منهج القرآن الكريم للحوار مع الآخر

مؤتمر الاعتدال في الدين والسياسة

2018-06-12 05:52

المقدمة

تعد الدعوة إلى حوار الحضارات هي السبيل الموضوعي والإيجابي لإطروحة صدام الحضارات التي قدمها صاموئيل هنتنغتون، وحاول كثير من مفكري الغرب أن يؤسسوا عليها ويؤصلوا لها، لاسيما عقب انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي. وتعددت تفسيرات هذه النظرية ما بين افتراض أن الدعوة لمواجهة عدو جديد على أسس حضارية وليست أيديولوجية توفر رؤية مشتركة للغرب، وسببا للحفاظ على تماسك تحالفه السياسي والثقافي خوفا من منافسات اقتصادية فيما بين دوله قد تؤدي إلى صدامات تطيح بالتحالف الغربي، وما بين الافتراض أن الدعوة تعكس أحقادا وعداوات قديمة ودفينة لدى بعض الدوائر الغربية ضد بعض الحضارات الشرقية، ولاسيما الإسلامية، وذلك لاعتبارات تاريخية وعقائدية وسياسية وثقافية.

وفي كل الأحوال، وأيا كانت دوافع أطروحة صدام الحضارات، فقد كان رد الفعل المتوازن والعاقل في آن واحد هو الداعي إلى حوار الحضارات، وهي دعوة تبنتها دوائر كثيرة عبر العالم، لاسيما في العالم الإسلامي، كما تبنتها أصوات عاقلة في الغرب، وكانت موضوعات هذه الدعوة هي أهمية إزالة سوء الفهم المتبادل من خلال معرفة أفضل وأكثر عمقا واتساعا وشمولا بالآخر، والتخلص من الصورة النمطية السلبية التي تروج لها أحيانا بعض وسائل الإعلام وبعض المنظمات السياسية والمدنية عن الآخر كونه الخطر والتهديد والعدو. وكذلك توظيف وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة لتحقيق رؤية واقعية محايدة لفكر وعادات وتقاليد وسلوك وممارسات الآخر، ذلك انه لا توجد ثقافة عليا وثقافة دنيا، وإنما جميع الثقافات متساوية، وينبغي أن تحترم خصوصياتها واختلافها.

أما فيما يتعلق بمحددات حوار الحضارات فهي تعكس رغبة متبادلة في التعايش والتفاهم والتعاون انطلاقا من قناعة مؤداها أن العالم يواجه مشكلات وأزمات أكبر من أن تدعي حضارة ما أنها تمتلك المفتاح السحري لحلها، أو تدعي أيديولوجية ما إنها تحتكر الحقيقة، وإنما يستلزم الأمر إقرار كل طرف بأنه يملك جزءا من الحقيقة، ولا ينكر على الأطراف الأخرى امتلاك أجزاء منها، والإقرار أيضا بقدرة الجميع على المساهمة بشكل أو بآخر في تقديم الحلول لتلك المشكلات، وضمان تواصل مسيرة الحضارات الإنسانية دون إخلال بأحد مكوناتها قد يؤدي إلى حالة عدم توازن تدخل البشرية في مرحلة جديدة من الاضطرابات والفوضى والحروب العرقية والقومية والدينية تفضي إلى الخراب والدمار.

ويمكن تلخيص أهداف حوار الحضارات بشكل عام في انه يسعى إلى إيجاد بيئة دولية سليمة ومستقرة تقوم على أساس الاحترام المتبادل والمساواة فيما بين الثقافات والحضارات المختلفة، وعدم ازدراء الآخر أو الحط من شأنه، والاعتراف بوجود تباينات واختلافات فيما بين الحضارات والثقافات.

لقد غدا مصطلح الحوار بمعانيه الدالة على أنه "سلوك حضاري مبني على منظومة من القيم الكونية، كالقبول بالتعددية والاختلاف، واعتبار التعايش بين الأمم والشعوب، والتعاون فيما "(1).

ومن المهم الإشارة الى مبادرة رئيس الجمهورية الاسلامية الإيرانية الأسبق محمد خاتمي، وعلى أثرها وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2000 على تسمية العام 2001 بعام الحوار بين الحضارات. فعقدت المؤتمرات للبحث في سبل تطبيق نظرية الحوار الحضاري التي نادى بها روجيه غاروي في ظل الظروف السياسية المضطربة في العالم (2).

