الإصلاح السياسي والتعددية في المجتمع العراقي

د. علي مهدي

2018-09-23 05:05

عاش العراق مدة من عدم الاستقرار السياسي بسبب الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي جثمت على صدره لأكثر من نصف قرن والتي جاءت عبر الانقلابات العسكرية وكانت السبب في الحروب التي خاضها على المستوى الداخلي ومع دول الجوار والولايات المتحدة وحلفائها، وقد حرم الشعب خلال تلك الفترة من التمتع بالحياة الدستورية وما تعنيه من وجود مؤسسات لها الاستقلالية وكذلك حرمانه من ممارسة أي مظهر من مظاهر الديمقراطية التي كانت تتمتع بجزء منها بعض البلدان القريبة، مما حرم فئات واسعة من الخوض في الحياة السياسية وما تتميز به في الحرية بالتعبير والحوار وتقبل الرأي الآخر ووجود معارضة وإمكانية التداول السلمي للمناصب العامة وعلى مختلف المستويات، ان كل ذلك ساهم بوجود معضلات حقيقية عند التحول نحو الديمقراطية بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط النظام.

ان العملية السياسية التي تشكلت منذ نيسان 2003 والتي جاءت بفعل عمل عسكري خارجي وفي ظل بيئة سياسية داخلية وخارجية هي في غير ود وارتياح لما جرى، وقد ناصب البعض العداء لها بشكل معلن ومستتر ولذلك عانت هذه العملية الكثير من المصاعب والمعوقات لعدم تمكنها من خلق الاستقرار السياسي المنشود ولا استطاعت ان تنقل المستوى المعيشي لحالة من الرفاه الاجتماعي الذي كان يتطلع له عموم الشعب، مما أدى الكثير من المعنيين بالشأن السياسي بالحديث عن وجود ازمة في النظام والحاجة الإصلاح السياسي.

ومن هذا اهتمت هذه الدراسة الى احد المصاعب التي واجهتها العملية السياسية وهي التعددية القومية والدينية والطائفية في مجتمعنا العراقي وتبني الديمقراطية التوافقية لتجاوز حالة عدم الانسجام الاجتماعي والانقسام السياسي والانتقال باتجاه تشكيل دولة المؤسسات والمواطنة وذات الهوية الواحدة.

بعض سمات الدول النامية

ان ما يميز الدول النامية عن غيرها من الدول الأخرى ، وجود خصائص مشتركة: الإرث الاستعماري، التخلف الاقتصادي والاجتماعي، التمزق القومي، ضعف الوعي لمفهوم الدولة، وتزايد النزعات القومية والدينية على الواقع الاجتماعي والتأثير عليه، وأيضا الدور البارز للعسكر والاهتمام الكبير بهذه المؤسسة التي تحكم المجتمع وتستنزف جزء كبير من موارده لغرض التسليح، والمفهوم الامن القومي يختزل في الامن العسكري، ضعف الحياة الحزبية.

وان من اهم خصائص هذه الدولة التعددية هي بمكوناتها القومية والدينية والمذهبية حيث لا تتعدى الدول التي في حالة تجانس كامل، اي يوجد فيها مجتمع كلي واحد متحد سوى 4في المائة[1] ، وان عدد الدول ذات التجانس الثقافي لم يتعد حدود 12 دولة[2] . ومن هذا نرى ندرة الدول التي تتكون من قومية واحدة او دين واحد فالأغلبية العظمى من المجتمعات تتسم بالطابع التعددي، وان قسما من هذه الدول وجدت فرصة للانسجام المجتمعي عبر التعارف والتفاهم وتوطيد المصالح المشتركة والإثراء الثقافي، وان هذا التنوع في دول أخرى أدى في الاغلب الى التصارع والتشابك، حيث لم تحصل الأقليات على الكثير من حقوقها المشروعة بسبب استبداد الحكومات المركزية.

نشوء السلطة والدولة

ضمت الدول قديما وحديثا المجتمعات التعددية ووضعت لها حلولا نابعة من سياستها العامة. وتشكلت أولى التنظيمات السياسية للإمبراطوريات بعد التطور الاجتماعي والحضاري الذي واكب البشرية في الالف الرابع والثالث ق.م في بلاد الرافدين ومصر والهند والصين والتي كانت تحت مظلتها اقوام متعددة، وبالرغم من اتساع مدى هذه الامبراطوريات والدول فقد ظلت اغلبية التجمعات البشرية تعيش ضمن تجمعات قبلية غيرة مستقرة وبعيدة عن سلطتها [3]

وكان لليونانيين السبق بإنشاء تنظيم سياسي في القرن السادس ق. م والذي سمي بدولة (المدينة) على أساس تقسيم السلطات ومؤسسات الحكم غير مستندة على رابطة الدم والعشيرة، في مدن اثينا واسبرطة والتي هي المركز الوحيد الذي فيه الدولة والقانون وللمواطنين الاحرار حق التصويت دون العبيد والبرابرة من خارج المدينة [4] ، وهذا ما كان أيضا عند دولة الرومان في روما، ومع اتساع رقعة الحروب تغير مفهوم الدولة والسلطة، حيث مُنح لمجلس الشعب سلطات تشريعية وقضائية، وان الملك هو سيد الدولة وهو رأس السلطة والرابط بينها والسكان وان سلطة الملك هي الأساس في الدولة وفي كل الامبراطوريات التي جاءت من بعد (الإمبراطورية الرومانية الشرقية والغربية، وكذلك لدول الشرق: الفارسية، الاموية، العباسية) ولم يظهر مفهوم الدولة على أساس الفصل بين شخص الملك والمصلحة العامة إلا في العصور الحديثة في أوروبا وقد تأخر كثيرا في المناطق الأخرى[5].

نشؤ الدولة القومية

بعد انحلال الإمبراطورية الرومانية نهاية العصور الوسطى وظهور الدول المستقلة في القرن الرابع عشر والخامس عشر تطور مفهوم آخر للدولة والذي كان له الأثر الكبير على مفهوم الدولة المستقبلي وعلى العلاقات الدولية والداخلية للدول ألا وهو مفهوم الدولة القومية.

ان الصراع الذي دار بين انصار الملكية المطلقة والحق الإلهي وبين انصار الملكية المقيدة والديمقراطية والمشاركة في الحكم له الأثر الكبير في ظهور وتطور فكرة القومية والدولة القومية.

لقد تصدت البرجوازية التي تمثل القوى الديمقراطية للأفكار الرجعية والنظرية الثيوقراطية المتبناة من قبل الطبقة الارستقراطية والملك في اصل السلطة والدولة، حيث اكدوا ان السلطة لا بد ان تكون للشعب وليس للحكام الذين يحكمون باسم الالهة. ان هذا الصراع له الدور الكبير في نشأة فكرة القومية وتطورها.

ان التيار المنادي بنظرية سيادة الامة له الدور الأكبر في تطوير فكرة الدولة القومية. حيث ساد الرأي القائل لا مكان في الدولة القومية لأكثر من قومية والذي جاء متجسدا في الإعلان الفرنسي لحقوق الانسان ان من حق كل جماعة قومية ان تكون سيدة نفسها واعتبر دعاة الدولة القومية انه على الدولة ان تضطلع بوظيفة إزالة الانقسامات عبر التعليم[6].

ان التجارب في فرنسا وإيطاليا وألمانيا في بناء الدولة القومية على نمط الدولة - الامة وقد انتشرت بعد ذلك في دول أوروبا الشرقية الوسطى والشرقية.

تفترض فكرة الدولة - الامة وتفرض التماثل والانسجام وان الحدود السياسية تتطابق مع الحدود الاثنية والقومية، وعلى كل امة ان تمتلك دولتها الخاصة.

بالرغم من وجود هذا الاتجاه فكانت هناك دعوات الى الدولة المتعددة القوميات، تتعايش فيها القوميات والثقافات، فقد دعا الصرب الى نموذج آخر من التعايش بين القوميات والمذاهب، امبراطورية النمسا - المجر ذات ثنائية قومية، النموذج السويسري، الفيدرالية الكندية[7] .

ان فكرة القومية ونموذج الدولة - الامة قد انتصرت على الدولة المتعددة القوميات.

