دور القوة الناعمة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط
(العراق وسوريا أنموذجا)
الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي
2018-08-26 07:21
The role of soft power in the restructuring of Middle East
(Iraq, Syria, a model)
أ.د خالد عليوي جياد العرداوي/ميثاق مناحي دشر العيساوي
جامعة كربلاء/مركز الدراسات الاستراتيجية
المقدمة
أهمية البحث:
تمثل العلاقات الدولية ميدانا رحبا تمارس من خلاله الوحدات الدولية قدراتها في التأثير والتأثر بعضها ببعض مستفيدة من مصادر قوتها المختلفة من اجل الوصول الى النتائج والاهداف المرغوبة لكل طرف. وقد شهد هذا الميدان على مر التاريخ صعود وهبوط دول وامم كثيرة، بعضها ظهرت على مسرح الاحداث بسرعة وغابت دون ان تترك تأثيرا عميقا، وبعضها الآخر اخذ حيزا زمنيا طويلا كان فيه هو اللاعب الرئيس او من اللاعبين الرئيسيين، بل -أحيانا-بقي تأثيره ودوره عالقا في الذاكرة البشرية، وفي التأثير المتبادل بين الشعوب الى الوقت الحاضر.
والسبب الكامن وراء هذا التفاوت في البزوغ والتأثير بين اللاعبين الدوليين هو الوزن النوعي لكل لاعب، وهذا الوزن لا يعتمد على القوة المجردة القسرية (عسكرية – اقتصادية) أي قوة الترغيب والترهيب، وانما يعتمد -أيضا- بدرجة كبيرة على قوة المبادئ والقيم التي يحملها، فتجعله أنموذجا جاذبا يأسر قلوب وعقول الأخرين، مما يدفعهم الى الخضوع والاذعان الطوعي، بل ويجعلهم يشعرون برغبة وإرادة في التشارك مع صاحب النموذج في قيمه ومبادئه، ما يعني في النهاية إيجاد الأرضية لقبول التعاون معه في تحقيق أهدافه او عدم اتخاذه عدوا يجب تدميره والتخلص منه.
إن قوة القيم والمبادئ هي جزء مما يطلق عليه اليوم اسم القوة الناعمة، وهذه القوة تشكل مع قوة القسر (القوة الصلبة) المعيار النهائي لقوة الدولة الشاملة، وقد ازداد تأثير هذه القوة مع زيادة التطور التكنلوجي والمعرفي الإنساني، وتقارب الشعوب بعضها من بعض، وكما انه لا يمكن لطرف ما يرغب في تحقيق أهدافه الدولية ان ينجح في مسعاه هذا ما لم يمتلك مقومات القوة الشاملة بشقيها (الناعمة والصلبة)، كذلك فان الافتقار الى هذه المقومات او لأحد شقيها يجعله ضعيفا عديم التأثير في الاخرين، ومسلوب الإرادة في حماية ذاته. وهذا الواقع الدولي يواجه كل العالم، ومنه منطقة الشرق الأوسط، مما يتطلب على الوحدات الفاعلة في هذه المنطقة ان تركز في بناء قوتها على امتلاك كلا القوتين (الناعمة والصلبة) إذا ارادت ان تحمي نفسها وشعوبها من تأثير الأخرين، وارادت ان تجعل لنفسها دورا فاعلا في المسرح الدولي.
مشكلة البحث
ان الإشكالية التي ينشغل بها هذا البحث تركز على تحديد ما نعنيه بالقوة الناعمة؟ وكيف تؤثر هذه القوة في ميدان العلاقات الدولية؟ وما هو واقع تأثيرها السلبي او الايجابي في منطقة الشرق الأوسط من خلال التركيز على دولتي العراق وسوريا كدراسة حالة؟ وكيف يمكن توظيفها استراتيجيا للوصول الى الأهداف المرغوبة لدول المنطقة؟
فرضية البحث
ينطلق البحث من فرضية مفادها ان الشرق الأوسط في الوقت الحاضر يواجه عملية إعادة تشكيل في مختلف بناه السياسية والاقتصادية والاجتماعية-الثقافية، تلعب فيها القوة الناعمة دور المحرك الرئيس، ولا يمكن لدول المنطقة إعاقة او إيقاف هذه العملية، ولكن المطلوب منها امتلاك الموارد الكافية من القوة الناعمة لجعلها تصب في مصلحتها بدلا من ان تصب في مصالح اعدائها او منافسيها.
منهجية البحث:
اعتمد البحث على منهج التحليل النظمي لاختبار صدق فرضيته، والوصول الى نتائجه النهائية.
هيكلية البحث
تم وضع خطة للبحث تقوم على تقسيمه الى مبحثين: المبحث الأول هو تحديد للإطار النظري للموضوع، فينشغل بماهية القوة الناعمة من حيث التعريف، والموارد، والاهمية في ثلاثة مطالب. اما المبحث الثاني، فجرى فيه التركيز على معطيات القوة الناعمة في الشرق الأوسط من خلال دراسة واقعها في دولتي العراق وسوريا، وتأثيرها السلبي على هذين البلدين، وكيفية توظيفها استراتيجيا لتحقيق اهداف دول المنطقة في ثلاثة مطالب أيضا. كما تضمن البحث المقدمة والخاتمة.
المبحث الاول: ماهية القوة الناعمة
ينشغل هذا المبحث بتوضيح القوة الناعمة من مختلف جوانبها، لذا فان الأسئلة الرئيسة التي يدور حولها تركز على: ماذا نقصد بالقوة الناعمة؟ وما هي مواردها او مقوماتها التي ترتكز عليها؟ وكيف تعمل هذه القوة لتكون مؤثرة وفاعلة في ميدان العلاقات الدولية؟ ولماذا تختلف عن بقية اشكال القوة؟
المطلب الأول: تعريف القوة الناعمة
على الرغم من كثرة المدارس والنظريات التي تهتم بتعريف القوة في ميدان العلاقات الدولية، تبقى القوة تعني قدرة طرف ما على التأثير في طرف آخر لحمله على تنفيذ إرادته؛ لما يمتلكه من متغيرات ثابتة ومتغيرة تسمح له بالوصول الى هذه النتيجة المرغوب بها، علما أن أفضل الوسائل للحصول على اذعان الاخرين هي اقلها كلفة وأكثرها تأثيرا.(1) واستنادا الى هذا الفهم العام للقوة يمكن الانطلاق نحو تحديد المقصود بالقوة الناعمة، اذ أن مصطلح القوة الناعمة من المصطلحات المعاصرة في الادبيات السياسية، فقد بدأ تداوله تقريبا منذ نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين، وقد جاءت التسمية متأثرة بالتطور التكنلوجي العالمي لاسيما في مجال تقنيات الحاسوب(2)، ولكن تكاد اغلب الدراسات البحثية ترجع الفضل في انتشاره الى الكاتب الأمريكي جوزيف ناي الذي شغل مراكز مهمة في الإدارة الامريكية(3)، وعد نفسه مخترعا لهذا المصطلح.(4) فكيف فهم ناي القوة الناعمة؟
يذكر ناي انه بدأ بتطوير مفهوم القوة الناعمة لأول مرة عام 1990 من خلال كتابه (ملزمون بالقيادة) ثم عاد اليه عام 2001 من خلال كتابه (مفارقة القوة الامريكية).(5) ولقد أراد الابتعاد عن التصور التقليدي لقوة الدولة الذي يرتكز على قدراتها العسكرية والاقتصادية التي يسميها ـ"القوة الصلبة" بابتداعه لتصور جديد أوسع مدى يقوم على "القوة الناعمة او الطرية" كما سماها في كتابه (مفارقة القوة الامريكية)، وقد بين في هذا الكتاب "ان القوة العسكرية والقوة الاقتصادية معا مثالان على القوة الصلبة الآمرة التي يمكن استخدامها لإقناع الآخرين بتغيير موقفهم. فالقوة الصلبة يمكن ان تستند الى محاولات الاقناع (الجزر) والى التهديدات (العصي).
غير ان هناك طريقة غير مباشرة لممارسة القوة، فقد يحصل بلد ما على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية؛ لأن بلدانا أخرى تريد ان تتبعه، معجبة بقيمه، تحذو حذوه، وتقتدي بمثاله، متطلعة الى مستواه من الازدهار والانفتاح. وبهذا المعنى فان وضع جدول الاعمال في السياسة العالمية واجتذاب الاخرين اليه له أهمية تعادل تماما أهمية اجبارهم على التغير باستخدام الأسلحة العسكرية او الاقتصادية او التهديد باستخدامها. وهذا الجانب من القوة – أي جعل الاخرين يريدون ما تريده انت-اسمه القوة الناعمة الطرية".(6) ثم عمل ناي على تعريف القوة الناعمة بطريقة أكثر منهجية في كتابه (القوة الناعمة... وسيلة النجاح في السياسة الدولية) الذي صدر عام 2004 فعرفها على أنها " القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الارغام او دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومثله السياسية، وسياساته، فعندما تبدو سياساتنا مشروعة في عيون الاخرين، تتسع قوتنا الناعمة"(7)، وأن " القوة الناعمة أكثر من مجرد الاقناع أو القدرة على استمالة الناس بالحجة، ولو أن ذلك جزء منها. بل هي أيضا القدرة على الجذب، والجذب كثيرا ما يؤدي الى الإذعان"(8)؛ لأنها " تستخدم نوعا مختلفا من العمل... لتوليد التعاون، وهو الانجذاب الى القيم المشتركة، والعدالة، ووجود الاسهام في تحقيق تلك القيم".(9)
ان هذا الفهم للقوة الناعمة ارتكزت عليه معظم الآراء التي تناولت الموضوع فـ فرانك فايبرت ذهب الى ان القوة الناعمة تشير الى " تحقيق الأهداف الدولية عن طريق الاقناع والتعاون بدلا من استخدام القوة المسلحة أو العقوبات الاقتصادية وغيرها من اشكال الاكراه".(10) ورأى غيره انها "القدرة على التأثير وجاذبية الأطراف المعنية الى المسار الذي يخدم مصالح الدولة وكيانها باستخدام الموارد المادية والمعنوية، بعيدا عن الارغام والتهديد"(11)، وهي " القدرة على الاحتواء الخفي والجذب اللين بحيث يرغب الاخرون في فعل ما ترغب فيه القوة المهيمنة من دون الحاجة الى استخدام القوة (الصلبة)... واذا كانت القوة الصلبة تنبع أساسا من القدرات العسكرية والاقتصادية، فان القوة الناعمة تتأتى من جاذبية النموذج وما يمتلكه من قدرة التأثير والاغراء للنخب والجمهور على حد سواء...(و) كلما تضخم استخدام القوة الاكراهية (الصلبة) وضعفت شرعية مثل هذا الاستخدام يتضاءل معها النفوذ الثقافي والسياسي والتجاري وكل ما يدخل ضمن دائرة القوة الناعمة".(12) والقوة الناعمة وفقا لقاموس أكسفورد هي "منهج الاقناع في العلاقات الدولية المبني على استخدام النفوذ الاقتصادي او الثقافي". (13) وهناك من رأى أنها "تلك الموارد الوطنية التي تسمح للدولة بالتأثير على الاخرين من خلال المشاركة في تحديد جدول الاعمال، والاقناع، وامتلاك قوة الجذب للحصول على النتائج المفضلة".(14)
ألكسندر فوفنغ الباحث في مركز اسيا والمحيط الهادئ للدراسات الأمنية اعتقد من جانبه ان القوة الناعمة تنطوي على معنيين: الأول ضيق، يجعل منها قوة شبيهة بقوة التأثير الثقافي للدول، ومن الذين اخذوا بهذا المعنى كل من المؤرخ البريطاني نيل فيرغسون، والكاتب الألماني جوزيف جوف، وغالبية الباحثين في المؤسسات البحثية الصينية. اما الآخر فهو واسع، ويجعلها ترادف عدم استخدام القوة العسكرية في تحقيق ما تريده الدول، للوصول الى ما تريد من خلال امتلاك التأثير الثقافي والقدرة الاقتصادية. (15)
استنادا الى ما تقدم، يظهر انه هناك حالة من الفوضى في تحديد معنى القوة الناعمة بشكل دقيق، فمع الاتفاق على انها تعني قوة الجذب والاقناع والقبول الطوعي بالإذعان للخصم الناجم عن قوة نموذجه، الا ان الارتباك يبدو في تحديد مصادرها، اذ مرة يتم اخراج القدرة الاقتصادية لتكون من مصادر القوة الصلبة كما فعل ناي، ومرة أخرى يتم ادراجها ضمن مصادر القوة الناعمة كما فعل ألكسندر فوفنغ وآخرون(16). ويعود السبب في ذلك حسب اعتقاد ألكسندر فوفنغ الى ان القوة الناعمة تمثل مصطلحا واسعا وملتويا(غامضا)؛ لا زال في طور التأطير النظري، ولم يتحول الى نظرية متكاملة ومتماسكة، وينقصه البحث الأكاديمي العميق المعني بتطويره. فضلا على وجود درجة ما من الغموض التحليلي. (17) ويمكن ان نضيف الى ذلك ان الذين تعاملوا مع الموضوع معظمهم كانوا متأثرين بسلوك الإدارة الامريكية في العلاقات الدولية، مما جعلهم مسكونين بنزعة حب او كراهية هذه الدولة، ولم يحاولوا التأمل بعمق اكثر في الفلسفة الكامنة وراء المناداة بضرورة تغليب دور القوة الناعمة في عصر العولمة والتطور التكنلوجي والمعلوماتي، لذا نلاحظ انه منذ انتشار الحديث عن القوة الناعمة داخل المؤسسات الحكومية والبحثية الامريكية ومنها الى العالم لم يسلم المصطلح من الانتقادات ومنها على سبيل المثال الانتقاد الذي وجهه له الباحث رفيق عبد السلام في بحثه القيم (الولايات المتحدة بين القوة الصلبة والناعمة) انطلاقا من كون الحديث عن القوة الناعمة يأتي في سياق تكريس مفهوم الهيمنة الامريكية على العالم، وانه يمثل صرخة فزع اطلقها ناي لتحذير أمريكا من تراجع نفوذها العالمي شبيهة بصرخة الفيلسوف الألماني شبنجلر صاحب كتاب (سقوط الغرب) في عشرينات القرن العشرين التي حذرت من تراجع الهيمنة الغربية، ولا تختلف عن الرؤى التي حكمت صامويل هنتنغتون صاحب مقولة (صدام الحضارات)(18)، فالغاية من الموضوع هي استمرار الهيمنة الامريكية والغربية على العالم، وان الكلام عن الاقناع والجاذبية والاذعان الطوعي مجرد شكل اخر من اشكال الاكراه والهيمنة على الخصم. ان ما ذهب اليه الرأي أعلاه وامثاله يتناسى حقيقة ان القوة الناعمة جاءت اصلا كرد فعل على تراجع التأييد العالمي للولايات المتحدة بعد حروب الخليج الثانية والثالثة وحرب افغانستان من شخص يعمل في الإدارة الامريكية ومعني كثيرا بالمحافظة على السيادة الامريكية العالمية، وهو يؤكد على هذه الحقيقة في كثير من المقاطع في كتاباته(19)، ويحاول لفت نظر ادارته الى المتغيرات المهمة التي يشهدها العالم على كافة المستويات لتراجع طريقة تفكيرها في تقييم موارد قوتها، كذلك جاءت لتعمل كنظرية - في طور التشكل- داخل ميدان العلاقات الدولية، وان قوة الدولة في هذا الميدان تقاس بقدرتها على جعل الخصم يفعل لها ما تريد- وهذا هو المهم- لكن الفرق هو ان الخصم تحت الارغام المتولد من القوة الصلبة سيفعل لك ما تريد بالإكراه او بالإغراء تحت تأثير مصادر القوة الملموسة: القوة العسكرية او الاقتصادية وقد يبقى متحينا للفرصة المناسبة لإظهار تمرده من اجل التخلص من حالة الإذعان، لأنه اذعان بالإكراه وغير طوعي. اما الارغام المتولد من القوة الناعمة، فانه سيجعله يريد ما تريد انت؛ بسبب قوة الانجذاب اليك، مما يعطيك القدرة للتأثير على سلوكه ليتناسب مع ما تريد الوصول اليه، وهذا سيجعل ارادته في دوام الإذعان أكثر تأثيرا وأوسع انتشارا واطول عمرا. والفرق بين الهيمنة باستخدام القوة الصلبة المجردة، والهيمنة باستخدام القوة الناعمة هي أن الاخيرة هيمنة بتكاليف أقل، ولمدة أطول. لذلك ذهب الباحث الألماني جون جاتونج الى القول:" ان السيطرة الدولية لا تنفصل باي حال من الأحوال عن آليات الترويض الثقافي والسياسي التي تستخدمها القوى الدولية الكبرى ضد من هو أضعف منها حظا من ناحية الاقتدار العسكري والاقتصادي... ان وجود نخب سياسية وثقافية (النخب القائدة او المتحكمة) في الدول التابعة ذات تناغم مع مصالح وأولويات المراكز الدولية، وذات انسجام مع رؤيتها العامة صار يغني في الكثير من الأحيان عن الحضور العسكري المباشر".(20)
والسؤال المهم الان هو هل هناك فصل تام بين القوتين: الناعمة والصلبة من اجل بلوغ النتائج المرغوبة ام ان الدولة بحاجة الى امتلاك مصادر فاعلة في القوتين؟
يرفض ناي بشكل قاطع منطق الفصل بين القوتين؛ لأنهما بامتزاجهما الفعال يعطيان معنى للقوة الكلية للدولة، غاية الأمر انه يطالب بإيجاد مزيج من موارد القوتين-الصلبة والناعمة-يسمح بخلق جاذبية للدولة تتيح لها الحصول على الإذعان الطوعي من الاخرين، لذا نراه يقول:" القوة الصلبة والقوة الناعمة الطرية تتصل كل منهما بالأخرى ويمكن ان تقويها، فكلتاهما من جوانب القدرة على تحقيق اغراضنا بالتأثير على سلوك الأخرين، وتستطيع مصادر القوة نفسها أحيانا ان تؤثر على طيف السلوك كله من القسر الى الاجتذاب. فالبلد الذي يعاني انحطاطا اقتصاديا وعسكريا يحتمل ان يفقد قدرته على تشكيل جدول الاعمال العالمي، وكذلك جاذبيته"(21)، "وبعض البلدان قد تنجذب الى بلدان أخرى ذات قوة صلبة بواسطة اسطورة كونها لا تقهر، وكونها شيئا حتميا. ولقد حاول هتلر وستالين تطوير اساطير من هذا النوع".(22) ولكي يوضح أكثر تصوره عن العلاقة بين القوتين يرى ان " كل منهما تشكل جانبا من قدرة المرء على تحقيق اغراضه من خلال التأثير على سلوك الأخرين. فالقوة الآمرة -أي القدرة على تغيير ما يفعله الاخرون- يمكن أن تستند الى الارغام او الاغراء. اما القوة الانتقائية (الناعمة) -أي القدرة على تشكيل ما يريده الاخرون- فيمكن ان تستند على جاذبية ثقافة المرء او عقيدته الأيديولوجية او قدرته على التلاعب بجدول اعمال الخيارات السياسية لأنها تبدو بعيدة عن الواقعية أكثر من اللازم..."(23)، وينتهي من هذا التفصيل لحدود العلاقة بين القوتين الى التأكيد على أمر مهم جدا الا وهو أن ارصدة القوة الصلبة هي بيد الحكومات فقط، اما ارصدة القوة الناعمة فمعظمها بيد المجتمع، أي ان الأخير يشارك حكومته في مدها بمصادر القوة في علاقاتها الدولية.(24) وقد ابتدع ناي من هذا المزج الفعال بين القوتين ما أسماه القوة الذكية، ونصح واشنطن في الصفحة الأخيرة من كتابه (القوة الناعمة) بالقول: " نجاح أمريكا سوف يعتمد على تطويرنا لتفهم أعمق لدور القوة الناعمة، وتطوير توازن أفضل للقوتين الصلبة والناعمة في سياستنا الخارجية. وتلك ستكون القوة الذكية. لقد فعلنا ذلك من قبل، ونحن قادرون على فعله مرة أخرى".(25) وهذه الدراسة تتفق مع ما ذهب اليه ناي من استحالة الفصل بين القوتين، كما تتفق معه في ان نقص الموارد في أي منهما يترك تأثيرات سلبية على القوة الشاملة للدولة.
وهناك-أيضا-سؤال ربما يراود الكثيرين وهو هل ان القوة الناعمة موضوع جديد في العلاقات الدولية ام ان له جذورا تاريخية قديمة؟
من الخطأ الاعتقاد بأن التأثير في الاخرين بواسطة القوة الناعمة ظهر فجأة الى عالم العلاقات الدولية في نهاية عقد الثمانينات، نعم قد تكون التسمية جديدة، لكن المضمون قديم جدا يمتد الى البدايات الأولى لظهور الامبراطوريات والدول على وجه الأرض، اذ نرى له وجود مثلا لدى معظم الحكام البارزين في بلاد ما بين النهرين منذ الالف الثالث قبل الميلاد- سرجون الأكدي وحمورابي البابلي أنموذجا- فهم عندما كانوا يبسطون نفوذهم على دول مختلفة في عباداتها وثقافاتها، كانوا يبقون على آلهتها ويظهرون التقدير لها، فضلا على احترام ثقافتها العامة، ويعمدون الى التقريب بينها بالمصاهرة والقوانين الجامعة وحسن الإدارة وما شابه، في الوقت الذي يسعون فيه الى تعزيز مصادر قوتهم العسكرية والاقتصادية، لذا لا غرابة ان تجد ان مثل هؤلاء الحكام استطاعوا تأسيس امبراطوريات استطاعت السمو والصمود لفترة طويلة، على خلاف غيرهم من الحكام قليلي الحكمة وقصيري النظر.
كذلك تجد أثار القوة الناعمة لدى الإسكندر المقدوني منذ اللحظات الأولى لوضع اقدامه في البر الاسيوي في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، بما اظهره من حرص على تحقيق المزج الثقافي بين ثقافته الاغريقية الاوربية، والثقافات الاسيوية القديمة (مصر، بلاد فارس، بلاد ما بين النهرين، بلاد الشام وغيرها)، وفي رغبته في قيادة عالم متعايش ثقافيا يكون أنموذجا في الإدارة والحكم. فتركت مساعي الاسكندر في الجمع بين القوتين: الصلبة والناعمة تأثيرها العميق في ثقافات الشعوب الاسيوية، في الوقت الذي كان تأثير القوة الناعمة لهذه الثقافات عميقا على الاسكندر نفسه.
مثال آخر يبرز من خلال السيرورة التاريخية للأديان السماوية التي شكلت في توسعها وانتشارها أنموذجا مثاليا على قوة ناعمة استطاعت اختراق حصون اعتى الامبراطوريات، واشد الثقافات انغلاقا، فالحملات العسكرية الإسلامية في القرن السابع الميلادي، لم تستند الى قوة السيف فقط في انتشار الدين الجديد وانتصاره - ربما كان السيف في كثير من الأحيان مدعاة لانتقادات في شرعية استخدامه لا يمكن الجدال فيها- ولكن انتصارها الامضى كان في قوة القيم التي خلقت الجاذبية والاقناع بتفوق النموذج الذي يمثلها، ويكفي دلالة على قوة تأثير هذا النموذج انه انهى والى الابد الوجود السياسي للإمبراطورية الساسانية في بلاد فارس (ايران حاليا)، وأعاد تشكيل مجتمعاتها ثقافيا ودينيا وحضاريا لتصبح جزء من عالم إسلامي تتفاعل معه سلبا او إيجابا بطريقة تستنبط معاييرها وحججها من داخل الثقافة الإسلامية نفسها، كذلك كان الحال مع كثير من الأمم التي اعتنقت الإسلام لقوة قيمه، وجاذبية أنموذجه. ونفس الشيء كان حال بقية الأديان مع اختلاف درجة التأثير بين دين وآخر.
كما يمكن أن نلمح اثارا للقوة الناعمة في حملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام (1798-1801)، فعلى الرغم من فشل الحملة عسكريا، بل وكانت أهدافها العسكرية مدعاة للانتقاد والكراهية، الا أن تأثيراتها الثقافية والحضارية في المشرق العربي كانت سببا في تحريك العقل السياسي في المنطقة واتجاهه الى طرح تساؤلاته المهمة عن أسباب تخلف أبنائها وتقدم غيرهم؟ ومدى صحة النظم التي حكمتهم لمدة طويلة من الزمن؟
ان التاريخ البشري يشهد وفي حقب كثيرة على أن القوى التي تمتعت بخاصية الجمع بين قوة صلبة فعالة وقوة ناعمة مؤثرة هي القوى التي حققت انتشارا أوسع، واستمرارا تاريخيا أطول، بل وبقيت اثار قوتها الناعمة فاعلة على المسرح على الرغم من أفول نجم قوتها الصلبة. اما القوى التي ركنت الى قوتها الصلبة فقط في الحصول على الارغام من الاخرين، فكانت سريعة الزوال، انظر على سبيل المثال تلك القوة المرعبة والمدمرة للمغول التي استطاعت ان تكتسح العالم سريعا وتقهر شعوبا كثيرة، الا انها في النهاية انتهت وزالت من الوجود ولم يعد العالم يذكر عن المغول الا انهم شعب بدائي لا يمتلك حظا من الثقافة والحضارة واحتاج في آخر المطاف الى الذوبان في ثقافة الآخرين، قد يكون القادة المغول آنذاك رغبوا في الحصول على إذعان الاخرين بالرعب، وعدوا تلك سياسة ناجحة في تحقيق النتائج المرغوبة، الا ان ما حصلوا عليه من اذعان كان اذعانا غير دائم، زال مع زوال مصادر قوة الخصم الصلبة. واشباه المغول على مسرح التاريخ كثر. نعم قد تكون الدعايات التي يطلقها بعضهم -القاعدة وداعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى والطغاة والمستبدون وامثالهم-تنطوي على تأثير ما من القوة الناعمة يساعد على اكتساب الاتباع والمناصرين، الا انه في إطار الدور والمستوى الحقيقي للقوة الناعمة المؤثرة يكون محدودا وغير قابل للانتشار والاستمرار.
أخيرا يمكن القول: ان أي دولة او قوة تعمل في المسرح الدولي لا تكون لها قوة ناعمة تحرك الاخرين الى الامام، وتشد ابصارهم الى الأعلى، وتدفعهم الى المقارنة بينها وبين الحياة التي يعيشونها لا تكون ناجحة في خلق النموذج الفعال، وسيكون تأثير قوتها الناعمة-ان وجدت-وقتي سرعان ما تنقشع حقيقته، ليبدأ الناس في الاشمئزاز منه.
المطلب الثاني: مصادر القوة الناعمة
لكل قوة مصادرها التي توظفها لتحقيق هدفها في الحصول على اذعان الآخرين، والقوة الناعمة لا تختلف عن غيرها، فما هي مصادرها؟
على الرغم من الكتابات المختلفة التي تطرقت الى هذا الموضوع تبقى كتابات جوزيف ناي هي الأبرز بينها؛ لكونه اول من كتب عنها بعمق واراد لها ان تكون مرتكزا في بناء العلاقات بين الدول، وقد حدد مصادر القوة الناعمة بـ "الثقافة"، و"القيم السياسية"، و"السياسة الخارجية".(26)
فالثقافة هي "مجموعة العلوم والفنون والأفكار والمعتقدات والاخلاقيات والتعليمات والقوانين والآداب والرسوم وسائر التعليمات والعادات والتقاليد التي يكسبها الانسان بوصفه أحد أفراد المجتمع"(27)، وقد عرفها مالك بن نبي بأنها " الجو المشتمل على أشياء ظاهرة، مثل الأوزان والالحان والحركات، وعلى أشياء باطنة، كالأذواق والعادات والتقاليد، بمعنى أنها الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص، يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر".(28) والثقافة عند ناي تمثل " مجموعة القيم والممارسات التي تخلق معنى للمجتمع" وهي تشمل الثقافة العليا للمجتمع التي تؤثر على النخب: الادب، والفن، والتعليم. والثقافة الدنيا (الشعبية) التي يرى انها عندما تعمل ضمن السياق الصحيح يكون لها تأثيرا جاذبا مهما، فيقول: "ان ثقافتنا الشعبية قد جعلت الولايات المتحدة تبدو للآخرين مثيرة، وغريبة، وغنية، وقوية، وصانعة للميول والتوجهات، وصاحبة الدور الأبرز في الحداثة والابتكار. ومثل هذه الصور لها جاذبية في عصر يريد فيه الناس ان يشاركوا في الحياة الطيبة والرغيدة على الطراز الأمريكي، حتى ولو كانوا كمواطنين مسيسين واعين بالجانب المنحدر المليء بالتقصير في أمريكا من ناحية البيئة، والمجتمع، والمساواة".(29)
هذا المزج بين فاعلية الثقافة العليا الراقية والثقافة الدنيا الشعبية مهم جدا لتحقيق الجاذبية الثقافية الشاملة، وكما ينقل ناي عن بن واتنبرغ " فان الثقافة الامريكية تشمل البريق السطحي، والاثارة الرخيصة، والجنس، والعنف، والتفاهة المبتذلة، والنزعة المادية، ولكن هذا ليس هو القصة بكاملها. فالثقافة الشعبية أيضا تصور القيم الامريكية المنفتحة، والمتحركة، والفردية النزعة، والمعاكسة لمؤسسات النظام القائم، والمتعدد الأطراف، والطوعية، والحرة، والمتصلة بالطبقات الشعبية الدنيا. ان هذا المحتوى سواء انعكس بصورة مؤاتيه ام غير مؤاتيه هو الذي يأتي بالناس الى شباك التذاكر. وهو محتوى اقوى من السياسة او الاقتصاد. بل هو الذي يحرك السياسة والاقتصاد".(30)
ان الرأي اعلاه دقيق جدا، على الرغم من ان بعض النخب لاسيما في عالمنا الإسلامي أحيانا تترفع عن ادراك اهمية الثقافة الشعبية للطبقات الدنيا راجمة إياها بمختلف التهم والانتقادات، لكن ما لاحظناه في العراق بعد عام 2003 يشهد ان قوة الجاذبية بين الشعوب تحصل بتأثير الثقافة الشعبية مع عجز الثقافة العليا-الحكومية والنخبوية- عن تحقيقه، فمن المعروف ان تجربة الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988 قد تركت جدارا صلدا من العداء بين الشعبين، وهذا الجدار استمر على الرغم من الانفتاح بين الدولتين على المستوى الحكومي، ولكن الوفود الإيرانية التي جاءت لزيارة العتبات المقدسة في العراق رجعت متأثرة كثيرا بالطقوس الشعبية العراقية المصاحبة لمراسيم الزيارات لاسيما زيارة الحسين عليه السلام في شهري محرم وصفر الهجريين من كل عام، وقد انعكس ذلك على جانبين:(31)
الأول: زيادة اعداد الوفود الإيرانية القادمة الى العراق كل عام بشكل متواصل.
الثاني: الانهيار التدريجي للجدار النفسي بين الشعبين حتى وصل الامر الى ان يتعجب الكثير من الإيرانيين كيف حصلت الحرب مع العراق، وهل فعلا خاضوا حربا لثماني سنوات مع شعب طيب كالشعب العراقي.
فالصورة الإيجابية التي خلقتها الطقوس الدينية الشعبية كانت عنصرا مهما في خلق الجاذبية والاقناع في العلاقات بين الدول، ربما يتجاوز تأثيره أحيانا الى تعديل طبيعة السياسات المحلية والخارجية للدولة ذاتها، والدولة التي تحقق الهيمنة الثقافية على غيرها ستكون قدرتها على الجذب والاقناع للوصول الى الغايات أيسر بكثير من الدول التي لا تمتلك أي شكل من اشكال التأثير الثقافي. وللتأثير الثقافي أدوات كثيرة تشمل: الكتاب، والموسيقى، والتلفزيون والسينما، والتجارة، وتبادل الوفود، والزمالات الدراسية، والجامعات، والمدارس، والرياضة، وصور نجوم الفن والرياضة وما شابه، والتطور التكنلوجي، ونمط الحياة حتى طريقة اللبس والأكل وتبادل العلاقات الاجتماعية.
اما القيم السياسية، فهي تلك التي تبرز في السياسات الحكومية الوطنية المرتبطة بمدى تأكيد الديمقراطية واحترام حقوق الانسان من عدمها، وكما يؤكد ناي من الضروري عدم الاكتفاء بإعلان الديمقراطية وحقوق الانسان وانما من الضروري-أيضا-ان يكون هناك ايمان حقيقي بها ليعطيك القدرة على التأثير في الاخرين، لذا ينصح الإدارة الامريكية بقوله: " ان كيفية سلوك أمريكا في الداخل يمكن ان توسع صورتها وإدراك شرعيتها. وهذا بدوره قد يساعد على تقدم أغراض سياستها الخارجية، وليس معناه أن الاخرين يرغبون أو يحتاجون أن يصبحوا نسخا أمريكية".(32)
والسياسة الخارجية، من جانبها، كمصدر ثالث للقوة الناعمة تكشف عن سعة او ضيق المصالح الوطنية للدولة " فالسياسات القائمة على تحديدات شاملة وبعيدة النظر في المصالح الوطنية يسهل جعلها جذابة للآخرين أكثر من السياسة ذات المنظور الضيق القصير النظر".(33) اذ "عليك أن تمد يدك الى الشخص الآخر. وعليك أن تقنع الآخرين بأن الصداقة الطويلة الأمد ينبغي أن تتغلب على الشدة القصيرة الأمد".(34) وان "...السياسات المحلية والخارجية التي تبدو منافقة، أو متغطرسة، أو غير مبالية برأي الآخرين، أو قائمة على معالجة ضيقة الأفق للمصالح الوطنية قد تقوض القوة الناعمة".(35)
ان مصادر القوة الناعمة أعلاه تؤكد على أهمية ان تكون للدولة قيم معينة تجذب الآخرين اليها، فالجذب بقوة القيم لتحقيق ما تريده من تفضيلات لا يقل عن أهمية الإذعان الناتج عن استخدام مصادر القوة الصلبة -العسكرية والاقتصاية، "فعندما تحتوي ثقافة بلد ما على قيم عالمية، وتروج سياساته قيما ومصالح يشاركه فيها الآخرون، فانه يزيد من إمكانية حصوله على النتائج المرغوبة بسبب علاقاته التي يخلقها من الجاذبية والواجب. فالقيم الضيقة والثقافات المحدودة يقل احتمال انتاجها للقوة الناعمة".(36) والجاذبية لا تكون للدولة الا بعد ان تصبح قدوة ونموذجا للآخرين، وجميع الدول قادرة على ان تقدم نموذجها من خلال ما تؤمن به وتدافع عنه من قيم سياسية، الا ان بعض الدول قد تضرب انموذجا سيئا منفرا، وبعضها الاخر تضرب انموذجا حسنا جاذبا، فيكون الضعف من نصيب الأولى، على الرغم من مظاهر القوة الخارجية الصلبة أحيانا (الاتحاد السوفيتي السابق مثلا)، وتكون القوة من نصيب الأخيرة.
ولتكون مصادر القوة الناعمة قابلة للتأثير فهي بحاجة الى:(37)
- وجود مفسرين جيدين قادرين على ارسال الرسائل المناسبة الى الآخر.
- وجود متلقين (جمهور) مستعدين لتقبل هذه الرسائل، وقد يتطلب تهيئة هذه الوسط المستعد وقتا طويلا من العمل لإعطاء النتائج المبتغاة.
المطلب الثالث: أهمية القوة الناعمة في العلاقات الدولية
يحاول هذا المطلب الإجابة عن تساؤل مفاده: هل ان قوة الجاذبية لتحقيق الارغام والهيمنة الطوعية للوصول الى النتائج المرغوبة بعيدا عن القسر العسكري او الاقتصادي مهم في العلاقات الدولية؟
يذهب اشد أنصار القوة الناعمة الى القول نعم؛ كون إدراك دور القوة الناعمة يندرج في سياق فهم قواعد الهيمنة الدولية في عالم اليوم المتغير " فقبل أن تحكم من صاحب الأوراق الرابحة، فإنك بحاجة الى معرفة ما هي اللعبة التي تلعبها، وكيف يمكن أن تتغير قيمة الأوراق".(38) ومن قواعد هذه اللعبة ان ديمقراطيات ما بعد التصنيع ستكون اقل ميلا لاستخدام قوتها العسكرية؛ لأنها " ترتكز على الرفاهية بدلا من المجد، كما انها تكره الإصابات الكثيرة...(فـ) غياب اخلاق المحاربين (حسب وصف ناي) في الديمقراطيات الحديثة يعني أن استخدام القوة يتطلب تبريرا أخلاقيا مفصلا بأحكام متقن لضمان التأييد الشعبي، الا إذا كان البقاء الحقيقي مهددا بالخطر".(39) ويضرب ناي المثل بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق كنموذج على قوة جبارة عسكريا لم تنفعها هذه القوة في اللحظات الحرجة، بقوله: " كانت للاتحاد السوفيتي قدرات عسكرية رهيبة تشكل تهديدا لأوروبا الغربية، وفي أوائل فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان لديه أيضا مصادر مهمة للقوة الناعمة من جاذبية العقيدة الأيديولوجية الشيوعية وسجله في التصدي لألمانيا النازية. غير أنه بدد جزءا كبيرا من هذه قوته الناعمة من خلال ممارسته للقمع في الداخل وفي أوروبا الشرقية. وأدائه الاقتصادي غير الكفوء في سنواته الأخيرة حتى مع ازدياد قوته العسكرية. فالبرامج الدعائية والثقافية السوفيتية التي كانت تديرها الدولة لم تستطع ان تضاهي تأثير ثقافة أمريكا الشعبية التجارية في المرونة والجاذبية. فجدار برلين كان قد تم اختراقه بالتلفزيون والأفلام السينمائية قبل زمن طويل من سقوطه في عام 1989. ذاك أن المطارق والجرافات ما كانت لتنتج لولا انتقال الصور المبثوثة من ثقافة الغرب الشعبية على مدى سنوات طوال فاخترقت الجدار قبل أن يسقط".(40) و"مهما كانت أهمية قوة الولايات المتحدة العسكرية ووعدها السياسي في إرساء النجاحات الامريكية في أوروبا الحرب الباردة، فالحقيقة أن جاذبية أمريكا الاقتصادية والثقافية هي التي كسبت عقول وقلوب اغلبية الشباب للديمقراطية الغربية، وكلما كان الاستهلاك الحقيقي يصعد الى الحلبة، كانت هناك فرص عالية بأنه يتعين استبعاد الاشتراكية الحقيقية. فالحرب الباردة تم كسبها بخليط من القوتين: الصلبة والناعمة. فالقوة الصلبة خلقت جدارا صادا من الاحتواء العسكري، ولكن القوة الناعمة جعلت النظام السوفيتي يتآكل ويهترئ من الداخل".(41)
ان الإصرار على أهمية القوة الناعمة لم يتولد من فراغ، فحتى منتقدو القوة الناعمة لم يتجاهلوا أهميتها وتأثيرها، اذ عبر رفيق عبد السلام عن هذا الامر بحقائق عدة منها قوله: " صار مألوفا جدا أن يرى المثقف والسياسي، وحتى عامة الناس في نيودلهي والقاهرة وجاكارتا وبكين في نظام العمارة وهندسة المدن والشوارع، وفي سن القوانين، وعزف الموسيقا، وربما نظم الشعر على الطريقة الإنجليزية أو الفرنسية أو الامريكية باعتبارها النموذج الأمثل وربما الأوحد لتطور الوعي وتجسد الحضارة. وقد أدى هذا الامر الى زهد الكثير من النخب فيما هو محلي وموروث الا لكونه قديما"(42)، و"ان زعامات عالمثالثية كبيرة مثل عبد الناصر ونهرو وتيتو وبن بلا والى حد ما ماوتيسي تونغ كانوا متمردين على الهيمنة السياسية والميراث الاستعماري الغربيين بقدر ما كانوا يتطلعون الى انجاز المهمة التحديثية على الطراز الغربي والالتحاق به. او في الحد الأدنى تقليص الفارق معه"(43)، "وحتى قادة التيارات الإسلامية اليوم التي ورثت الاتجاهات القومية والوطنية تختلط عندها مشاعر الكراهية والتمرد على ما تعتبره عدوانية الغرب ونفاقه بأقدار غير قليلة من الانجذاب والانبهار به"(44). إذا-والكلام لعبد السلام-علينا: "أن نعترف هنا بأننا نحن أبناء هذا الجيل ممن قدر لنا العيش في العواصم الغربية والدراسة في جامعاتها، فضلا على ادراكنا لمآزق هذه الحداثة الغربية وعاهاتها لم يقدر لنا التخلص من عقدة الغرب وسطوة ادعاءاته الكونية الحداثية..."(45).
ومن الدلائل الملفتة للنظر على أهمية القوة الناعمة هي ان التنظيمات الإرهابية والحركات المتطرفة والمنظمات غير الحكومية استطاعت التمدد عابرة للحدود السيادية للدول من خلال ما تمتلكه من قوة ناعمة بشكل أساس، وهذا الامر سبق لناي ان حذر منه بقوله: " يعتمد الإرهاب اعتمادا حساسا على القوة الناعمة من أجل تحقيق انتصاره النهائي، وهو يعتمد على قدرته على اجتذاب الدعم من الجمهور بطريقة تعادل على الأقل قدرته على تدمير إرادة القتال عند عدوه".(46)، "فالتكنلوجيا تزيد وصول الإرهابيين الى القوة المدمرة، ولكنهم كذلك يستفيدون كثيرا من قدرات الاتصال المتزايدة مع بعضهم بعضا عبر مناطق السيطرة، ومع المستمعين عبر العالم".(47) و"القوة الناعمة تعتمد على جمهور مستعد للتلقي حتى ولو كانت عين الناظر شريرة. فالمنظمات الإرهابية عابرة القومية مثل القاعدة قد تكون منفرة لغالبية العالم، ولكن من الواضح أنها جذابة لبعض المتطرفين".(48) اما بالنسبة للمنظمات غير الحكومية فإنها-أيضا-لها قوتها الناعمة التي تساعدها على التمدد، باعتبارها "ضميرا عالميا تمثل مصلحة عامة واسعة تتجاوز نطاق فرادى الدول"، ويتعين” على الحكومات أن تأخذها في الحسبان سواء كحلفاء أم كخصوم"، فهذه المنظمات مرنة وفعالة في اختراق الدول دون مراعاة الحدود الجغرافية.(49)
كما أن خطورة القوة الناعمة في ميدان العلاقات الدولية وصلت الى ان ترتفع أصوات قيادات دولية بارزة تحذر من تأثير هذه القوة، منهم على سبيل المثال علي الخامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في ايران الذي طالب شعبه ونخبه بالحذر مما اسماها الحرب الناعمة للأعداء بقوله: " الحرب الناعمة حرب حقيقية في عالمنا المعاصر، رغم أن بعض الأشخاص لا يرونها"، وان " الحرب الناعمة عبارة عن تضليل الشعب – الرأي العام- بشعارات ظاهرها حق ولكن محتواها باطل وفاسد واثارة الغبار في الجو السياسي للبلد"، و"ان الهدف المركزي للحرب الناعمة هو تحويل نقاط القوة والفرص الى نقاط ضعف وتهديدات، وقلب حقائق البلاد".(50)
ولعل أوضح دليل على أهمية القوة الناعمة ما تراه في كثير من الدول- الدول العربية ذات الأنظمة التقليدية وايران وتركيا وغيرها من الدول المماثلة-من محاولات تبذلها حكوماتها من اجل غلق حدودها الجغرافية بوجه الوافد الأجنبي الثقافي سواء جاء عن طريق تبادل التواصل البشري المباشر ام عن طريق التواصل التقني: وسائل الاعلام، والانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي...باسم مواجهة الغزو الثقافي او الحرب الناعمة او أي تسمية أخرى، فهذه الدول ربما لا ترهبها اساطيل خصومها وعقوباتهم الاقتصادية بقدر ما تقف مشدوهة حائرة امام قوة نموذجهم وتغلغل نفوذهم الثقافي؛ لأنها تدرك ان من يمتلك الهيمنة الناعمة سيمتلك في النهاية القدرة على إعادة تشكيل جدول اعمال الخصم وتحطيم إرادة مقاومته. نعم قد تجادل بعض قيادات هذه الدول بذرائع شتى وقد تكون في كثير من الأحيان حججها صحيحة، لكنها لا تستطيع ان تنكر ان مجرد غلقها لحدودها البشرية والجغرافية بوجه مصادر القوة الناعمة الموجهة لها من خصومها دليل على ضعفها وعدم قدرتها على كسب الصراع في هذا المضمار.
ان عالم اليوم متغير بسرعة، ومتطور بصورة أسرع، ويحتاج من يريد التقدم فيه تكنلوجيا واقتصاديا الى الانفتاح على الآخرين، لذا لن يطول الزمن كثيرا حتى تصبح جميع الدول والشعوب مكشوفة على بعضها البعض، وعندها سيتفاقم تأثير القوة الناعمة بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشر، وستجد الدول الأضعف في مصادر قوتها الناعمة انها محاصرة يوما بعد آخر الى ان تصل الى واحدة من نتيجتين: اما تطور مصادر قوة ناعمة خاصة تمكنها من الاستمرار في التنافس والتأثير على الآخرين، واما تهزم بطريقة تجعلها عاجزة عن مواصلة العناد والمكابرة فتخسر ارادتها وشعبها لمصلحة الخارج.
نخلص مما تقدم من حديث عن ماهية القوة الناعمة الى انها تتمتع بميزات مهمة جدا هي:
-انها لا تجسد قوة الحكومات فقط، وانما تجسد أيضا قوة شعوبها، مما يحمل الدول مسؤولية إيجاد حكومات جيدة تنظيما وإدارة وقرارا واشخاصا، كما يحمل الشعوب مسؤولية السعي بلا هوادة نحو التطور الثقافي في حقلي الثقافة العليا والشعبية.
- جاذبية النموذج في القوة الناعمة يتطلب من الدولة ان تكون سياساتها قابلة للجذب والاقناع في حقلي السياسات الداخلية والخارجية، وهذا يعني ان السياسات المنفرة والمكروهة لن تكون محل ترحيب لمن يريد امتلاك قوة ناعمة عالية التأثير.
- انها ليست قوة عمياء، على الرغم من كونها غير ملموسة؛ لأن الحصول عليها ينسجم مع فهم طبيعة المتغيرات التي تجري في البيئة الدولية من اجل التكيف مع هذه المتغيرات والاستعداد للتنافس مع وحداتها المؤثرة، وصولا الى تحقيق النتائج المرغوبة للدولة بطريقة ذكية.
- الضعف -ظاهرا وجوهرا-غير مقبول؛ لأن الضعيف كما يرغم عسكريا واقتصاديا، سيرغم بالقوة الناعمة، ومن يريد الانتصار في عالم دولي شديد التعقيد والتنافس والحركة عليه ان يكون قويا لا بقوته الصلبة الظاهرة فقط، وانما قويا بالجوهر ايضا من خلال امتلاكه لنظام حكم مقبول، وثقافة محفزة، وسياسات صالحة، وتقدم تكنلوجي، ومؤسسات مؤثرة...
- الاستعمال الفعال لهذه القوة يساعد على احتواء النزعات الفكرية المدمرة، والحركات المتطرفة، والدول العدوانية بفعل الإرادة الدولية الراغبة فعلا بتحقيق السلم والامن الدوليين، والعكس صحيح تماما، عند إساءة استعمالها او عند عدم امتلاك مصادرها.
المبحث الثاني: معطيات القوة الناعمة في سوريا والعراق
طالما أن القوة الناعمة تعني قوة الجذب للدولة من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق وقيم ومن خلال الدعم الذي تقدمه في مجالات حقوق الإنسان والثقافة والفن، مما يدفع الآخرين إلى احترام النموذج الذي تمثله تلك الدولة والإعجاب به، بسبب قوة التأثير التي تحدثها موارد القوة الناعمة. فأن الشرق الأوسط -العربي على الأقل-يعاني من مشاكل كثيرة تضعف تأثير قوته الناعمة، فالمبدأ الديمقراطي المتعلق بالتداول السلمي على السلطة، بل وفكرة التداول ذاتها، أبعد ما تكون عن الواقع في التجربة السياسية العربية الحديثة والمعاصرة. لذا تسود نظم حكم عائلية أو عسكرية أو فردية على عرش السلطة منذ عقود، ولم تفلح حتى الانقلابات العسكرية التي عرفها العرب مبكراَ في تغيير الصورة، بل إن النظم الانقلابية في الحقيقة أرست دعائم جديدة وقوية لرسوخ الدكتاتورية أطاحت كل شكل لتداول السلطة. ولعله من الطريف أنه حتى ما يسمى بـ "الجمهوريات العربية" التي تدعي الانتماء إلى العائلة الديمقراطية، أخذت بالتحول نحو إقرار مبدأ التوريث، وليس مبدأ التداول، كما يفرض النظام الجمهوري أساساً. لذلك تجد أن البعض يسمي هذه النظم "جملكيات" نتيجة ميل الحاكم أو القائد وسعيه الحثيث إلى توريث السلطة لأبنائه بمختلف السبل. (51)
وكان الشرق الأوسط من بين جميع مناطق العالم، أكثرها تثبيطاً للآمال من حيث التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وحقوق الانسان والحريات العامة، ونمو المجتمع المدني. والأسباب المفسرة لذلك كثيرة لا مجال للخوض فيها هنا. (52) "ولا عجب في ذلك، فالبلد اللاديمقراطي ذو الاقتصاد المتخلف لا يمكن أن يعكس صورة مزدهرة... فالديمقراطية كقوة ناعمة لا يمكن استنباتها بشكل مصطنع بمعزل عن الواقع. والقوة الناعمة للدولة تتعزز عندما تكون رائدة في متوسط عمر مواطنيها ومستوى الرواتب والاجور والحقوق التقاعدية لديهم ومعدل دخلهم ومستوى تمتعهم بالتعليم والضمان الصحي والاستقرار لأطول فترة بلا حروب أو كوارث ومؤشرات اخرى كثيرة تكوّن هيبة وسمعة البلد في عيون الشعوب الاخرى. وغالبا ما ترى دولا صغيرة تتقدم في كثير من المؤشرات على دول كبيرة فتكون قوتها الناعمة فاعلة أكثر". (53) علما أن لكثير من الدول قوة ناعمة لكن لا تجيد استخدامها أو توظيفها وتتجاهلها الطبقة السياسية وعامة الناس بشكل متعمد أو غير متعمد مما يؤدي إلى نتائج عكسية على البلد نفسه داخليا وخارجياً.
ومن هذا التوصيف العام لواقع الشرق الأوسط سنحاول قراءة معطيات القوة الناعمة لبلدين عربيين مهمين هما سوريا والعراق، من حيث واقع القوة الناعمة لديهما؟ وتأثيرها السلبي عليهما؟ وكيفية التوظيف الاستراتيجي لهذه القوة المهمة لتعزيز قوتهما الشاملة؟
المطلب الأول: واقع القوة الناعمة في سوريا والعراق
لقد سعت بعض الدول في الشرق الاوسط الى استغلال وسائل القوة الناعمة في بناء مرتكزات وجودها، واهميتها في السياسة الدولية، رغم عدم امتلاكها اسس القوة التقليدية، "كالإمارات العربية المتحدة من خلال الابهار العمراني، ونمط المعيشة المتطور، وسياحة المهرجانات والمؤتمرات، وقطر من خلال شبكة الجزيرة الفضائية التي جذبت الرأي العام العربي في المجالات الاكثر جماهيرية، كالرياضة والسياسة، والمملكة العربية السعودية من خلال توظيف الفكر الوهابي، والهيمنة على وسائل الاعلام والانتاج الفني والثقافي، وتركيا من خلال الدراما التلفزيونية والترويج للنموذج السياسي الاردوغاني".(54)
وبالنسبة لسوريا والعراق فإن واقع القوة الناعمة في هذين البلدين يشير الى انهما يفتقران الى الموارد الحقيقية لهذه القوة او انهما بحاجة الى اصلاح مقومات قوتهما الناعمة من اجل إعادة الفاعلية والتأثير لها على المستوى المحلي والدولي، وكما سيتضح من خلال مايلي:
أولا: سوريا
لقد "افتقرت سوريا الحديثة بعد استقلالها عام 1946 إلى ثقافة حقوق الإنسان وممارستها على نطاق واسع، باستثناء فترات ديمقراطية في الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين؛ إذ أتيح فيها المجال لبعض هوامش الحريات السياسية. وعندما نتحدث عن حقوق الإنسان بالمفهوم الحقوقي، فنعني جملة المعايير السياسية والمدنية التي صنفتها مؤسسات الأمم المتحدة والتي من أهمها: تأمين سلامة الأفراد من الحرمان التعسفي وغير القانوني من الحياة، ومن الاختفاء ومن التعذيب والعقوبة والمعاملة القاسية وغير الإنسانية والحاطة بالكرامة، ومن الاعتقال التعسفي، والحرمان من المحاكمة العادلة، ومن التدخل التعسفي في الحياة الخاصة والأسرية والمنزلية والمراسلات، وضمان حرية التعبير ووسائل الإعلام، وحرية التجمع وتكوين الأحزاب والجمعيات، وحرية اعتناق الدين، وحرية التنقل داخل البلاد وخارجها والهجرة والعودة، واحترام الحقوق السياسية، بما في ذلك احترام حرية المواطنين في تغيير حكوماتهم، والالتزام الحكومي بضمان إتاحة المجال للتحقيق الأممي أو الأهلي في أي انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان، والتحقق من عدم وجود تمييز وتحقير اجتماعي لجنس أو طبقة معينة، فضلاً على كفالة حقوق العمل والتي تشمل في المقام الأول العمل النقابي ومنع العمل القسري والسخرة، وحظر عمالة الأطفال وتطبيق معايير للأجر الادنى، ووجود شروط مقبولة للعمل". (55)
إلا أن استمرار النظام السوري في "اعتماد نهج الدولة الأمنية والتوغل في الأخطاء والتشديد على الحريات وحقوق الإنسان والإعلام، عّرضت البلاد لحالة عزلة دولية ومواجهة مع المجتمع الدولي. ثم لجأ النظام إلى خطاب "الخصوصية" في المنطقة، ونظر إلى المجتمع المدني وحقوق الإنسان بوصفها نتاجاً لثقافة الغرب، وتعبيراً عن هيمنته متجاهلاً ضرورة تحاور وتلاقح الثقافات والحضارات والأساس المشترك لتلك الحقوق بين جميع البشر، وكثير ما كان النظام يلجأ إلى الحلول الأمنية "القوة الصلبة" بدل الحلول المدنية "القوة الناعمة" للتعامل مع المجتمع والحركات المدنية المطالبة بالديمقراطية وحقوق الانسان". (56)
إن شمولية النظام الحاكم السوري جعلته يتشدد ضد انتقاد الحكومة وسياساتها وممارساتها ورموزها، اذ لا يجوز المس بمقام رئيس الجمهورية وغيره من القائمين على السلطة التنفيذية والأمنية، كما أن وسائل الإعلام في الجملة تدار مباشرة بواسطة النظام السوري، ولا يسمح لأصحاب الرأي الآخر بالمشاركة في وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو المرئية أو الإلكترونية. وكثير من معتقلي الضمير والرأي يقبض عليهم ويعاملون معاملة سيئة؛ بسبب تعبيرهم عن آرائهم (57)، والدستور السوري "مفصل على مقاس النظام، فرئيس الجمهورية يجب أن يكون بعثياً، وترّشحه لجنة خاصة من حزب البعث. ويكرس الدستور السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد رئيس الجمهورية. أما الانتخابات فشكلية تقتصر على الاستفتاء على مرشح للرئاسة من المستحيل أن يفوز إلا بنسبة فوق التسعين بالمائة، أما مجلس الشعب والمجالس المحلية فلها نسب مقررة مسبقاً تضمن السيطرة والفوز للسلطة القائمة. فالمواطنون السوريون محرومون من الممارسة الديمقراطية ومن احترام حقوقهم السياسية في بلدهم. ولا تعترف السلطات السورية بجمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ولا تسمح بالتحقيق الأممي، فقد صمتت ولم تجب عن عشرات الرسائل التي وردت إليها من مؤسسات حقوقية عالمية، وعلى تقارير الأمم المتحدة، حتى في حين اضطرارها في السنوات الأخيرة للإجابة فقد حاولت التهرب من الإجابة الواضحة. ولم يحقق بانتهاك واحد لحقوق الإنسان على الأراضي السورية". (58) وتعيش سوريا منذ ١٩٥٨ إلى يومنا هذا تحت حالة الطوارئ والاحكام العرفية التي تضع قيودا على الحريات.
اما بالنسبة لوضع المرأة، فإن "معاناة النساء السوريات أكبر، إذ تم تدجين دورهن في حركة التغيير من قبل السلطة السياسية والأحزاب وجمعيات حقوق الإنسان والنشطاء الديمقراطيين، وكذلك أهمل المجتمع دورهن؛ ومن ثم تهميشهن وأصبحن مجرد ديكور رقمي للتباهي؛ لذلك يقول البعض إن هناك ارتباطاً وثيقاً بين حقوق النساء والديمقراطية والتي لا يمكن تحقيقها بدون مشاركة النساء؛ ولا يمكن القضاء على التمييز ضد النساء في ظل أنظمة غير ديمقراطية".(59)
والمؤسسة العسكرية السورية التي من المفترض أن تكون مؤسسة مستقلة ومهنية تعمل على خدمة الشعب وليس النظام أو السلطة، "اصبحت مجرد أداة طيعة لخدمة شخص الحاكم، واستمرارية نظام حكمه، لاسيما مع قيام بشار في المدة من 2005 الى 2010 بمحاولة إعادة هذه المؤسسة لضمان خضوعها التام، فقام بإفراغ الجهاز القيادي القديم من الضباط الذين ورثهم من والده، وسلم المؤسسة إلى الضباط الذين نشأوا معه، واعتمد على الحرس الجمهوري الذي يدين بالولاء له". وتعيين الموثوقين له من ضباط الحرس في المناصب التي تخلو، فغدت وحدات الحرس الجمهوري نوعاً من "جيش خاص" لرئيس الدولة في إطار الجيش عائلة رئيس الدولة، إذ "صور رئيس الدولة" على صدر كل ضابط وجندي في زيّه الرسمي، وانتشرت على بعض السيارات الصورة الثلاثية: حافظ وبشار وماهر الأسد، وتحتها عبارة " هكذا تنظر الأسود" وهذه الصورة أبرزت بشكل واضح مظاهر الإفصاح عن "عائلية النظام". (60) فتركت هذه المظاهر انطباعات سلبية لدى الشعب السوري والرأي العام الدولي، بأن الحكومة السورية حكومة عائلة وليس حكومة شعب. لذلك، كانت شرعية النظام محل شك في عيون شعبه، وفي عيون المراقبين له في المحيط الدولي.
وعندما تبوأ بشار الأسد الحكم بداية الالفية الثالثة اعتقد المراقبون أن الإصلاح في سوريا أصبح مسألة وقت. فالضغط الاجتماعي المعيشي يتزايد والإصلاح مهما أحدث من تغيرات فهو بعد فترة تحوّل، يبقى أفضل من الاستقرار بقوة النظام الأمنية، وأن عدم فعل شيء هو الخطر الحقيقي على استقرار سوريا. فالوضع الداخلي كان يتدهور منذ تولي عائلة الأسد السلطة في هذا البلد، وأشار مراقبون وخبراء إلى انتشار الفساد والعراقيل على التجارة وتراجع النشاط الاقتصادي، والقيود على الحريات، وغياب حقوق الانسان، وغياب الكفاءات في القطاع الخاص ايضاً؛ بسبب أولوية الولاء للنظام السياسي في اختيار موظفي الدولة، مما تسبب بغياب شامل لقوة الدولة المرنة أو الناعمة في عملية الاندماج السياسي مع النظام بالنسبة للمواطن السوري، وهي بوادر أولية للنفور الشعبي اتجاه النظام والسلطة، وبالتالي بدأ النظام بفقدان الجاذبية التي ترغم المواطن على احترامه. ولكن المعضلة أمام النظام كانت إما إطلاق تغيير وإصلاح تدريجي غير واضح المعالم يهيئ الطريق لظهور قوى اجتماعية جديدة تطيح بالنظام، وإما إصلاح تدريجي بطيء قد يواجه صعوبات داخلية ولكنه يؤمّن الاستقرار ويسمح بخطوات مدروسة. فجرب بشار الأسلوبين، بدء بالأول الذي عُرف بـ "ربيع دمشق" ورافقته موجة تفاؤل وانفراج في العامين الأوليين من عهده لاسيما في مسألة الحريات. (61) وكان "يزعم انه يرغب في تحرير النظام السياسي والاقتصادي وتعزيز الديمقراطية في الداخل السوري، وهو بهذا ادخل الراحة إلى العديد من المؤسسات التي جرت السيطرة عليها بشدة من قبل والده حافظ الأسد، إلا أنه بعد سنة من توليه السلطة تصاعد تشديد الإجراءات على النشاطات السياسية وأغلقت المنتديات السياسية في آذار/ مارس/٢٠٠٢. تحت ضغط من المسؤولين الرسميين، الذين كانوا يناقشون ويجادلون بأنها تسببت في تعميق الخلافات، والحط من قدر النظام". (62)
ان تجربة الإصلاح في سوريا لو كتب لها النجاح كان من الممكن أن تخلق قوة ناعمة داخلية للنظام تعزز مصادر قوته الشاملة، على الصعيد الداخلي والخارجي، لاسيما مع تنامي دور مؤسسات اﻟﻤﺠتمع المدني في إطار تنشيط الحراك اﻟﻤﺠتمعي باعتبارها أهم قنوات المشاركة السياسية، فضلاً عن كوﻧﻬا تمثل الوسيلة المثلى للتنمية في مجالات العمل الاجتماعي والثقافي والعدالة والبيئة والديمقراطية. فمؤسسات المجتمع المدني جوهرها الخيار الديمقراطي، ولا يمكن للديمقراطية أن تتجسد إلا عبر نهوض المجتمع المدني بأنظمته ومؤسساته وخلق حالة حوار نقدي بين المجتمع والدولة من أجل مصلحة الوطن، كما أن تفعيلها يعد السبيل الوحيد لبناء دولة حقيقية للجميع وتحقيق حراك اجتماعي فاعل. فالأمر الجوهري بالنسبة للجميع، هو استقرار الوطن والمجتمع على أساس متانة الانتماء الوطني والشعور بالمواطنة وسيادة القانون وحقوق الإنسان والحفاظ على التعدد في إطار وحدة الوطن، وقوة الدولة ومتانة مؤسسات المجتمع المدني، ولا يمكن أن يتحقق التوفيق بين النظام والتعدد إلا بقيام المجتمع المدني وبالاستناد إلى الديمقراطية، كما أن الاستقرار لن يترسخ، مالم يقترن بالتجديد والتطور، وإلا فإنه يصبح مساوياً للموت والعدم. (63)
وقد افتقد النظام السوري بعد الحملة التي أطلقها للإصلاح إلى اهم عنصر من عناصر القوة الناعمة التي حددها ناي في كتابه (القوة الناعمة) وهي "القيم السياسية"؛ لأن تلك القيم عادة ما تسوق النظام إلى الخارج. لقد كان الفساد في السلطة كبيرا وشمل كل المرافق، كما يؤكد ذلك الكاتب عبد الرؤوف حداد في صحيفة اخبار الشرق، فضلا عن الفساد الإداري والاخلاقي، والفساد السياسي والاقتصادي، وهيمنة الأمن في ربوع البلاد، والتمييز بين المواطنين، وتغيب اصحاب الخبرة والصلاح. واخذت المعارضة الظاهرة او الخفية تنتشر نتيجة لسياسات السلطة السورية وابتعادها عن القيم السياسية المعاصرة في الحكم، حتى اخذ الناشطون يتكلمون عن الحاجة إلى الإصلاح الديمقراطي في كلام صريح غير معتاد في سوريا والمطالبة بحرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة، وأنهاء الرقابة على الصحف وتأسيسها، والدعوة إلى بناء ديمقراطية بمجتمع مدني فعال وقوي، وإصلاح النظام السياسي من خلال الانفتاح على كل هذه العناصر التي تمثل الأساس في بناء الدول الحديثة والركيزة الاساسية لاستقرارها.
لكن في سوريا، كما في سائر الدول العربية، لم يسمح النظام بالنقد المحق والموجّه ضد أخطاء لا تغتفر فيستفيد منه الصالح العام، فمن الأمور التي حُرم ذكرها في الإعلام السوري، قضايا حقوق الانسان. مما عزز من القناعة بعمق ازمة الشرعية التي يعاني منا النظام. (64) كما افتقد الكثير من القيم السياسية الداخلية، سواء فيما يتعلق بفسح المجال للحريات الصحفية وحرية التعبير والتعددية السياسية أم فيما يتعلق بتعزيز دور المرأة في المجتمع، وإجراء انتخابات نيابية حرة. ولم يتغير نهج الإعلام في سوريا في فترة بشار الاسد عن الفترات السابقة؛ ذلك لأن معظم ما ظهر في الإعلام والذي يمكن تسميته بأنه يدعم مسيرة التطوير يُظهر أنّ التغيير هو ما تقرره الدولة. ففرض الرقابة الصارمة على الإعلام وحرية الرأي، حتى أن السلطة كانت تضغط على الإصلاحيين والمعارضين ليوقفوا الكلام عن المجتمع المدني والمناداة بالتغيير، فيما تصدى صحافيو القطاع العام لما يُنشر ويقال، فيشرح تركي صقر رئيس تحرير صحيفة البعث السورية، "أنّ الإصلاحيين ليسوا سوى موجة أخرى في سياق موجات الهجمة الإمبريالية على سوريا، يريدون من خلالها فرض أفكارهم المعادية للعروبة على الشعب"، اما عدنان عمران الذي قدم للرأي العام كإنسان عصري وحداثوي يمثّل الجيل الجديد الذي أحاط ببشار، فقد عّد المجتمع المدني أداة أمريكية المرجعية تستعمل لاختراق الشعوب، ما يعني أن الإصلاحيين السوريين الذين ينادون بالمجتمع المدني هم طابور خامس وخونة. (65)
. وبعد مرور عشر سنوات من تراكم أخطاء السلطة السياسية –في عهد بشار-وتجاهلها للشعب وفشل كل محاولات الإصلاح، بدأت مظاهر الاحتجاج والمظاهرات ضد الحكومة لمطالبتها بإصلاح فعلي وشامل، متأثرة بثورات الربيع العربي في تونس واليمن ومصر، إلا أن سوء التقدير وغياب الحكمة في التعامل معها أجج الوضع بشكل كبير حتى تحولت تلك الاحتجاجات من مطالب شعبية إلى حرب أهلية مدمرة. فظهرت بشكل سافر طبيعة النظام السوري غير الديمقراطية، وسياساته المحلية المعادية للديمقراطية وحقوق الانسان، والمنغلقة بوجه دعوات الانفتاح والإصلاح المؤسسي والسياسي، وسطوته العسكرية القاتمة، وقمعه الشديد لشعبه، واستعداده الى الذهاب باتجاه اتهام كل من يخالفه الرأي بأنه خائن، وما تركه كل ذلك من تأثيرات سلبية على البنية الاجتماعية والثقافية للشعب السوري، وعلى سياساته الداخلية التي بقت تصنف سوريا من خلالها على انها دولة نامية متخلفة القيم والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية البينية والعمودية.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن سياسة دمشق الخارجية في عهد بشار، كما في عهد والده بقت ثابتة، فسوريا لا تحظى بسياسة خارجية مؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي، وان علاقاتها الخارجية تحكمها مسميات محور المقاومة او الممانعة او ما شابه وهي لا تعكس القوة الحقيقية للدولة في الميدان الدولي بقدر ما تعكس مصالح آنية فرضتها ظروف التأزم والصراع الإقليمي والدولي. فالسياسة الخارجية السورية ليست جذابة ولا مؤثرة في محيطها الخارجي، وهذا الامر طبيعي؛ لأن أي سياسة خارجية لا تكتسب زخم قوة الجذب والتأثير ما لم تنطلق من نظام سياسي لديه مثل هذه القوة في الداخل. (66)
ثانيا: العراق
عند تحليل وضع العراق ستجد انه على الرغم من التطور الذي حصل في طبيعة وشكل نظام الحكم في هذا البلد بعد عام 2003 واعتماد الدولة في بنيتها الدستورية على نصوص دستورية تؤكد على الحكم الفدرالي، والتعددية السياسية، وحكم القانون، وحماية الحقوق والحريات العامة وعدم المس بها، مع التأكيد على تأسيس نظام فعال للحماية الاجتماعية الا أن سمات الثقافة العامة داخل المجتمع العراقي -حاله حال بقية المجتمعات العربية- لا زالت تكرس بدرجات كبيرة قيماً منافية للديمقراطية، مثل قيم الطاعة والخضوع والولاء والتعصب، وتفتقر بدرجة كبيرة الى قيم مهمة كالمشاركة والمساواة والتسامح والإقرار بحق الاختلاف. لقد ساهمت التنشئة الاجتماعية عموماً في تكريس تلك القيم السلبية، التي تمارس ضغوطها الثقافية على كل شيء في هذا البلد، سواء من خلال المؤسسة العائلية ذات السلطة الأبوية التي تكرس الولاء ولا تدع مجالا للنقد أو التعبير عن آراء مخالفة، أو من خلال المؤسسات التربوية والتعليمية التي تتمحور العلاقة داخلها على التسلط والطاعة أيضاً في كثير من الاحيان. ويكاد دورها يكون محدودا جدا في تنمية الشخصية المستقلة للطفل أو الشاب العراقي، وفي تشجيع الفكر النقدي المستقل، فغالباً ما تتمحور هذه المؤسسات حول قمع الفضول المعرفي لدى الطلاب، واعتماد فلسفة التعليم على التلقين. (67)
إن الرواسب التي نشأت عليها المؤسسات التربوية والتعليمية، وتأثير حزب البعث السياسي الكبير عليها، خلق صعوبة في ايجاد مؤسسات قادرة على تربية الأجيال الجديدة تربية ديمقراطية متحضرة تنسجم مع تطلعات المرحلة الحاضرة، بل ما زالت أفكار حزب البعث تجد صداها في معظم مفاصل العمل التربوي والتعليمي مما يتطلب إعادة تنظيمه من جديد. وقد عجزت الحركات الإسلامية وغير الإسلامية التي تولت السلطة بعد سقوط البعث عن ايجاد مشروع متكامل لإنتاج مؤسسات قادرة على النهوض بمشروع ثقافي سياسي جديد ينجح في خلق ثورة ثقافية سياسية تعالج الخطأ وتؤسس لبنية ثقافية معرفية أكثر اتساقا وانسجاما مع الديمقراطية الناشئة في هذا البلد. لذلك تجد أن المؤسسات العراقية الرسمية والشعبية عانت من التشظي إلى اتجاهات طائفية وقومية عدة. (68) ولا يمكن تحديد ثقافة سياسية واحدة للمجتمع العراقي، أو حتى الطبقة السياسية، بحكم طبيعة التراكمات الثقافية المجتمعية المختلفة التي أفرزتها المراحل السياسية السابقة منذ تأسيس الدولة العراقية، بل قبل ذلك بعقود طويلة.
لقد أفرزت هذه المعطيات السياسية أكثر من ثقافة للمجتمع العراقي، والمشكلة ليست في تعدد الثقافات انما في تنافرها وتناحرها؛ لأن أنظمة الحكم تأسست على ركائز طبقةٍ حاكمة وأخرى محكومة، بمعنى آخر: غالبية محكومة ومقهورة، وأقلية حاكمة متجبرة ومتسلطة، ولهذا تكونت لكل طبقة ثقافة خاصة، فالطبقة السنية لها مزايا وخصائص في ثقافتها السياسية بحكم أنها هي التي حكمت العراق قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لذلك تختلف ثقافتها عن ثقافة المجتمع الشيعي في العراق الذي أخذ دور المعارض للأنظمة الحاكمة؛ بسبب التهميش والاقصاء المتعمد الذي مورس ضده تاريخيا، فتكونت له ثقافة سياسية خاصة به بناءً على تلك المعطيات والخلفيات. أما الكورد؛ فهم يمتلكون ثقافة تختلف كثيراً عن كلا المكونين (الشيعي والسني)، على الرغم من اشتراكهم مع الثقافة السياسية الشيعية بحكم التهميش والاقصاء والدماء التي تجعل ثمة اشتراكاً بينهما، لكن الخصوصيات الجيوسياسية والقبلية وطبيعة التعاطي مع الغرب جعلهم يختلفون كثيراً عن ثقافة المكونين الشيعي والسني. وهكذا الحال في بقية الاقليات الاجتماعية الاخرى. ولكن هذا لا يعني عدم وجود مشتركات ثقافية بين هذه المكونات الاجتماعية؛ بل هناك الكثير منها بحكم الانتماء إلى الوطن، وبحكم العادات الاجتماعية الجامعة والعابرة للانتماء الطائفي، وبحكم الاختلاط الواسع بينها. (69) الا أن التنافر والتناحر الثقافي أضعف القوة الناعمة الثقافية للعراق كدولة، على الرغم من امتلاك هذا البلد لموارد قوة ثقافية كثيرة يمكن استثمارها بشكل إيجابي وفاعل في ظل ظروف مؤاتيه منها:
- العراق موطن الأنبياء للديانات التوحيدية الرئيسة.
- وموطن أقدم الحضارات الإنسانية.
- ومقر الخلافة العباسية.
- ومركز التشيع العالمي.
- فضلاً عن موقعه الجغرافي الذي يعطيه ميزة أن يكون جسرا ثقافيا مهما بين حضارات العالم الشرقية والغربية... بل ويقدم هذا البلد مزيجا ثقافيا مذهلا لم يتم استكشاف دفائنه الى الوقت الحاضر؛ بسبب عدم تصدي النخب الثقافية والفكرية فيه الى هذه المهمة بروح جدية ونفس طويل، وعدم وجود قيادة سياسية لديها القدرة والكفاءة لتحمل هذه المسؤولية.
والدليل على ما تعانيه الثقافة العراقية من مشاكل ما يراه المراقب من أداء هش في عمل وسائل الاعلام العراقية، فعلى الرغم من كون الدول العربية معروفة بسيطرة حكوماتها على سياستها الإعلامية. (70) الا أن الاعلام العراقي بعد عام 2003 تميز بدرجة اعلى من الاستقلالية بعيدا عن سيطرة الحكومة، لكنه بقي يعاني بدرجة او أخرى من تشظيه وتعدده بتعدد المكونات المذهبية والقومية والفكرية والأيديولوجية، لذا تجده منقسم حسب الموزائيك الاجتماعي العراقي الاثني والعرقي وما شابه ذلك. (71) كذلك تجد الاتجاهات السياسية للخبر الرئيس في الصحف العراقية بعد العام 2003 تنقسم بصورة عميقة لا يوحدها رابط معين يعكس ثوابت محددة لقيم وسياسات ديمقراطية تخلق قوة التأثير والجذب للدولة (72).
اما بالنسبة للسياسات المحلية للدولة، فهذه السياسات واجهت مشاكل عدة على مستوى الخطيط وعلى مستوى التنفيذ، انعكس بشكل تردي خطير في الإدارة العامة جعل الدولة تتربع على المراتب المتقدمة لأسوء عواصم ومدن العالم، واكثر الشعوب شعورا بالتعاسة، واكثرها فسادا إداريا وماليا وبطالة وفقرا، واقلها انفاذا للقانون، وابعدها عن كفاءة الأداء المؤسسي، وأقلها دخلا فرديا، وتنوعا اقتصاديا وغيرها من المؤشرات التي تشير الى ضعف عام في السياسات المحلية، لا يمكن بأي حال من الاحوال ان يجعل هذه السياسات عنصر جذب ناعم داعم لنموذج الحكم السائد في هذا البلد.
وفيما يخص السياسة الخارجية العراقية، فان وزارة خارجية العراق-في الوقت الحاضر-تمر بأصعب ظروفها لأسباب عدة منها (73):
1. "سقوط النظام الاستبدادي السابق (عام 2003) واحلال نظام اخر (برلماني ديمقراطي)، في وسط انظمة شرق اوسطية (خصوصا العربية منها) لم تعتد على هكذا تحولات، الامر الذي ادى الى افتعال العديد من الازمات الداخلية والخارجية للعراق لمنعه من ممارسة دوره الطبيعي، ومنع اعادة اندماجه في وسطه العربي والاقليمي بعد الاخفاقات السياسية والتركة الثقيلة التي خلفتها السياسات السابقة لنظام صدام، خوفا من انتقال ما وصفوه "عدوى الديمقراطية"، والتي حاولت فرض نفسها على العديد من الانظمة، لاحقا، من خلال مجريات ما سمي بالربيع العربي منذ عام 2011".
2. "سيطرة المصالح السياسية الضيقة بدلا من تغليب المصالح الوطنية العليا في حكم العراق من قبل الكتل والشخصيات السياسية النافذة، والتي تشبه الى حد كبير طريقة توزيع المناصب التي تجري في لبنان منذ انتهاء الحرب الاهلية 1975 -1991، بتوقيع اتفاق الطائف".
3. "تعرض العراق منذ عام 2004 الى هجمة قوية من قبل التنظيمات الارهابية والجماعات الجهادية ذات الفكر الاسلامي المتطرف، وذكر باحثون أن أكثر من 20 تنظيم ارهابي تواجد على ارض العراق كان أبرزها تنظيم القاعدة والدولة الاسلامية، مما تطلب جهودا خارجية استثنائية لمنع تحول العراق الى ساحة للحروب والصراعات، لاسيما وأن العديد من الدول الاقليمية دعمت بعض الجماعات المتطرفة لأغراض سياسية تنافسية من خلال ما يسمى الحرب بالوكالة".
4. "الفساد الكبير، فغالبا ما يتصدر العراق المراتب الأولى عالميا في الفساد الاداري والحكومي والمالي حسب احصائيات دولية لمنظمات عالمية، فضلا على سيادة المحسوبية في اغلب مرافق الدولة، ووزارة الخارجية ليست استثناء من ذلك".
لكل هذه الأسباب وغيرها، ظل الأداء ضعيفا للسياسة الخارجية العراقية ضعيفا ولم يحصد أي نجاحات تذكر (74)، وبقت هذه السياسة تراوح في مكانها ولم تعكس ثوابت وقيم الدولة ونظام الحكم الجديد في البلد بقدر ما كانت خاضعة لمصالح ضيقة تحددها شخصية الوزير والكتلة السياسية واللون المجتمعي الذي ينتمي اليه، فعانت من ارتباك واضح في تحديد شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية، وكان تأثيرها ضعيفا في معظم المحافل، بل وتحالفاتها الخارجية كانت غير واضحة، اذ لم تنجح في إقامة صداقات دولية ذات شأن يمكن ان تحظى بالموثوقية والاستمرارية، ولم تكن لها ثوابت معينة تبني على أساسها مواقفها، فالتغيير الذي حصل في طبيعة وشكل نظام الحكم في العراق بعد عام 2003 لم يتكلل بسياسة خارجية ناجحة قادرة على التأثير والاقناع في المجال الدولي، لتميز العراق الديمقراطي عن عراق الاستبداد والدكتاتورية. وهذا في جزء منه طبيعي طالما أن السياسة الخارجية لا تنفصل في عملها عن مقومات قوتها الداخلية، لاسيما تلك المتعلقة ببيئة صنع القرار في قمة هرم السلطة. إن التشتت والارتباك وعدم الوضوح في داخل نظام الحكم العراقي انعكس سلبا على الاداء الخارجي لهذه الدولة، فاقتصرت سياستها الخارجية على متطلبات الأداء الروتينية.
مما تقدم، يتضح أن كلا الدولتين: سوريا والعراق ضعيفتان جدا في موارد قوتهما الناعمة، وهذا الضعف قاد الى ضعف ادائهما الدولي في أوقات السلم واوقات الحرب، فتجربتهما في الحكم والإدارة لم تولد النموذج الجاذب للآخرين. ومع تمتعهما-أحيانا-ببعض موارد القوة الصلبة -العسكرية او الاقتصادية او كليهما-لكن هذه القوة بقت مجرد قوة اكراه قسري لمجتمعهما وللدول الأخرى، في محيط إقليمي ودولي لا تنقصه موارد القوة الصلبة، مما أضعف قدراتهما في الوصول الى اهدافهما المرغوبة.
المطلب الثاني: التأثير السلبي للقوة الناعمة على سوريا والعراق
تذهب القوة الناعمة الى التأثير على خيارات الآخرين من خلال قوة الجذب والاقناع التي يحوزها طرف ما لإخضاع وارغام طرف آخر. وكشأن أي قوة أخرى فأن القوة الناعمة لها تأثير إيجابي بالنسبة للدول التي تمتلك مقوماتها وتحسن توظيفها، لكن لها أيضا تأثير سلبي -أحيانا اقوى من القوة الصلبة-على الدول التي تفتقر الى المصدات الناعمة اللازمة لمواجهة القوة الناعمة المعرضة لها من الأخرين. وإذا كانت التأثيرات الإيجابية لهذه القوة تستغرق وقتا طويلا نوع ما لتقطف ثمارها فان تأثيراتها السلبية تستغرق وقتا أقصر من ذلك بكثير لتظهر في الميدان. وتبدو التأثيرات السلبية للقوة الناعمة على معظم دول الشرق الأوسط عمواما، وعلى سوريا والعراق بشكل خاص من خلال الآتي:
أولا: تشويه صورة الدولة لدى الرأي العام الدولي
هناك إجماع دولي على أن ديمقراطية نظام الحكم، وسياساته المحلية القائمة على الفصل بين السلطات، والاستجابة لتوقعات شعبه، واستقلال القضاء والتعددية الحزبية، واحترام حكم القانون، والشفافية، والمحاسبة، والصحافة الحرة التعددية والمستقلة، واحترام مجمل حقوق الإنسان، وبخاصة الحقوق السياسية، وفي مقدمتها حرية تكوين الجماعات والتعبير وحق التصويت والانتخاب (75) تشكل أساسا لسمعة الدولة امام الرأي العام الدولي، وداعم أساس لقوة نموذجها وجاذبيته للغير. فديمقراطية الدولة في الداخل، وتبنيها لسياسات تدعم قضايا السلام وحقوق الانسان، والاستماع الى الغير في المؤسسات تمثل الماركة التجارية لتسويق صورة الدولة. وإن الضعف الذي تعاني منه دول الشرق الأوسط عموما، وسوريا والعراق بشكل خاص في بنيتها الديمقراطية المؤسساتية والشعبية شكل منطلقا لتشويه صورة هذه الدول، فهذه الدول يتم تسويقها على انها دول لا تحترم حقوق الانسان، ومستبدة، وفاسدة، وضعيفة البنية الاقتصادية، وهشة اجتماعيا، ومتطرفة فكريا في كثير من الأحيان، وفاشلة في بعض الحالات. وقد ساعد على ذلك حالة العنف والإرهاب السائدة التي تمخض عنها أزمات كثيرة تمثل ازمة اللاجئين التي هددت أمن أوروبا ودول الجوار الجغرافي أحد مظاهرها. وهكذا سمعة سيئة للدولة تجعل مسؤوليها ومواطنيها يعانون كثيرا في تسويق سياساتهم في الميدان الدولي، بل ويستغرقون وقتا طويلا، وجهدا من اجل نفي هذه التهمة عنهم، ومما زاد التأثير السلبي لضعف القوة الناعمة في الإطار المحلي للعراق وسوريا هو وقوع البلدين في قلب الصراع الساخن الدائر حاليا في الشرق الأوسط، والمتورطة فيه أطراف إقليمية ودولية كثيرة سخرت كل ادواتها من اجل الامعان أكثر في زيادة الصورة القاتمة حول هذين البلدين عالميا. أن ثغرات الحكم، والإدارة، والبنية الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، والتطور التكنلوجي، وسياسات التعليم العام، وحجم التفاؤل الشعبي بالمستقبل، وغيرها لم تعد شأنا داخليا للدول، بل هي تضغط على قدرتها التفاوضية في المحيط الدولي لتأتي بنتائج معاكسة لما ترغب فيه، كما تضعف حضورها الثقافي، وتقلل وربما تنعدم امكانيتها في تسويق أي قيم تجدها مهمة في العلاقات الدولية، وتفتح شهية الجميع للتدخل في شؤونها الداخلية، وهذا ما يراه المراقبون جليا في العراق، ليس فقط بعد تغيير نظامه الحاكم عام 2003، بل قبل هذا التاريخ بوقت طويل، إلا أن وجود أدوات القوة الصلبة السافرة آنذاك حجمت هذا التدخل، ولكن بعد أن ضعفت هذه القوة كثيرا بعد الغزو الأمريكي وما رافقه من تبعات اصبح التدخل واضحا وجليا وتمارسه كل الأطراف بحجج وأدوات شتى. كذلك الحال في سوريا منذ عام 2011 بعد حركة الاحتجاجات الشعبية فيها والتي انتجت حربا مدمرة لا تعرف مساراتها الى هذه اللحظة. فالسمعة الدولية السيئة الناتجة عن سياسات ونظم مؤسسية داخلية سيئة اضعفت المناعة الداخلية للدولة بالنسبة لمواطنيها من جهة، ومن جهة أخرى زادت من نفور الرأي العام الدولي منها، كما اوجدت الفرص للتدخل في شؤونها الى درجة تهديد سيادتها ووحدتها الجغرافية. (76)
ثانيا: الخضوع الى ثقافة الغير
تعد الثقافة-لاسيما الشعبية منها-عنصر مهم في دعم قوة الدولة الناعمة والحفاظ على كيانها الداخلي، خاصة عندما تشتمل على تصورات ذهنية حول الانفتاح والحراك الاجتماعي والطموح الفردي والروح الجماعية والتطوعية والتحرر والمغامرة، وهي قيم مؤثرة على الصعيد السياسي؛ لما تعكسه من قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتلقائية في العلاقات الاجتماعية، وهذه بحد ذاتها تعد مصادر جذب قوية تزيد من مساحة الاقناع والتأثير للدولة في علاقاتها الدولية. فعلى سبيل المثال، يمارس الإعلام باعتباره اداة مهمة من ادوات التأثير الثقافي دوراً بارزاً في استراتيجية الأمن القومي للدولة، ويعد من الوسائل المهمة التي تلجأ إليها الدول في دعم أمنها وصورتها الداخلية والخارجية، وهو يستخدم في أوقات السلم والحرب، وبما يسهم في تحقيق الأهداف المرسومة للدولة، حتى أصبح الإعلام في عصرنا الحالي يشكل رمزاً لاستراتيجية الأمن القومي، وعبر بعدين أساسيين: فهو قد يوجه إلى الداخل لأحداث تأثير على الجماهير أو يوجه إلى الخارج لأحداث تأثير في الرأي العام العالمي، وأصبحت وسائل الإعلام مصدراً جديداً وبارزاً لقوة الدولة. ويأتي دور الإعلام واهميته كأحد سبل ومعايير العولمة والتحكم الثقافي العالمي لما تحمله الاشياء المعلن عنها من ثقافات اصحابها، ولما يفضي الاستخدام والتفاعل معها من أنماط سلوكية متوافقة مع ثقافة المنتج، ضمن استراتيجية الأمن القومي التي يمكن استعمالها لإقناع الآخرين بتغيير مواقفهم.
ويمكن أن تعمل الوسيلة الإعلامية والمعلوماتية على نشر المفاهيم والقيم المجتمعية للدولة والترويج لها عبر المعلومات وتغطية الأحداث. (77) فوسائل الإعلام تؤثر بما تقدمه من برامج وأفلام، وأخبار عن الأشخاص والأحداث، حتى أصبحت الصوت المسموع لدى جميع أفراد المجتمع، والأثر الذي تتركه لا يقتصر فقط على ما تبثه من برامج، بل يتعدى ذلك إلى ممارسة دور الموجه، اذ تحاول كل جهة غرس قيمها، ومفاهيمها، وأفكارها ونظرياتها في عقول المتلقين وصولاً إلى أهداف مبرمجة سلفاً. وليس غريباً أن يكون من بين تلك الأهداف الإضرار ببعض الأنظمة والدول عبر برامج سافرة أو مستترة، تسعى إلى تقويض الأمن والأمان والاستقرار الاجتماعي بها (78). لذا تحرص الدول، رغم اختلاف سياساتها على تأكيد سيطرتها المباشرة أو غير المباشرة على وسائلها الإعلامية. ولكن لا تستطيع أي دولة الاعتماد على الوسائل القسرية وحدها -القوة العسكرية والاجهزة الامنية-لصنع سياستها الإعلامية المؤثرة داخليا وخارجيا. فالدول التي لاتمتلك إعلاماً وطنياً محايداً حرا تكون أضعف تأثيراً ثقافيا من غيرها. ودول الشرق الأوسط غالبا ما يصطدم اعلامها بالرؤية الحكومية الضيقة أو بأشخاص السلطة، وربما يوظف لصالح صاحب السلطة خلال فترة حكمه ويتغير مع تغير شخص الحاكم. لذا تلاحظ الشعب –غالبا-يفضل قناة اجنبية على القنوات الوطنية؛ بسبب السياسة الإعلامية السيئة للدولة، التي تجعله يعتقد ان اعلامه الوطني مجرد منبر للحكومة تعبر من خلاله عن وجهة نظرها، وما يزيد الأمر سوءا تفاقم مشكلة الشفافية في الحصول على المعلومات من الجهات الرسمية الوطنية. (79) إضافة الى قيود أخرى ترتبط بالمناخ السياسي والمناخ الاجتماعي، وضعف مستوى المهنية الإعلامية، وطبيعة البنية التشريعية المنظمة لحرية الإعلام. (80)
والتأثيرات السلبية لوسائل الإعلام في الشرق الأوسط هو أنها تعرض المواطن لضغط ثقافات متعددة ربما تؤثر على ثقافته المحلية -الشعبية-لاسيما مع انتشار الافكار المتطرفة والإرهابية. ولذلك فدول مثل العراق وسوريا لا تمتلك إعلاماً مؤثراً، وتفتقد لقوة الجذب على مواطنيها؛ تواجه تحديات خطيرة تهدد أمن الدولة ومواطنيها؛ فالتوجهات السياسية لبعض القنوات الخارجية كقنوات: الجزيرة، والحرة، والبي بي سي، والسي أن أن... ووسائل التواصل الاجتماعي الموجهة: فيسبوك، تويتر، فيس تايم... والصحف العالمية المؤثرة: واشنطن بوست، والاندبندنت... قد تكون لها -أحيانا- سياسات معينة تهدف الى خلق فتنة داخلية او نشر ايديولوجيات داعمة للإرهاب. (81) وطالما ان القوة الناعمة الإعلامية – كما أشرنا سابقا- لم تعد حكرا على الدول ذات السيادة، بل تستطيع المنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية العابرة للحدود الحصول عليها وتوجيهها لتحقيق أهدافها الخاصة، التي تصب في بعض الأحيان في مجال تفتيت الدولة وتمزيقها.(82) لذلك وجدنا ثورات ما سمي بـ"الربيع العربي" منذ مطلع عام 2011 نجحت في اسقاط أنظمة حاكمة بدت عصية على السقوط يوما ما في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وهددت اركان نظام الحكم السوري، ولا زالت تتفاعل محفزاتها في العراق، والبحرين، ومعظم دول الشرق الأوسط وهي تمثل خروجا عن السياق العام للتغيير السياسي المعتاد في المنطقة والقائم على فوهات البنادق، اذ لأول مرة تسقط حكومات مستبدة بتأثير حراك جماهيري غاضب لعبت في تأجيجه وسائل التواصل الاجتماعي مستفيدة من وجود أنظمة حكم سيئة، وواقع اقتصادي واجتماعي بائس، فضلا على وجود محفزات خارجية مساعدة مجهولة الاهداف.(83) كما تبرز قوة الاعلام المدمرة -أيضا- من خلال قدرة الجماعات الإرهابية المختلفة على تجنيد الجهاديين من جميع اصقاع العالم وتوجيههم نحو اهداف محددة داخل منطقة الشرق الأوسط او خارجها.
من جانب آخر، تشكل المؤسسات البحثية والاكاديمية واحدة من أدوات التأثير الثقافي في عالم اليوم، وقد مارست تأثيرا كبيرا في سبيل تغذية المسؤولين في الغرب بالدراسات اللازمة لرسم ملامح التحرك اتجاه منطقة الشرق الاوسط، والمبالغة في تدعيم مقولة أن المنطقة بطبيعتها وتطوراتها ومعطياتها الراهنة بيئة مولدة للإرهاب ومناسبة لنموه واستشرائه. فكان لتلك المؤسسات تأثيرات سلبية كبيرة جداً في تغيير قناعات الإدارات الغربية اثناء عملية اتخاذ القرار الخارجي. كما رفدت حملات النقد وإبراز الحجج الداعية الى ضرورة التدخل لإحداث التغيير المطلوب في المنطقة، اذ اعتبرت الأداء الإعلامي العربي بوجه عام مناهض للغرب ومثير لمشاعر الكراهية والغضب الشعبي، مستعينة بتحليلات دورية لأداء الإعلام العربي، مثل تلك التي يعدها مركز أبحاث "ميمري"، وهو أحد المراكز اليهودية الأمريكية المتخصصة في مراقبة الإعلام العربي المرئي والمسموع والمكتوب، وكذلك مراقبة مراكز البحوث والدراسات العربية، للتدليل على أن البلدان العربية ولا سيما نخبها الثقافية معادية للسامية وداعمة للكراهية الثقافية والحضارية ضد إسرائيل بوجه خاص، وضد الغرب بوجه عام. وفى مجال الخطاب الديني، عملت على إبراز العلاقة بين العمليات الاستشهادية وبين وجوب الجهاد في العقيدة الإسلامية، وعززت من تطابقها مع حادثة تفجير برجي مركز التجارة العالمي. واستعانت بالإحصائيات المتداولة حول مستويات التعليم ونظمه في البلدان العربية للتأكيد على تخلف المنطقة عن مواكبة العصر وحاجتها الماسة إلى المساعدة في هذا المجال، وخاصة فيما يتعلق بتعزيز قيم التسامح والإخاء الإنساني. (84) فعكس ذلك للعالم صورة عن دول المنطقة تظهرها كدول متخلفة بعيدة عن المعايير السياسية المعاصرة، فاشلة وغير مستقرة وفاسدة -غير صالحة للعيش-وأن مواطنيها يطلبون اللجوء السياسي إلى الخارج خوفاً على مستقبلهم المجهول في بلدانهم. (85)
وكل ذلك حصل بفعل غياب الاستراتيجيات الوطنية الصحيحة في المجال الإعلامي وفي مجال البحث العلمي. (86) ومما زاد الطين بلة، هو أن العادات والتقاليد في بعض الدول كانت مناوئة لبعض موارد القوة الناعمة، كتلك المرتبطة بحقوق النساء أو في التعامل مع الفن- موسيقى، غناء، مسرح...الخ بفعل تصاعد نفوذ وتأثير تيارات الإسلام السياسي التي غالت في توظيف الدين والتقاليد الاجتماعية لإثارة حملات معادية لحرية التعبير وحرية الإبداع، فكانت النتيجة ان هذه الدول افرغت ساحة هذه المجالات لتملئ من قبل ثقافة الآخرين-الغرب بشكل مباشر- في وقت لم تستطع منع شبابها وبناتها وحتى صبيانها من الاطلاع على هذه الثقافات والخضوع لسطوة تأثيرها، وقوة الجذب في نموذجها، مما ولد حالة من التمرد والنفور من المنتج الثقافي الوطني، وذوبان مستمر في المنتج الأجنبي تجده واضحا بينا في شبكات التواصل الاجتماعي حيث الحرية تكون فيه أكبر للأفراد، وفي تقليعات الملابس وقصات الشعر لدى البعض، وهذا المد لازال في بدايته والقادم سيكون أكبر بدرجة لا يمكن التكهن بمردوداتها. (87)
ثالثا: ضعف السياسة الخارجية
تكاد تكون أغلب السياسات الخارجية لدول الشرق الأوسط - يستثنى منها نوعا ما إيران وتركيا و(إسرائيل لأسباب خاصة)- تعاني من ضعف واضح في أدائها منبعه ضعف أنظمة الحكم فيها، وهذا أمر طبيعي، طالما أن السياسة الخارجية لأية دولة تتأثر سلباً وإيجاباً ببيئتها الداخلية، فتكتسب قوتها من قوة القيم التي تدافع عنها، والتحالفات التي تنخرط فيها، وعلاقات التعاون التي تقيمها، فالسياسة السلمية الداعمة لحقوق الإنسان والحريات العامة، ولعدم التدخل في شؤون الآخرين، والمشجعة على تقديم المساعدات تؤدي دورا كبيرا في تحسين صورة البلد أمام الرأي العام العالمي والعكس صحيح، عندما تكون هذه السياسة أنانية وعدوانية ومثيرة للصراع وغير كفوءة. (88)
ولعل المظهر البارز لضعف السياسات الخارجية في الشرق الأوسط ما يراه المراقب اليوم من تورط متزايد لدول المنطقة في صراعات عدة انهكتها وبددت ثرواتها، لأن لكل دولة سياسة خارجية خاصة بها تتقاطع في مصالحها مع طرف او أكثر في الإقليم والعالم، فضلا عن عدم تمثيلها لقيم معينة تعزز المشتركات الثقافية والإنسانية، وهيمنة الطابع الشخصي لنظام الحكم على أداء وزارات الخارجية لهذه البلدان، فكانت النتيجة ضعف عام لدول المنطقة في تسويق مصالحها وثقافتها يمكن تلمسه من خلال الطريقة التي تتعامل بها الدول الكبرى مع قضاياها ابتداء من قضية الصراع العربي- الإسرائيلي، مرورا بقضية الصورة المشوهة عن الاسلام، وصولا الى قضايا الإرهاب والتنمية. وان اصدار قانون جاستا الأمريكي (العدالة ضد رعاة الإرهاب) يقدم مثلا واضحا على الإخفاق الذي تعاني منه بلدان الشرق الأوسط في الدفاع عن نفسها في الميدان الدولي، ولا يمكن تصور ان هذا القانون سيقتصر تأثيره على السعودية، بل سيتمدد الى بلدان أخرى حسب ما يراه صانع القرار الأمريكي مناسبا لمصالحه. (89)
وبالنسبة للعراق وسوريا، فقد سبق الحديث عن مستوى الضعف في سياستهما الخارجية واسبابه ولا نريد تكراره هنا، لكن باختصار يمكن القول إن ضعف الدولتين في هذا المضمار واضح جدا، اذ لم يستطع العراق تفعيل اتفاقيتي التعاون الأمني والإطار الاستراتيجي المبرمتين مع الولايات المتحدة بعد تعرض مدنه الى الانهيار الأمني امام تنظيم داعش الإرهابي لعجز سياسته الخارجية عن التأثير في صانع القرار الأمريكي، واعتقاد الأخير-صادقا أو مراوغا-انه لا يريد دعم مكون طائفي في هذا البلد على حساب مكون آخر. فالخارجية العراقية بكل ادواتها لم تفلح في نفي هذا الانطباع الدولي عن نظام الحكم العراقي، ولم تفلح في فتح مسارات للدولة العراقية مع دول الإقليم بعيدا عن المرجعيات الطائفية، والتخندق المذهبي. مما جعل البلد حكومة وشعبا أسرى المعادلة الإقليمية والدولية عديمة القيم وشديدة التعقيد. والحال لا يختلف كثيرا بالنسبة لسوريا، فهذه الدولة أصبحت مقطوعة العلاقات الخارجية مع معظم دول جوارها، ولولا بعض الحسابات الإقليمية والدولية لما نجح نظام حكمها بالصمود الى الوقت الحاضر، وقد تدحرجت كثيرا في سياسة المحاور الإقليمية والدولية، حتى أصبحت سياستها الخارجية مجرد صدى لسياسة أطراف إقليمية ودولية معينة.
المطلب الثالث: التوظيف الاستراتيجي للقوة الناعمة
يرى جوزيف ناي إن هناك تغيرين أساسيين للقوة في القرن الحادي والعشرين: أحدهما هو التحول بين الدول من الغرب إلى الشرق والذي يمكن أن يطلق عليه تعافي آسيا. والثاني هو توزيعها بعيدا عن كل الدول الغربية إلى أطراف من غير الدول، نتيجة للانخفاض الاستثنائي لتكلفة عمليات الحوسبة والاتصالات والتي نتجت عن ثورة المعلومات الحالية. وهو ما مكن أساسا الأطراف من غير الدول والأفراد لكي تفعل أشياء كانت من قبل تقتصر على الحكومات أو المؤسسات الكبرى (90).
والتغير الثاني للقوة يؤشر بشكل أو بآخر على مفهوم "القوة الناعمة" وعناصرها؛ لأن القوة التي تمتلكها غير الدول من الجماعات المتطرفة والجماعات الأخرى هي قوة ناعمة في أكثر صورها؛ لاسيما في مجال التوظيف الإعلامي والديني واستخدام الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي ومخاطبة المتطرفين بلغات متعددة واستخدام التكنولوجيا والحوسبة وغيرها من المعلومات. هذا التوظيف للقوة الناعمة من قبل تلك الجماعات قد تكون بعض الدول فشلت فيه، وخير مثال على ذلك الدول العربية، لاسيما تلك الدول التي تعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي مثل العراق وسوريا وغيرها من الدول غير المستقرة، والتي شهدت احداث ما يسمى بـ "الربيع العربي". فهذه الدول اليوم بحاجة حقيقية إلى مراجعة ذاتها وتوظيف امكانياتها وقدراتها الناعمة لمنافسة الجماعات من غير الدول على أقل تقدير؛ لأن التغلب على تلك الجماعات يحتاج إلى توظيف صحيح لموارد القوة الناعمة وليس إلى القوة العسكرية والاقتصادية فقط "القوة الصلبة".
إن صورة البلدان وجاذبيتها تعتمد كثيرا على قوة قيمها وسياساتها المحلية والدولية، وهذه الصورة والجاذبية لا تعزز قوة الدولة الخارجية فقط، انما تعزز قوتها الداخلية من خلال تعزيز ثقة مواطنيها بأنفسهم وبنظامهم السياسي وبمستقبلهم. وعندما "يكون لديك نظام سياسي بمواصفات معينة وتدافع عن قيم عليا انسانية تتحول الى نموذج، هذا النموذج يمكن أن يلهم الاخرين للاقتداء به وتتحول الدولة بحكم نموذجها الى لاعب فاعل في الساحة الدولية، وسبق الإشارة الى أن مسار البحث لا يذهب باتجاه الفصل بين القوتين: الصلبة والناعمة؛ لكون هذا الفصل خيارا خاطئا، بل يذهب الى ترسيخ فكرة المزج الذكي بينهما ‘‘القوة الذكية‘‘ وحث صانع القرار على استعمال موارد القوتين في المناسبات الضرورية وفي الأوقات الضرورية لتمكينه في النهاية من تحقيق أهدافه التي يرغب بالوصول اليها".(91)
ففي القرن الماضي حاربت هوليوود من خلال منتجها الفني النازية والاشتراكية والشيوعية وأخيراً الإرهاب والترويج للرأسمالية والفردية، وأدت دوراً أساساً كأحد أهم عناصر الجذب والقوة الناعمة الأمريكية منذ بدايتها لتصبح قوة ناعمة مهمة في صنع السياسات الأمريكية وتشكيلها ومساندة زعمائها السياسيين أمام الرأي العام، بل تجميل صورة الولايات المتحدة الأمريكية في عيون العالم عن طريق ترسيخ صورتها، وإبرازها كرمز وكأنموذج للقيم، ولاسيما قيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية واحترام الفردية والحرية الشخصية، وهكذا تمكنت هوليوود بعصاها السحرية من لعب دور اساس في صنع السياسات وإيجاد الحلول، إذ يقول ايان سكوت في كتابهِ (السياسات الأمريكية في أفلام هوليوود): "إن هذه الأفلام نجحت بشكل تدريجي في تشكيل الأجندة الديمقراطية والمؤسسية للولايات المتحدة الأمريكية، وبمعنى آخر، قال الكاتب بيتر رولينز: إن هوليوود أنتجت أفلاما بشكل واع لتغيير اتجاهات الرأي العام تجاه أمور سياسية واجتماعية، وهاجمت السينما الأمريكية ــ بتأثير من اتجاهات سياسية ــ الفاشية والنازية والشيوعية والإرهاب. وقد أدت صناعة السينما الأمريكية تقليدياً دوراً مهماً، في نشر الثقافة الشعبية الأمريكية، وفي جذب التعاطف مع النمط الأمريكي في الحياة، وتقديم أنموذجاً جذابا للقيم الأمريكية، لاسيما قيم الحرية والفردية والحراك". (92)
ان صناع القرار في الشرق الأوسط بحاجة الى إدراك بأن الدول لا تحقق أهدافها بالقوة الصلبة فقط، وأن هناك انواع أخرى من القوة هي بحاجة الى امتلاكها الا وهي قوة الثقافة، والفكر، والمؤسسات التعليمية، ونوع الحكم السائد، وفاعلية السياسات المحلية، وطبيعة القيم التي تعكسها السياسة الخارجية. فوهج الدولة الايجابي في عيون الآخرين ليس أمرا ثانويا، بل هو أساس مهم في اقناعهم للخضوع الطوعي لما نرغب في تحقيقه، ومهم جدا أن تنجح في الهام الاخرين؛ لجعلهم إما يقلدوك او يقتنعوا بوجهة نظرك ويسلموا بما تطرحه في جدول الاعمال على اعتبار أن لديك نموذجا يحترمونه ويشعرون في داخلهم بالتأثر به.
فحرص الدول في هذه المنطقة عموما، وفي العراق وسوريا بشكل خاص، على اظهار الجانب الناعم من ثقافتها (العليا والشعبية) مهم جدا لأسباب عدة: فقد جربت هذه الدول -على الأقل فيما بينها-خيار الاعتماد على القوة الصلبة المجردة، فكانت النتيجة مدمرة استنزفت المال والدماء ولم تحقق النتائج المرغوبة، وعندما لا تنجح في كسر إرادة الخصم كليا بالقوة الصلبة وتحقق مستوى مقبول من السلام، فان ذلك يعني فشلك في تحقيق اهدافك. لذا تحتاج دول المنطقة اليوم الى البحث عن خيار آخر يحقق أهدافها، وربما يجلب السلام المفقود فيما بينها، وهنا تبرز أهمية التوظيف الفعال للثقافة، فهذه الدول تنطوي على رصيد ضخم من المخزون الثقافي المشترك، لكنها -غالبا- ما تستحضر الجزء السيء المثير للصراع من هذا المخزون الذي يزيد انقسامها وتشرذمها - صراعات عصر الفتنة الكبرى مثلا- وهذه السياسة الثقافية المدمرة والجامدة بحاجة الى تغيير شامل، لتكون الأجزاء التاريخية ذات البعد الإنساني المنسجم مع المنطق وحاجات العصر هي الأساس في بناء الثقافة العامة للدولة.
إن كل دول العالم عاشت أوقات سيئة في تاريخها فتك فيها افرادها بعضهم ببعض، كما عاشت أوقات طيبة وحدتهم ونشرت السلم بينهم، لكن هذه الدول لم تستطع التقدم الى الامام وتعزيز دورها الحضاري الا بعد ان حاولت نسيان الماضي السيء واستحضار الماضي السعيد، وانطلقت بثقة الى الامام لتبني الانسان والمعرفة، وتؤسس لصرح ثقافي أكثر انسجاما وتجانسا. لقد أثبتت شعوب المنطقة في السنوات الأخيرة انها تستطيع في كثير من الأحيان التواصل فيما بينها، على الرغم من القطيعة بين أنظمة حكمها من خلال ثقافتها الشعبية والعامة، فعلى سبيل المثال نجحت الدراما السورية في التقريب بين الناس من خلال برامجها المدروسة بعناية-مسلسل باب الحارة مثلا-كذلك نجحت نظيرتها الإيرانية – مسلسل يوسف الصديق مثلا-والتركية -مسلسل حريم السلطان مثلا-في الوقت الذي لم تنجح فيه الدراما العراقية بشكل كبير، وكذا حال بقية الدول بدرجة او أخرى.
ونجحت الطقوس الدينية في التقريب بين شعبين شرق اوسطيين خاضا حربا مدمرة لثمان سنوات -العراق وإيران-في الوقت الذي فشلت السياسات الحكومية في تحقيق هذا الهدف او كانت تأثيراتها محدودة. ويمكن ان يقال نفس الشيء عن الغناء، والموسيقى، والمسرح، وتبادل الزيارات العلمية، والسياحة، والتشبيك المشترك بين منظمات المجتمع المدني... فهذه الفعاليات الثقافية اثبتت فعاليتها في الميدان من خلال ما تركته من انطباعات إيجابية عن الآخر الذي حاولت السياسات الرسمية شيطنته وتضخيم حجم الكراهية له. ومما أضعف فعالية القوة الناعمة لثقافة شعوب المنطقة عن تحقيق اهداف اشمل وأعمق واطول بعدا زمنيا، هو انها تأتي كنتاج عرضي، وليست جزء من سياسة عامة للحكومات، فالحكومات متمسكة بخياراتها الصلبة التي تدمر نفسها وجيرانها من خلالها. لذا فمن اجل تأثير ثقافي إيجابي أكثر، يكون الأفضل للحكومات في الشرق الأوسط ان تجعل سياستها الثقافية جزء مهما ومكملا لموارد قوتها في الساحة الإقليمية، على ان تكون سياسة تستهدف التقريب الثقافي لا التباعد وترسيخ الكراهية.
من جانب آخر، يمكن للقوة الناعمة الثقافية ان تلعب دورا كبيرا في احتواء مظاهر التطرف والإرهاب -الفكري والسلوكي-ومحاصرة الحركات والتنظيمات الإرهابية عندما يكون خطابها الثقافي أكثر اعتدالا واقناعا، وأقرب الى فهم الناس ومستواهم الفكري. فالإرهاب في الشرق الأوسط اليوم جزء من مغذياته الرئيسة تكمن في الفراغ الثقافي الذي استطاعت ملئه التنظيمات المتطرفة، وهذا الفراغ لا يقل تأثيره عن تأثير السياسات الحكومية الفاشلة التي لم تستطيع استيعاب جميع مواطني الدولة، ولم تنجح في حل مشاكلهم الرئيسة المرتبطة بالتعليم، والفقر، والحرية، والحاجات الرئيسة والجمالية. فوجود بيئة ثقافية جذابة وعملية ومعتدلة ستقلل حتما جاذبية الحركات المتطرفة في داخل الدول، والتيارات الهدامة القادمة من خارجها على التأثير في افرادها وتجنيدهم لمصلحتها، ولا نزعم هنا ان جاذبية هذه الحركات ستنتهي اطلاقا، ولكنها ستضعف حتما، وستكون الأرض الثقافية لهذه البلدان غير خصبة لطروحاتها. علما ان التطرف بمجمله يمثل ميلا مرضيا لا ينحدر اليه الا من يعانون خلل ثقافيا وعقليا، والحكومات في الشرق الأوسط مسؤولة مسؤولية مباشرة عن رفع المعاناة عن مواطنيها؛ حتى لا يكونوا صرعى هذا المرض المميت.
ولا يقل تأثير القوة الناعمة الشرق أوسطية في الميدان الدولي عن دورها في الميدان الإقليمي، فاليوم دول المنطقة متهمة بالتخلف والتطرف والإرهاب والفوضى والعجز المؤسسي والتنموي والتراجع الحضاري الشامل من قبل الرأي العام العالمي، بسبب سياساتها السيئة اتجاه بعضها البعض، وبسبب رداءة منتجها الثقافي المصدر الى الخارج، وبسبب سلوك بعض مواطنيها في الدول الأخرى، ولا يمكن تغيير هذه الصورة فقط من خلال السياسات الحكومية فقط - سبق ان جرى التأكيد على ان موارد القوة الناعمة في جزء كبير منها ليست بيد الحكومات- بل لابد من اشتراك الشعوب في إيصال صورة مغايرة الى العالم، وهذا يمكن ان يتم من خلال التأثير الثقافي الواسع - ثقافة عليا وثقافة دنيا- مما يتطلب إعادة دراسة لطبيعة المنتج الثقافي الحالي ومعرفة كيف يتم تغييره ليعطي انطباعا إيجابيا في أوروبا واسيا وامريكا وغيرها من بقاع العالم، ولا يمكن لهذا المنتج ان يكون مؤثرا الا بزيادة فعالياته في الفن والعمارة والرسم والنحت وتبادل الوفود والنشاطات العلمية والسياحة، فما تحصده هذه الدول من نتائج إيجابية في عيون العالم لن تحققه من خلال الابتزاز والرشى وشراء الذمم، بل لابد ان يكون لها حضورا قويا داخل الدول الأخرى في برامج التلفزيون والسينما والمسرح وشبكات التواصل الاجتماعي والرياضة والتطور التكنلوجي وغيرها من المجالات التي يعشقها المواطن العادي في الوقت الحاضر، ففي النهاية يكون الاعجاب والجذب الحقيقي هو الاعجاب والجذب الذي يبديه الناس العاديين في المجتمعات الاخرى.
ان الحضارة المعاصرة ميزتها سرعة الوصول الى الآخرين، وكلما كنت أسرع من غيرك في الوصول الى قلوب وعقول الناس، كلما كنت أكثر جاذبية وإقناعا، ولا تكفي السرعة لوحدها بدون التلقائية والبساطة والتواضع والعمق، فإنسان اليوم ذكي جدا وهو يستطيع ان يميز بين من يتكلف العمل لمصلحة حاكم ما او نظام حكم ما، وبين ما هو نابع من صميم القلب والوجدان. والثقافة الشرق أوسطية لديها الكثير لتقدمه الى العالم، لكن حكوماتها، وشعوبها بدرجة أو أخرى لا تلتفت الى ذلك، او لا تمتلك المهارة والنية لفعل ذلك، أو انها متخوفة من فعل ذلك، وفي الحالة الأخيرة يكمن ضعفها المطلق، فكما يقال في المثل: الكهف الذي تخشى الدخول اليه هو الكهف الذي يحتوي على الكنز الدفين الذي تبحث عنه. فالخوف من الانفتاح على ثقافة الاخرين والتواصل معهم، هو الذي يفقدنا القدرة على جذبهم والتأثير فيهم. ووجود بنية ثقافية مؤثرة بحاجة-أيضا-الى إعادة النظر في سياسات الاعلام في عموم بلدان الشرق الأوسط، فهذه البلدان بحاجة إلى استراتيجية إعلامية جديدة ومغايرة للاستراتيجيات الحالية استراتيجية ترتكز على الاحترافية والحرية والاستقلالية والاتساق مع الحقيقة (93)، والشفافية للوصول الى المعلومات وكشف الحقائق والتعبير الصحي عن اختلافات الرأي.(94) نعم قد تكون فكرة وجود مؤسسات إعلامية مملوكة للدولة ومعبرة عن المجتمع وتياراته المتباينة فكرة لها رونقها على المستوى النظري، إلا إنها ترتبط بمشكلات التسيس والتوظيف من جانب النخب الحاكمة على المستوى التطبيقي، ويكفي في هذا المجال دراسة تجارب بعض المؤسسات الإعلامية الأوروبية في فرنسا، وبريطانيا وألمانيا - تجربة هيئة الإذاعة البريطانية مثلا- لاكتشاف أن وجود إعلام عام مستقل يمثل عامل توازن قد تحتاجه مجتمعات الشرق الاوسط في مواجهة أي احتكار حكومي لوسائل الإعلام. (95) وإصلاح الإعلام يعتمد على ثلاثة محددات (96):
- حرية الرأي والتعبير ونضج الممارسة الديمقراطية.
- وضع حد لاحتكار وسيطرة الدولة على الإعلام عبر انتقال الإعلام المملوك للدولة إلى خدمة عامة.
- استقلال الأطر المنظمة والمشرفة على القطاع المرئي والمسموع. إذ يتعين حماية السلطات التنظيمية من كل اشكال التدخل السياسي والاقتصادي، وذلك في تشكيل وتعيين أعضائها بطريقة ديمقراطية وشفافة، وأن تتسع عضويتها لتمثيل المصالح المختلفة.
كما ان تطوره يعد آلية مهمة من آليات القوة الناعمة الثقافية لنشر قيم المجتمع وخلق جاذبية عالية له للتأثير في الرأي العام العالمي من اجل تحقيق اهداف الدولة، وقد فطنت الى هذه الحقيقة كل الدول التي تريد لها دور فاعل في العلاقات الدولية، ودول الشرق الأوسط بحاجة -أيضا-الى ان تفطن اليها، فتعمل على توفير البنية المناسبة لإعلام ناجح مهني، ومؤثر، غير مسيطر عليه من الحكومات، وغير متورط في اثارة مشاعر التطرف والكراهية.
وبالنسبة للتعليم فمن المفترض أن تكون سياسات التعليم في بلدان الشرق الأوسط متقدمة على مستوى الكم ومستوى النوع، فالدول تتواصل مع بعضها ثقافيا عن طريق تبادلها لخبراتها العلمية، ورقيها في ترتيبها العلمي العالمي. وكان طلاب العلم منذ أقدم العصور سفراء دولهم في البلدان الأخرى، وأيضا حاملين لثقافة تلك البلدان الى دولهم، وقد أراد ناي في كتابه القوة الناعمة ان يشير الى هذه الحقيقة، فبين ان من مظاهر القوة الناعمة الامريكية هو ان الكثير من قادة العالم اليوم هم خريجو الجامعات الامريكية، وهم متأثرين في اعماقهم بنمط الحياة الأمريكية (97). لقد استطاعت بعض دول الشرق الأوسط ان تخطو خطوات مهمة في جودة جامعاتها ومعاهدها، كالسعودية، وقطر، والامارات العربية المتحدة، وإيران، وتركيا... وبعضها الآخر لازال يحبو في هذا الطريق، وهناك دول ربما تراجع فيها الأداء في مؤسساتها التعليمية، لكن هذه الدول تستطيع تجاوز الكثير من ازماتها الثقافية من خلال مد الجسور التعليمية فيما بينها أولا، وبينها وبين محيطها الدولي ثانيا من خلال زيادة معدلات الابتعاث الدراسي، والنشاطات العلمية المشتركة، وتبادل الوفود العلمية، وبرامج تبادل الأساتذة، والمعايشة العلمية. ان هذه البرامج يمكنها كسر الكثير من الحواجز والعقبات النفسية والاجتماعية، ومد جسور متينة من الاحترام المتبادل والثقة المشتركة، الا ان الكثير من الحكومات تتجاهلها عمدا او غفلة، معتقدة انها قادرة على تحقيق ما تريد وترغب بأدوات غير صحيحة ومؤذية في كثير من الأحيان.
واي سياسة تعليمية مؤثرة لن يكتب لها النجاح ما لم تلبي حاجات المجتمع السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والنفسية، والفكرية، والتعليمية. فالجامعة عليها أن تستجيب لحاجات المجتمع أكثر مما تستجيب لحاجات الدولة الرسمية. كذلك لابد من الاهتمام بجودة وكفاءة عملية البحث العلمي عند وضع أي سياسة تعليمية مؤثرة، من خلال الاهتمام بدوائر البحث العلمي عموما، وبمراكز البحث والتفكير بشكل خاص، فهذه المؤسسات تعد وسيلة مهمة في دول العالم بوصفها أحد أهم ادوات القوة الناعمة، ورافد مهم لصانع القرار. وتأتي قوة مراكز التفكير وصلابتها من خلال ما تتمتع به من سمات مميزة: فهي عبارة عن هيئات دائمة، متخصصة بإنتاج حلول للسياسة العامة، بفضل وجود طاقم بحثي متخصص متفرغ للبحث، يؤّمن ناتجاً أصيلاً من التفكير والتحليل والنصح، رسالته أن يوجه إلى الحكام وإلى الرأي العام، وغير مكلف بإنجاز مهام حكومية، ويسعى بشكل عام للإبقاء على استقلاليته الثقافية وعدم الارتباط بمصالح محددة، وليست مهمته الأساسية تأهيل أو منح شهادات، ولعمله طموح ظاهر أو خفي للعمل على مفهوم ما للخير العام بخلاف الهيئات التي هدفها التجارة والربح فقط (98). وهي كفاعلين سياسيين جدد، عليها أن تجد مكانها في سوق الأفكار الكثيف جداً، واستقلاليتها الفكرية وكذلك مصداقيتها وشرعيتها الديمقراطية تتطلب تقويتها بثبات، لتخطي العديد من العثرات كي لا تفقد روحها (99). وأن أهم حوافز البحث العلمي في أي سياسة تعليمية ناجحة ينبغي ان تركز على: (100)
- توسيع هامش الحرية الأكاديمية الكافية للباحثين.
- التخلي قدر الإمكان عن مظاهر البيروقراطية والمشكلات الإدارية والتنظيمية.
- تراجع الفساد المالي والإداري في مؤسسات البحث العلمي.
- الإسراع الدائم في عملية نقل المعلومة التقنية من الدول المتقدمة إليها.
- إحداث حراك دائم في مراكز البحوث، بحيث لا تبقى تحت قيادات قديمة مترهلة، غير مدركة لأبعاد التقدم العالمي في ميادين البحث العلمي، لاسيما في العلوم التكنولوجية.
- مواصلة التدريب المستمر للباحثين الجدد، ومساعدتهم على امتلاك قدرات تنافسية تساعد على تطوير كفاءتهم.
اما بالنسبة للسياسات الخارجية لبلدان الشرق الأوسط، فمن الأفضل التذكير بأن القوة الناعمة "تعني حشد تعاون الآخرين دون تهديدات أو دفع أموال". وأنها تعتمد على عملية الجاذبية وليس على القوة العسكرية السافرة أو الرشاوى الرخيصة، وأنها تعتمد جزئياً على كيفية قيامنا بوضع إطار لأهدافنا ذاتها. فالسياسات القائمة على تحديدات شاملة وبعيدة النظر في المصالح الوطنية يسهل جعلها جذابة للآخرين أكثر من السياسة ذات المنظور الضيق. وبالمثل فإن السياسات التي تعبر عن قيم مهمة يزيد احتمال جاذبيتها عندما تكون القيم مشتركة. (101) وأي سياسة خارجية ناجحة هي تلك التي تقوم بكسب الأصدقاء والحلفاء في الميدان الدولي، لهذا يقول "نيوت غينغريتش" (الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي): "إن المفتاح الحقيقي ليس في عدد الأعداء الذين أقتلهم، بل إن المفتاح الحقيقي هو عدد الحلفاء الذين أكسبهم". (102)
انطلاقا من كل ذلك، تجد ان السياسة الخارجية لأغلب بلدان الشرق الاوسط - مع ادراك عوامل ضعفها التي مصدرها متغيرات بيئتها الداخلية- بحاجة الى ان توظف من حكوماتها بطريقة اكثر ذكاء لتحقيق الاهداف المرغوبة، على ان تصب تلك الاهداف في مجال خلق بيئة دولية اكثر استقرارا وسلاما وديمقراطية؛ من اجل خلق قواسم مشتركة اكثر مع الاخرين، فهذه الاهداف هي القيم العليا التي تميز السياسة الخارجية الناجحة عن اية سياسة انتهازية عدوانية، وبدون كسب التأييد العالمي والانفتاح على خيارات وحلول كثيرة تحقق الربح للجميع سينغلق افق السياسة الخارجية، وتكون مجرد جهاز اداري تابع لنظام الحكم. ان التركيز على القيم المشتركة، والسلام للجميع، والنزعة الانسانية في الاداء الخارجي هو ما تحتاجه بشدة جميع دول الشرق الاوسط؛ لتجاوز تحدياتها الطارئة والعميقة. كما تحتاج السياسات الخارجية لدول المنطقة، فضلا على التمسك بقيم عليا يشاركها فيها الجميع الى وجود كوادر متميزة على رأس وزارات خارجيتها وسفاراتها وقنصلياتها، يمكنها تفهم متغيرات بيئتها المحلية والدولية، لابتداع اليات جديدة للحوار والاقناع للخروج من عنق التحديات، فغالبا ما عانت هذه الوزارات من وجود شخصيات محدودة الكاريزمية، وضعيفة الاداء (103).
اخيرا، لابد من التأكيد على حقيقة مهمة هي: ان التوظيف الاستراتيجي للقوة الناعمة من قبل دول الشرق الاوسط لن يكتب له النجاح بدون تعزيز قوة القيم والمثل والسياسات وانظمة الحكم المحلية فيها، فميزة هذه القوة انها تنطلق من قوة الداخل لجذب الخارج والتأثير فيه وارغامه الطوعي على تنفيذ ما نريد، وبدون وجود هذه القوة في الداخل لن يكون للفعل الخارجي اية قيمة مهما بذل فيه من جهود وأموال. لذا على دول المنطقة -إذا كانت راغبة بالحصول على قوة ناعمة تنافسية ومؤثرة-ان تبدأ سريعا بإصلاح عوامل الضعف الداخلية التي تؤشر عليها سواء في موارد قوتها الناعمة ام قوتها الصلبة، وطريقة التعاطي بالقوتين في الميدان الداخلي والدولي.
الخاتمة
إن صورة البلدان وجاذبيتها تعتمد اليوم كثيرا على قوة قيمها وسياساتها المحلية والدولية. وهذه القوة لا تعزز مكانة الدولة الخارجية فقط، انما تعزز مكانتها الداخلية من خلال تعزيز ثقة مواطنيها بأنفسهم وبنظامهم السياسي وبمستقبلهم. لذلك تحتاج دول الشرق الأوسط بشكل عام، والعراق وسوريا بشكل خاص، إلى تطوير قدراتها الناعمة؛ لتجنب تعرضها إلى اهتزازات مستمرة، تدفعها إلى حالة عدم استقرار دائمة تتسبب في إعادة تشكيلها بما لا يتوافق ومصالح شعوبها، لاسيما مع الانفتاح الذي خلقته تحديات العولمة بمختلف أشكالها، وما تنطوي عليه هذه التحديات من اندفاع تلقائي او متعمد لثقافات وأيديولوجيات وسياسات قد تهدد احيانا الأمن القومي للدول. وأي تجاهل لتأثير القوة الناعمة في السياسة الدولية مع استمرار الافراط في التركيز على دور القوة الصلبة، سيقود المنطقة إلى نتائج كارثية بعيدة المدى على الصعيدين الداخلي والخارجي. ان الشرق الأوسط يواجه تحديات خطيرة، ويمر بتغيرات حقيقية، بعضها ناجمة عن فواعل إقليمية ذاتية، وبعضها الآخر ناجم عن التفاعل مع التطورات المعقدة والمتشابكة والعميقة الحاصلة في الميدان الدولي، وإزاء هذا الوضع الحرج بات من الضروري إعادة النظر في الاستراتيجيات والسياسات القديمة التي اثبتت فشلها، على ان يكون هناك استعداد لتبني استراتيجيات وسياسات جديدة تنسجم مع حاجة الشعوب وحجم التحديات التي تواجهها، وسيكون الجمع بين قوة صلبة عاقلة، وقوة ناعمة جاذبة احد الخيارات الذكية الصحيحة لرسم معالم الطريق نحو مستقبل افضل لحكومات وشعوب المنطقة.