لتكون ردا على صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات، ومن دراسة النظريتين يبدو بوضوح مكانة العالم الإسلامي وحضارته في مرتكزاتها، فالصراع الحضاري يرى أنه خطر يهدد الحضارة الغربية، بينما ترى نظرية الحوار الحضاري انه تجربة إنسانية يجب أن يحتذى بها (3).

إن العناية بالعالم الإسلامي يأتي من كون أن القرآن الكريم الذي هو دستور المسلمين قد جعل من العرب والمسلمين أمة ذات حضارة لا يزال أثرها باقيا، وهي حية قادرة على التعامل مع كافة الحضارات التي انطوت تحت لوائها (4)، لأن القرآن الذي رسم منهج حياة متكاملة، متى ما سار عليه المسلمون فأنه كفيل بأن يجعل منهم قوة قادرة على التنافس والتفوق على الحضارة الغربية، لأنه سيحقق الاستقلال السياسي الذي يحررهم من الهيمنة الغربية الاقتصادية والعسكرية، وعندها ستنهض الحضارة الإسلامية ويتضاءل شأن الحضارة الغربية (5).

وباختصار فإن الحوار يدعو إلى البحث عن المبادئ المشتركة بين البشرية في ماهيتها ومداها، كونها تتصل أصلاً وفرعاً ومسلكاً ومضموناً جملة وتفصيلاً بالشأن الإنساني. إنها أصول فكرية أفرزتها خبرة البشر وذكّرت بها النبوءات في مختلف الثقافات والحضارات عبر العصور(6).

أولا:- الحوار في اللغة والاصطلاح

في معاجم اللغة العربية وردت كلمة الحوار ومصدرها الحور بمعنى الرجوع في الشيء واليه، والحور هو التردد بالذات أو الفكر بمعنى التردد بين جهتين، والتحوير هو الترجيع، والمحور للعود الذي تدور عليه البكرة، لأنه يمكنه أن يديرها الى أي اتجاه، والتحاور هو التجاوب بين متحدثين (7).

فالحوار يعني "المحادثة بين شخصين، يتحدث احدهما ويجيبه الثاني، أو يرد عليه ويراجعه، أما على أساس المساءلة والإجابة، وأما على أساس إبداء الرأي من جهة، ومراجعتهن طرف آخر".

وهناك مجموعة من الألفاظ لها صلة بالحوار منها:-

الجدل في اللغة: القوة والإحكام والشدة في الامتناع، فهو بذلك يعني الحوار بقوة وشدة في المنازعة، والإحكام والتشديد على الخصم بغير هوادة، ويكون مبني على الخصومة والتعصب للرأي، أثناء تبادل الأفكار، وعرض الدلائل بقبولها أو إنكارها(8).

المناظرة:- هو التقابل والتوازن والتماثل والنظر العقلي، وهي صورة للحوار بمعنى تبادل وجهات النظر وصولا الى الصواب والحق، ومن شروطه أن يكون المتحاورين مؤهلين ومتكافئين علما ومعرفة وخبرة في الموضوع(9).

المحاجة والحجاج:- تعني المنازعة في الرأي عن طريق عرض الحجج اي البراهين المعتمدة، ومنه الاحتجاج وهوة تفنيد الرأي المخالف بالدليل، والمحاجة تستعمل في الحق والباطل، فهي لا تذم لذاتها ولكن بحسب استعمالها(10).

المناقشة:- هو الاستقصاء في الحساب حتى لا يترك شيء، فالمناقشة تعني المحادثة والحوار المفتوح الهادف الى تبرير حكم واستخلاص نتيجة أو التأكد من أمر(11).

ومن هذه المعاني لمصطلح الحوار والألفاظ المتصلة به يمكن أن نقول أن الحوار في الوقت الحاضر يعني " انفتاح الشخص أو الجماعة أو الأمة والشعب أو الهيأة السياسية أو غيرها على آراء المخالف، شخصا كان أو جماعة أو هيأة سياسية أو دينا أو حضارة، بمعنى دخول هذه الأطراف في نقاش وتداول للآراء بقصد التقريب بين المواقف، ووضع حد للنزاع أو القطيعة بينها "(12).

ثانيا:- المنهج القرآني للحوار مع الآخر

وردت كلمة الحوار في القران الكريم في قوله تعالى "فقال لصاحبه وهو يحاوره انا أكثر منك مالا واعز نفرا"(13)، "قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب"(14)، "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله، والله يسمع تحاوركما"(15).

وفيه أقدم دعوه للحوار بين الحضارات، عندما خاطب الله تعالى البشر بقوله " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " (16).

لذلك فالقرآن الكريم سبق روجيه غارودي بما يزيد على أربعة عشر قرناً في الدعوة إلى الحوار الإنساني وهو ما يسمى اليوم بالحوار الحضاري المبني على الاحترام والاعتراف بالآخر (17).

"قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ "(18).

وضع المنهج القرآني أسس لذلك الحوار منها: انه دعا إلى الحوار بالتي هي أحسن، وأتباع الأساليب الحسنة والسليمة قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين(19) ؛ قال سبحانه وتعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (20).

كما انه أمر بالسعي لخلق حالة التعايش السلمي بين البشر، مع الالتزام بالمبادئ العقائدية والفكرية. قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (21)؛ قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْاسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (22).

كان المنهج القرآني واضح في بيان اسلوب إدارة الحوار، حتى يكون مثمرا وبناءا، منها: أن تكون البداية مع اللغة المحترمة في دعوة الآخر للحوار، وان تكون مواضيع الحوار الأولى تنطلق من المشتركات عند الطرفين ليتعرف كل طرف على ما عند الآخر بما يخلق الروابط للتقارب ويحقق الاستمرار في الحوار وصولا الى المواضيع المختلف عليها، وكان المنهج القرآني واضح للمسلمين أن يكون ذلك بالموعظة الحسنة والبراهين العقلية (23).

فيقول سبحانه وتعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (24).

يؤكد المنهج القرآني أن التقارب والتعارف مع الآخرين على الأسس السابقة لابد أن تكون الغاية منه هو التعاون على ما فيه خير البشرية والإنسانية، فيقول تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (25).

وضح المنهج القرآني للمسلمين أن الاختلاف بين البشر في اللغة واللون هو إرادة ربانية، فلابد أن يكون ذلك جزء من إيمانهم، وان ذلك الاختلاف يجب أن يكون دافع لهم للعمل بما يرضى الله سبحانه. قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ (26)؛ وقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (27).

ومن ذلك يمكن القول أن المنهج القرآني كان واضحاً في تعريف المسلمين بأن الاختلاف بين البشر هو أمر الهي، لذلك لابد أن يؤمنوا به وان يتبعوا المنهج القرآني الذي أمرهم فيه الله تعالى من حيث الأسلوب والغاية (28).

فالقرآن الكريم بعبارة أخرى هو من أرسى التعايش السلمي بين البشر بعد أن أقر أن الاختلاف بينهم هو أمر طبيعي، وبما أن هؤلاء البشر ينتمون الى حضارات ذات ثقافات متنوعة، فالمنهج القرآني يؤمن بالحوار الحضاري بين الحضارات، وهذا هو السر الذي مكن الحضارة الاسلامية من أن تكون حضارة مبدعة وبناءة قدمت للبشرية كثيراً من الانجازات، لأنها احترمت الاختلاف الذي كان بين الأجناس والأقوام، وأفادت من عطائهم الحضاري الذي انصهر في وعاء الحضارة الاسلامية، وإنها حضارة قادرة على النهوض من جديد، متى ما تمسك المسلمون بذلك المنهج الرباني (29). قال تعالى: ((أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون))(30)، وقال سبحانه وتعالى: ((ومن يتول الله ورسوله والذين أمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون)).

مبادئ الحوار في المنهج القرآني

وهناك عدد من المبادئ العامة للحوار مع الآخر على وفق المنهج القرآني منها:-

أولاً: معرفة الآخر:- ويتحقق ذلك من إجادة لغة الآخر، ومعرفة أهدافه وخططه، وإدراك إمكاناته في مختلف الجوانب العلمية والعسكرية...الخ.(31)

ومن ذلك قوله تعالى "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء".

ثانياً: الاعتراف بالآخر:- إن المنهج القرآني يقر بوجود الآخر، وضرورة أن يكون معه حوار يتسم بالعقلانية، وآيات القرآن فيها حوارات مطولة مع المشركين وأهل الكتاب وحتى مع الشيطان(32)، قول تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بأس الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا" (33).

ثالثاً: التعاون مع الآخر:- المنهج القرآني يؤكد على إقامة علاقات التعاون بين المسلمين وغيرهم لخدمة البشرية ولتحقيق مصلحة عامة (34). قال تعالى: ((... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (35).

رابعاً: الإيمان بالحقيقة، وعدم ادعاء احتكارها في جانب واحد، والاقتناع بأن هناك أخذ وعطاء بين الحضارات والمدارس الفكرية، والخضوع والاستسلام للحقيقة بعد أن يظهرها الحوار (36):

كما أن الآيات القرآنية وضحت احترام الله وأنبيائه للحوار وقال تعالى: "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " (37). "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يأمركم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ " (38).

والأسبق لذلك أن الإسلام جعل الحوار مع الله سبحانه مباشر لقوله تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (39).

فالدين الإسلامي يرى في الحوار الحضاري مطلب مهم لإدامة الحياة، لأن صدام الحضارات هو نهاية العالم، وان الحوار الحضاري هو جسر التواصل الحقيقي لاستمرار الحياة" (40).

لذلك فالقرآن بدعوته للحوار مع الآخر يؤسس للتواصل والتعارف على وفق مبدأ الأخوة الإنسانية والعدالة والمساواة والتعاون بعيدا عن الجنس والعرق واللون، ويرسخ الايمان بأن الاختلاف والتنوع واقع في الدين والجنس والعنصر واللغة واللون، وإن هذا الاختلاف هو آية من آيات الله، ودليل على عظمته وكبرياءه سبحانه، وإن الحكمة من وراء هذا الاختلاف والتنوع هي التعارف بين الناس لا التنافر، والتعاون لا التباغض، والتنافس في الخير لا الشر (41).

ومن هنا جاء قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " (42). وكذلك قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ" (43).

وإن الدين الإسلامي الذي يدعو إلى الحوار والتعايش هدفه ليس العجز أو الضعف أو المهادنة، لأنه يضع حدا فاصلا بين الحوار والتعايش والتسامح، النابع من الثقة بالنفس والاعتزاز بالقيم الإسلامية، وبين التذويب النابع من التقليد والامعية (44)، وذلك من قوله تعالى "فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)"(45).

إن القرآن الكريم خطابه أزلي وعالمي ومباشر (46). لقول القرآن الكريم: "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (47).

فالقرآن يدعو المسلمين إلى نشر الدعوة الإسلامية وإيصال كلمة الحق إلى جميع الناس، ويدعوهم إلى إقامة المحبة والدعوة بالحكمة ويرفض التقليد في العقيدة والإكراه في الاعتناق، ويدعو إلى الانفتاح والتفاعل مع الآخر بغض النظر عن العقيدة والجنس واللون واللغة، بعيدا عن الاستعلاء القومي ومحاولة إلغاء الآخر وإذابته وتجريده من خصوصياته ونهب خيراته وثرواته، إنما القرآن يأمر المسلمين بالرحمة وإخراج الناس من الظلم، وأساس الدعوة لابد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والاعتماد على البراهين والأدلة، متبعين اليسر واللين ويرفض الإكراه والتعنيف والتجريح (48).

تحديات الحوار:

إن العولمة تعد من أهم التحديات التي تواجه حوار الحضارات، والعولمة هي إحدى أشكال الهيمنة الغربية التي تعبر عن المركزية الغربية في العصر الحديث، تلك المركزية الدفينة في الوعي الأوروبي، والتي تقوم على عنصرية عرقية، وعلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة التي ابتدأت منذ الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر الميلادي، والتي أراد الغرب أن يعيدها في مرحلة ما بعد التحرر، فأفرز أشكالا جديدة للهيمنة عن طريق خلق مفاهيم وتوزيعها خارج حدوده مثل العولمة، العالم ذي القطب الواحد، نهاية التاريخ، صراع الحضارات وغيرها، وكلها مفاهيم تكشف عن سيطرة المركز على الأطراف.

إن نزعة الهيمنة موجودة في بنية الفكر الغربي والحضارة الغربية، وقد اعتدنا ما يسمى بالمركزية الغربية، أي أن الغرب لا يعترف بالآخر، ويريد أن يفرض ذاته عليه، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي كتب كثيراً عن أن الإسلام هو العدو القادم لأنه مستعصيا على العولمة، وأنه إلى الآن لم يتبن النموذج الغربي، ولذلك فان على حلف شمال الأطلسي أن يوجه آلته الحربية إلى العالم الإسلامي.