وان هذه الفكرة قد انتقلت مع الاستعمار ونشوء حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا الى تلك الدول والمجتمعات لتشكل بذلك بداية الإشكالية بين عدم تطابق التكوين القومي والديني والمذهبي لتلك المجتمعات مع مفهوم الدولة القومية الحديثة والحدود السياسية للدولة.

الدولة العراقية والتعددية

واجه البريطانيون عند تشكيلهم للدولة العراقية عام 1921 تحديا كبيرا وهو التعددية القومية والطائفية التي يتسم بها المجتمع العراقي، وان التعدد القومي تجسد من خلال القوميتين الكبيرتين العرب والأكراد وكذلك التعدد الطائفي بوجود السنة والشيعة، إضافة الى وجود مكونات أخرى كالتركمان والكلدو آشوريين، وقد تعاملت السلطات البريطانية مع هذا التنوع بإقامة نظام مركزي قوي قائم على هيمنة مكون على اغلبية مفاصل الدولة والذي استمر حتى الاحتلال الانكلو امريكي سنة 2003 ، وهذا بخلاف ما قامت به السلطات البريطانية في مستعمراتها في كندا، استراليا والهند، حيث تعدد مستويات الحكم كالفيدرالية واللامركزية الإدارية.

يتميز المجتمع العراقي بالتعددية غير المتجانسة، حيث يوجد التنوع القومي والديني والطائفي والعرقي وقد تميزت العلاقة فيما بينها بحالة من التباينات والاختلافات الى ان وصلت ولفترات غير قليلة الى حد الاقتتال والاحتراب ، وفي ظل الأنظمة التسلطية السابقة كان الانسجام الظاهري هو وهمي بسبب سياسات الفرض والإكراه التي عمقت المخاوف وعدم الثقة، فقد أضحت الديمقراطية التوافقية احد الضرورات الأساسية في المرحلة التي يمر بها المجتمع العراقي على اقل تقدير لحين إعادة الحمة المفقودة بين مكوناته التي اصابتها عملية التحول بالتشويه والخلل، او لحين غرس مبادئ الثقة والاستقرار بين هذه المكونات [8].

ان سياسات الأنظمة السابقة والتي اتسمت بالنهج الديكتاتوري وسياسة الحزب الواحد ومظاهر التمييز والشوفينية بين الطوائف والقوميات، جعلت من القوى والأحزاب السياسية ان تتبنى الديمقراطية التوافقية في سياساتها ونهجها لإدراكها طبيعة تعددية المجتمع العراقي، ومن خلال البرامج التي اقرتها في بعض المؤتمرات عندما كانت في المعارضة، فنتائج وطبيعة تمثيل بعض المؤتمرات للمعارضة العراقية وبالأخص مؤتمري صلاح الدين عام 1993 ومؤتمر لندن 2002 تعكس هذه الصيغة، وكذلك أيضا تبني الفيدرالية من قبل اغلب القوى السياسية التي هي احد اركان الديمقراطية التوافقية.

ان عملية التحول الديمقراطي التي انطلقت بعد الاحتلال وسقوط الديكتاتورية قد افضت الى تبني احد أنماط الديمقراطية وبما يتلاءم مع طبيعة المجتمع العراقي المتسم بالتعددية وغير الانسجام، وبما يحقق مصالح وتطلعات كل مكون للوصول الى حالة من التوازن الموضوعي، فدائما ما تطلق حالة التأسيس للمسار الديمقراطي بعد عهود من حكم التسلط والديكتاتورية التحديات الكبيرة والسلوك السياسي الذي يرتبط بحقوق وتطلعات كل مكون والتي عادة ما تكون متعارضة فيما بينها، ومع عدم وجود ارث ديمقراطي في التعامل مع المظاهر الجديدة التي انطلقت فيحاول كل مكون يفرض اجندته على الاخرين وبشتى الطرق والممارسات، فمنعا الى حالة الاحتراب وبالتالي الانفصال، يبقى مسار الديمقراطية التوافقية هو الاجدى نفعا، من اي مسار آخر في ظل الأمد المنظور في الوقت الحاضر.

وقد كان السلوك السياسي العملي لما بعد التغيير آخذ بالمنحى الديمقراطي التوافقي، والذي تجسد من خلال طبيعة تشكيل مجلس الحكم والحكومة التي تشكلت بعده والمؤسسات الأخرى التي تشكلت وفق قاعدة النسبية، وكذلك كتابة الدستور فرغم مقاطعة اغلبية احد المكونات تم مراعاة هذا المكون عند كتابته والاستفتاء عليه، وغالبا عند اتخاذ القرارات المصيرية يؤخذ بعين الاعتبار مصالح المكونات، لكن تبقى التجربة بحاجة الى نخب تدرك وتعي متطلبات هذا النمط من الديمقراطية والذي يتجسد في تعزيز الثقة المتبادلة ونبذ سياسة الفرض والإكراه والاستقواء على العوامل الخارجية.

عناصر الديمقراطية التوافقية في العراق

لخص ارنت ليبهارت عناصر الديمقراطية التوافقية بالاتي[9]:

1- ائتلاف واسع من الزعماء السياسيين من كافة القطاعات المهمة في المجتمع التعددي.

2- الفيتو المتبادل أو حكم الأغلبية المتراضية التي تستعمل كحماية إضافية لمصالح الأقلية الحيوية.

3- النسبية كمعيار للتمثيل السياسي.

4- درجة عالية من الاستقلال لكل قطاع في إدارة شؤونه الداخلية الخاصة.

الركن الاول:
الائتلاف الواسع:

ان الحكم من خلال ائتلاف واسع في الدول التعددية هو خيار مستقر يرتبط بالرغبة في الابتعاد عن النهج الاقصائي وهو بمثابة بمقايضة الاعتدال بالمشاركة، لقد زامن الدستور العراقي انتخاب رؤساء مجلس النواب والجمهورية ومجلس النواب مع بدء الدورة الجديدة لمجلس النواب ليكون اختيار الجميع من خلال صفقة واحدة لضمان تمثيل ممثلي المكونات من خلال تلك الصفقة، وقد اصبحت حصة العرب السنة رئاسة مجلس النواب، والجمهورية للأكراد ويمكن التبادل فيما بينهما اما رئاسة مجلس الوزراء التي بيدها السلطة الفعلية فهي من حصة المكون الشيعي باعتباره الأكبر عددا وان كل الوزارات التي تشكلت عقب التغيير ضمت ممثلي معظم الأحزاب السياسية التي فازت بمقاعد مجلس النواب وان ما يؤخذ على هذه التشكيلات انها لم تضم بصفوفها قادة الأحزاب، فهذا العزوف قد اضعف من مكانة الوزارة في حل المشاكل السياسية المستعصية خلال تلك الفترة المنصرفة مما ساهم بشكل او بآخر من شكوى ممثلي المكونات الأخرى بتفرد رئيس مجلس الوزراء وعدم وجود مشاركة حقيقة في الحكم، ولغرض تفادي هذه الحالة تم تشكيل مجلس الامن الوطني في الدورة الأولى للبرلمان والذي كان برئاسة رئيس الجمهورية وهو الذي مثل الائتلاف الواسع لحضور قادة الأحزاب السياسية اجتماعاته. وفي الدورة الثانية كان هناك اتفاق عقد في أربيل الذي مهد الى تشكيل حكومة الدورة الثانية، نص على تشكيل مجلس استراتيجي للأمن الوطني يكون برئاسة احد نواب رئيس الجمهورية، لكن تنصل البعض من اقامته حال دون ذلك، وهذا مما عزز عدم الثقة وحالة الارتياب بين اقطاب السلطة حيث اختلفوا على الصلاحيات ومدى دستوريتها، وان اللافت للنظر انه كان يمكن يشكل اركان الائتلاف الواسع المنشود ما دامت اغلب الحكومات التي تشكلت هي من القوى الفائزة في مجلس النواب، لكن عزوف قيادات الخط الأول للأحزاب عن المشاركة في الوزارة بشكل مباشر والاكتفاء بدور المراقب من بعيد يحول دون ان يكون له الدور المؤثر، حيث الكثير من أعضاء التشكيلة الوزارية والمعنية بتنفيذ اجندة تلك الأحزاب يمثلون المرتبة الثانية او الثالثة من النسق القيادي لها مما ينعكس في بعض الأحيان في التناقض بين سلوك هؤلاء الوزراء مع قياداتهم او مع من يمثلهم في مجلس النواب، ان وجود القيادات الفعلية للمكونات في اطار هيئة واحدة يبقى قائما، للتأثير الهائل لهؤلاء القادة على مكوناتهم للتخفيف من حدة الاحتقان والإشكاليات التي قد تقع.

الركن الثاني:
الفيتو:

إن المشاركة في الائتلاف الواسع تتيح ضمانة سياسية مهمة للأقلية. لكنها ليست خالية من العيوب عندما تتخذ القرارات بالأكثرية، ان هزيمة مقترحات الأقلية تزعزع أسس الائتلاف خاصة عندما تمس القرارات المتخذة المصالح الحيوية لقطاع الأقلية، لقد عالج الدستور مراعاة وضع الأقلية من خلال بعض النصوص فقد كان هناك حق استخدام الفيتو من قبل احد أعضاء هيئة الرئاسة في الدورة الأولى لمجلس النواب والذي كان لدورة واحدة (المادة 138 الفقرة أولا )، وتوجد بعض القوانين ذات الطابع المهم في تكوين ملامح الدولة العراقية تحتاج الى اغلبية خاصة، كالمصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وإعلان الحرب وحالة الطوارئ، تشكيل مجلس الاتحاد، وتشكيل المحكمة الاتحادية التي تحتاج جميعا الى اغلبية الثلثين( المادة 61، رابعا وتاسعا، المادة، 65، المادة 92، ثانيا) وكذلك تعديل الدستور الذي يحتاج الى ثلثي أصوات مجلس النواب ومن ثم الموافقة على مسودة التعديل من الاستفتاء ( المادة 126) ووضع المشرع الدستوري العراقي نص في الفقرة 4 من المادة نفسها والذي هو بمثابة الفيتو على أي انتقاص من سلطات الأقاليم على: (لا يجوز إجراء أي تعديل على مواد الدستور من شأنه ان ينتقص صلاحيات الأقاليم التي لا تكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات التنفيذية الاتحادية، إلا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني ، وموافقة أغلبية سكانه باستفتاء عام). مما يعني وجود بعض الضمانات الدستورية في الكثير من المواد حيث تؤدي الى عدم إمكانية تفرد مكون، والحاجة الى موافقة المكونات الأخرى.

وقد فات المشرع الدستوري التضمين على اغلبية خاصة للقوانين التي تمس مصالح بعض المحافظات او الإقليم، وهذا من الممكن تلافيه عند تفعيل المادة( 65 ) الخاصة بتشكيل مجلس الاتحاد والذي يمثل الغرفة الثانية للسلطة التشريعية، حيث ان المجلس الاتحادي تُمثل فيه الأقاليم والمحافظات وله السلطات في البت بالقوانين تمس مصالحها، وهذا ما تلجأ له بعض دساتير الدولة الاتحادية كألمانيا وجنوب افريقيا.

الركن الثالث:
النسبية:

وهي توزيع التعيينات في الإدارة العامة والموارد المالية للدولة على شكل مساعدات حكومية على مختلف القطاعات، حيث ان النموذج النسبي يشرك جميع الفئات المؤتلفة بصورة تتناسب مع حجمها وأهميتها في آلية ومواقع صنع القرار وفي سائر السلطات بما في ذلك المدنية والأمنية وسائر المستويات وصولا الى المجالس والإدارات المحلية.

لقد تطرقنا في الركن الأول حول توزيع المناصب السيادية حيث هناك تحقيق نوع من التناسب عند توزيع المناصب وبالرغم من عدم وجود نص دستوري، لكن يبدو اصبح نوع من العرف حول توزيع مناصب الرئاسية الثلاث على المكونات وكذلك عند اختيار النواب لهذه الرئاسات، وقد نص الدستور في المادتين ( 9 ) على اعتماد النسبية: ( تتكون بناء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء...) وكذلك في المادة 105: تؤسس هيئة عامة لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، في المشاركة العادلة في إدارة مؤسسات الدولة الاتحادية المختلفة، والبعثات والزمالات الدراسية، والوفود والمؤتمرات الإقليمية والدولية، وتتكون من ممثلي الحكومة الاتحادية، والأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، وتنظم بقانون. وبالنسبة لتوزيع للموارد فقد نصت المادة( 111 ) ان النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات وحول النسبية في توزيع الواردات نصت المادة(112) على (تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة، على ان توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع انحاء البلاد...).

ان النسبية تعكس مبدأ المشاركة في الحكم والموارد، ومما ساعد على رسوخ النسبية في المؤسسات الدستورية إضافة الى النصوص الدستورية التي ذكرت أعلاه هو قانون الانتخابات لمجلس النواب ومجالس المحافظات الذي اعتمد النظام النسبي الذي يتيح الفرصة لتمثيل المكونات بما يتناسب مع ثقلها السكاني وكذلك نظام الكوتة للديانة المسيحية والمندائية والايزيدية.

وبالرغم من تأكيد الدستور على مراعاة التوازن في الإدارات، لكن يوجد اختلال في توزيع المناصب لصالح مكون على حساب المكونات الأخرى. وبالنسبة لتوزيع الموارد المالية، يؤخذ بالنسبية عند توزيع الموارد وعلى حسب نسبة السكان والحرمان والإضرار، وان عدم وجود إحصاء سكاني دقيق يشكل في بعض السنوات إشكاليات عند توزيع الموارد المالية.

عند التطبيق العملي لهذا الركن المهم، تمت إساءة التصرف به حيث فرضت المحاصصة (النسبية) وزراء محدودي الكفاءة ضيعوا فرص الزمن والموارد بل ونُزل بهذه التوافقية الى كل المستويات القيادية الأدنى إلى وكلاء الوزراء والسفراء والمدراء والمستشارين فلم يكف 7 وزارات اوجدت ونصفها لا جدوى منه بغية إرضاء الكتل، فتم إيجاد بإفراط (هيئات مستقلة)، قاربت 14 هيئة تتكون كل منها من 7 الى 11 من المفوضين ورئيس يتمتع أعضاؤها بامتيازات وكلاء وزارة ورئيسها بدرجة وزير[10] ، وقد انفردت بعض الأحزاب والكتل في الاستحواذ على هذه المناصب وتوزيعها على أعضائها.

وان تفعيل قانون مجلس الخدمة العامة الاتحادي رقم 4 لسنة 2009 المعني بتنظيم الوظيفة العامة وتحريرها من التسييس والتحزب وبناء دولة المؤسسات وتأمين العدالة والحيادية في التعيين وإعادة التعيين والترقية، ان من شأن ذلك هو الطريق السليم لتخليص مؤسسات الدولة من سوء تطبيق النسبية والمتجسدة بشكلها الفض والفاقع وهي (المحاصصة) التي أصبحت احد العوامل الكابحة لمسار الدولة التنموي ومرتع للفساد الإداري والمالي.

الركن الرابع:
الاستقلال القطاعي والفيدرالية:

يكون لكل قطاع سلطة نهائية على شؤونه الخاصة، ويكون لكل قطاع تنظيماته الخاصة به مما يكرس في النهاية الصيغة التعددية للمجتمع، وان الفيدرالية هي شكل من اشكال الاستقلال القطاعي، وفي هذا الركن المهم نص الدستور على ان العراق دولة اتحادية ( المادة 1)، يتكون النظام الاتحادي فيه من عاصمة وإقليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية (المادة 116).

ان تجربة إقليم كردستان الفيدرالية رغم استمرارها لفترة غير قصيرة، فقد شابها بعض التوترات بسبب التنصل على الالتزام بالاتفاقات التي تعقد بين الأطراف السياسية وعدم تطبيق المادة 140 من الدستور والتي تحسم مصير المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وكذلك بخصوص حصة إقليم كردستان من الميزانية والتزامات الإقليم بموارد النفط المُنتج تجاه الحكومة الاتحادية وغيرها من الإشكاليات، وقد وصلت الأمور حد إجراء الاستفتاء لاستقلال الإقليم وظهور نذير شؤم بإشعال الحرب، بالرغم من وجود المحكمة الاتحادية المختصة في الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية، وحكومات الأقاليم والمحافظات، والتي ادلت بحكمها، بعد ان فُرض واقع جديد، اسدل الستار عن انتكاسة قد تأكل الأخضر واليابس.

ان صدور قانون التعديل الثالث لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم(21) لسنة 2008 سيعزز المزيد من الصلاحيات الممنوحة لمجالس المحافظات ويدفع باتجاه تطبيق لا مركزية في إدارة شؤون الدولة، ويحد من الإشكالات التي تقوم بين الحكومة الاتحادية ومجالس المحافظات بين فترة وأخرى، حول التنازع في الصلاحيات، فبالرغم من صدور قانون تشكيل الأقاليم لم يتشكل أي إقليم، لكن تظهر بين الحين والأخر الدعوات لإقامة الفيدراليات وسرعان ما تخمد تلك المطالب، لان اغلبها تأتي من خلال ردود أفعال آنية من قبل بعض النخب السياسية ذات العلاقة المتأزمة مع المركز، اكثر مما هي حاجة مطلبية شعبية.

تقييم مسيرة التوافقية في العراق:

تطبيق التوافقية في العراق هو كأي ممارسة جديدة قد يلاقي الرفض والترحيب، فالرأي الرافض والذي له صدى واسع في المكون الشيعي والذي يتجلى في الدعوة لشعار الأغلبية السياسية او في الدعوات للأخذ النظام الرئاسي حيث، يعتبرها منتجة لحكومة ضعيفة غير قادرة للاضطلاع في مهمة التحول المطلوبة وفي ظل ظروف صعبة وتحديات عديدة وان الاستمرار بها هو اضعاف للاستقرار السياسي المنشود.

ام آراء المرحبين بها وهم من اغلبية المكونات الأخرى، فيروها تمثل تقييدا للنزعات نحو الاستفراد بالسلطة، وان الدعوة للأغلبية السياسية والنظام الرئاسي هو شعار مبطن لغرض تهميش دور المكونات الأخرى بحكم الانقسام المجتمعي على أساس قومي وطائفي وديني، حيث لا فرصة للمكونات الأخرى ان تحصل على الأكثرية بحكم القلة العددية نسبةً للمكون الأكبر.

بالرغم من أهمية الاخذ بالديمقراطية التوافقية والتي تجلت في الكثير من المواد الدستورية، لكن الممارسة خلال الفترة السابقة انها قد أصبحت على حساب اضعاف دور المركز وإخضاع الكثير من الممارسات الحكومية لنظام الصفقات وعبر المساومات المتبادلة والتي يتم قسم غير قليل منها على حساب تقوية أجهزة الدولة ومؤسساتها، حتى اصبح الوزراء يعملون لحساب احزابهم وتحت امرتها اكثر مما هم مسؤولون امام مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، ويعملون باتجاهات متناقضة وغير متناسقة أحيانا مع توجهات كتلهم في مجلس النواب. وان الصراع بين الكتل الفائزة منصب على المناصب الحكومية اكثر مما له علاقة مع هموم المواطن البسيط وتطلعاته، وان من اهم أسباب اللجوء للتوافقية هو لأجل خلق الثقة بين القيادات وتجاوز حالة الهواجس والشكوك المتبادلة باعتماد الشفافية واحترام العهود والاتفاقات، لكن التجربة تؤكد مع الأسف ان الكثير من الاتفاقات التي تعقد واغلبها بضغوطات خارجية وخاصة اثناء تشكيل الحكومات نادرا ما يتم الاخذ والالتزام بها مما يعزز من حالة عدم الثقة.

ان التجربة عكست تكريسا لحالة الانغلاق لبعض المكونات نحو الطائفية والقومية فعند أي خلافات ما بين المركز والإقليم او المحافظات او ما بين القوى المتنفذة جراء السياسات المتبعة او نتيجة ضغط الأوساط الشعبية لقلة الخدمات وازدياد معدلات البطالة والفساد المستشري، يجري تهديد المركز بطلب تحويل المحافظة الى إقليم او بطلب الأقاليم للاستفتاء بالحصول على الاستقلال، وعدم اعتبار التوافقية حالة مؤقتة وانتقالية لتجاوز حالة عدم الانسجام الاجتماعي او الانقسام السياسي لغرض إعادة بناء دولة قوية قادرة ان تبسط نفوذها على كامل ترابها، وتنفذ خطط استراتيجية لتنشل البلاد من المستنقع الذي هي فيه، ان هذه المكونات جعلت من المواطن مشدود للماضي دون التطلع نحو المستقبل. وان الدعوة للبدء بالتحول التدريجي نحو تجاوز الانغلاق القومي والطائفي انه ليس باتجاه تهميش دور المكونات بل لغرض الولوج في بيئة سياسية فاعلة من قبل الجميع للشراكة باتجاه حكومة اتحادية قوية ومؤثرة.

الاستنتاجات:

الاستنتاج الأرأس الذي استخلصته بعض الدراسات للتجربة العراقية يرى في الديمقراطية التوافقية صيغة ممكنة التحقيق في ظروف العراق شرط ان تحسن ادارتها ووضع الإجراءات المناسبة التي تنسجم مع روحيتها وهدفها الرئيس في إقامة الديمقراطية وتثبيت الاستقرار، كما يجب السعي لتأمين العوامل المساعدة بقدر ما يتعلق الامر بالأطراف العراقية[11].

1- بعد سقوط النظام السابق، تم الأخذ بمبدأ الديمقراطية التوافقية لضمان مساهمة جميع مكونات الشعب العراقي في العملية السياسية.

2- لقد تم تبني الديمقراطية التوافقية من قبل اغلب القوى والأحزاب المعارضة قبل سقوط النظام السابق منذ مؤتمر فيينا وصلاح الدين ولندن، لكن التطبيق العملي جرى بعد تغيير النظام، ويعد مجلس الحكم وقانون إدارة الدولة وكذلك دستور 2005 الأساس الدستوري لتطبيقها.

3- التعددية المجتمعية والتي تتجسد من خلال التنوع القومي والديني والمذهبي هي من الأسباب التي دعت الى تبني هذا المبدأ لضمان مساهمة هذا التنوع.

4- الموروث من الاستبداد والاحتكار من قبل المتحكمين في السلطات السابقة، هي التي دعت الى تبني هذا الشكل من الديمقراطية للحيلولة دون الصراعات العنيفة والحروب الأهلية.

5- تطبيق الديمقراطية التوافقية كان لها دور في بروز إشكاليات بخصوص الهوية الوطنية وتغييب المواطنة التي من خلالها يتم بناء الدولة الحديثة والتي أساسها مبدأ المساواة.

6- الديمقراطية التوافقية يمكن ان يكون لها دور في تقسيم المجتمع التعددي، بفعل التقوقع وتنامي النزعات الاستقلالية والتي تؤدي زيادة التباينات بين المكونات.

7- ان حداثة الأخذ بالديمقراطية التوافقية في ظل الحالة الانتقالية التي يتميز بها المجتمع وحالة عدم الثقة والتأثيرات الخارجية تساهم في احد التحديات التي تواجه تطبيقها.

8- ان الاخذ بالتوافقية يمثل حالة مؤقتة وانتقالية للانتقال بشكل تدريجي ومنهجي نحو الديمقراطية التنافسية المعهودة في النظم البرلمانية.

9- ان تفعيل المادة الدستورية بتشكيل المجلس الاتحادي وإعطائه صلاحيات تشريعية للقوانين التي لها مساس بمصالح المحافظات والإقليم، سيكون عامل اطمئنان للمكونات الأخرى لتجاوز الأغلبية في مجلس النواب، حاله حال المجالس الاتحادية في النظم الفيدرالية.

10- ان تطبيق مبدأ النسبية بالشكل المناسب يتطلب تفعيل قانون مجلس الخدمة العامة الاتحادي لإبعاد الوظائف العامة عن التسييس والتحزب باعتماد مبدأ الكفاءة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي