التفاعلات الخارجية وصيرورة المشهد الاستراتيجي في عراق ما بعد داعش

شبكة النبأ

2018-02-04 05:00

د. عبد الكريم كاظم عجيل

 

تعد التفاعلات السياسة بين الفواعل الدولية من المسلمات في العلاقات الدولية، وتختلف قوة هذه الحركة حسب شكلها وطبيعة البيئة التي تتحرك بها، وتعد منطقة الشرق الأوسط من اهم المناطق التي تمتاز برصيد مرتفع من التفاعلات السياسية الدولية، ويعتبر العراق من المناطق التي شكلت بيئة استقطاب كبير للفواعل الدولية والفواعل غير الدولية، والتي ينتج عن تفاعلها في هذه البيئة نتائج ذات امتدادات إقليمية ودولية.

وعلى ذلك يعد العراق ساحت اختبار للمشاريع التي تحاك للمنطقة أو منطلق لتنفيذ هذه المشاريع، ناهيك عن الدور الكبير الذي يلعبه في تغيير توازن القوى في الشرق الأوسط، فالعراق من اهم المنافذ للعامل الخارجي الذي يعمل على التغلغل في المنطقة وتغيير واقع القوة والنفوذ فيها.

فمثلا لم يكن المشهد الاستراتيجي للمنطقة يخرج من حالة الشلل التي أعقبت أحداث 11 أيلول 2001 والتي كان أبرز مظاهرها انهيار العراق وخروجه من النظام الإقليمي العربي، حتى جاء الحراك الشعبي العربي (الذي عرف بالربيع العربي)، ليقلب كل موازين القوى، لتدخل المنطقة في دوامة جديدة من التفاعلات السياسية الدولية والتي كان ابرز مظاهرها هو انتشار العنف والتفكك والتمحور وصولا لسيطرة تنظيم داعش على أراضي واسعة في كل من العراق وسوريا، هذا الواقع فتح الباب على مصراعيه أمام المتغير الخارجي ليكون المتحكم في صيرورة المشهد الاستراتيجي للمنطقة.

وبمقدار ما شكل وضع المنطقة من ظهور تنظيم داعش حالة استقطاب دولي، فإنه شكل بالمقابل بؤرة استقطاب إقليمي أكبر، فالتأثير هنا أكثر نتيجة القرب الجغرافي والتداخل المذهبي والتنافر الأيديولوجي وحجم المصالح والصراع على النفوذ، وتصور الأطراف الإقليمية الفاعلة للتهديدات التي تواجههم والفرص المتاحة أمامهم لتحقيق غاياتهم.

وعليه فقد هز الواقع الجديد مع سيطرة وتمدد داعش، ميزانَ القوى في منطقة الشرق الأوسط، ليعيد تشكيل المشهد الاستراتيجي في المنطقة برمتها، فمع بداية هذا التحول الجديد اصطفت دول المنطقة في أكثر من محور غير ان المتغير الخارجي كان هو الموجه والركيزة في حركية هذه القوى.

وضمن الاصطفاف السابق يمكن رؤية بعض الدول تنتقل بين المعسكرين وفقاً لمصالحها الخاصة، كما يمكن ان نرى استخداماً للأدوات نفسها رغم اختلاف الهدف المقصود، وهو ما يشكل نوعاً من التنفيس عن حجم الضغط الذي يتعرض له النظام الإقليمي العربي، وليس المتغير الخارجي ببعيد عن هذا التنفيس الذي يمكن ان يعتبر اغلبه موجهاً ومخططاً ولا يدخل ضمن باب العبثية في التحرك. وتُعد التفاعلات الدائرة بين هاتين المجموعتين نوعاً من الحرب الباردة في منطقة الشرق الأوسط. وهذه المواجهة الناشئة تدور بين المعسكرين حول طبيعة ومستقبل المجتمعات في المنطقة، من شمال إفريقيا إلى الخليج. وهي ما ستحدد شكل النظام الإقليمي العربي مستقبلاً، والذي سيكون للوضع العراقي الدور الأكبر فيه.

وضمن هذا المشهد يعيش العراق حالة من التأزم والارتباك، وعدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، وهذه الحالة التي يشهدها العراق في الوقت الراهن، ويواجه فيها أوضاعاً صعبة ومعقدة قد تؤثر على مجمل المشهد الاستراتيجي للمنطقة، ومن أبرز الأوضاع الراهنة والتحديات التي تواجه العراق:

أزمة العلاقة بين المركز وإقليم كردستان، وتجدد مطالب الانفصال.

هشاشة العملية السياسية، خصوصا بعد قصورها في تحقيق التحول المنشود للبلد، ويعد دخول المتظاهرين إلى المنطقة الخضراء مؤشرات مهمة على ذلك.

تصاعد دور الفاعل غير الدولية سواء كانت منظمات/احزاباً شرعية أو جماعات إرهابية وتحكمها في إخراج المشهد السياسي.

استمرار تصاعد دور العامل الخارجي وتدخله في الشؤون الداخلية.

مشاكل اقتصادية ولاسيما مع استمرار انخفاض أسعار النفط.

تجدد مطالب الاقلمة المذهبية.

وبناء على ما تقدم فقد اجتمعت عناصر عديدة على إخراج المشهد الجيوستراتيجي الذي يمر به العراق حاليا، وهو ما يجعل المشهد ذا طبيعة مركبة تصعب معها الحلول التبسيطية والسياسات القصيرة النظر، وهو كذلك يجعل واقع القوة للفاعلين ينكشف بشكل واضحة عبر رصد طبيعة الحركة من فعل ورد الفعل وبالنتيجة يكون المتغير الخارجي هو (بيضة القبان) أو المرجح للجهة التي تنسجم مع مصالحها.

غير ان من يستطيع ان يقلب هذه المعادلة هو أنهاء المشاريع الخارجية التي تريد تمزيق البلد وجعله يعيش في حالة من الفوضى، فأفشال مشروع "داعش" يعني دخول العراق في استحقاقات جديدة سيكون لها أثار على مجمل حركية النظام الإقليمي العربي وليس في العراق أو سوريا فقط، وعلى ذلك تعتبر مرحلة ما بعد داعش مرحلة استراتيجية ذات أبعاد إقليمية كبيرة يمكن ان تنقل وضع المنطقة من حالة إلى حالة مغايرة اذا ما استغلت بشكل إيجابي، وفتحت صفحة جديدة بين الدولة العربية من خلال الاستفادة من دروس الماضي التي كان ابرز معالمها الانقياد للعامل الخارجي وتمزيق وحدة الصف العربي.

يسعى هذا البحث لقراءة المشهد الاستراتيجي في العراق انطلاقا من دراسة إثر المتغير الخارجي وأثره في المنطقة، وصولا لتحديد وزن القوى الإقليمية والمحلية في ضوء أنهاء هذا الخلل الجيوستراتيجية والمتمثل في سيطرة داعش على أراضي واسعة في العراق وسوريا، كما نسعى لاستشراف مستقبل العراق ما بعد داعش وموقعة في النظام العربي.

........................................
* بحث مقدم لمؤتمر الاستقرار الأمني والمجتمعي في العراق لمرحلة ما بعد داعش، الذي عقد من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جامعة بغداد، وبالتعاون مع مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام بتاريخ 23/10/2017.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي