في نظر الإسلام
إن نظرة الإسلام إلى الثروة كهدف أصيل يمكن تحديده من خلال النصوص التي عالجت هذه الناحية وبينت معنى الثرة من منظور الإسلام:
أ- قال رسول الله (ص): نعم العون على تقوى الله الغني (13).
ب- وعن الإمام الصادق (ع): إن نعم العون على الأخرة الدنيا (14).
ج- وعن الإمام الباقر (ع): إن نعم العون الدنيا على الأخرة (15).
د- وعن الرسول (ص): اللهم بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه ولولا الخبز ماصلينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا (16).
هـ - وعن الصادق (ع): لا خير فيمن لا يحب جميع المال من حلال يكن به وجهه ويقضي به دينه ويصل به رحمة (17)
و- وقال رجل للصادق (ع): والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتها فقال له: تحب (أن تصنع بها ماذا؟ فقال أعود بها نفسي وعيالي واصل بها وأتصدق بها وأصبح وأعقر فقال له الإمام: ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة.
المبحث الثاني: الجرائم الاقتصادية
المطلب الأول: الجرائم في مجال الإنتاج
المقصد الأول: المسكرات
المشرع الإسلامي ينطلق بشكل عام في تشريعاته من القرآن الكريم والسنة المشرفة قال تعالى:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(18) وبالتأكيد إن من واجبات هذا الخليفة إعمار الأرض وبالتالي فان المشرع الإسلامي يحث أتباعه إلى العمل والإعمار دفعاً روحياً ومادياً كونه يعد ذلك عبادة يرفعها أحيانا على الصلاة والصوم والحج ويؤسس لها حقوقاً مادية مكتسبة مثل إباحة التصرف بالمال وتحقق مشروعية الملكية وجواز انتقال الثروة إلى من يريد بالهبة والإرث.
وللإسلام وسائله المتعددة في تنمية الإنتاج، لكنه يقيدها بالمباح شرعاً بضابط مؤداه إن الجائز من الأعمال ما يحقق هدف المنفعة الشاملة للمسلم، ولأجل ذلك فقد تعددت أنواع الكسب غير المشروع والتي تقع تحقيقا ً لقاعدة دستورية قرآنية كبيرة مستنبطة في قوله تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (19).
والباطل كما ورد على لسان المفسرين ضد الحق وهو المباح الجائز فتدخل فيه بأدلة تفصيلية الأعمال العقيمة غير المنتجة كالمقامرة والسحر والكهانة واللهو وغيرها (20).
ويحرم ما يضر بالمجتمع مثل إنتاج الخمر وكل مسكر، فلا يصح إنتاج الخمر لما ثبت من النص والإجماع والعقل وما ترتب عليه من حرمة في إنتاجه سرت إلى تداوله في تحريم بيعه وشرائه لقوله تعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)(21)
ويذهب المشرع إلى ابعد من ذلك فلا يقف عند تحريم إنتاج الخمر وتداوله واستهلاكه فيرى الإمامية والشافعي ومالك (22) واحمد (23) عدم صحة توكيل المسلم للذمي في إنتاجه وتداوله خلافاً لأبي حنيفة (24).
فجمهور الفقهاء يرى إن المسلم في هذه الحالة أي حالة توكيل الذمي يكون هو المنتج الحقيقي بالتسبب ولا اعتبار للمباشرة لان الحرمة مترتبة على الضرر لا على النجاسة ولان اللعن قد ورد على المتعامل بها في السنة الشريفة ولان الوكيل منتج كالأصيل واذا كان الأمر كذلك فإن الإجارة والجعالة والمضاربة تدخل في الحرمة أيضاً.
وتتبع لمشرع الاسلامي ثمن الخمر فمنع منه في كافة وجوه التصرف فقد نقل أبو بصير عن الصادق (ع) عن آبائه عليهم السلام عن النبي (ص): (ان الذي حرم شربها حرم ثمنها)(25).
وهذه قاعدة عامة فقد نقل ابن إدريس حديث النبي (ص) قال: (ان الله اذا حرم شيئاً حرم ثمنه) (26).
وعموم القاعدة يقضي بوقف التصرف في ثمن المحرم ولا تقف عند عين المحرم، وبذلك سلب المشرع الإسلامي من هذه السلعة صفة المال المعتبر وسحب القيمة التبادلية منها، وحرم الاستفادة منها أو من ثمنها ناهيك بانه ابعدها هي وثمنها عن مجال القربة فقد حدد رسول (ص) في جواب لسائل له عن التصرف في ثمنه في الحج أو الجهاد، قال (لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب) (27)
إن هذا النمط من الملاحقة بدءأَ من تخصيص الموارد حيث يرى الفقهاء كراهة بيع العنب لمن يعمله خمراً بين مانعاً مطلقاً كما ورد عن وبعض الإمامية وبين مشترط علم البائع مقتضي للحرمة لأنه إعانة على الإثم عند الأخرين (28)، يكشف عن أسلوب المشرع في غلق الأبواب أمام المخالفة من تخصيص الموارد لإنتاج السلعة المحرمة إلى المال والنتائج في الاستهلاك والتوزيع.
وقد أظهرت عمليات استقراء العلماء لأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها إن أوامرها تعلقت بها مصلحة أكيدة أو راجحة وان ما نهت عنه على وجه الإلزام قد انطوت عليه مفسدة أكيدة(29) ويلاحظ هنا إن المشرع قد رتب على تحريمه للخمر والمسكرات عموماً على أبعاد الضرر عن الإنسان وقد ثبت انها تخلق وسطاً مشجع ومحرض على الجريمة وقد كشفت عن هذا التشخيص الملاحظات العامة والوقائع المتكثرة والتي لا تخفى على احد فضلا ً عن إن بعض الدراسات قد شخصت ذلك ففي مجالات أضرارها على الشخصية فذهب العلماء إلى إن المسكرات توجد اضطرابات نفسية وعضوية يمكن معها القول إنها تدفع إلى ارتكاب أفعال جُرمية لذلك نهج المشرع الإسلامي في تحريمه للمسكرات عدة وسائل:
1- تحريمها نصاً وظاهراً فصار مما علم في الدين بالضرورة مما قطع فيه باب التأويل
2- حرم الوسائل المادية المؤدية اليها من تخصيص الموارد ومنع وحدات العمل وغلق السوق
3- حرم الأثمان المتولدة منها بالتصرفات كافة
4- أعطى لولي الأمر حق فرض العقوبة على إنتاجها واستهلاكها فقد نقل عن النبي (ص) قال: (ا ذا شرب الخمر فاجلدوه) (30)وقال أيضاً (اذا شرب فاجلدوه ثم اذا شرب فاجلدوه ثم اذا شرب في الثالثة فاجلدوه، ثم اذا شرب في الرابعة فاضربوا عنقه) (31) لذا قال الإمامية (وإن شرب فحد ثم شرب فحد ثم شرب فحد ثم شرب رابعا قتل في الرابعة عندنا). (32)
واختلف العلماء في جلده على مذهبين: جمهور الفقهاء و الإمامية على انه يجلد ثمانين جلده ويفسق (33)
فالفسق محل اتفاق، وعمدة الاستدلال على هذا الحكم ما أشار به أمير المؤمنين (ع) إلى تحمل الشارب حد الافتراء (34)، أما الحكم بفسقه واضح اذا انه موقع للكبائر ولا خلاف في زوال العدالة بموافقتها، ومن الواضحة اذا رد الشارع عن منتج الخمر ومتداوله ومستهلكه شهادته فقد اسقط عنه حقوق تولي الأمور العامة من باب أولى.
المقصد الثاني: الغش والتدليس
دخل العالم المعاصر في منافسة شديدة في أحكام الرقابة على الإنتاج وانشأ أجهزة إدارية وفنية للمقاسات والسيطرة النوعية حماية للمستهلك من غش المنتجين ولكن المصطادون في الماء العكر من الغشاشين والمدلسين لم ينثنوا فكلما تقدمت وسائل الرقابة فاقتها وسائل التدليس والغش من المنتجين، لذا كان للشريعة أسلوباً خاصاً للمنع من انتشار هذه الظاهرة والوقوع في هذه الجريمة:
ورد عن النبي (ص):انه قال (ليس من المسلمين من غشهم) (35)
وعنه (ص): (ليس منا من غش مسلما ً اضره او ماكره) (36).
وعنه (ص): من غش الناس ليس بمسلم) (37).
روي عن هشام بن الحكم قال: كنت ابيع السابري في الظلام فمر بي ابو الحسن فقال: (يا هشام إن البيع في الظلام غش والغش لا يحل) (38)
ونقل الإجماع في تحريمه عيناً ومقدمات وضابطه عند الفقهاء: (ليس الأمر على المشتري وبيع المغشوش عليه مع جهله) (39)
بل تبقى الحرمة سارية حتى اذا كان الإنتاج موجهاً لغير مسلم.
وقد اتخذ الشارع المقدس مجموعة من الوسائل لحماية المستهلك من الإنتاج المغشوش:
1- الوسيلة العقائدية:
فقد تقدمت النصوص في التنفير ومنها وتأكيد حرمته أو العقوبة الإخروية عليها
2- الوسيلة الوقائية:
فقد ظهر في التطبيقات الإسلامية نظام الحسبة الذي بملاحظة لوائحه يعد ما يقابل اليوم جهاز الرقابة الاقتصادية ومن أبرز مهامه في إدارة اقتصاديات المجتمع تطبيقه لمعايير المقاسات والسيطرة النوعية لذا فإخلال المنتج بالسلعة يعد من المنكر الذي يحاسب عليه فتعزير المحتسب وإشهاره للغاش حماية للمجتمع ووقاية لمن يفكر في أن يغش في الإنتاج وتميزاً للسوق الإسلامية من بقية الأسواق بانها سوق السلع النافعة للمستهلك نفعاً شاملاً،إن مراجعة لصلاحيات المحتسب نجدها تتدرج من التعزير الخفيف إلى الإشهار مروراً بالنفي عن البلد وحرمان المنتج من العمل أو سلب الامتيازات الصناعية (40)
وأقول: بوجوب إتلاف المغشوش مثل المال والثياب التي نسجت نسجاً رديئاً والطعام وغيره.
واذا عرفنا إن الاحتساب امر عام للناس وولاية خاصة للمحتسب فإن نظام الحسبة يرصد المخالفة ويقي من الوقوع فيها ويتلافى حصول ضرر بها ساعة ظهورها كما انها من الأنظمة التي تتميز بسرعة الفصل وإيقاع العلاج بلا تراكم زمني أو سلعي.
3ـ أوجب الفقه الإسلامي على البائع إعلام المشتري بالعيب الخفي فان كان قد غش في بيعه مع وصف مفقود كان خيار التدليس وان كان من قبيل مزج غير المراد كان للمستهلك خيار العيب واذا اخفى الأدنى في الأعلى كان له تبعيض الصفقة وينقص من الثمن بمقدار الزائد غير المرغوب (41).
وهذا الحق القانوني لحماية المستهلك يجعل الإنتاج غير المرغوب قابل للرد وبذلك يغلق المشرع أمامه أبواب التسويق.
حيث جاء عن رسول الله (ص) في حديث المناهي:(ومن غش مسلماً في شراء أو بيع فليس منا، ويحشر يوم القيامة مع اليهود، لانهم اغش الخلق للمسلمين)(42).
وقال أيضا: (من بات وفي قلبه غش لأخيه المسلم بات في سخط من الله وأصبح كذلك حتى يتوب) (43)
إذن فالغش في المعاملات والعقود حرام ومن مصاديق الغش التدليس، فالتدليس كل عمل يؤدي إلى كتمان عيوب الشيء وإخفائها وإظهاره على خلاف الواقع،ولاشك في حرمة هذا العمل مع القصد اليه لأنه من ابرز مصاديق الغش المحرم وهناك بعض مصاديقه في المعاملات التجارية والعقود منها:
1ـ التدليس في العلامات التجارية كان يستخدم الفرد أو المصنع علامة تجارية معروفة، أو مرغوبة لتسويق بضاعته التي لولا انتحالها للعلامة المعنية لما أقبل عليها المشتري
2ـ التدليس في منشأ البضاعة كأن يعرض بضاعة مصنوعة في بلد معين على إنها مصنوعة في بلد آخر
3ـ التدليس في كناية مكونات المنتج ومقاديرها فاذا كانت مادة غذائية معينة مثلاً ـ
تدخل في مكوناتها خامات غير مرغوبة كالألوان الصناعية أو الحافظة المضرة فيكتب عليها إنها خالية من ذلك أو يذكر في المكونات بعض المواد دون البعض الآخر مما يؤدي إلى تضليل المشتري وهكذا كل ما يغطي على حقيقة مكونات المنتج.
4ـ التدليس في توزيع الإنتاج والانتهاء ككتابة تواريخ غير حقيقية أو غير تاريخ الانتهاء المنقضي بتاريخ جديد وهكذا كل تغير في التاريخ يؤدي إلى تضليل المشتري
5ـ التدليس في نوعية المنتج فلو كانت بضاعة ما مقسمة من حيث النوعية إلى درجات ممتازة ومتوسطة وعادية ـ مثلاً ـ فيعرض ذات النوعية العادية على إنها من النوعية الممتازة
6ـ لا فرق مما ذكر من مصاديق الغش والتدليس بين ان يكون ذلك من فعل المتعامل نفسه أو من فعل غيره فإذا كانت هناك بضاعة تحتوي على التدليس والغش حرم كل من علم بذلك تسويقها.
المقصد الثالث: تعطيل المورد
ثمة منطلقات أساسية يتسالم عليها الفكر الاقتصادي ومنها ان التنمية تشكل الحصيلة النهائية لمدى فاعلية أي نظام اقتصادي وأول شروط التنمية الاستخدام الرشيد للموارد والتخصيص التنموي لاستخدامها ذلك فإهمال الموارد أو تعطيلها أو استخدامها بصورة غير رشيدة يعطل الإنماء، أو به ترتفع معدلات العجز لاسيما مع زيادة السكان التي ينتج عنها نقص المدخولات قبالة زيادة الإنفاق فالاستخدام الكامل للموارد هدف الاقتصادات كلها وهو يتوقف على سلوك الأفراد والمنشأة وتدفع اليه مجموعة اعتبارات منها فنية مثل حجم الطلب ونوعه ودافعية الفرد لها قد تكون لأسباب مادية الزيادة الربحية.
ان الإسلام بجعله لها عبادة يجعل لها دافعية أخرى فقد حدد المشرع أن من أسباب الملك التام الاستيلاء على المال المباح بوصفه سبباً فعلياً لا عقدياً على الأرض الموات والمعادن غير المستغلة والغابات والصيد...الخ فان المكلف يجب عليه لتحقق اكتساب ملكية هذا المباح تعميره واستخدامه استخداما رشيداً.
المطلب الثاني: الجرائم في مجال التبادل
يعرف التبادل بأنه مجموعة العمليات التجارية وهو ذو معنى قانوني اكثر منه كونه اقتصادياً لتعلقه بنقل الحقوق أو الملكية ويرى العلماء انه اقتصادياً كجزء من الإنتاج فهو لا يعدو اكثر من إضافة منفعة للسلعة سواء كانت ملكية مكانية أو زمانية فإذا كان له معنى قانوني بوصف التبادل عملية انتقال حقوق الثمن والمثمن يجب أن ينظم القانون هذا الانتقال ويوفر الحماية للمنتج والمستهلك معاً لذلك يحرص المشروع الإسلامي إلا تفسد في السوق الإسلامية قوانين السعر السائد. (العرض والطلب) فمنع الاحتكار ونهى عن زيادة الأسعار بلا مبرر اقتصادي وحرم المعاملات الربوية في إجازات النظم المعاصرة على هذه المفاصل الثلاثة مطلقاً أو عالجها معالجة اقتصادية فقط.
المقصد الأول: المعاملات الربوية
ان المشروع الإسلامي ينفرد في النظرة إلى التعامل الربوي إذ يعد التعامل الربوي من الجرائم الاقتصادية بدليل شرعي محدد الأركان الجريمة.
ومما يلحظ ان القرآن الكريم قد حرم التعامل لأكثر من مرة وعنف المتعامل به الأمر الذي دعا العلماء إلى اعتباره من الكبائر عملاً بمنطوق الآيات المحرمة له والاحاديث فمن القران الكريم قال تعالى:(يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) (44).
وورد في السنة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، عن رسول الله (ص): ان رسول الله لعن في الربا خمسة: أكله وموكله وشاهديه وكاتبه (45)
وعده النبي (ص) من الموبقات السبع المصرحة بالكبائر (46)
وعليه رتب العلماء ان كل عقد ربوي مفسوخ ولا يجوز في أي حال فإن صفقة الربا لا تصح بوجه (47).
وللحنفية في ربا البيع موقف من اعتباره من العقود الفاسدة بناءً على رايهم في التوسط بين الصحة والبطلان، وهذا لا يراه جمهور الأصوليين. بمدرك ان اصل البيع جائز لقوله تعالى: (احل الله البيع) (48) والفساد جاء من الزيادة اللاحقة عليه فإذا ردت عاد البيع صحيحاً (49).
في حين يبالغ الجمهور في التنفير منه فحكموا ببطلان صفقته مطلقاً لاسيما مع عدم تمييز الأصل عن الزيادة وقد توسع الفقهاء في أحكام السيطرة الشرعية على صوره
لقد أكدت فلسفة الاستخلاف على اعتبار الإنسان مستخلفاً على المال والثروة، الأمر الذي قيد تصرفه بما صح على المالك الحقيقي وهو الباري عز وجل. والنكير الوارد على الربا يجعل المسلم في منأى عن شبهاته فضلاً عن الدخول فيه واغلق الشارع المنافذ بسداد الحاجات الأساسية ليمنع القرض الاستهلاكي، ومن خلال تشريع المضاربة ليمنع القرض الإنتاجي وهو مدلول قوله تعالى:(يمحق الله الربا ويربي الصدقات)(50) ورغب الشارع المقدس في القرض مما حدى بابن عباس ان يقف مفضلاً ان يقرض أمواله بدل التصدق بها لما للقرض من جزاء إخروية فقد روي ان في درهم ثماني عشرة حسنة ومطلق الحسنة بعشر أمثالها، لهذا فأن سوق التعامل الإسلامية قد جعلت الطلب على النقد باستثمار ربوي (صفر).
فأن المشرع قد حكم على العقد الربوي بالبطلان وعلى المتعامل بالتعزير واذا ضبطت الدولة مرابياً أدبته تعزيراً وذلك لقوله تعالى:(فأذنوا بحرب من الله ورسوله)(51)
فإذا عاد مستحلاً فللأمام قتله، وهو مذهب ابن عباس وقتاده والربيع (52).
اما غير المستحل، فإن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: (انه يؤدب ثلاثاً فاذا عاد قتل)(53).
وفي ماله فأن التوبة من الذنوب تسقط حق الله ولا تسقط حقوق الآدميين والربا حق مشترك ولما له من أثار اقتصادية سيئة تسهم في عملية تفاوت المداخيل فإن البواعث الاقتصادية ستوفر وسطاً جيداً للجريمة وبخاصة لما له من أثار اجتماعية سيئة.
ومن أثار الربا أثار نفسية فالربا يثير البغضاء ويشجع السلوك الجامع إلى الانتقام عند المقرضين بالربا، لاسيما عند تحكم عنصر اليأس الأمر الذي يدفع الفرد إلى ارتكاب الجريمة بالسطو أو القتل أو الاختلاس... الخ).
بينما بإزالة هذه السلع سواء بالزكاة أو بالطرق الشرعية المضاربة، المزارعة، المساقاة وبالشركة الصحيحة يرسم الإسلام مجتمعاً أمنا.
المقصد الثاني:الاحتكار
لما كان المشرع يسعى إلى تأسيس أركان الأمن الاجتماعي الرصينة فأنه قد ارسى تلك الأركان في مختلف جوانبها ففي جانب إلغاء دوافع الجريمة الغى دوافعه الاقتصادية فحرم الربا ونهى عن الاحتكار هادفاً إلى جعل السوق ميداناً كريماً للتنافس الشريف، لتتحقق فيه مصلحة المنتج والمستهلك معاً وفق ملتقى العرض والطلب بحرية تامة ووسط تناسب العلاقة بين الأجور والأسعار لذلك عد حبس الأقوات تربصاَ للغلاء مخالفة قانونية لأنها تتدخل سلباً في إفساد العرض والطلب وقد توزع الفقهاء في حكم الاحتكار على رأيين:
الرأي الأول: يرى حرمة الاحتكار وهم جمهور الفقهاء واكثر الإمامية (54)مستدلين بان الحديث وردت فيه ألفاظ دالة على الحرمة مثل البراءة من ذمة الله، اللعن، الوعيد، الامر الذي يشعر انه من الكبائر، والكبائر محرمة كما لا يخفى على احد.
الرأي الثاني: يذهب الى الكراهة وهم الشافعية (55) وبعض الامامية (56)،وذلك لقصور دلالة الحديث على الحرمة ولأن الاصل براءة الذمة ولتعارض الحكم بالتحريم مع قاعدة: (الناس مسلطون على أموالهم ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) (57)، لذلك حملوا النهي الوارد في متون النصوص على الكراهة.
ويرى المالكية اشتداد الحرمة في حالة ارتفاع الأسعار وحاجة الناس لندرة السلعة، واختلف الفقهاء في الأشياء التي يصدق عليها الاحتكار أي السلعة التي يؤدي حبسها إلى ارتكاب جريمة الاحتكار:
1- فذهب الحنفية والمالكية وبعض الزيدية إلى ان كل سلعة يضر حبسها حُكرة من الأقوات وغيرها سواء كان استهلاكاً ضرورياً أم غير ضروري (58)
2- وذهب غيرهم إلى تقييد الحكرة بأقوات الناس (59)
3- وحصرها بعض مجتهدي الإمامية بالأصناف السبعة: الحنطة، الشعير، التمر، الزبيب، السمن، الملح، الزيت (60).
وقد احسن جمهور الإمامية، إذ جعلوه يسري على ما ينتجه الفرد بيده بشموله حالات الإنتاج المحلي وعن مدته يذهب الإمامية إلى ان مدة حبس السلعة المنهي عنها في حالات الشدة ثلاثة أيام وفي حالات الرخاء أربعون يوماً (61)وذهب غيرهم إلى ان النصوص لا دلالة لها على المدة إذ المدار تحقق الضرر (62).
وكل هذا في الجانب القضائي والا فالمحتكر آثم من الناحية الدينية سواء قلة المدة أو كثرت وان حصر الربا في الأصناف السبعة أو في أقوات الناس يشكل فهماً له أجوائه التاريخية أما اليوم فأن مقاصد الشريعة تدعوا المجتهدين إلى اعتبار العموم لأن التخصيص لا يسنده دليل قطعي بل دلالته ظنية ومؤدى ذلك ان تسري الحرمة إلى جميع السلع بل حتى الخدمات كالنقل والخدمات الطبية فالمدار ليس نوع السلعة إنما مقدار الضرر الذي يلحق بالمستهلكين كما ان الحكرة ليست حصراً في المنتوج المحلي بل تشمل أيضا البضائع المستوردة ولا دلالة لحديث النبي (ص): (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون) (63) على حصره بالمحلي إذ الحديث لا يعد كونه حدثاً على استيراد السلع محلياَ سداً للحاجة ويدل على ذلك قوله (ص):(الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله) (64). فلا في منطوق الحديث ولا حتى في مفهومه دلالة على عدم لحوق قوانين الاحتكار للمستورد.
المقصد الثالث: إفساد العرض والطلب وموقف المشرع منه
ان الفقهاء كثيراً ما يستخدمون سعر المثل أو ثمن المثل وانهم يقصدون بذلك مقدار ثمن السلعة الأمر الذي يغطي كلفة الإنتاج ومقدار الارتفاع وهذا لا يحصل إلا اذا ترك الطلب ليلاقي العرض بوضعه الطبيعي فإذا حصل ما يؤثر على العرض بتقليل الإنتاج أو تصديره إلى الخارج مع حاجة البلد، حدثاً فيرفع الأسعار على سعر المثل، الأمر الذي يؤثر في ميزانيات ذوي المداخيل المحدودة عند ذلك يحصل الضرر الموجب للرفع بقاعدة: (الضرر يزال) (65) وهذا يتم كما عرف الشرع بتحري الأسباب ومعالجتها بالاعتماد على السياسة النقدية، كالتسعير الذي هو تدخل الدولة في حسابات كلفة الإنتاج وهامش الربح المنتج لتصنيع السلعة ثمناً لا يجوز تخطيه إلى جنب وسائل الترغيب بالتصدق ومنع الغلاء على الناس.
لقد وردت في التسعير مجموعتان من الاحاديث اغلبها يحظر التسعير وبعضها يجيزه، الأمر الذي اضطر بعض الباحثين جمعاً بين الأدلة إلى القول بحرمته في الظروف الاعتيادية وجوازه في ظروف محددة ضابطها مساس الحاجة فكرهه الحنفية والحنابلة(66) والمالكية ومشهور الإمامية (67).
وأجازه بعض الشافعية في حالة الغلاء (68) وبعض الحنفية في حال الاضطرار اليه ومن ذلك يظهر إن الأصل عدم التسعير وان محاولات الإخلال بقانوني العرض والطلب يسوغه على الرغم من مانعية الأصل الأمر الذي يقودنا إلى القول ان الاستثناء الذي هو الغلاء والاحتكار يعالج بإجراءات استثنائية مثل التسعير.
وخلاصة ما يتفق بشأنه في أثمان السلع: العودة إلى ثمن المثل أي ثمن التلاقي الطبيعي في حجم العرض مع حجم الطلب ولذلك نجد (نهيأ عن تلقي الركبان، وبيع الحاضر لباد) (69)
ومعناه أن يكون له وكيل في الشراء والبيع ودخول المؤمن في سوم أخيه المؤمن وقال الشيخ أبا جعفر في النهاية لا يجوز (70).
المبحث الثالث: الغايات والنتائج الرئيسية لنظام التداول
1- سرعة التداول:
ان السرعة في التداول مما يطلبه الإسلام في الثروات على نحو الإجمال ويمنع من تجميد الثروة وحبسها عن التداول والحركة في الأسواق في البضاعة والنقد على نحو سواء.
فالثروة في النظرية الإسلامية لابد ان تتصف بصفة الحركة والسيولة الدائمة في الأسواق حتى تؤدي دورها في تنشيط الحركة الاقتصادية وإشباع حاجات المستهلكين ومتى تتوقف الثروة عن الحركة والتداول في الأسواق تفقد صفة السيولة فلا تستطيع ان تفي بدورها في تنشيط الأسواق وإشباع الحاجات الاستهلاكية المختلفة القائمة بأنواع الثروات المختلفة فحين يتداول الناس الثروة في الأسواق وتنتقل في الأيدي وتتظافر عليها الجهود تؤدي هذه الحركة إلى نمو عام في ثروة البلاد و واردها ونشاط وحركة قوية في الأسواق وإشباع الحاجات المختلفة وبالعكس تماماً تضمر ثروة البلاد عندما تركد، وتتوقف عن الحركة والتقلب في الأسواق في وجوه النشاط المالي، كما تضطرب حياة الناس وتختل عندما لا تستطيع الأسواق ان تفي بحاجات الناس الاستهلاكية المختلفة. ولذلك فقد اكد الإسلام على سرعة تداول الثروة في الأسواق بشكل عام فمنع من كنز النقدين – الذهب والفضة – وحبسهما من الحركة والجري في الأسواق وامر بتوظيفهما في مجال النشاط المالي وإنفاقهما في سبيل الله.
فقال تعالى:(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقوها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم)(71)
فعن رسول الله (ص): (ولأن يلقي الله العبد سارقاً احب إلي من ان يلقاه قد احتكر طعاماً أربعين يوماً) (72)
فمن خلال الآية الكريمة والحديث الشريف يؤكد الإسلام على ضرورة توفير عنصر السيولة والحركة في النقدين وشجع على توظيفهما في الأسواق وإنفاقهما في سبيل الله.
هذا في النقد اما في البضاعة فقد حرم الإسلام احتكار البضاعة التي يحتاج اليها المسلمون في معاشهم ومأكلهم.
ومما يجدر الانتباه اليه هذه المقارنة في الرواية بين السرقة والاحتكار فأن الاحتكار لوناً من السرقة لأرزاق الناس ومعاشهم ويزيد المحتكر على السارق انه يغتصب أرزاق المجتمع ومعاشه بينما السارق لا يزيد على اغتصاب مال أفراد معدودين، فالثروة المحتكرة وان كانت ملكاً لصاحبها ولكن من وجه أخر ملك للمجتمع أو حق له بحيث لا يجوز لصاحبه ان يمنع المجتمع من ابتياع هذه الثروة ويحبسها عن السوق فهو (سارق) يحرم المجتمع حقه في هذه الثروة: ومن هنا كان الاحتكار أشد في نظر الإسلام من السرقة:
وقال رسول الله (ص): (أيما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً يريد به غلا المسلمين. ثم باعه فتصدق بثمنه لم يكن كفارة لما صنع به) (73).
وكأنه تصدق بمال مسروق ومن الطبيعي ان الصدقة لا تكون كفارة للسرقة وقال (ص): (المحتكر ملعون) (74).
وقد عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إلى واليه على مصر مالك الأشتر من أن (امنع الاحتكار، فأن رسول الله (ص) منع منه فمن فارق حكره بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه في غير إسراف) (75).
2- تحديد الثروة الفردية:
مما يلاحظ في نظام التداول في الإسلام ان الفقه الإسلامي يحول دون تورم الثروة الفردية بصورة غير طبيعية وسلك في ذلك مسلكين:
يندرج احدهما في اطار (نظام التداول) والأخر في اطار (نظام المال) احدهما يحول دون تورم الثروة من داخل أعمال الإنتاج والتداول والأخر دون تورم الثروة من الخارج.
ففي المسلك الأول يلغي الإسلام شرعية المعاملات والأساليب الإنتاجية التي تؤدي إلى التضخم المالي في حقل الملكية الفردية ويعتبرها أساليب غير شرعية في الإنتاج والتداول كالربا والغش والمقامرة والرشوة.
ففي هذه الحالة يضع الفقه الإسلامي قيوداً وحدوداً على أعمال الإنتاج والتداول تؤدي إلى تقليص الوارد الفردي إلى حد ما والحيلولة دون تورم الملكية الفردية.
فأن تورم الملكية الفردية ينشأ غالباً من عدم تخطيط شرعي صحيح لعملية الإنتاج والتداول في مرحلة إنتاج الثروة وبهذه العملية يحول الفقه الإسلامي دون تضخم الثروة الفردية في هذه المرحلة
وفي المسلك الثاني يحيط الفقه الإسلامي الثروة الفردية بسلسلة من التشريعات من الخارج بعد انتهاء مرحلة الإنتاج لتحديد الثروة الفردية وإعادة الفائض منها إلى الفئات الفقيرة والحاجات (المرافق الاجتماعية).
وهذه التشريعات هي الضرائب المالية التي يفرضها الفقه الإسلامي على الثروة بعد إنجاز إنتاجها. وان الغاية من التشريعات الضريبة في الفقه الإسلامي هي تقليص الوارد الفردي عن الحد المعقول في المجتمع وصرف الفائض منها في حاجات المجتمع وتعديل توزيع الثروة وذلك ما قال تعالى:(كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم) (76).
فالفقه الإسلامي إذن كي يحول دون تورم الثروة، يحيط الثروة بسلسلة من التخطيطات والتشريعات الدقيقة في مرحلتين: في مرحلة الإنتاج ومرحلة التوزيع وفي كل حقل (تداول الثروة) و(نظام المال).
كل ذلك دون ان يمس الفقه الإسلامي اصل الملكية الفردية فهو في نظر الفقه الإسلامي حاجة أصلية ذات جذور بعيدة في حياة الفرد والمجتمع لا يجوز إلغائها بحال من الأحوال وإنما يجب تحديدها بصورة دقيقة لا تؤدي إلى تعطيل الأجهزة الاقتصادية العامة في المجتمع من القطاع الخاص.
3- رعاية المصالح الإنسانية: وهذه غاية أخرى من الغايات التي ينطوي عليها التخطيط الإسلامي في تداول الثروة، لأن الفقه الإسلامي لا يخطط لنظام التداول في المجتمع الإسلامي بمعزل عن ملاحظة المصالح الإنسانية المرتبطة بجهاز الإنتاج والتداول وإنما يعتبر هذه الأجهزة والمصالح مرتبة بعضها ببعض ومتشابكة ولابد من لحاظها جميعاً في التشريع كلاً لا يتجزء.
ومن هذا المنطلق نجد ان الفقه الإسلامي يعالج مسئلة التداول بشكل مرتبط بالمصالح الإنسانية فيلغي من المعاملات وأساليب التداول والإنتاج ما يضر بهذه المصالح والشؤون الإنسانية فيحرم إنتاج الآلات اللهو وتصدير الكتب الضالة والمجلات الضارة وبيع الأسلحة للعدو وإنتاج وتداول البضائع التي تسبب أضرار للمجتمع كالخمر والات القمار وما يتصل بذلك وهذا التماسك الشرعي يلاحظ في كل جوانب الفقه الإسلامي وهذا التماسك والترابط والتوازن في التخطيط والتشريع من خصائص التشريع الإلهي.
والقانون الوضعي مهما كان لا يمكن أن ينطوي على هذه الوحدة الكلية في التخطيط فان العقل والعلم البشري لا يمكن أن يتسع إلى مثل هذه الكلية الإنسانية التي تحتضن كل المسائل الإنسانية بشكل مترابط متماسك (77).
الخاتمة
بعد هذه الجولة في ما يتعلق بتداول الثروة في النظام الإسلامي نخلص إلى جملة من النقاط:
1- التداول: هو مجموع العمليات التجارية التي تتم عن طريق البيع والشراء.
2- الثروة: هي كثرة العدد من الناس والمال وعرفت أيضاً هي الأشياء الأساسية التي تسهم في الرفاهية وهذه الأشياء هي التي تسمى السلع الاقتصادية.
3- التداول في نظر الإسلام من حيث المبدأ شعبة من الإنتاج ولا ينبغي أن ينفصل عن مجاله العام.
4- الثروة في نظر الإسلام هي وسيلة يؤدي بها الإنسان دور الخلافة وتعيينه في حياته وليست غاية في حياته.
5- النظرية الإسلامية تجعل مباشرة العمل شرطاً في تمليك الثروة وبذلك يصبح الإنسان منتجاً للثروة وله الحق في تداولها واستغلالها وفق حدود الشريعة الإسلامية.
6- وردت كثير من النصوص القرآنية لحلية وحرمة التداول ومنها قال تعالى:(أرئيتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله ادن لكم أم على الله تفترون).
7- وأيضا تهتم في السنة الشريفة كثر من الاحاديث التي تهتم بتداول الثروة منها قول الإمام الصادق (ع) قال: (لأخير فيمن يحب جمع المال من حلال يكف به وجهه ويكف به دينه).
8- التداول في الحياة الاقتصادية هو وسيلة لإشباع حاجات المستهلكين بدلأ عن تكليف كل منتج بإشباع حاجته بإنتاجه المباشر وهكذا يقوم التداول بتيسير الحياة وذلك لأنه واسطة بين المنتج والمستهلك.
9- الضوابط التي أوجدها الإسلام والتي ينبغي على المستثمر الالتزام بها هي ضابط عقدية وضوابط أخلاقية وضوابط اجتماعية وضوابط اقتصادية.
10-الضابطة العقدية التي أوجب الشارع على المستثمر الإيمان بها ومغزى هذه الضابطة أن يعتقد المستثمر اعتقاداً جازماً ان الأموال المتوفرة لديه ليس له حق التصرف فيها لأن المالك الحقيقي هو الله تعالى وبالتالي يجب ان يكون تصرفه وفق إرادة الله تعالى.
11- الضابطة الأخلاقية حيث لا يمكن لأي نظام اقتصادي أن يحقق ما يصبوا اليه من دونها ومن اهم هذه الضوابط هي الصدق والأمانة والوفاء والعدالة وتجنب الكذب والغش والخيانة وإخلاف الوعد.
12- الضابطة الاجتماعية حيث هناك مجموعة من الضوابط الاجتماعية منها تحريم الاحتكار والربا والاكتناز والإتجار بالسلع المحرمة حيث هذه الأمور تؤدي بحياة المجتمعات إلى الهلاك.
13- الضابطة الاقتصادية التي يجب على المستثمر المسلم الالتزام بها من اجل تحقيق الرفاهية الاقتصادية.
14- هناك مجموعة من الأمور التي يحرم العمل بها في مجال الإنتاج منها المسكرات والغش وتعطيل الموارد.
15- هناك مجموعة من العمليات التي تجري في مجال التبادل التي يحرم التعامل فيها هي المعاملات الربوية والاحتكار وإفساد العرض والطلب.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد واله الطيبين الطاهرين