إن أي حضارة من الحضارات إذا جاءت واجتاحت العالم بقوتها وفرضت نموذجها ونمطها في الثقافة والقيم وطريقة العيش على العالم فهذه الحضارة لا يمكن أن تكون حضارة عالمية، وإنما ما يحاول الغرب أن يفرضه الآن وهو ما يسمى بالعولمة، أي الرؤية الغربية، النظام الغربي، والهيمنة الغربية على الحضارات الأخرى.(49)

إن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية إنما هي مقدمة لمخاطر أعظم على الدولة الوطنية والاستقلال الوطني والإرادة الوطنية والثقافة الوطنية، والعولمة تعني مزيدا من تبعية الأطراف للمركز، وتجميعا لقوي المركز وتفتيتا لقوى الأطراف، وبضمن ذلك الدولة الوطنية.

وإذا كانت الثقافة هي التي تشكل أفراد الأمة، وهي الوسط والمحيط الذي يتحرك فيهما أفراد تلك الثقافة، وهي التي ترسم لهم القيم والخصائص التي ينشئون عليها، وهي التي توجد الانسجام والتوافق والتآلف التي يجب أن تسود أفرادها الذين ينتمون إليها، وهي التي تعطي السمات التي تميز أمة ما، فان العمل على المحافظة على هذه الثقافة الأصيلة بتميزها منسجمة مع المحيط الذي توجد فيه، متعاونة متقاربة مع الثقافات التي تحتك بها يعد مطلبا أساسيا، وهو ما يوفره الحوار إذا سار في الطريق السليم.

إن الحوار في ظل العولمة سيصبح عبثا في ظل تضاؤل الاعتراف بالثقافات والخصائص الاجتماعية والحضارية والعقائدية التي تمثل شروطا مقدمة للحوار، ومن أسباب قيامه، فالعولمة تثير مزيدا من انعدام الثقة عالميا بين الأمم والشعوب، ذلك إنها تهديد فعلي للهويات الثقافية والوطنية، علاوة على انها تشيع ثقافة انتصار الغرب وهزيمة الآخر وهو ما يتقاطع مع مفهوم الحوار.

مع كل ذلك لا نقطع اليأس من الإفادة من الحوار والنقاش، ومحاولة التقارب وإزالة فتيل الصراعات. والحوار من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية بدونها، وعليه فالحوار لا يدعو الآخر إلى مغادرة موقعه الطبيعي، وإنما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها والانطلاق منها مجددا.

الخاتمة

توصل البحث الى عدد من النتائج منها:-

إن المنهج القرآني وضع إستراتيجية عالمية للحوار بين البشرية الذين يختلفون فيما بينهم بالعقيدة والفكر، وليكون ذلك الحوار ناجحا في إبعاد الإنسانية عن العداء والتناحر، ورسم مبادئ وأسس كفيلة بجعله جسر للسلام والأمان بين كل شعوب العالم.

كما أن ذلك المنهج هو الذي جعل الحضارة الاسلامية قادرة على خلق الوئام والتعاون بين كل الأمم والشعوب الى انضمت الى حضارتها فحقق وحدة إسلامية ونهضة فكرية مهدت الى كل التطور العلمي الذي يشهده العالم اليوم.

وهي حضارة حية قادرة على النهوض ليكون لها دورها المميز في بناء الحضارة الإنسانية متى ما عاد المسلمون الى الالتزام بالمنهج القرآني، البعيد عن التيارات الاسلامية المتطرفة والإرهابية.

* البحث المقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

..................................
(1) محمد الكتاني، ثقافة الحوار في الإسلام، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، المغرب، 2007، ص5.
(2) محمد خاقاني، أصولنا في حوار الحضارات، مجلة المرصد الدولي، مركز الدراسات الدولية-جامعة بغداد، العدد الثالث، آذار- نيسان - 2007، ص 5.
(3) وجدان فريق عناد، القران الكريم طريقنا لتجاوز العجز الحضاري، مجلة المصباح، العدد العاشر، 2012،ص228.
(4) ينظر:- صاموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك عبيد أبو شهيوه ومحمود محمد خلف، الطبعة الأولى، الدار الجماهيرية للتوزيع والنشر والإعلان، مصراته، 1999، ص 14 وما بعدها.
(5) وجدان فريق عناد، القران الكريم، ص228
(6) المرجع نفسه، ص232.
(7) محمد الكتاني، ثقافة الحوار في الإسلام، ص12- 15؛ ينظر:- ابن منظور، ابو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقي المصري (ت 711هـ). لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1955، مادة حور؛ الراغب الأصفهاني، ابو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل (ت502هـ)، المفردات في غريب القران،تحقيق صفوان عدنان داودي، دار العلم الدار الشامية، دمشق - بيروت، 1412 هـ؛ محمد شكري الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، مطبعة المنيرية، القاهرة، 1351هـ،3 / 15، 155- 156.
(8) المرجع نفسه، ص19.
(9) المرجع نفسه، ص16.
(10) المرجع نفسه، ص18-19.
(11) المرجع نفسه، ص16-17.
(12) المرجع نفسه، ص27.
(13) سورة الكهف، آية 34.
(14) سورة الكهف، آية 37.
(15) سورة المجادلة، آية 1.
(16) سورة الحجرات، آية 13.
(17) محمد العربي الخطابي، من أجل حوار بين الحضارات، مجلة المناهل، العدد العاشر، السنة الرابعة، 1397هـ/ 1977م، ص 39-40.
(18) سورة آل عمران، آية:64 ؛ ينظر: الطبرسي، مجمع البيان، 2/ 454.
(19) سورة النحل، آية 125.
(20) سورة البقرة،آية 256.
(21) سورة العنكبوت،آية 46.
(22) سورة آل عمران، آية 85.
(23) وجدان فريق عناد، الأسس الفكرية لمعادة الغرب للدين الإسلامي نظرية صراع الحضارات أنموذجا، بحث مقدم لمؤتمر الكلية الاسلامية الجامعة، 14-15- نيسان، 2013؛ علي عبد الحليم محمود، الغزو الثقافي، ص393.
(24) سورة آل عمران، آية 64.
(25)سورة الممتحنة، آية 8.
(26) سورة الروم، آية 22.
(27) سورة المائدة، آية 48.
(28) علي عبد الحليم محمود، الغزو الثقافي، ص394- 394.
(29) محمد العربي الخطابي، من اجل حوار بين الحضارات، ص 40 ؛ حميد حمد السعدون، الإسلام والغرب، ص136؛ وجدان فريق عناد، الأسس الفكرية؛ محمد خاقاني،أصولنا، ص8.
(30) سورة الأحزاب، آية 396.
(31) غازي سعيد سليمان، المنهج الإسلامي في التعايش السلمي مع غير المسلمين، مطبعة هيأة إدارة واستثمار الوقف السني، بغداد، 2009، ص80-83.
(32) المرجع نفسه، ص82-83.
(33) سورة الكهف، آية 29؛ الطبرسي، مجمع البيان، 6/ 414.
(34) غازي سعيد سليمان، المنهج الإسلامي، ص83-84.
(35) سورة المائدة، آية 2.؛ الطبرسي، مجمع البيان، 3/152.
(36) محمد خاقاني، أصولنا في حوار الحضارات، ص 13 ؛ ستار جبار الجابري، أي حوار نريد، ص33؛ ادوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981، ص 68 ؛ غازي سعيد سليمان، المنهج الإسلامي، ص87.
(37) سورة المائدة، آية 112.
(38) سورة البقرة، الآية 67.
(39) سورة البقرة، آية 186.
(40) حميد السعدون، الإسلام والغرب، ص 67 ؛ محمد خاقاني، أصولنا في حوار الحضارات، ص12-13.
(41) غازي سعيد سليمان، المنهج الإسلامي.، ص40؛ محمد خاقاني، أصولنا في حوار الحضارات، ص10- 18.
(42) سورة الحجرات، آية 13؛ الطبرسي، مجمع البيان، 9/ 134.
(43) سورة الروم، آية 22؛ الطبرسي، مجمع البيان، 7/ 299.
(44) غازي، المرجع نفسه،ص 71
(45) سورة القلم، آية 8، 9 ؛ الطبرسي، مجمع البيان، 10/ 331؛ محمد خاقاني، أصولنا في حوار الحضارات، 20- 21.
(46) بديع الزمان، المعجزات القرآنية، ص 90.
(47) سورة الجاثية، آية 13 ؛ ينظر:- الطبرسي، مجمع البيان، 9/73 ؛ حميد مجيد هدو، آية الله المحقق كمال الحيدري سيرته منهجه آثاره، ج2، مؤسسة الهدى، 2011، ص981.
(48) غازي سعيد سليمان، المنهج الإسلامي، ص 73-74؛ وجدان فريق عناد، الأسس الفكرية.
(49) ينظر: محمد خاقاني، أصولنا في حوار الحضارات، ص11-12.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي