الدور الاستراتيجي لمنهج الاعتدال
في محاربة منهج الإرهاب في العالم الاسلامي
الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي
2018-11-07 07:45
اعداد: أ.د خالد عليوي العرداوي-جامعة كربلاء/مركز الدراسات الاستراتيجية
المقدمة
ان الواقع المعاصر لمجتمعاتنا الإسلامية يكشف عن منعطف خطير تمر به هذه المجتمعات؛ بسبب تنامي ظاهرة التطرف والإرهاب وتصاعد تأثيراتها الخطيرة على حياة الناس، لذا أصبح البحث عن حلول ناجعة لمواجهة هذه الظاهرة من الأمور التي تشغل بال الباحثين والمفكرين والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية ذات العلاقة، ويبرز في غمرة هذا التحدي منهج الاعتدال كواحد من الحلول الجيدة لإنقاذ المجتمعات الإسلامية من واقعها المؤلم. والسؤال هو لماذا يلعب الاعتدال هذا الدور المهم؟
أهمية البحث: وصلت المجتمعات الإسلامية الى نقطة حرجة في حياتها تجعل السكوت على وجود الظاهرة الإرهابية خيارا غير مقبول وينذر بالمشاكل المتفاقمة امام بناء دولها وتماسكها الاجتماعي وسمعتها الدولية. فالعالم الإسلامي آخذ بالتآكل الداخلي المستمر، وهو بحاجة الى بديل نوعي لظاهرة الإرهاب يمكنه العمل على تحديها والتغلب عليها في دائرتي الفكر والسلوك، وهنا يطرح البحث منهج الاعتدال كخيار استراتيجي فعال ومأمون يصلح التركيز عليه من اجل حماية الأوطان والمواطنين بشرط الالتزام بتوفير متطلبات نشره وتطبيقه في حياة الناس.
مشكلة البحث: لماذا الخوف من سيادة التطرف والإرهاب؟ ولماذا نحتاج الى منهج الاعتدال كضد نوعي ومنطلق لإزاحته من الوجود فكرا وسلوكا؟ وما هي متطلبات انتصار منهج الاعتدال في صراعه مع الإرهاب والارهابيين؟ هذه الأسئلة وغيرها تمثل المشكلة الأساس التي يعمل هذا البحث على تحليلها، والاجابة عنها، وتقديم حلول واقعية ممكنة التطبيق لها.
فرضية البحث: الفرضية التي يبنى عليها هذا البحث هي ان منهج الاعتدال يشكل خيارا استراتيجيا مهما للمسلمين وغير المسلمين في مواجهة الظاهرة الإرهابية، وانه في حال سيادته سيزيح الإرهاب والإرهابيين ويهزمهم في ساحة الفكر كما في ساحة السلوك.
هدف البحث: يهدف البحث الى تسليط الضوء على طبيعة الإرهاب وحجم الآثار الاجتماعية والنفسية التي يتركها على المجتمع من خلال أخذ العراق بوصفه نموذجا في الدراسة، والتأكيد على ضرورة تهيئة المجتمعات المعرضة للتهديدات الإرهابية لتكون قادرة على افشال مخططات الإرهابيين، بمنحها المنهج البديل الناجح، فالانتصار على الإرهاب لا يقتصر على استعداد البنية الفوقية للدول(السلطة) بل لا بد من استعداد وتماسك أقوى على مستوى البنية الاجتماعية التحتية مصدر القوة والمقاومة الحقيقية.
منهجية البحث: تم الاعتماد في اعداد هذا البحث على منهج التحليل الوصفي، فضلا عن منهج التحليل النظمي وبطريقة التحليل الاستقرائي.
هيكلية البحث: ان مقتضيات البحث الأكاديمي، اقتضت تحليل موضوع البحث من خلال تقسيمه الى مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة.
المبحث الأول: الإرهاب: مفهومه وانواعه وسماته وآثاره
يحتاج البحث في ماهية الإرهاب الى تحديد مفهوم الإرهاب الذي يجعله مميزا عن غيره من الأفعال الاجرامية التي تهدد حياة البشر أولا، وأنواع وسمات الفعل الإرهابي ثانيا، والآثار الاجتماعية والنفسية للفعل الإرهابي من خلال دراسة العراق كنموذج ثالثا.
المطلب الأول: مفهوم الإرهاب
الإرهاب في اللغة العربية من مشتقات الفعل رهب (بكسر الهاء) رهبا (بفتح الهاء) ورهبا(بالضم) أي أخافه وأفزعه، والرهبة هي الخوف والرعب والخشية والفزع، والارهابي هو المثير للخوف والرعب وهو وصف يطلق على الذين يسلكون سبل العنف والإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية والحكم الإرهابي هو ذلك الحكم الذي يقوم على إرهاب الشعب واستعمال العنف لكبت حريته (1)، وقد عرف قاموس اوكسفورد الإرهاب بأنه استخدام العنف والتخويف خاصة لتحقيق أغراض سياسية وأن الإرهابي هو الشخص الذي يستخدم العنف لإحداث حالة من الفزع لتحقيق أغراض سياسية.(2) لكن الدكتور محمود داوود يعقوب يرى أن المعنى اللغوي لكلمتي الإرهاب والارهابي بمدلولهما السياسي غير موجود في معاجم اللغة العربية القديمة، وحاول أن يستعيض عنهما بكلمتي "الحرابة" و"الحرابي" وبعد استعراضه لمعاجم اللغة العربية القديمة تراجع عن هذا الرأي وانتهى الى القول:" وعموما فان كلمتي الإرهاب أو الإرهابي لا يوجد لهما أثر في المعاجم العربية القديمة حسب مدلولهما الحديث المشحون بالمضامين السياسية، خصوصا وأن مثل هذه الدلالات حديثة نوعا ما وجاءت في سياق تاريخي معين".(3)
اما التعريف الاصطلاحي للإرهاب فأنه يضع الباحث أمام حيرة بالغة، فمن جهة هناك تعاريف كثيرة لهذه الكلمة وجد أحد الباحثين أنها تزيد على 109 تعاريف، ومن جهة أخرى لا يوجد اتفاق بين الباحثين والدول والمنظمات على تعريف جامع مانع للإرهاب يمكن الاستناد اليه من الجميع (4)، ولعل مرد ذلك كما يرى محمود عبد العزيز محمد هو عدم التوصل الى تعريف جامع مانع للإرهاب؛ بسبب اختلاف زاوية النظر اليه من قبل المحللين والمهتمين، وتباين وجهات النظر بين ما يعد عملا إرهابيا وما لا يعد عملا إرهابيا استنادا على المصالح السياسية التي تقف وراء ذلك، فضلا عن فشل المنظمات الدولية والجماعات الحكومية وغير الحكومية في التوصل الى اتفاق حول تعريف موحد للإرهاب. (5)
ولكن عدم الاتفاق على تعريف جامع مانع للإرهاب لا يبرر عدم التطرق الى جزء من التعاريف الكثيرة لهذه الظاهرة الخطيرة من أجل تكوين صورة واضحة عنها تكون مفيدة فيما بعد لتحديد حجم الاضرار الناجمة عنها على الضحايا والعوائل، فقد عرف أدونيس العكرة الإرهاب " بأنه منهج نزاع عنيف يرمي الفاعل بمقتضاه وبواسطة الرهبة الناجمة عن العنف الى تغليب رأيه السياسي أو فرض سيطرته على المجتمع أو الدولة من أجل المحافظة على علاقات اجتماعية عامة أو من أجل تغييرها أو تدميرها"(6)، وفي الموسوعة السياسية لـعبد الوهاب الكيالي عرف الإرهاب بأنه" استخدام العنف غير القانوني، أو التهديد به عبر أشكال ومظاهر مختلفة كالاغتيال والتشويه والتعذيب والتخريب والنسف؛ من أجل تحقيق هدف سياسي معين مثل كسر روح المقاومة والالتزام عند الأفراد وهدم المعنويات عند الهيئات والمؤسسات، أو كوسيلة من وسائل الحصول على معلومات أو مال. وبشكل عام فأن الإرهاب هو استخدام الاكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية"(7)، والإرهاب حسب معجم العلوم الاجتماعية المصري هو" بث الرعب الذي يثير الخوف والفعل أي الطريقة التي تحاول بها جماعة منظمة أو حزب أن يحقق أهدافه عن طريق استخدام العنف، وتوجه الاعمال الإرهابية ضد الأشخاص سواء كانوا أفراد أو ممثلين للسلطة ممن يعارضون أهداف هذه الجماعة، كما يعتبر هدم العقارات واتلاف المحاصيل في بعض الأحوال كأشكال للنشاط الإرهابي"(8)، والإرهاب" وسيلة تستخدمها حكومة استبدادية عن طريق نشر الذعر واللجوء الى القتل والاغتيال والتوقيف التعسفي والاعتداء على الحريات الشخصية؛ لإرغام أفراد الشعب على الخضوع والاستسلام لها والرضوخ لمطالبها التعسفية، وقد يستخدم الإرهاب أقلية من المواطنين لترويع المسالمين بنية تحقيق أغراضها وفرض سيطرتها عليهم"(9)، والإرهاب كما يعرفه مركز دراسات الشرق الأوسط هو" استخدام غير مشروع للعنف أو التهديد باستخدامه ببواعث غير مشروعة؛ يهدف أساسا الى بث الرعب بين الناس، ويعرض حياة الأبرياء للخطر، سواء أقامت به دولة أم مجموعة أم فرد؛ وذلك لتحقيق مصالح غير مشروعة، وهو بذلك يختلف كليا عن حالات اللجوء الى القوة المسلحة في إطار المقاومة المشروعة، وهو ذا انتهاك للقواعد الأساسية للسلوك الإنساني، ومناف للشرائع السماوية والشرعية الدولية؛ لما فيه من تجاوز على حقوق الانسان" (10)، ويعرف نبيل أحمد حلمي الإرهاب " بأنه الاستخدام غير المشروع للعنف أو التهديد به بواسطة مجموعة أو دولة ضد فرد أو جماعة أو دولة ينتج عنه رعبا يعرض للخطر أرواحا بشرية أو يهدد حريات أساسية؛ ويكون الغرض منه الضغط على الجماعة أو الدولة؛ لكي يتغير سلوكها تجاه موضوع معين" (11)، والارهاب في رأي آخر هو" عنف منظم أو تهديد به يمارسه أشخاص أو جماعات منظمة أو حكومات في مواجهة أشخاص يشكلون قيمة رمزية في منظومة السلطة، والمجتمع، أو جماعات أو منظمات أو دول أو ممتلكات مشمولة بالحماية الدولية أو الوطنية، يقع بالمخالفة للقانون ويتسم بالعشوائية وعدم التمييز؛ بقصد إشاعة الرعب لتحقيق أهداف أو مطالب سياسية" (12)، ويعرف عبد الرحمن رشدي الهواري الإرهاب " بأنه عنف منظم ومتصل؛ بقصد إيجاد حالة من التهديد العام الموجه الى دولة أو جماعة سياسية، والذي ترتكبه جماعة منظمة بقصد تحقيق أهداف سياسية" (13).
والارهاب حسب دائرة المعارف الاجتماعية هو " تعبير يستخدم لوصف منهج أو أسلوب، أو النظرية أو الفكرة التي تقف خلف ذلك المنهج؛ والذي من خلاله تحاول مجموعة منظمة أو حزب أن تحقق أهدافها المعلنة، باستخدام العنف المنظم بصفة أساسية، وتوجه الأفعال الإرهابية ضد الأشخاص الذين بصفتهم الشخصية أو كوكلاء أو ممثلين للسلطة يتداخلون مع اكمال تحقيق أهداف هذه المجموعة" (14).
ويعرف الاتحاد الأوربي الإرهاب بأنه" العمل الذي يؤدي لترويع المواطنين بشكل خطير، أو يسعى الى زعزعة استقرار أو تقويض المؤسسات السياسية أو الدستورية أو الاقتصادية أو الاجتماعية لأحدى الدول، أو المنظمات، مثل الهجمات ضد حياة الأفراد أو الهجمات ضد السلامة الجسدية للأفراد أو اختطاف واحتجاز الرهائن، أو احداث اضرار كبيرة بالمؤسسات الحكومية أو اختطاف الطائرات والسفن ووسائل النقل الأخرى، أو تصنيع أو حيازة المواد أو الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية، أو إدارة جماعة إرهابية أو المشاركة في أنشطة جماعة إرهابية"(15).
وهكذا تعريف يثير الجدل الواسع عند التركيز على فقراته من قبل المهتمين بالموضوع وصناع السياسات في بعض البلدان لاسيما البلدان الإسلامية؛ لما قد ينطوي عليه من ازدواجية في النظرة الغربية الى الإرهاب.
من جهتها وزارة الدفاع الامريكية عرفت الإرهاب بأنه" الاستخدام المدروس للعنف أو التهديد باستخدامه؛ لإشاعة الخوف بغرض اجبار أو اكراه الحكومات أو المجتمعات على تحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أيديولوجية"(16)، أما وزارة الخارجية الامريكية فعرفت الإرهاب " بأنه العنف المتعمد الذي تقوم به جماعات غير حكومية أو عملاء سريون بدافع سياسي ضد أهداف غير قاتلة؛ ويهدف عادة للتأثير على الجمهور"(17).
يتضح من خلال ما تقدم حجم الكم الهائل من تعاريف الإرهاب، واختلاف زوايا النظر اليه بحسب المنظومة الفكرية والمرجعية السياسية لكل طرف من جانب، ومن جانب آخر أن الإرهاب يمكن أن يتم بطرق عدة تبدأ من التهديد والخطف مرورا بالاغتيال والتفجيرات وصولا الى الإرهاب باستخدام أسلحة الدمار الشامل والحرب الالكترونية، كما هو الحال في الهجوم الالكتروني للولايات المتحدة وإسرائيل على الجمهورية الإسلامية الايرانية باستخدام فيروس ستوكسنت، الذي صمم لمهاجمة أنظمة المعلومات؛ بهدف الحاق الضرر بأجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في المنشآت النووية الايرانية (18).
المطلب الثاني: أنواع وسمات العمل الإرهابي
اولا: أنواع الإرهاب.
لعله من الصعب حصر أنواع العمل الإرهابي بشكل دقيق؛ بسبب التطور المستمر للظاهرة الارهابية وتنوع مصادرها المتناغم بفاعلية مع تطور حياة البشر المعاصرة وتعقدها وتشابكها تأثرا وتأثيرا بما تحدثه التكنلوجيا من فتوحات جديدة ودائمة يستغلها الارهابيون ببراعة في تحقيق اجنداتهم. ولكن مع ذلك يمكن تلمس أنواع عـــــــدة للعمــــــــل الإرهابي تطرق لها المهتمون والباحثــــــــــــون في هذا الشـــــــــــأن منــــــها (19):
1- الإرهاب من حيث الشكل والموضوع، ويمكن تقسيمه الى الإرهاب السياسي عندما يستهدف العنف الإرهابي" بث ونشر الرعب والفزع والخوف بين جموع الشعب؛ لإحداث صدمة أو ذهول لدى السلطة الحاكمة والجهات الرسمية والحكومية لتحقيق أهداف سياسية. (أو عندما) تسيطر... نظم حكم استبدادية وديكتاتورية تستهدف رموزها استعباد الشعوب...". والإرهاب الديني والعرقي والعنصري عندما يتخذ الدين منطلقا للعنف تجاه الآخر تحت أي مسمى، وبعيدا عن إنسانية الأديان واحترامها لحقوق البشر وحرياتهم المقدسة وهذا النوع من الإرهاب هو الأكثر تجذرا وامتدادا تاريخيا في حياة البشر؛ لأسباب ليس محل البحث فيها هنا، أو عندما يتخذ العنصر والعرق منطلقا للفعل الإرهابي كما هو الحال في الإرهاب النازي والفاشي وحركات التطرف العرقي والعنصري المنتشرة في كثير من بلدان العالم ولا تختص بدولة وحضارة بعينها.
والإرهاب الايديولوجي والعقائدي الذي يتخذ من العقيدة والايدلوجيا لطرف ما أساسا لعنف موجه نحو الآخر المختلف معه عقائديا وايدلوجيا وهذا النوع من الإرهاب قد تختلف النظرة اليه بحسب منطلقات كل طرف ومقدار اقترابه او ابتعاده من عقيدة وايديولوجية القائمين به. والإرهاب النووي والبيولوجي والكيميائي ومن خلاله تحاول أطراف ما حيازة هذا النوع من الأسلحة الفتاكة؛ بهدف استخدامها وإلحاق أفدح الاضرار بأعدائها والناس الآمنين ومثال على ذلك منظمة "أوم شينريكيو" اليابانية المتطرفة، وتنظيمات داعش وأخواتها، وإسرائيل وغيرها من القوى العدوانية على الصعيد الوطني والدولي التي تتخذ من حيازتها لهذه الأسلحة منطلقا لإرهاب الآخرين وتحقيق التفوق العسكري عليهم ومحاولة اجبارهم على الخضوع لمخططاتها العدوانية.
والإرهاب الالكتروني الذي يستخدم الشبكة الدولية للمعلومات وأجهزة الحاسوب في التخويف والارغام وايقاع الضرر الاقتصادي والتقني والعسكري بالآخرين أو تدريب وتعليم جهات ما على تصنيع المتفجرات وممارسة شتى اشكال العنف؛ لأغراض سياسية محددة تحرك القائمين به.
والإرهاب الاقتصادي عندما يستغل الاقتصاد من قبل أطراف معينة؛ لمعاقبة الشعوب والدول بطرق عدة كحرق المحاصيل أو فرض الحصار أو تدمير قطاع السياحة أو الاحتكار الاقتصادي في محاولة منها لحسم الصراع معهم لمصلحتها.
والإرهاب الاجتماعي الناجم عن ردود فعل اجتماعية على الظلم الاقتصادي والتعصب الفكري وغياب التعايش بين البشر مما يؤدي الى التصادم بين السلطة القائمة وشعبها المحروم، وفي كثير من الأحيان يتخذ هذا الصدام صورا مدمرة من العنف لاسيما عندما يتطور الى حرب أهلية مفتوحة على جميع الاحتمالات.
والإرهاب العسكري، الذي يتخذ من التفوق العسكري لطرف ما أداة لضرب وتركيع أطراف أخرى، وربما شن العدوان عليها، كما يظهر في العلاقات الدولية من خلال تلك القوى التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل ومصادر القوة العسكرية المختلفة، وتحاول فرض رأيها على بقية دول العالم تحت مسميات مختلفة.
2- الإرهاب من حيث الفاعل، وينقسم الى إرهاب فرد أو جماعة عندما يمارس فرد ما أو جماعة الإرهاب لتحقيق اجندة سياسية معينة أو دعما لجهة ما. وإرهاب دولة عندما تمارسه أنظمة الحكم في الدول سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
3- الإرهاب من حيث النطاق والأثر، فقد يكون الإرهاب محليا يقتصر على الحدود الجغرافية لدولة ما بصرف النظر عن الجهة التي تقوم به، أو إرهابا دوليا يتجاوز حدود الدول ويمتد ليشمل دولتين أو أكثر، بل وربما يشمل العالم كله كما هو الحال في إرهاب داعش وأخواتها في الوقت الحاضر.
4- الإرهاب من حيث طبيعة المجني عليه، فقد يكون المجني عليه عاما يمثله شعب بكامله، أو نخبة من الشعب كالمثقفين أو المفكرين أو رجال الصحافة والاعلام أو رجال القانون أو المعارضين للنظام، وقد يكون المجني عليه خاصا يمثله رجال السلطة في دولة ما ومناصريهم أو الأجانب المقيمين فيها، كما قد يكون المجني عليه دولة بكاملها يستهدف الارهابيون بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية لتحقيق اهداف محددة.
5- وقد يكون الإرهاب في زمن السلم أو في زمن النزاعات المسلحة، وفي هذه الحالة يمكن أن تندرج في هذا النوع من الإرهاب كل الانواع أعلاه مع اختلاف الظرف العام المحدد لوقوعه.
ثانيا: سمات العمل الإرهابي.
على الرغم من تعدد أنواع الإرهاب، واختلاف دوافعه وأسبابه، الا أنه يمكن تحديد سمات مشتركة للعمـل الإرهـــــــابي منـــــها:(20)
- العنف سمة أساسية من سمات العمل الإرهابي يمارسه الارهابيون بشكله السافر أو من خلال التهديد به ضد المدنيين العاديين وضد حياتهم أو ممتلكاتهم أو رفاهيتهم، ولا تفرق الاعمال الإرهابية بين الهدف المقصود والمتواجدين بالمكان أو بين المجموعات المختلفة من المتواجدين بالمكان، أي يمارس العنف بدون تمييز بين الضحايا سواء كانوا أبرياء أو غير أبرياء، فالهدف إيقاع أكبر قدر من الرعب بصرف النظر عن الطريقة في الاغلب الاعم.
- البعد السياسي للعمل الإرهابي هو الذي يميزه عن غيره من أشكال العنف غير المشروع والتي يمكن أن تقع لأسباب اجتماعية ونفسية لا دخل للدافع السياسي فيها.
- الإرهاب عمل منظم وليس عشوائي، كما قد يتصور البعض، تقوم به أطراف معينة استنادا الى استراتيجية محددة تتحرك على ضوئها، وقد يستغرق تحقيق هذه الاستراتيجية وقتا طويلا بحسب الأهداف البعيدة التي تصبو اليها تلك الأطراف.
- اثارة الخوف والرعب لدى المجتمعات أو الحكومات المعرضة للعمل الإرهابي جزء لا يتجزأ من سمات أي عمل إرهابي مهما كان شكله ودوافعه.
- التطرف الفكري هو الأرضية الخصبة التي تغذي السلوك العنيف والقاسي للإرهابيين، وكل التنظيمات الإرهابية والحكومات الإرهابية تتشارك هذه السمة مع اختلاف المنطلقات الفكرية لكل طرف.
- الإرهاب عمل غير مشروع يقع خارج إطار القانون والأعراف المعمول بها بين البشر، وخارج أطار الاحكام الصحيحة للأديان والشرائع السماوية، اذ لا يوجد في جميع الأديان والقوانين والأعراف ما يبرر قتل الأبرياء والتجاوز على الآمنين المسالمين، والاعتداء على حقوق الانسان وحرياته المحترمة بحجة تحقيق أهداف سياسية معينة.
على ضوء ما تقدم، يتبين حجم الخطر الإرهابي، كما يمكن تصور مقدار الضرر الذي يسببه للمجتمعات الإنسانية عموما، لاسيما عندما يتحول الارهاب الى استراتيجية ثابتة يلجأ اليها الافراد والجماعات والحكومات لتحقيق الأهداف السياسية وكسر إرادة الخصوم في الصراعات بينهم، وستتضح هذه الصورة بشكل أكثر من خلال المطلب التالي.
المطلب الثالث: الآثار المدمرة للإرهاب: الإرهاب في العراق أنموذجا
على الرغم من ان شعب العراق يمتلك تاريخا طويلا من المعاناة الإنسانية؛ بسبب الإرهاب الممنهج الذي تعرض له على يد نظام البعث السابق وما سبقه من أنظمة حكم سجلها فيه الكثير من الخروقات لحقوق الانسان وحرياته العامة، فان الإحاطة بهذا التاريخ يتطلب سلسلة طويلة من البحوث والدراسات الواسعة والمعمقة وهو ما لا يمكن اختصاره في هذا البحث القصير، الا أن القارئ يستطيع تكوين صورة مجملة عن حجم الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها هذا الشعب من خلال تقديم عرض موجز للعنف الإرهابي الحاصل منذ عام 2012 والى الوقت الحاضر، وكما مبين في الفقرتين التاليتين.
اولا: الإرهاب في العراق: إحصاءات وبيانات
لا يمكن للباحث حصر ما يجري من اعمال إرهابية في العراق؛ لأن كثير من هذا العنف ربما لم يتم توثيقه من قبل الجهات الرسمية والمنظمات الدولية ذات العلاقة، ولكن بالاستناد الى ما تم توثيقه لدى البعثة الدولية التابعة للأمم المتحدة العاملة في العراق، ولدى وزارة الهجرة والمهجرين العراقية تتبين المعلومات الآتية: لقد بين بحث اعده السيد عامر عباس زغير تحت عنوان (النزوح الداخلي وأثره على الاقتصاد العراقي) من دائرة شؤون الفروع في وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، أنه في نهاية عام 2012 بلغ عدد العوائل النازحة داخليا في عموم العراق بسبب العمليات الإرهابية ما مجموعه(158618) عائلة، وبلغ عدد أفرادها (1153077) نازح (21). ولسبب غير مفهوم قد يكون مرتبطا بتناقض أو عدم دقة بيانات الوزارة أو لأسباب أخرى نجد أن التقرير الفصلي الثالث الصادر عن دائرة المعلومات والبحوث/ قسم الإحصاء وبنك المعلومات في الوزارة نفسها بتاريخ 30/9/2013 يحدد عدد النازحين داخليا في العراق لغاية اعداد التقرير يحددهم بـ(770730) نازح، أي بانخفاض عن العدد الكلي للنازحين في نهاية عام 2012(22).
ولكن تصاعد العمليات الإرهابية في العراق في عام 2014 قفز بالكارثة الإنسانية الى مستويات قياسية، حيث تبين الوزارة العراقية أعلاه في تقريرها الفصلي الرابع الصادر بتاريخ 30/12/2014 عن نفس الدائرة أن عدد النازحين داخليا بلغ (2519849) (23)، وفي نشرتها نصف الشهرية عن أوضاع النازحين في العراق تبين أن عدد العوائل النازحة داخليا لغاية 24/4/2015 بلغ (555772) الف عائلة موزعة على جميع المحافظات العراقية، فتأتي محافظة دهوك في مقدمة المحافظات المستقبلة للنازحين بواقع(122764) الف عائلة بينما تأتي محافظة المثنى في ذيل القائمة وبواقع(1032) عائلة(24). وقد بينت الأمم المتحدة على لسان السيد (يان كوبيش) ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق أن عدد هؤلاء النازحين لغاية 22/5/2015 يتجاوز 2.8 مليون نسمة والعدد في زيادة مستمرة، يترافق ذلك مع عجز واضح للحكومة العراقية عن توفير المستلزمات الكافية لتغطية نفقات احتياجاتهم، فضلا عن عجز المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية عن توفير الدعم اللازم لهم (25). ثم قفز هذا الرقم في نهاية العام 2015 الى ما يقارب 3.2 مليون نازح حسب ما جاء في وثائق منظمة الهجرة الدولية، وكما مبين في الشكل الآتي:
{img_1}
وهذه الإحصائية تتوافق مع ما ورد في تقرير السيد (يان كوبيش) ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق الذي القاه يوم 16/شباط-فبراير/2016 أمام مجلس الأمن حيث قال فيه:" والأزمة الإنسانية في العراق معقدة للغاية، ومن المتوقع أن تتوسع وتزداد سوءا هذا العام. واليوم، ليس هناك 3,3 مليون من المشردين داخليا فحسب، ولكن هناك ما مجموعه حوالي 10 ملايين عراقي-قرابة ثلث السكان – يتطلبون على نحو عاجل شكلا من أشكال المساعدة الإنسانية. ودعونا لا ننسى أنه من دون الدعم اللازم، المشردون داخليا اليوم سيصبحون لاجئين في الغد. فالاحتياجات الإنسانية الآن كبيرة جدا بحيث تفوق القدرات الوطنية. والواضح أن حكومة العراق وحكومة كردستان الإقليمية لا تمتلكان الموارد لمواصلة تقديم المساعدة، ليس بسبب نقص الإرادة أو التردد في تحمل المسؤولية، ولكن بسبب الحالة الاقتصادية والمالية الخطيرة"(26).
والملاحظ ان أكثر من نصف اعداد النازحين هم من الأطفال، كما تحدث بذلك نجيرفان بارزاني رئيس حكومة أقليم كردستان العراق في وقت تواجه الجهات الرسمية مشكلة في تأمين مقاعد الدراسة والمدرسين لهم وغيرها من مستلزمات الحياة الكريمة (27).
وعند الانتقال الى احصائيات عدد القتلى والمصابين الصادرة من بعثة الأمم المتحدة في العراق ستبدو الصورة مرعبة حقا وتفوق القدرة على التحمل، فقد بلغ عدد الضحايا في عام 2014 (35408) منهم (12282) قتيل، و(23126) مصاب، وقد يعتقد القارئ أن ارقام عام 2014 استثنائية بحكم تطورات الصراع مع الإرهاب بعد سقوط الموصل بيد التنظيمات الإرهابية بتاريخ 10/حزيران-يونيو وما تلاه من احداث مؤلمة، لكن هذا الاعتقاد غير صحيح فضحايا الاعمال الإرهابية في العراق استمرت كبيرة جدا؛ لأن إحصائيات الشهور الأربعة عشر من 1/كانون الثاني-يناير2015 ولغاية 1/آذار-مارس/2016 تكشف ما يأتي:(28)
عدد المصابين |
عدد القتلى |
الشهر |
2240 |
1375 |
كانون الثاني |
2280 |
1103 |
شباط |
2172 |
997 |
آذار |
1726 |
812 |
نيسان |
1684 |
1031 |
آيار |
1687 |
1466 |
حزيران |
2108 |
1332 |
تموز |
1811 |
1325 |
آب |
1416 |
717 |
ايلول |
1269 |
714 |
تشرين الأول |
1237 |
888 |
تشرين الثاني |
1244 |
980 |
كانون الأول |
1450 |
849 |
كانون الثاني 2016 |
1290 |
670 |
شباط 2016 |
23614 |
14259 |
المجموع |
وهذه الإحصائيات تبين مقدار العنف الإرهابي في بلد واحد من بلدان العالم، وما يمكن أن تحدثه التنظيمات الإرهابية من عنف على البشر يتجاوز كل الابعاد المسموح بها في الصراع السياسي، فالعراق وفقا لهذه الأرقام فقد خلال الأربعة عشر شهر الموثقة اعلاه أكثر من ألف قتيل وما يقارب الألفين مصاب شهريا، وربما بعض الضحايا لم يتسنى للجهات المسؤولة توثيق اعدادهم مما يجعل الحصيلة الحقيقية أكبر.
ومن جانب آخر، اذا تركنا الآثار الإنسانية المدمرة للإرهاب في العراق وذهبنا الى ملاحظة الآثار المادية على الممتلكات العامة والخاصة، فان الصورة لن تقل رعبا عن الجانب الإنساني، فما لحق من دمار بالبنية التحتية والاملاك العامة والخاصة في المناطق التي خضعت الى سيطرة تنظيم داعش الإرهابي كبير جدا، وهذا ما بينه الاكاديمي السيد صادق الشمري رئيس جمعية المصارف الإسلامية العراقية خلال اجتماعه مع ناشطين من القطاع المصرفي، اذ أكد على حاجة العراق الى ما يقارب الأربعين مليار دولار لإعادة الاعمار الى المناطق المحررة من داعش، وهذه التكلفة تفوق قدرات الحكومة العراقية، مما يجعلها بحاجة الى دعم المجتمع الدولي من خلال وضع خطة مارشال دولية خاصة بالعراق(29)، علما أن هذه التكلفة الضخمة لا تشمل الاضرار الكبيرة أيضا التي لحقت بالبنية التحتية للدولة، فضلا عن الاضرار التي لحقت بالممتلكات الخاصة في بقية مناطق العراق التي لم تخضع لسيطرة القوى الإرهابية، ولكنها تضررت بعمق بفعل اعمالها التدميرية.
ثانيا: الاثار الاجتماعية والنفسية للإرهاب في العراق
لابد من الإشارة ابتداء الى أن العمليات الإرهابية في العراق شملت أغلب صور الإرهاب المعروفة، فبحسب التقارير الدولية الموثقة، قام الارهابيون بما يلي: (30)
- الاغتصاب الجماعي للنساء بما فيهن القاصرات (ما حصل مع أبناء المكون اليزيدي) مثال صارخ على ذلك.
- قتل جماعي للرجال فوق سن 19 سنة.
-اجبار الناس بالقوة على التخلي عن دياناتهم الاصلية والانتماء الى دين الإرهابيين.
- اجبار الأطفال بين سن 8 و15 من العمر على اعتناق الإسلام والعمل الجهادي في صفوف الارهابيين، وتدريبهم على مشاهد قطع الرؤوس والعنف تجاه كل من لا ينتمي الى التنظيم الإرهابي.
- قتل الأطفال الأصغر عمرا بدعوى انهم كفار.
- الاستيلاء على أملاك الناس وتهجيرهم من مناطقهم بالقوة (سهل نينوى وتلعفر) مثال على ذلك.
- قتل السجناء، كما حصل في جريمتي قاعدة سبايكر وسجن بادوش وغيرها.
- تفجير العبوات الناسفة، وتفخيخ العجلات، وارسال الانتحاريين، وتخريب البنية التحتية للمدن والاستيلاء على الأملاك العامة.
- قطع مياه الأنهار عن المناطق غير الخاضعة لسيطرتهم ومحاولة تسميم مياه الشرب، واستعمال الغازات السامة المحرمة.
- تفجير دور العبادة من كنائس ومعابد ومساجد وحسينيات.
- تدمير المناطق الأثرية التي تمثل أرث حضاري لكل الإنسانية وسرقة نفائسها وتهريبها للاستفادة من مواردها المالية.
- الاغتيالات والتصفية الجسدية لكل من تصل اليه أيديهم من مسؤولين حكوميين ورموز عشائرية وأئمة جوامع ورجال دين وصحافة وأكاديميين وغيرهم.
- التعاون مع الإرهابيين على مستوى العالم ودعوتهم الى المجيء الى العراق للمشاركة في الاعمال الإرهابية التي تقوم بها التنظيمات الإرهابية داخل هذا البلد.
وهذه الاعمال ستترك آثارها الاجتماعية والنفسية المدمرة على الضحايا من العراقيين وكما سيتضح في الصفحات الآتية.
1-الآثار الاجتماعية
سبق ان تم الاشارة في هذه الدراسة الى عدد العوائل التي اضطرت الى النزوح من مناطقها، وعدد أفرادها الذي تجاوز الثلاثة ملايين فرد، وهذه العوائل كما تشير بيانات وزارة الهجرة والمهجرين العراقية بحاجة ماسة الى:(31)
1- انشاء مخيمات نموذجية لإيوائهم أو بناء دور واطئة الكلفة لجمعهم فيها من قبل الوزارة؛ بسبب ارتفاع الإيجارات بشكل غير طبيعي.
2- المتابعة المستمرة ومعرفة احتياجاتهم؛ كونهم نزحوا تاركين كل امتعتهم وهم بحاجة الى ابسط مستلزمات الحياة.
3- الإسراع بصرف المنح المالية العاجلة لهم.
ومع هذه النسب الكبيرة من النازحين، فضلا على الجرائم المروعة للإرهابيين المرتكبة بحقهم، برزت وستبرز أكثر في المستقبل الآثار الاجتماعية السلبية للعمليات الإرهابية على الضحايا والأسر العراقية من خلال ما يأتي:
- زيادة نسبة الفقر وسوء المعيشة، فضلا على الشعور بالإثم والعار والاضطهاد الاجتماعي لدى من كانوا ضحية العنف الإرهابي، ولاسيما النساء اللواتي تعرضن بشكل مباشر لجرائـــــم الجماعــــــــــــــــات الارهابية.
- انتشار الأمراض، وفقدان الرعاية الصحية، مع عدم قدرة مؤسسات الدولة على سد النقص في هذا المجال.
- سيادة مشاعر الحزن والخيبة؛ بسبب فقدان الأولاد والأزواج والأحبة.
- بروز ظاهرة الأسر التي تقودها النساء بسبب فقدان أو غياب الرجال وما يتركه ذلك من تأثيرات عميقة على كيان الأسرة، وطريقة تعاملها مع الأزمات والمشاكل.
- زيادة عدد الأرامل والأيتام.
- زيادة نسبة العنوسة في المجتمع؛ بسبب النقص الحاصل في عدد الرجال وما يمكن ان يتركه ذلك من مشاكل اجتماعية خطيرة تتصاعد مع مرور الأيام.
- زيادة نسبة الطلاق الناجمة عن العنف الاسري المرتبط بتصاعد العنف الاجتماعي العام وتفكك الأسر تدريجيا مما يهدد النسيج الاجتماعي برمته.
- بروز ظاهرة أطفال الشوارع التي تدل على اضطرار الاسر العراقية التي عانت من الإرهاب الى الاعتماد على أطفالها في تأمين موارد العيش الكريم لها، وهذا لا شك سوف يترك آثاره المدمرة على صحة ونفسية الطفل وبنائه المستقبلي.
- انتشار ظاهرة السكن العشوائي في المساجد والحسينيات وبين دور المواطنين في المدن وعلى أطرافها من قبل كثير من العوائل النازحة مع عجز مؤسسات الدولة عن ايوائها وتوفير السكن اللائق بها.
- تصاعد معدلات الجريمة وتفكك الاسرة بشكل متزامن مع تصاعد العمليات الإرهابية وبروز ظاهرة النزوح الجماعي.
- زيادة نسبة عدم التحاق الأطفال بمقاعد الدراسة وما يفرزه ذلك من زيادة في نسبة الأمية الاجتماعية التي ستترك تأثيراتها السلبية في البنية المعرفية للمجتمع.
- تصاعد نسبة الراغبين بالهجرة خارج العراق سواء بصفة أفراد أو أسر بكاملها، لاسيما بين أبناء الأقليات كالمسيحيين واليزيدين وغيرهم هربا من الإرهابيين وبحثا عن سكن آمن لهم في بلدان أخرى.
- هجرة العقول هي واحدة من الآثار الاجتماعية التي أفرزها الإرهاب في العراق، وفي ذلك خسارة كبيرة للبنية المعرفية والتقدم الاجتماعي للبلد.
- كذلك من الآثار الاجتماعية الخطيرة التي خلفها الإرهاب في العراق وفي غيره من البلدان هو ضرب النسيج الاجتماعي للمجتمع واضعاف التعايش بين المكونات؛ بسبب انتشار مشاعر الكراهية والرفض للآخر، ومثل هذه المشاعر لا تزول بسرعة حتى لو انتهت الاعمال الإرهابية، فهي قد تتطور في مرحلة ما لتشكل تهديدا لسلامة الدولة العامة ووحدتها الجغرافية، أو يمكن أن تبقى ندوب اجتماعية تحتاج الى وقت طويل وربما الى جيل جديد للشفاء منها ونسيانها.
2- الآثار النفسية
يمكن القول أن الآثار النفسية للعمليات الإرهابية على الضحايا تشكل واحدة من اعمق الآثار وابطئها شفاء، وهي مشكلة حقيقية تواجه صناع القرار ومؤسسات المجتمع ذات العلاقة لاسيما ما يرتبط منها بالطب النفسي، والمجتمع بمجمله؛ لأنها تتعلق بإعادة بناء شخصية الانسان بعد تعرضها الى الانتهاك والتدنيس والألم على يد الإرهابيين، ففي دراسة قيمة عن (آثار صدمة الاغتصاب على المرأة) منشورة على الانترنيت جاء فيها" الاغتصاب هو أبشع وأخطر أنواع العنف الممارس على المرأة؛ وذلك لكونه يمس بشرفها وشرف العائلة، ويغير من نظرة المجتمع لها، مما يولد عندها مشاعر سلبية وآثار نفسية وجسدية تعيق حياتها، وتبقى كحاجز لممارسة حياتها العادية، حيث أن المرأة المغتصبة تخلق عندها مشاعر الخوف والغضب وفقدان الثقة في النفس وفي الآخرين، والخوف من المستقبل، ومن نظرة المجتمع، وخوفها من العائلة ومن ردة فعلهم، أيضا احساسها بالخيانة، العزلة، وعدم إقامة علاقات مع الآخرين والشك فيهم، زيادة على مشاكل جسدية... وفقدان الشهية واضطراب في النوم والكوابيس المرتبطة بالحادث وغيرها من الأعراض.. كما أن هذه الأعراض قد تظل عند الضحية وتدوم لمدة طويلة، وقد تتجاوزها وتعود الى الحياة الطبيعية، وذلك إذا وجدت المساعدة من قبل الأسرة والمجتمع والأخصائيين النفسيين"(32). ولا يقل عن تأثير الاغتصاب على النساء تأثير الإرهاب على الأطفال سواء بما يشاهدونه من مشاهد عنف وفقدان لأقرب الناس إليهم أو بتجنيدهم في صفوف الجماعات الإرهابية بالترغيب أو الترهيب، فالجنود الأطفال كما تقول سناء الحافي: "هم ضحايا ويترتب على اشتراكهم في الصراعات آثار خطيرة على سلامتهم البدنية والعقلية وعلى المجتمع بصفة عامة، وغالبا ما يتعرضون للإيذاء ويشهد معظمهم الموت والقتل والعنف الجنسي، اذ يشارك كثير منهم في أعمال القتل ويعاني معظمهم من عواقب نفسية وخيمة طويلة الأجل"(33). وأزاء هذه الحقائق العلمية النفسية وجدت الباحثة سوسن شاكر مجيد في بحثها القيم عن (الآثار النفسية والاجتماعية للإرهاب والعنف على المرأة والطفل) في العراق أن المرأة العراقية باتت تحت تأثير الإرهاب تعاني من أعراض نفسية عدة منها: (34)
- التوتر وانشغال البال لأحداث عديدة لأغلب اليوم.
- الخوف الاجتماعي وخاصة من بعض المواقف الاجتماعية.
- الشعور بالإعياء والتعب والارهاق.
- الفزع والخوف البسيط واضطرابات في النوم.
- الشعور بالعصبية وعدم الإحساس بالراحة.
- فقدان الثقة بالنفس والتردد.
- الإحساس بالاتكالية والاعتماد على الرجل.
- الشعور بالإحباط والاكتئاب.
- الإحساس بالعجز.
- الشعور بالتهديد والضياع.
- القلق من المستقبل المجهول.
- الإحساس بالإذلال والمهانة.
- عدم الشعور بالاطمئنان والسلام النفسي والعقلي.
- الاضطراب في الصحة النفسية.
- فقدان الإحساس بالمبادرة والمبادأة واتخاذ القرار.
- الشعور بالصدمة النفسية.
اما بالنسبة للطفل العراقي فقد بينت نفس الدراسة أن الإرهاب ترك عليه آثارا نفسية تمثلت بـ:
- اضطرابات في النوم تمثلت في الاستيقاظ المتكرر في الليل، الأرق، النوم الزائد، الكوابيس خلال النوم.
- القلق والخوف من الظلام، والإصرار على النوم مع الوالدين، ورفض الخروج من البيت، وتجنب ذكر الاحداث.
- التوتر والعصبية، وتمثلت بالأعراض الجسدية-النفسية والشعور بالصداع والالام في البطن والتقيؤ والاغماء.
- ضعف التركيز، وتمثل في شرود الذهن، والخمول وقلة النشاط، وعدم الانضباط في الصف.
- اعراض نكوصيه مثل مص الأصابع والتبول اللاإرادي.
- الانسحاب والعزلة والانطواء.
- العدوانية والتمرد.
- حدة الطبع وسرعة الغضب.
- الإحساس بالتهديد والخطر.
أن هذه الاعراض تمثل الاعراض العامة الناجمة عن الإرهاب في المجتمع العراقي فما بالك بالضحايا المباشرين الذين يتعرضون للعنف والالم والضرر من العمليات الإرهابية، أكيد ستكون الآثار النفسية أفدح وأكثر عمقا. فالإرهاب خطر حقيقي وآفة مميتة يلحق الضرر بالبناء النفسي والاجتماعي للإنسان، وسيادة منهجه يهدد الحضارة الإنسانية قاطبة بصرف النظر عن انتماءاتها الفكرية والدينية والقومية.
من خلال ما تقدم في هذا المبحث يمكن الخروج بالنتائج الآتية:
- الإرهاب عمل اجرامي شديد الخطورة ولا يمكن تبريره تحت أي ذريعة، كما لا يمكن نسبته لأي ديانة سماوية صحيحة، وعلى جميع الدول والمنظمات والفعاليات الشعبية الاجماع على شجبه ومقاومته وفضح أفكاره الهدامة وممارساته اللاإنسانية، بصرف النظر عن تقاطع المصالح واختلاف المنطلقات الفكرية والروحية.
- ان الإرهاب يتغذى على ظروف الفقر والظلم والجهل والأخفاق الروحي والمؤسساتي، ولا يمكن محاربته بدون محاربة البيئة التي تغذيه، فالحرص على بناء بيئة عادلة يمتلك افرادها ناصية العلم والثقافة الحسنة، والتكامل الروحي، والنجاح المؤسساتي في تلبية مطالب الناس يعد جوهر الاستراتيجية الناجحة لمحاربة الإرهاب فكرا وسلوكا.
- لا يمكن تحقيق أي مصلحة حضارية أو وطنية أو فئوية أو شخصية من خلال العمل الإرهابي، ومن يعتقد ذلك سيكتشف خطأ هذا الاعتقاد عندما ترتد الاعمال الإرهابية عليه لتهدد كل ما يسعى للحفاظ عليه، وإدراك هذه الحقيقة مهم جدا لتنسيق المواقف الإقليمية والدولية في محاربة الإرهاب.
- خطر الإرهاب لا يقتصر على مؤسسات السلطة ورموزها وأطراف الصراع بل يمتد ليشمل شريحة كبيرة من الأبرياء والمحايدين، ويلحق اضرار جسيمة بالضحايا والعوائل مما يخرب النسيج الاجتماعي والبنية النفسية للمجتمع عموما، ويهدد المجتمع بمجموعة كبيرة من الامراض النفسية والندوب الاجتماعية التي لا تمحى بسهولة، والحرص على تلافي هذه الآثار يتطلب عمل مشترك متعدد الابعاد الصحية – النفسية والقانونية المرتبطة بالعدالة الجنائية والاقتصادية والسياسية. بين المنظمات الدولية ومؤسسات الدولة الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية وأفراد المجتمع لمدة قد تطول بحسب نوع وحجم الضرر الذي الحقه الإرهاب بضحاياه.
- ان أي صانع قرار عليه أن يدرك أن مركز الثقل الاستراتيجي لديه هو المجتمع، والإرهاب يهدف الى تحطيم مركز الثقل هذا بكل السبل لإعلان انتصاره وتحقيق أهدافه، والحال يقتضي من أصحاب الشأن حماية مجتمعهم وادخاله كشريك مهم في جهود مكافحة الإرهاب بعيدا عن كل المسميات التي تفتت المجتمع وتمزق وحدته.
المبحث الثاني: الاعتدال: مفهومه ومقوماته وأهميته
لا يمكن الحكم على صحة أو خطأ منهج ما بدون تحديد ماهيته التي تميزه عن غيره من المناهج، والتي تسمح للإنسان باختياره كمنهج فكر وسلوك وحياة، قد تقتضي الظروف في بعض الأحيان أن يضحي بحياته وأعز ما يملك وتحمل كافة تبعات ذلك؛ من أجل أن يأخذ منهجه الذي يعتنقه مكانه تحت الشمس، وكذلك حال القائلين بمنهج الاعتدال عليهم أن يحددوا ماهية منهجهم قبل التبشير به بين الناس، وهذا ما سنفعله اختصارا في هذا المبحث.
المطلب الأول: مفهوم الاعتدال
الاعتدال في اللغة مصدر مشتق من الفعل عدلَ، والعدل هو "ما قام في النفوس إنه مستقيم، وهو ضد الجور... وفي أسماء الله تعالى: العدل وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم..."(35). لذا يقول صاحب كتاب (معجم تفسير مفردات ألفاظ القرآن): إنه "... بالعدل قامت السماوات والأرض تنبيها إنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائداً على الآخر أو ناقصاً عنه على مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظماً..."(36). والاعتدال هو التوسط بين حالين في الكم أو الكيف وعدم الميل إلى المواقف الطرفية "... وكل ما تناسب فقد اعتدل، وكل ما أقمته فقد عدلته... وإذا مال شيء قلت عدلته أي أقمته، واعتدل أي استقام"(37). والاعتدال من "أمهات الفضائل"، فهو فضلاً عن الاستقامة والوسطية، يشير إلى "...الاتزان في الحكم والرأي"(38)، فيقترب معناه اللغوي من معنى السماحة بما فيها من يسر ورحمة وسهولة واستواء وتجرد من العقد، لذا قيل إن الإسلام يمثل الحنيفية السمحاء (39).
والاعتدال اصطلاحا يشكل النقيض الفكري والعملي للتطرف والارهاب، حيث إن التطرف والارهاب يشير إلى مجاوزة حد الاعتدال وعدم التوسط، وأخذ الأشياء من أطرافها، فالمتطرف من الناس والقوى يمثل العنيف المغالي في قوله أو فعله (40). فلا تراه إلا مُفرِطاً أو مُفَرِطاً. وإذا كان الاعتدال يمثل: "... تلك الفضيلة التي تترك يمينها ويسارها يميلان نحو الرذيلة والتطرف، وتقيم ميزاناً للعدل في الحكم، والخلق الرفيع في السلوك..."(41). فإنه يعني: "... التزام المنهج العدل الأقوم، والحق الذي هو وسط بين الغلو والتنطع، وبين التفريط والتقصير، فالاعتدال وسط بين طرفين هما: الإفراط والتفريط، والاعتدال هو الاستقامة والتزكية والتوسط والخيرية..."(42).
المطلب الثاني: مقومات الاعتدال
عندما قام كاتب هذا البحث قبل سنوات بإعداد دراسة عن الاعتدال السياسي في الإسلام، توصل الى أن الاعتدال عموما، ناهيك عن الاعتدال السياسي من وجهة النظر الإسلامية انما يقوم على ركنين أساسيين هما (43): الاستقامة، والوسطية والشهادة، وهما يشكلان المقومات الأساسية للسير في طريق الاعتدال في عالمنا الإسلامي والتي لا يمكن بدونها التأسيس لمنهج متكامل وقوي البنيان في الاعتدال؛ لإزهاق منهج التطرف والإرهاب بين المسلمين، واضعاف جاذبيته وقدرته على الاغواء والتضليل، فماذا يقصد بهذين الركنين؟
الركن الأول: الاستقامة: -
ويقصد بها الاستقامة في الموقف والسلوك الدنيوي مع الطبيعة والمجتمع، والتزام تحقيق "الدنيا المحمودة" التي تقوم على أمرين هما:(44)
الأول: توحيد الله ورؤية قدرته تعالى وربوبيته في الطبيعة وخيراتها، ووعي العناية الإلهية في تيسيرها للإنسان، وتمكين الإنسان منها بتزويده بالقدرات العقلية والجسدية المناسبة.
الثاني: مراعاة التوازن والاتزان، والعدل... في الأخذ من الدنيا والاستمتاع بها، والتعامل مع الطبيعة، فضلا على ضرورة مراعاة الرفق، والتسامح، والعفو، والمعرفة، وقبول الآخر واحترام قناعاته الفكرية والاعتقادية والسياسية، وأهلية تحمل المسؤولية، والحفاظ على الكيان السياسي للدولة الإسلامية، وعدم تمزيق وحدة المجتمع، والابتعاد عن الطغيان والبغي والعدوان في العلاقة مع الناس – مجتمعاً وأفراداً.
وتظهر أهمية هذا الركن في ميدان الحكم والإدارة –ميدان السياسة-من حقيقة أن الناس كما يقول أحد الباحثين: تبحث في الحاكم عن عدله الذي يرسخ الثقة بينه وبين المحكومين (45). ولا يمكن للعدل أن يسود بدون استقامة الحاكم. فالاستقامة أساس مهم من أسس منهج الاعتدال وبدونها يفقد هذا المنهج فاعليته وقدرته على المقاومة، لذلك يقول ناصر حسين الأسدي في كتابه القيم (جذور الإرهاب: قراءة في ملفات التطرف): "ان الاستقامة رمز الانتصار، ورأس الايمان ونهايتها السعادة والأمل، وان تلك اللحظات التي يستقيم عليها الانسان المسلم، رغم شدتها وضغطها الظاهر، لهي احلى لحظات حياته ولأنه يثبت أكثر فأكثر، جدارته القيادية فيها... (ويضيف) والاستقامة في الحياة، هي من أهم العوامل التي تساعد على تحقيق الأهداف الكبيرة، فالذي يستقيم في وجه الضغوط... هو الذي ينتصر عليها ويستطيع أن يهزمها... والاستقامة لا تعني البقاء على الدين فقط، وعدم الانحراف... وانما هي أن يحطم الانسان بصموده كل الجدران التي تسد طريقه، وأن يستمر في طريق الدعوة الى الله، والجهاد في سبيله..." (46).
الركن الثاني: الوسطية والشهادة: -
إن "الأمة الإسلامية بما هي حاملة لرسالة الإسلام عقيدة، وشريعة، وحضارة، وتجسيد لها، تقف في المركز الوسط المتوازن، ويتمثل التوازن في المسيرة البشرية بين الإفراط والتفريط، وبين الإسراف من هنا، والإسراف من هناك"(47)، والوسطية كما يراها فريد عبد القادر ووافقه على رؤيته الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه القيم (الوسطية في القرآن الكريم) هي: " مؤهل الأمة الإسلامية من العدالة، والخيرية، للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجة عليهم"(48). فهذه الوسطية أهلت الأمة الإسلامية لتمتاز إلى جانب وسطيتها بميزة الشهادة "... فإن الشاهد يجب أن يكون منفصلاً ومتمايزاً عن المشهود عليه (بقية الأمم) ولكن لا يجوز أن يكون منغلقاً عنه، بل يجب أن يكون منفتحاً عليه، متواصلاً معه في آن واحد"(49). لذا تجد إنه في الوقت الذي يقول سبحانه وتعالى: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..{(50)، فإنه سبحانه وتعالى يقول: } كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..{(51). فوسطية الأمة وشهادتها، مقترنة في الآن نفسه بخيريتها وصلاحها، يؤيد هذا الكلام، الفهم اللغوي لمفردة "وسط" في معاجم اللغة العربية حيث أن وسط الشيء: أفضله وأقواه، كذلك وسط القوم أفضلهم وأشرفهم (52).
أن منهج الاعتدال للمسلم –حاكماً ومحكوماً-لا يقصد به أن يكون في منتصف الطريق بين الخير والشر، أو بين الله سبحانه وتعالى والشيطان عليه اللعنة، بل هو دائماً وأبداً مع الله عز وجل، وفي مركز الحق والخير، ليؤهله ذلك لدور الشهادة. وعليه يكون الاعتدال في شريعة الإسلام هو رديف الأخذ بأفضل الأفكار والرؤى والمعتقدات، والسبل وأنماط السلوك والمواقف السياسية، لإدارة الدولة وإصلاح شؤون الناس، تعزيزاً للثقة بين السلطة والشعب، وبين الناس في علاقاتهم بعضهم بالبعض الآخر، وفي علاقاتهم مع بقية الأمم والشعوب (53).
نعم ان قوى الإرهاب بتطرفها الاعمى تريد أن تفرض منهج الاكراه والظلم والجور والعنف المطلق على الناس بحجة الدين أو القومية أو الوطنية وما شابه ذلك، وهذا المنهج يقود في النهاية الى تشويه صورة الدين وضعف الروابط القومية والوطنية وقد يتسبب بانحلالها. أما منهج الاعتدال فبمقوماته المتمثلة بالاستقامة والوسطية والشهادة، يعزز هذه الروابط وينفض غبار التشويه والتضليل عن الأديان من خلال بناء اهم عنصر في معادلات النهوض الحضاري الا وهو الانسان الخير الواثق المطمئن المستنير والصلب، فالإنسان الصالح وحده هو القادر على بناء الحضارة وتحقيق سعادته في الامتداد الطولي لسعادة بقية البشر، وأي منهج لا يقوم على بناء الانسان، أنما يؤسس لفنائه ولو بعد حين، مهما عظمت آثاره التدميرية، وأدواته التضليلية.
المطلب الثالث: أهمية الاعتدال
تبرز أهمية منهج الاعتدال، من خلال ما يتركه من آثار إيجابية مهمة في حياة الأفراد والأمم، ولعل أبرز هذه الآثار ما يأتي:
1- تعزيز قوة القيم الإيجابية.
عندما فتح العرب المسلمون في صدر الرسالة الإسلامية المدن الخاضعة لسيطرة الروم، وراحت جيوش الروم تندحر أمامهم، جمع امبراطور الروم قادة جيشه وحكماء دولته وقال لهم:" انكم اليوم أكثر عددا، وأغزر مددا من العرب، وأكثر جمعا، وأعظم قوة، فمن أين أتاكم هذا الخذلان؟ وقد هزمتموهم مرارا، والآن قد علا عليكم العرب، وهم أضعف الخلق، عراة الأجساد، جياع الأكباد، لا عدد لديهم ولا سلاح، وقد غلبوكم على بصرى وحوران وأجنادين ودمشق وبعلبك وحمص!!
فسكت القادة عن جوابه، ثم قام حكيم يجيبه..قائلا: ان النصر والهزيمة لا يتعلقان بمقادير القوة المادية فحسب، وانما هناك قوى معنوية، ليست أقل قيمة من تلك، ان لم تكن أعظم منها أثرا في ترجيح كفة النصر، وقد علمت أن هؤلاء العرب ذوو أخلاق كريمة، صادقون في ايمانهم، ليس فيهم ظلم ولا عدوان، ولا يتكبر بعظهم على بعض، شعارهم الصدق، وخلقهم الأمانة، تحلوا بالشجاعة وقوة البأس، اذا حملوا علينا لا يرجعون، واذا حملنا عليهم لا يولون، يرون الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء، فلا يرهبون الموت في سبيل أهدافهم، اذا غلبوا عاملوا المغلوبين معاملة سمحة رحيمة، واذا غلبوا لم يثأروا من المستضعفين والمسالمين، اذا عاهدوا حافظوا على كلمة الشرف، ولم ينقضوا الميثاق، ولذا انفتحت لهم قلوب الناس، قبل أن يفتحوا البلاد، فانتصروا بعدد قليل وعتاد قليل.
فلما سمع...(الامبراطور) كلام الحكيم قال له: لقد صدقت، بهذه الشمائل انتصرت العرب علينا لا محالة، ولابد لهؤلاء العرب أن يملكوا ما تحت سريري هذا"(54).
ان سبب الانتصار الوارد في هذه القصة البليغة يشير الى قوة مهمة تتطلب ان تمتلكها الشعوب والأمم الراغبة في التنافس مع غيرها والتفوق في هذه المنافسة الا وهي قوة القيم والمبادئ الإيجابية، فقيم الايمان، والشجاعة، والرفق، والرحمة، والثبات، والكرم، والتسامح، والمحبة، والأمانة، والوفاء، والعدل، والصدق، والتواضع، وعدم الظلم والعدوان، والعلم وغيرها من القيم النبيلة هي المقياس الذي يميز البشر بعضهم عن بعض، وتجعلهم بعدد صغير وموارد متواضعة يحققون ما يراه غيرهم معجزات، وهذه القوة العظيمة في ظل منهج التطرف والإرهاب لا يتم الالتفات اليها، بل ويتم طمسها والسخرية منها، فترى الناس تخشى الإرهابيين وتريد أن تتخلص من شرهم، ولا تجد للإرهابي تأثير الا على الضعفاء من البشر الذين يسهل تضليلهم. ولكن الساحة التي تزدهر فيها هذه القوة ويشتد بنيانها انما تكون ساحة الفكر والسلوك المعتدل، فالمعتدل من الناس فردا ومجموعا يكون محبوبا، ومؤثرا، وطالبا للمعرفة، ويسهل التواصل والتعامل معه، كما أنه يكون ناجحا في أسرته، ومكان عمله، ومحيطه الاجتماعي.
ان التأثير الذي يتركه منهج الاعتدال على فكر وسلوك الافراد والمجموعات يمثل قوة أمضى من قوة السلاح مهما تضخمت القوة الأخيرة، وهذه القوة يطلق عليها البعض أسم القوة الناعمة، تلك القوة التي تحدث عنها أبرز كتابها في الوقت الحاضر، اقصد الكاتب الأمريكي جوزيف س. ناي في كتابه القيم (القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية) فقال عنها:" أنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الارغام أو دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومثله السياسية، وسياساته. فعندما تبدو سياستنا مشروعة في عيون الآخرين، تتسع قوتنا الناعمة"(55). ويضيف منتقدا قوة الاكراه (القوة الصلبة) التي يؤمن بها البعض، ومنهم الارهابيون" من الصعب إدارة منظمة كبيرة بالأوامر وحدها، بل إنك محتاج كذلك الى جعل الآخرين يعتنقون قيمك..." (56)، ".. فاذا كان القائد يمثل قيما يريد الآخرون اتباعها، فستكون القيادة أقل كلفة. والقوة الناعمة ليست شبيهة بالتأثير فقط، اذ ان التأثير قد يرتكز على القوة الصلبة للتهديدات والرشاوى. كما أن القوة الناعمة أكثر من مجرد الاقناع أو القدرة على استمالة الناس بالحجة، ولو أن ذلك جزء منها، بل هي أيضا القدرة على الجذب، والجذب كثيرا ما يؤدي الى الإذعان"(57).
وما سماه جوزيف س. ناي بالقوة الناعمة، سماه غاري هارت بالقوة الرابعة (قوة القيم أو المبدأ) الى جانب اشكال القوة الأخرى (سياسية، واقتصادية، وعسكرية)، وذلك في كتابه المهم (القوة الرابعة: الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين) فقال في مقدمته:" في حالة الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين فان قدراتها: اقتصادية، وسياسية، وعسكرية وفي كل صنف من هذه القدرات التقليدية يوجد لدى الولايات المتحدة درجات من الضخامة، هي أكبر من قدرات أي أمة أخرى، صديقة أو منافسة. وهي في حالة القدرة العسكرية، أكبر من قدرات معظم أقوى الأمم العديدة التي تلي أمريكا مجتمعة. وتمتلك أمريكا أيضا قدرة رابعة، هي قوة المبدأ، وهي القدرة التي يمكن أن تكون بحق واحدة من أعظم أصولها في القرن الحادي والعشرين. والكثير يعتمد على استخدام هذا الأصل، وعلى كيفية استخدامه"(58).
صفوة القول، ان القوة الأساسية لمنهج الاعتدال هي أنه يعزز قوة القيم أو المبادئ بين المسلمين، ويقوي جاذبيتهم وتفاعلهم الإيجابي مع بقية الشعوب والأمم على المدى الطويل، لتكون النتيجة شيوع المحبة والسلام بين الناس، على خلاف ما يفعله منهج التطرف والإرهاب، الذي على الرغم من تضليله وجاذبيته الجزئية، فأنه يبقى منهجا موتورا، يثير الخوف والرعب، ويشوه صورة المسلمين وينفر العالم منهم، وعمره محدود على كل حال.
2- تعزيز منظومة الأمن والسلم المدني
تبرز قيمة منهج الاعتدال من خلال تأثير سيادته على منظومة الأمن والسلم الأهلي في مجتمعاتنا الإسلامية، فعندما يكون الاعتدال أساس البناء الفكري والسلوكي للناس، سيحفزهم الى التعامل مع بعضهم البعض بحرية وأمان، وحينها لن يكون اختلاف الرؤى منطلقا لاستباحة الآخر-دما، وعرضا، ومالا، ودينا-بل ان الاختلاف يكون مفتاحا للتأمل في الحقائق، ومنطلقا الى الابداع، والتميز، وحرية الرأي. فالناس لا يخشون من ابداء رأيهم المختلف عندما يشعرون أنهم لن يهتكوا بسببه، وعندها يسود الامن بينهم حتى في أشد حالات الاختلاف، وسينعكس ذلك الأمن الفردي والاجتماعي على بناء السلم الأهلي، فالأمن بين البشر يشيع السلم العام بينهم. وعلى خلاف ذلك يفعل منهج الإرهاب والتطرف، فأنه ينغلق على الذات، ويزداد عنفا وإرهابا كلما زاد انغلاقه، فيكفر الناس على آرائهم ومعتقداتهم، ويستبيح كل محرماتهم مهما علت قيمتها وجل قدرها، وسيكون الخوف حاكما، وعدم الأمان أساسا في النظرة الى الرأي المختلف.
3- زيادة الوحدة والتماسك الاجتماعي
من الثمرات الإيجابية المهمة لمنهج الاعتدال هي أنه يزيد من الوحدة والتماسك الاجتماعي داخل مجتمعاتنا الإسلامية، فالاعتدال بقيمه الإيجابية، وحالة الأمان والسلم المصاحبة له، يقود الى خلق الرغبة في التعايش بين الناس، والتعايش لا يكون الا مع وجود الثقة، وطالما ان الثقة بين الافراد غالبا ما تكون النتيجة الحتمية لتنامي مشاعر المحبة والألفة والامن والسلم في المجتمع، فان النتيجة المنطقية الأخرى هي تعزيز الرغبة في التعايش، وعندها يتحول المجتمع من مرحلة الصراع أو النفور المتبادل بين الافراد الى مرحلة التنافس الإيجابي البناء الذي يكون قاعدته المهمة هي مبدأ التعايش. وهذا ما لا يستطيع تحقيقه منهج الإرهاب، الذي غالبا ما يأتي الى المجتمعات فيهتك مقدساتها، ويشتت جمعها، ويخرب قيمها، فتتحول الى مجتمعات متصارعة، تعمها الكراهية، والغضب، والمشاعر الفردية والجماعية المتفرقة، ولا يحتاج الأمر الى دليل، فالأدلة ناصعة كالشمس في رابعة النهار، يشهد عليها تاريخ الإرهاب في حياة المسلمين في ماضيهم، كما يشهد لها تاريخهم المعاصر، وما يجري في العراق وسوريا واليمن والبحرين ومصر وليبيا وتونس وغيرها من بقاع العالم الإسلامي دليل حاضر على النتائج الكارثية لمنهج الإرهاب على الوحدة والتماسك الاجتماعي.
4- الانفتاح الإيجابي على الآخر
من الميزات المهمة التي يتركها منهج الاعتدال على سلوك معتنقيه هو انفتاحهم الإيجابي على الآخر، سواء أكان الآخر شريك في الدين أم المذهب أم الوطن أم القومية أم الإنسانية، فهذه المسميات لن تغدو عوائق للتعامل مع الآخرين، وانما على العكس تصبح عوامل اثراء للمعرفة الشخصية والعامة، فالآخر ليس عدوا دوما لابد من محاربته، بل هو مجرد انسان آخر مختلف بفكره وسلوكه يمكن أن أنفعه وأنتفع منه، واتفاهم معه على قواسم مشتركة، واتعاون معه كذلك على تشييد حضارة إنسانية افضل تزدهر فيها القيم، ويحيا فيها الجميع بسعادة، لذلك غالبا ما تكون الشعوب المتفوقة والمتقدمة أكثر انفتاحا على الآخر من غيرها، وكلما زاد التخلف قل الانفتاح وعم الجهل والظلام. فالانفتاح الإيجابي على الآخر من مزايا منهج الاعتدال، وعلى العكس منه منهج الإرهاب، فالأخير لا ينظر بترحاب لأي انفتاح على الآخر، فالآخر هو العدو الذي يجب محاربته والقضاء عليه، وهو الخطأ والظلام الذي أما ينتمي لي واما اصفيه؛ لهذا السبب تجد كل الدول والحركات المتطرفة والإرهابية دولا وحركات مقاتلة، تقاتل أبناء جلدتها في داخل بلدانها، وتقاتل الأجانب خارجها، وتهدد السلم والأمن الدوليين بشكل خطير للغاية.
نخلص مما تقدم في هذا المبحث الى ما يلي:
- ان الاعتدال يمثل الخيار الاستراتيجي الصحيح لمحاربة الإرهاب إسلاميا وكذلك عالميا؛ لما ينطوي عليه هذا المنهج الإسلامي الاصيل من مقومات قوة واقتدار ركنها الأول الاستقامة بما يتضمنه من وحدانية الله وخشيته، ورفق، ولين، وقبول الآخر في ظل منظومة أخلاقية رفيعة تنمي الفضائل وترسخ العدل، وركنها الثاني الوسطية والشهادة بما يحمله من خيرية، وثبات، وعلم يؤهل الامة الإسلامية لتكون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتكون أمة شاهدة على غيرها من الأمم.
- ان أهمية منهج الاعتدال تبرز من المزايا والآثار الحسنة التي يتركها على حياة الناس، فهو يعزز قوة القيم الإيجابية، كما يعزز منظومة الأمن والسلم المدني، ويزيد الوحدة والتماسك الاجتماعي، كما يشجع الانفتاح الايجابي على الآخر بصرف النظر عن العرق واللون والانتماء الديني والفكري. وهذه الآثار الإيجابية الناجمة عن تفعيل منهج الاعتدال في حياة الناس تمثل المرتكزات الأساس لبناء مجتمعات إنسانية عموما وإسلامية على وجه الخصوص تكون مؤهلة لعيش حياة أفضل في القرن الحادي والعشرين، كما تمثل في جوهرها العلاج الناجع للأمراض الاجتماعية التي يعانيها البشر في علاقتهم ببعضهم كأفراد ام كشعوب وأمم.
- ان الانسان روح ومادة، ولا يمكن لخراب الروح ان ينتج مادة صالحة إيجابية التفكير والسلوك، كما لا يمكن لخراب المادة جعل الروح تتسامى وتصقل مواهبها ومعارفها بصورة رشيدة، وان شيوع منهج الإرهاب ناجم في حقيقته من الخراب في واحد من الجانبين. اما منهج الاعتدال برؤيته الإسلامية الاصيلة فانه يأتي لبناء الروح والمادة، فتكون ذات الانسان ومحيطه في انسجام تام، كما تكون علاقته الدنيوية متماهية مع عالم الغيب بشكل يحفز الانسان على بناء صورة مصغرة لعالم الغيب وما يتمناه من حياة أخرى في حياة دنيوية هو يمسك زمام المبادرة والفعل فيها، فما احوج البشر الى هذا المنهج لإنقاذهم من التحديات الخطيرة التي تعترضهم في قرنهم الزماني الجديد، وتنذرهم بإتلاف كل ما يقدسونه ويعتزون به في حياتهم.
المبحث الثالث: ضمانات ترسيخ منهج الاعتدال في الواقع الإسلامي
ان مجرد الاعتقاد بوجود منهج الاعتدال لا يعني بالضرورة سيادته في ساحة الفكر والعمل السياسي والاجتماعي، بل الواقع التاريخي والمعاصر في حياة المسلمين يشير الى تحكم التطرف بشكليه الافراط والتفريط في أنظمة الحكم القائمة، وفي علاقات الناس العامة والخاصة، ومن أجل جعل الاعتدال منهج حياة للمسلمين، وأساس قوي لبناء دول مدنية عصرية وحضارية تعزز السلم والأمن في العالم، لا بد من وجود ضمانات معينة ترسخه وتعمقه بين الناس، وهذه الضمانات تأخذ بعدين: الأول من خارج العالم الإسلامي، والآخر من داخله.
المطلب الأول: ضمانات من خارج العالم الاسلامي
تمثل تلك الضمانات التي يوفرها المحيط غير الإسلامي في تعامله مع المسلمين_ دينا وحضارة وانسان_ لاسيما ما يرتبط منها بالحضارة الغربية المتسيدة للحضارات والثقافات العالمية في الوقت الحاضر، ومن هذه الضمانات ما يلي:
1- ابعاد تهمة العنف والإرهاب عن المسلمين، ومد جسور الثقة والتعاون معهم.
في كتابه الشهير (صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي) يقول صموئيل هنتنغتون: ان المسلمين المعاصرين "...بأعدادهم الهائلة...يتجهون نحو الإسلام كمصدر للهوية، والمعنى، والاستقرار، والشرعية، والتطور، والقوة، والأمل، الأمل كما يلخصه الشعار الإسلام هو الحل. هذا الانبعاث الإسلامي، أو الصحوة الإسلامية... في مداه وعمقه هو آخر مظهر في تكييف الحضارة الإسلامية مع الغرب. انه مجهود لإيجاد حل ليس في الأيديولوجيات الغربية، ولكن في الإسلام، انه يجسد الحداثة، ورفض الغربنة، واستعادة الالتزام بالإسلام كمرشد في الحياة في العالم المعاصر"(59)، ويؤكد ما ذهب اليه هنتنغتون الكاتبان ريتشارد كوك وكريس سميث في كتابهما القيم (انتحار الغرب)، لكنهما يجعلان كل الثقافات غير الغربية المعاصرة، وليست فقط الثقافة الإسلامية، ثقافات مقاومة لنزعة التغريب الى أقصى حد. (60)
ان هذا الواقع الثقافي والحضاري العالمي يقتضي من الغرب تكييف وضعه بالشكل الذي يمد جسور الثقة والتعاون بين الثقافات العالمية المتنوعة، لكن الخطاب الغربي بمجمله لا يفعل ذلك فيما يتعلق بتوجهاته نحو العالم الإسلامي، فبعد أن قال هنتنغتون ما قال عن أهمية الإسلام في حياة المسلمين المعاصرين، تجده في موضع آخر من كتابه المذكور آنفا يوجه مسار الخطاب الى مزيد من التصعيد والصراع بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية بقوله: "... صراع القرن العشرين بين الليبراليين والديمقراطيين والماركسيين اللينينيين ظاهرة سطحية زائلة مقارنة بالعلاقة التصارعية العميقة بين الإسلام والمسيحية..."(61)، جاعلا من الإسلام عدوا تاريخيا مستمرا للغرب، لا يمكن الثقة به والتعاون معه. ويتوافق كلامه هذا مع الخطاب الغربي المعادي للإسلام والمسلمين، والذي تصاعدت وتيرته بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991، اذ برزت منابر فكرية عدة تبشر بهذا العداء، وتدعو الى الاستعداد له، فهذا الرئيس الأمريكي الاسبق ريتشارد نيكسون يحذر الغرب وأمريكا من الإسلام بالقول: "أن الإسلام سوف يصبح قوة جيوسياسية مستعصية، فمن خلال نمو سكانه، ومن خلال تبوئه مركزا ماليا مهما، سيفرض تحديا رئيسيا يتحتم على الغرب أن يقيم تحالفا جديدا مع موسكو للتصدي لعالم إسلامي معاد وعدواني"(62).
وعندما حلل هنتنغتون أسباب العنف في الواقع الإسلامي تكلم بكلام بعيد عن الموضوعية، بقوله:"... الإسلام منذ البداية كان دين السيف، والإسلام انتشر بالسيف، ويثمن ويعظم القيم والفضائل العسكرية. الإسلام نشأ وظهر بين قبائل البدو الرحل المتقاتلين، وهذا الأصل العنيف طبع في تأسيس الإسلام. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يذكر ويشار له كمقاتل صعب وقائد عسكري ماهر. لا أحد يقول هذا حول المسيح أو بوذا... العقيدة الإسلامية تطرح الحرب ضد غير المعتقدين، وعندما يتوقف التوسع الإسلامي، الجماعات الإسلامية مخالفة للعقيدة يتقاتلون فيما بينهم، معدل الفتنة أو الصراعات الداخلية بالنسبة للجهاد تحولت دراماتيكيا لصالح الأول. القرآن والأحاديث لا يحتويان الا على القليل من الحظر على العنف ومفهوم اللاعنف غائب من العقيدة والممارسة عند المسلمين"(63)، ومثل هذا الكلام يحتاج الى التأمل في بعض مفرداته من قبل المسلمين، الا أنه بالمجمل غير موضوعي؛ لكونه يجعل رسول الإسلام صلى الله عليه وآله قائد حرب وعنف ودمار- متناسيا ما ترسمه الادبيات الإسرائيلية المزيفة لأنبياء بني إسرائيل- مقارنة بالمسيح وبوذا من جانب، ومن جانب آخر فان قائله غير مطلع بشكل صحيح على نصوص القرآن والسنة؛ ليعرف مقدار التأكيد فيهما على السلم واللاعنف في العقيدة الإسلامية، كذلك هو غير مطلع بشكل دقيق على أوضاع الجزيرة العربية في وقت ظهور الرسالة الإسلامية، لذا اعتقد ان الإسلام ظهر بين قبائل بدوية متقاتلة.
تأسيسا على ما تقدم، يمكن القول: ان الخطاب الغربي المعادي للإسلام والمسلمين من جهة، وتحميلهم مسؤولية العنف والإرهاب العالمي من جهة أخرى، في وقت أصبح فيه الإسلام مصدر القوة والالهام والهوية لكثير من المسلمين من شأنه أن ينمي مشاعر العنف والتطرف عند المسلمين في علاقتهم مع الآخر، ويدفع الخطاب السياسي المعتدل بعيدا عن ساحة الفكر والعمل لمصلحة الخطاب المتطرف الهدام؛ "... كنزعة حمائية ضد الخطر الخارجي الذي يتهدد الكيان المادي والرمزي للمسلمين"(64). وعليه، فإن الغرب مطالب أن يدرك أن مشاكل الحضارة العالمية المعاصرة، كالإرهاب، والتلوث، والتغيرات المناخية، والحاجة الى الطاقة، والتكامل الاقتصادي، والفقر، والاوبئة، وما شابه، لا يمكن معالجتها من قبل طرف دولي واحد مهما بلغت قوته، بل هي تحتاج الى تعاون جميع البشر، ومن كل الثقافات، وهذا يتطلب اعتماد منهج الاعتدال من الجميع، وترسيخ هذا المنهج يقتضي نزع تهمة العنف والإرهاب عن المسلمين، ومد جسور الثقة والتعاون معهم؛ لترجيح كفة الخطاب المعتدل على كفة الخطاب المتطرف داخل العالم الإسلامي وخارجه.
2- احترام مقدسات المسلمين
ان العقائد كالمسامير، كما يقال، فكلما زاد الطرق عليها زادت ثباتا ورسوخا، ومن يتعامل مع عقائد البشر، عليه أن يظهر الاحترام والتقدير لها؛ لكونها مقدسة وذات أبعاد عميقة في نظر معتنقيها، والغرب احتج بشدة على حركة طالبان عندما قامت بتهديم تماثيل بوذا في أفغانستان، وعدها اعتداء على المقدسات، لكنه يتعامل بازدواجية واضحة مع مقدسات المسلمين سواء في بعض وسائل الاعلام الغربية التي تنطوي رسالتها الإعلامية اتجاه المسلمين على السخرية والاستهزاء والتهكم القاسي (65)، أو من خلال بعض الممارسات غير المسؤولة التي ينتج عنها استفزازا كبيرا لمشاعر المسلمين من قبيل ما نشرته صحيفة يولاندس بوستن الدنماركية، وصحيفة ماجيزن النرويجية، وصحيفة دي فيلت الألمانية، وصحيفة تشارلي ايبدو الفرنسية وغيرها من الصحف الغربية في عامي 2005 و2006 من رسوم مبتذلة مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وآله(66)، وما قام به القس الأمريكي تيري جونز عامي 2011 و2012 أمام سمع وأنظار وسائل الاعلام والمسؤولين في الغرب من احراق لنسخ من القرآن الكريم (67)، وتكرار هذه الحادثة من قبل بعض الجنود الامريكان في قاعدة باغرام في شمال أفغانستان مطلع العام 2012 (68)، وغير ذلك من الممارسات الغربية غير المسؤولة.
ان السلوك الغربي الذي لا يحترم مقدسات المسلمين ورموزهم الروحية المعتبرة من شأنه أن يؤجج مشاعر العنف والعداء، وسيادة خطاب التطرف بين المسلمين، وهذا ما توصل اليه مؤلف كتاب (الإسلام وما بعد الحداثة) عندما ذكر أن الخطاب الغربي الحالي اتجاه مقدسات المسلمين من شأنه أن يدفع المحبطين من الغرب الى مزيد من العنف والغضب، الذي سيقودهم الى اللجوء الى وسائل وأساليب غير إسلامية للتعبير عن هويتهم الإسلامية (69).
3- منهج الاعتدال لا يعني تبني وجهة النظر الغربية والإسرائيلية
من الأخطاء الشائعة في الغرب هو العمل على تقسيم العالم الإسلامي الى معسكرين: معسكر المعتدلين، ومعسكر المتطرفين، والمنتمين الى المعسكر الأول هم كل أولئك -أنظمة وشعوبا-الذين يتبنون مواقف الغرب السياسية، ولا يهددون مصالح إسرائيل في المنطقة حتى لو كانوا طغاة جبارين يمتهنون كرامة شعوبهم ولا يحترمون حقوق وحريات الانسان المعترف بها عالميا. أما المنتمين الى المعسكر الثاني فهم كل الذين لا يتبنون المواقف الغربية والإسرائيلية (70). وهكذا تقسيم للمسلمين يعد خطأ جسيما يتنافى مع مبادئ العدل والانصاف، والاتزان والحكمة، والوسطية، والخيرية، والأفضلية التي تميز منهج الاعتدال، لذا من الضروري إعادة النظر فيه انطلاقا من الايمان بأن منهج الاعتدال قد يتوافق أحيانا مع المواقف السياسية الغربية، وقد لا يتوافق اطلاقا مع هذه المواقف في أحيان أخرى. والتعامل مع المسلمين على أساس هذا الفهم سوف يساعد على ترسيخ هذا المنهج-فكرا وعملا-في حياتهم، وبما ينسجم مع مبادئ العدل والاحترام المتبادل بين الغرب والمسلمين.
المطلب الثاني: ضمانات من داخل العالم الإسلامي
ان الضمانات الخارجية على أهميتها، لا يمكنها لوحدها النجاح في ترسيخ منهج الاعتدال في عالمنا الإسلامي، بل لابد من توفر ضمانات أخرى منبعها العالم الإسلامي ذاته، وربما تكون هذه الضمانات أقوى وأكثر فاعلية في تأثيرها؛ لأن محنة المسلمين مع التطرف والإرهاب سببها الأول وجود ثغرات وأعراض مرضية تحكم علاقة المسلم بأخيه المسلم، ومن هذه الضمانات ما يلي:
1- رفض سيادة ثقافة أنصاف المتعلمين
المقصود بأنصاف المتعلمين هم أولئك الذين أخذوا من العلم والمعرفة لاسيما الدينية قشورها، ولم يسبروا الاغوار العميقة والدقيقة التي تشكل اللب والجوهر، وهم على عجزهم وتقصيرهم نصبوا أنفسهم أئمة يفتون بالحلال والحرام، ويكفرون هذا ويبيحون دم ذاك من خلال فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وقد أشار الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الى ضرر مثل هؤلاء الفادح بقوله:" ان أبغض الخلائق الى الله رجلان: رجل وكله الله الى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن أفتتن به... ورجل قمش جهلا، موضع في جهال الأمة... قد سماه أشباه الناس عالما وليس به... فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ...لم يعض على العلم بضرس قاطع، يذري الروايات اذراء الريح الهشيم... تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج منه المواريث، الى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا، ويموتون ضلالا.."(71).
والحق الذي لابد أن يقال أن هذين الرجلين الذين يشكوا منهما الامام علي عليه السلام ما أكثر نظرائهم في عالمنا الإسلامي المعاصر وعلى كافة المستويات العلمية الفقهية والأكاديمية والسياسية والثقافية... مما جعل ضياع الحقوق، وانعدام العدالة الاجتماعية، وغياب الحريات، وسيادة خطاب الاستبداد والدجل والشعوذة المنحرف نتيجة واضحة وأثرا خطيرا من آثارهم السلبية الكثيرة، فيصدق على واقع كثير من المسلمين اليوم قول الامام علي عليه السلام " انما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى رجال رجالا على غير دين الله..."(72)، ولا يمكن لمنهج الاعتدال أن يصلب عوده، ويرسخ وجوده طالما يتسيد المشهد في عالمنا الإسلامي أمثال هؤلاء بثقافتهم البائسة والهزيلة. وعليه فان طلب العلم والمعرفة الحقيقية، والتحرر من سطوة الجهلة وانصاف المتعلمين الحمقى يعد ضمانة مهمة جدا لانطلاق منهج الاعتدال في مشروع إصلاحي شامل.
2- الاعتدال ثقافة شاملة
يتطلب منهج الاعتدال الايمان الحقيقي والعميق بكونه ثقافة شاملة تحتوي الفكر والسلوك الإنساني، وليس مجرد حديث نخبوي، ومنهج عمل ترفيهي يمكن تجربته في موقف والتخلي عنه في مواقف أخرى، أو الاعتقاد به فكرا والتنكر له سلوكا. والتخلص من الثقافة المتطرفة الإرهابية بفكرها وسلوكها المؤذي يقتضي إحلال الثقافة النقيضة لها محلها أي ثقافة الاعتدال، ويمكن الاستدلال على السبيل الى ذلك بقول الامام علي عليه السلام الذي جاء فيه: " فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان، ونخواته، ونزغاته ونفثاته، واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم، والقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلع التكبر من أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم ابليس وجنوده، فان له من كل أمة جنودا وأعوانا، ورجلا وفرسانا، ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة وحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين الى يوم القيامة..."(73).
ويوجه الامام عليه السلام الناس الى الشكل المحمود من العصبية، بقوله:"... فان كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء، والنجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والاحلام العظيمة، والاخطار الجليلة، والآثار المحمودة، فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والاعظام للقتل، والانصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض، واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فاذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية فيه عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها"(74).
ان هذه الاقوال تمثل فلسفة كاملة تحدد خطر التطرف والارهاب، ومنبعهما الفكري، ومنظومتهما القيمية المتهالكة، كما توضح قيمة وقيم منهج الاعتدال التي تعزز وجوده، وتعطي الشعب والأمة التي تعمل به الريادة والسبق والدوام والرقي، وكل ذلك لا يمكن ادراكه الا بالإيمان بمنهج الاعتدال فكرا وسلوكا وقيمة عليا وطريق الى مستقبل أفضل في حياة المسلمين، ومن مقتضيات الايمان الحقيقي بهذا المنهج هو عدم تهميش واستبعاد الآخر تحت مسميات وحجج مختلفة؛ فـ "... الاستبعاد يزيد من التطرف؛ لأنه يجعل المرء يشعر بالعزلة وفقدان الأحقية، بينما نجد الاستيعاب يشجع الاعتدال؛ لأنه يشكل دعامة للنسيج الاجتماعي والسياسي بما يحقق نوعا من الانسجام والتفاهم بين القوى المختلفة داخل المجتمع، هذا ينطبق على القول كما ينطبق على الفعل، فالتطرف الفكري يؤدي بلا شك الى التطرف في الممارسة.."(75).
ويتطلب استيعاب الآخر؛ من أجل تحقيق الانسجام معه عدم اقصائه ولو باسم الاعتدال، كما وقع في هذا الشرك عدد من الكتاب الذين أرادوا محاربة التطرف والغلو باسم الاعتدال، الا أنهم تطرفوا وغالوا من حيث لا يشعرون، متعكزين على حديث الفرقة الناجية أو المنصورة، فهذا صالح بن غانم السدلان يقول في بحثه (مفهوم الغلو في الكتاب والسنة): "والطائفة المنصورة...هم أهل السنة النبوية، أهل الحديث، وأهل الأثر والاتباع، وهم المفارقون لجميع أهل التفرق والابتداع، وأهل الآراء والأهواء، وهم وحدهم الداعون الى ما يجمع الامة ولا يفرقها... فمن استجاب الى ذلك قولا وعملا وسلوكا كان من الطائفة المنصورة"(76)، ومثل هذا الموقف المتناقض تجده لدى مواطنه ناصر بن عبد الكريم العقل في بحثه الموسوم (مفهوم الوسطية والاعتدال)، اذ يقول: "... فأهل السنة هم في جملتهم العدول الخيار، أهل التوسط والاعتدال في كل أمور الدين: عقيدة وعلما وعملا وأخلاقا ومواقف، وسط بين الغلو والتقصير وبين التفريط والافراط في سائر الأمور."(77)، كذلك يرد مثل هذا الموقف لدى محمد بن عمر بازمول في بحثه الموسوم (أدلة الوسطية في القرآن والسنة)، اذ يقول:".. وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل، فهم وسط في باب صفات الله عز وجل... وهم وسط في باب أفعال الله عز وجل... وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم... وهم ضياء هذه الأمة" (78)، والمواقف الفكرية والسلوكية من هذا القبيل كثيرة، أذ يحاول أصحابها محاربة الغلو والتطرف الا أنهم لا يلبثون الا أن يكونوا غلاة متطرفين، عندما يعطون لأنفسهم أو فئتهم أو حزبهم أو ملتهم الحق كله، فيما ينزعون الحق والشرعية ممن سواهم، وهكذا مواقف من شأنها تعميق الشقاق والخلافات بين الناس، وتوقعهم في أتون صراعات لا طائل من ورائها، ولا ضرورة فكرية أو عملية تستدعي تأجيجها.
3- العمل بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقاعدة أحب لأخيك ما تحب لنفسك.
من الأمور المسلم بها بين عموم المسلمين هو أن المقاصد الشرعية للشريعة الإسلامية هي خمسة: حفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل، وملخص هذه المقاصد يتمحور حول قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولا توجد مفسدة تهدد حياة الانسان والحضارة في العالم الإسلامي أشد ضررا من مفسدة التطرف والتعصب بجانبيه الفكري والسلوكي، وهذه المفسدة مع تصاعد وتيرتها ينسدل الستار على أي مصلحة متوقعة منها مهما كان ادعاء المتطرفين والمتعصبين الذين يقفون ورائها، لذا فان العمل بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وعد التطرف والإرهاب مفسدة يجب درء شرها وتجنيب المجتمعات الإسلامية خطرها سيكون مفيدا جدا لترسيخ منهج الاعتدال، وتعميق جذوره في الثقافة الإسلامية المعاصرة.
ولا تقل عن هذه الفائدة، فائدة العمل بقاعدة أخرى مهمة الا وهي قاعدة أحب لأخيك ما تحب لنفسك، فأساس العدل والانصاف وحسن النية هو العمل بهذه القاعدة، وتعميم الايمان بها في حياة المسلمين الفكرية والسلوكية له من الفوائد الجمة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي ما لا يحصى عده، ولا يدرك نفعه، لذا يجد المتابع والمهتم بعلوم الأديان والمجتمعات أن كل الفلسفات المؤثرة القديمة والجديدة قد ركزت على هذه القاعدة، فهذا بطرس تلميذ المسيح عليه السلام، يسأله عن الكيفية التي يمكن بها اصلاح انسان آخر، فيرد عليه:" بالطريقة التي تحب أنت أن تصلح بها، فكما تريد أن تعامل بالحلم هكذا عامل الآخرين، صدقني يا بطرس لأني أقول الحق أنك كل مرة تصلح أخاك بالرحمة تنال رحمة من الله وتثمر كلماتك بعض الثمر، ولكن اذا فعلت ذلك بالقسوة يقاصك عدل الله بقسوة ولا تأتي بثمر... (79).
4- وجود مشروع سياسي معتدل
من الضرورات التي لا غنى عنها لضمان انعاش منهج الاعتدال ومده بطاقة الحياة والفاعلية في المجتمعات المسلمة هو وجود مشروع سياسي يتمحور حول منهج الاعتدال تنصهر في تثبيت اركانه، وتحديد معالمه، ونمط علاقاته الفردية والجماعية، وقواعد العمل بين الحاكم والمحكوم طاقات بشرية عدة من الفقهاء، والعلماء، والمثقفين، ورجال السياسة، وجماعات الضغط والمصالح والفعاليات الرسمية والشعبية... بشكل يضمن تحوله من مجرد رغبات واحلام تراود البعض، الى تيار تاريخي قادر على امتلاك زمام المبادرة؛ من اجل بناء الدولة التي تتبناه؛ لتكون نموذجه التطبيقي الذي يقتدى به؛ والسبب الدافع الى وجود هكذا مشروع هو أن مواجهة مشروع التطرف والإرهاب لا يقتصر على الدعوة الى الاعتدال في الأكل والشرب والانفاق والزينة وبقية متطلبات الحياة العبادية والمعيشية للإنسان المسلم، بل لا بد من التبشير بما هو أكثر حاجة من ذلك الا وهو وجود المشروع السياسي المعتدل الذي لديه طاقة الجذب للناس والقادر على المنافسة والانتصار على مشروع العنف والتطرف.
ان غياب هذا المشروع لا يضعف منهج الاعتدال فحسب، بل يضعف أي منهج مهما كان نوعه ومحتواه؛ لأن تحول الأفكار من ميدان العقل الى ميدان العمل بحاجة الى سلطة تثبت نجاحها وتزيد زخمها واستمراريتها. والعلة الحقيقية في بقاء قيم المحبة والسلام والعدالة الاجتماعية والمساواة والرحمة وما شابه ذلك من قيم اسلامية أصيلة مجرد قيم مثالية فوقية في حياة المسلمين، هو غياب المشروع السياسي المستوعب حقا لها، والمجسد لوجودها على أرض الواقع، وهذا ما لا يمكن القبول به من قبل الداعين الى محاربة التطرف والإرهاب الاعمى.
5- تصحيح العلاقة بين المسلمين وتاريخهم
يقف المسلمون اليوم على قمة ماضيهم التاريخي بكل ما حفل به من أحداث بمآسيها ومآثرها، ومنطق الحال يجعلهم حكام على هذا السجل التاريخي الطويل، يستفيدون من عبره، ويصححون اخطائه، ويجعلون ذلك أساسا لانطلاقهم في بناء الحاضر والمستقبل. لكن للأسف واقع الحال خلاف ذلك، فتاريخ المسلمين لازال حاكما عليهم بشخوصه واحداثه، وبصراعاته وتناقضاته، فالعالم الإسلامي اليوم أسير ماضيه، تلمس ذلك في مناهجه الدراسية السائدة، وخطاباته السياسية والدينية المختلفة، وتشكيلاته المؤسساتية، وأنظمته الحاكمة، وعلاقات شعوبه وانماط تواصلها السلوكية، وما تجده يتناقض مع هذا الكلام هو الاستثناء المحاصر لا القاعدة الفاعلة. ولا يمكن لفرد أو أمة إعادة بناء ذاته/ذاتها مالم يتحرر من قيود ماضيه، ويصبح ماسكا بزمام المبادرة في بناء حاضره ومستقبله، فظروف الزمان والمكان متغيرة، وهذه سنة الحياة، ولا يمكن للعاقل تكرار أخطاء الماضي أو ترك الاستفادة من تجاربه الجيدة؛ لتوظيفها من اجل التقدم الى الأمام وفقا لآليات تنسجم مع الحاضر الذي يعيشه، وبناء رؤيته الى المستقبل الذي يحلم به.
ان نقد التاريخ أمر ضروري لمن يريد النهوض الحضاري، وقد التفت الى هذه الحقيقة عدد من الكتاب، ومنهم على سبيل المثال الأستاذ نبيل هلال فقال:" يرى بعض الغافلين أنه من حسن التدين عدم النظر في أخطاء السلف والتابعين، وكأنهم معصومون، ولا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، فيرون عدم انتقاد معاوية بن أبي سفيان، بدعوى أنه صحابي، ولا يجوز رميه بالاستبداد، أو محاكمته أمام التاريخ، بتهمة أنه أول من أصل الاستبداد السياسي في الدولة الإسلامية؛ لأنه من كتبة الوحي، ولم يعلموا أن كتابة الوحي ليست بعاصمة له.." [80). ويضيف الأستاذ هلال مبينا وجهة نظره التي نعتقد أنها صحيحة ومهمة جدا لمن يريد الحرية والكرامة الإنسانية: " والحاكم الذي يستأثر بكرسي الحكم حتى يموت مستبد، والذي يوصي بولاية العهد لذويه وأقاربه مستبد، والذي ينهب مال الأمة مستبد، والحاكم الذي يحرص على تجنب مزاحمة أحد له، أو أن يحول دون أن يلمع نجم غيره على الساحة السياسية مستبد، والذي يستولي على السلطة بالغلبة وحد السيف مستبد"[81).
بناء على ذلك، يمكن القول: ان ترسيخ منهج الاعتدال في حياة الامة الإسلامية غير ممكن مالم تصحح علاقتها مع تاريخها، وتمتلك الجرأة على محاسبة هذا التاريخ، فتعلن براءتها من كل الأشخاص والاحداث الذين أسسوا لمنهج الإرهاب، ونزع القدسية عن كل مقدس مارس الجور والظلم باسم الدين، فالأديان انما وجدت لتعزز الكرامة الإنسانية للبشر لا لتكرس حكم الإرهاب والجور، وفي الوقت الذي يمتلك الانسان المسلم لهكذا جرأة وتحليل موضوعي ناقد للماضي عندها فقط ستينع شجرة الاعتدال ويقوى عودها، وستمتلك الامة الإسلامية القدرة على الفعل في عالم معاصر لن يستفيد منه من وضع نفسه مجرد خاضع لرد الفعل على آخرين امتلكوا الجرأة والقدرة على المبادرة والفعل.
الخاتمة
الإرهاب بمشروعه الهدام لم يعد خطرا يهدد فئة دون أخرى أو فرد دون أخر أو طائفة دون أخرى أو دين دون آخر، بل هو يهدد الجميع في العالم من مسلمين وغير مسلمين، مستهدفا زرع الرعب والخوف والدمار، وتخريب كل ماله قيمة إنسانية وحضارية، والوضع بات يتطلب موقفا موحدا من الجميع لدفع هذا الخطر الداهم قبل فوات الأوان، ولا يمكن محاربة هذا المشروع الا بالعودة الى المناهج الإنسانية التي تبني ولا تهدم، وتمد جسور الثقة بين الناس ولا تقطعها، وتنشر المحبة والتعاون والتسامح والقيم الفاضلة بدلا من الكراهية والخوف والألم والانحطاط، وتقيم نظام الحكم على موازين العدالة والمساواة والرضا العام بدلا من الظلم والاستبداد، ولن تجد الإنسانية بين هذه المناهج خيرا من منهج الاعتدال ليكون طريقها المخلص من كل ما هو شرير؛ ويمهد السبيل الى مستقبل انساني يحقق الخير والسعادة للجميع.