تعثر عوامل التنمية والاصلاح السياسي العربي: العراق انموذجاُ

شبكة النبأ

2018-01-30 04:30

د. نغم نذير شكر

 

ان للقيادة السياسية العليا في أي دولة الدور المحوري في نهضتها او كبوتها ، وكما كان يلتسين وسياساته سبباً مباشراً في تدهور روسيا وفقدانها لنفوذها وهيبتها ، فقد كان بوتين عاملاً اساسياً في استعادة روسيا لمكانتها كقوة كبرى . فالقيادة يجب ان تكون لديها خبرة ودراسة بالمشكلات والازمات التي تعصف بالدولة والمجتمع ، والاهم ان تكون لديها رؤية لكيفية التعامل الناجح مع هذه المشكلات والازمات ، وان تكون هذه الرؤية قابلة للتنفيذ ، وليست محض خيال واحلام ، وان يكون لدى القيادة القدرة على الخروج بها الى ارض الواقع حيث يشعر بها كل مواطن .

بعد كل ما تقدم، يتضح أن رهان التغيير يتطلب تصحيح المسار الديمقراطي وتجنب جميع أشكال المماطلة وعمليات التضليل للجماهير العربية الثائرة. ومن بين هذه العمليات التضليلية التي يحاول البعض اعتمادها هي التقيد بمنطق "النقل" أو "الاقتباس" في الأفكار والمفاهيم الغربية من أجل بناء نظام ديمقراطي عربي حقيقي، في حين أثبت التاريخ فشلها في مواطنها الأصلية.

فاذا لم تحسم هذه المسائل المستعصية وغيرها من التحديات الأخرى، فأنه لا يمكن لأي تجربة إصلاح أو تغيير حقيقي أن تبنى فعلياً. ولن يكون الأمر سوى حديث لغو وتسويف ومماطلة. فأغلب الأطراف والتيارات السياسية والفكرية تدرك أن سيادة الدولة الحقيقية يستمد مشروعيتها من الممارسة الديمقراطية. وأعداء الأمة- من الداخل والخارج- لا يريدون النجاح لهذه التجربة وفق الشرعية الثورية الجديدة، بقدر ما يريدون استنساخ المقاربة (الليبرالية الجديدة) القائمة على آليات السوق والتحول من "سلطة الدولة" الى "دولة السلطة" وتفكيك جميع مؤسساتها السيادية التابعة لها. ففي ظل سيطرة المنظومة الاقتصادية الليبرالية على المشهد السياسي العالمي، بدأ بتشكل نسق جديد للولاءات السياسية، وهو ما يسميه البعض بـ "العبودية الإرادية" الجديدة في المجتمع المعاصر.

ويترتب على ذلك أن مفهوم إحياء النظام العربي لا يجب أن يقتصر على التعديلات القانونية والتنظيمية للجامعة العربية التي طالما تم الدعوة إليها في العقود السابقة ولكن أن تطال دور الجامعة ورسالتها الأخلاقية والسياسية، وأن تكون سياسات دعم التطور الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان هي محور الدور الجديد للجامعة وأن تطور الجامعة كفاعل وديمقراطي إقليمي. وأن تقدم المرجعية الفكرية والمعنوية والسياسية لعملية التطور الديمقراطي العربي أسوة بما حدث في منظمة الدول الأمريكية التي وقع أعضاؤها على ميثاق الديمقراطية الذي اعتبر إقامة النظم الديمقراطية شرطاً لتحقيق أهداف المنظمة، ومنظمة الآسيان التي تضم دول جنوب شرق آسيا وانتقالها للتركيز على قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. ثم أن أي إحياء للنظام العربي لابد أن يعتمد على الشباب الذين يمثلون قوة التغيير الأساسية، وينبغي أن تكون أفكارهم وتطلعاتهم وإحلامهم الأساس الذي ينطلق منه أي نظام إقليمي عربي جديد من هذا المنطلق، لا نرد أن فيما يحدث اليوم في العالم العربي من الممكن أن يبعث الأمل اذا تحققت الأسس السابقة التي تم التركيز عليها في محاور البحث، وبذلك نكون أمام أحداث تتسارع في اتجاه إعادة تشكل المشهد السياسي وأنها تحمل أشعاراً تتحول قد يكون فيه للديمقراطية (أو لمقدماتها) وجود فعلي وحقيقي استناداً الى مجموعة من المؤشرات الواضحة ويمكن تحديدها على الشكل الآتي:

1. الرغبة في الديمقراطية ليست منعدمة ويتضح ذلك في التوجه نحو التغيير الاجتماعي الذي تساهم فيه فئة الشباب كنسبة أكثر ارتفاعاً في الوطن العربي.

2. الحركية والحيوية التي يشهدها المجتمع المدني اليوم في العالم العربي هي مؤشر قوي على ترسيخ ثقافة الديمقراطية وأيضاً مقياس لدرجة الوعي بأهمية تقوية دور المجتمع المدني في المجتمعات العربية الى جانب المجتمع السياسي.

3. بروز مجموعة من المظاهر التي تكون مصاحبة لسيرورة التغبير الاجتماعي وهي فك عقدة الخوف والترهيب التي مارستها الأنظمة العربية في المشرق العربي بالتعبير عن الرفض والاعتراض على الظلم والقهر الاجتماعي، وهذا ما عبرت عنه ثورات الربيع الديمقراطي.

4. التطور التكنولوجي الهائل وأثره في خلق التواصل الاجتماعي بين الشباب في العالم العربي، فهو يعتبر خطوة أساسية في التحول الديمقراطي لتكسير عقود من الرقابة والحرمان وإقفال النوافذ والمنافذ التي خلقت مواطن عربي مطيع ومتمثل، يرى في كل ما حوله قدر محتوم.

وعلى هذا الأساس، فما يسمى بالاستعصاء الديمقراطي في المنطقة العربية الذي يروج له في الأوساط الغربية، فهو لا يعبر عن سمة أصيلة وطبيعية في البنية الاجتماعية العربية، بل هي ظاهرة محدودة ناجمة عن عوامل خارجية وأخرى داخلية، والدليل على ذلك ما شهده العالم العربي من ثورات ديمقراطية جاءت بمجموعة من المؤشرات التي تظهر أن هذه المجتمعات هي في مسار بناء دول ديمقراطية.

يعد تحقيق الاندماج بين المكونات الثقافية بمثابة الغاية الاهم في مشروع بناء الدولة – الامة – بحيث تجرى عمليات الاندماج في شتى صعد الدولة وهياكلها فهي تستهدف بناء كيان سياسي جديد يتمايز عن جميع الكيانات والجماعات المكونة له, فهو كيان مشترك من حيث شعور الافراد والجماعات تجاهه بحس المقاسمة والمشاركة.

بمعنى اخر, ان الدولة هي من تعمل على توليد الشعور لدى اعضائها بكونها مشتركا عاما يقتضي الحفاظ على استمراريته, بغية دوام المجتمع باسره.

ومن جهة اخرى, تعد الدولة كيانا مشتركا بالنسبة الى وحداته الادارية الداخلية من حيث تنظيمها وكيفية ادارتها والتعامل معها ومثل هذا الولاء المشترك والتنظيم العام لمكونات الدولة الثقافية منها والادارية, انما ينبعث نتيجة العمل لمشروع بناء الدولة – الامة- .

واذا فهمت الثقافة بصورتها المبسطة بانها طريق واسلوب في الحياة, واذا فهمت بانها تعبر عن نمط حياتي لمجموعة انسانية, برزت اشكالية التكوين في الثقافة العراقية حيث يعرف المجتمع العراقي بانه يمتاز بالتنوع الثقافي الذي يعكس في احدى صوره حالة من حالات الرقي الحضاري, ولكن المشكلة الكامنة في التغيير الذي عاشته الثقافة العراقية المتنوعة وغابت معه امكانية الدخول في عمليات تكامل ثقافي, مما عرض الثقافة العراقية في حالة من المسخ الحضاري, حيث غُيَّبت وتم تصنيع بعض الثقافات العربية التي تصب في الثقافة المشتركة واسهم ذلك من جهة اخرى في ولادة جيل لم يستطيع ان يحيا ويعيش حالة التمازج الحضاري.

وبما ان الاثنيات والاقليات هم تكوين بشري يمتاز بالتنوع الطبيعي من حيث الدين والمذهب والسلالة والمعتقد وان مستقبلها مرهون الى حد بعيد بالتعامل الفعلي لممارسة السلطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلا ان اسلوب التعامل في الظرف الحالي اصبح جافا" وبعيدا" عن مقتضيات العدالة والحرية وولد تمايز طبقي وطائفي واضح, افرازاته التهميش والتشتت والتأثير المباشر على الخصوصيات, مما أحدث انفصال بشري من المحيط العام وحتى اذا كانت هناك نية للدمج والسعي الى تكوين وحدة مجتمعية من قبل السلطات فانها لم تستطع تجاوز عصبيات الواقع والدوائر التقليدية المتوفرة في المجتمع العراقي اليوم والذي تحوز عليه الاغلبية في اكثر الاحيان وبالوقت نفسه, ان الاثنيات والاقليات لا تتأثر بالمفاهيم التي تتبعها الاغلبية اذا توفر مفهوم العدل والمساواة والبعد السياسي المستقر لها لانها تدرك ان عملية التمازج والتواصل المتبادل والاعتراف بقاعدة مفهوم الوحدة الوطنية هو الذي يزيل عامل الخوف من جميع الجهات سواء كانت مسيطرة او غير مسيطرة .

وينبغي الاشارة الى ان ازمة الهوية تنشأ نتيجة عدم استطاعة الدولة تأدية وظائفها بصورة كاملة من حيث تحقيقها ما يسميه (نيكي راندل) وروبين ثيوبولد " الاندماج الثقافي " أي تحويل الدولة ولاء الناس وانتماءاتهم من العشائر والقرى والامارات الصغيرة الى النظام السياسي المركزي . وباعث نقصان فاعلية الدولة يتمثل في كون قطاعات واسعة من السكان ما زالت تتمسك بهوياتها الثقافية بشدة رغم ان الدولة قطعت اشواطا" عدة من التحديث, فينشأ عن ذلك صراع بين الولاء للهويات الفرعية والولاء للهوية القومية المشتركة (الامة), فكل منهما يسعى الى السيطرة على الدولة ومؤسساتها.

والفكرة الجوهرية التي يقوم عليها نظام الدولة- الامة هي ان الدولة والهوية القومية ترتبطان بعلاقة وثقى, بحيث تبرز ازمة الهوية حينمالا يتولد التطابق التام بين نطاق الدولة وامتدادها من ناحية ووعي الجماعة بوجودها من ناحية اخرى, اذ ان المشكلة عموما" تتعلق بالصدام بين جماعتي الاكثرية المهيمنة والأقلية, من حيث صعوبة جعلهما يحوزان الشعور بأن الدولة ملك الجميع وتنتمي الى الجميع من دون تمييز .

وبذلك, فإذا كانت الثقافة العراقية تشكو التكوين فإنها تشكو (الأنا) العالية التي ترفض الآخر وتسعى الى مصادرة حقه في الوجود, فيصبح هناك نظام يمثل رأي واحد وثقافة واحدة وعرق واحد ومذهب واحد وعشيرة واحدة...الخ, ممل جعل العلاقة بين الموجودات الثقافية العراقية علاقة صراع وتسقيط متبادل لكل منهما, وهذا ما نجده الان مطروحا" في الساحة العراقية حيث تعيش اطرافه في حالة من عدم الثقة المتبادلة بينها وسعي كل منها الى جني مصالحه الجهوية على حساب المصلحة العامة, مما ادخل البلاد في حالة من عدم الاستقرار, وهذا بدوره ما يجعل تحدي تجاوز هذه الاشكالية كبير حيث يتطلب من نخبه المفكرة العمل على توعية مؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية بالشكل الذي يعزز المصلحة العامة مع التأكيد على مصالح كل جهة بالشكل الذي يسهم في تحقيق توازن بين المصلحة الخاصة والعامة .

لقد أثرت مركزية العراق الاستراتيجية في تأريخه وحاضره, وسيكون لها دورها في صيرورة مستقبله من خلال التكوين السكاني والثقافي لاهله.

إن كل الحضارات التي قامت في العراق والجيوش التي غزته والاقوام التي استقرت فيه كانت قد بلورت خصوصياته البيئية وموقعه الاستراتيجي وتبدل سلالاته وثقافاته في ربوعه عبر تواريخه القديمة والوسيطة والحديثة .

وبالرغم من ذلك فان مشروع بناء الهوية الوطنية قد تعثر ولم يكتمل بسبب ما واجهه من مشاكل وعقبات تعود الى :

‌أ. تعدد وتنوع واختلاف المكونات الاجتماعية والثقافية التي تبدأ بالقومية والدين واللغة وتنتهي بالقبلية والطائفة.

‌ب. تعدد الولاءات والانتماءات, التي تستقطب كل واحدة منها مشاعر الولاء الاجتماعي حولها.

‌ج. النزعة الابوية, التي تسيطر على البنية الفكرية والاجتماعية والثقافية, التي تقوم عليها علاقات القرابة وصلة الدم وما يرتبط بها من قيم واعراف وعصبيات عشائرية تغالبية ما زالت تمارس تأثيرها على طرائق التفكير والعمل والسلوك, وعلى منظومة القيم والمعايير وقواعد السلوك وشبكة العلاقات الاجتماعية ويولدان آليات دفاع ذاتي للحفاظ على الهوية.

وعليه تبني الدولة المدنية الحديثة على خيارات موضوعية, عندما تتوافر لها الحوامل الاتية :

1) الحامل الاقتصادي (اقتصاد مستقر- قانون عرض وطلب فعال- الربح والخسارة- المبادرة الفردية النشطة- الملكية الخاصة المضافة).

2) الحامل السياسي (انتخابات- ودستور وبرلمان منتخب وتقدرية ضريبية- وصحافة حرة- وسيادة القانون وقضاء مستقل- واحترام حقوق الانسان).

3) الحامل الفكري والثقافي (هيمنة النزاعات العقلانية والفردية والعلمانية).

4) الحامل الاجتماعي (طبقة وسطى كبيرة ومستنيرة وميسورة- عدالة اجتماعية).

ولكن.. ان لم تتوفر تلك الحوامل او بعضها, فهذا لا يعني الانتظار لحين استكمالها كلها, على ان عدم الانتظار لحين استكمالها, مع الحاجة المُلحة لبناء الدولة المدنية, يجعل الحاجة لبناء الدولة المدنية, خياراً سياسياً وضعياً لا خياراً موضوعياً .

لقد كشف الواقع السياسي الجديد في العراق (واقع عدم الاستقرار) عن حقيقة تبدو متجذرة في العالم النامي, وهي ان من اهم التحديات التي تواجه الدول الساعية الى تأسيس نظام ديمقراطي بعد حقبة من الحكم الشمولي هي مسألة التعامل مع التعددية سواء فهمت من منظورها السياسي ام الاجتماعي ام الثقافي, وفي الحقيقة ان هذا التحدي يرتبط دائماً بعدد من الازمات غير المحسومة على صعيد بناء الدولة في المجتمعات التقليدية, مثل (ازمة الاندماج والشرعية), ويمتد احياناً للتفاعل مع (ازمة التوزيع وازمة المشاركة), ويعني ذلك ان التعاطي مع اشكالية التعددية يُشكل عنصراً حاسماً في البناء الهيكلي والمادي والوجداني للامة, كما يؤثر في صياغة نظام سياسي- اجتماعي يحفظ عقدها الاجتماعي ويضع اسساً مقبولة للتداول السياسي وادارة عمليات المنافسة والتوافق .

وعلى هذا الاساس, فأن غالبية دول العالم الثالث, تنبعث فيها ما يسمى (بأزمة اقليم الدولة وحدودها), وتجسد هذه الازمة, في كون المسألة الجوهرية في الجدال السياسي الدائر في الكثير من دول العالم الثالث, تُعد متمثلة وحسب في قضية من يحكم؟ او كيف يحكم؟ بل اصبحت تتمثل ايضاً، وبصورة رئيسة في "هوية الدولة واقليمها، فهل الدولة الناشئة كل مكتمل غير قابل للتجزئة, ام انها جزء من محيط جغرافي اوسع؟ وهل هذه الدولة قادرة بشكلها الراهن على ان تبدو معبرة عن الارادة العامة لمواطنيها وخادمة لمصالحهم المشتركة؟ وباعث هذه الازمة هو كون الحدود السياسية لغالبية دول العالم الثالث حدوداً قائمة على اسس طبيعية واجتماعية ثابتة, بل رُسمت وفقاً لمصالح القوى الدولية المتصارعة.

ولكون الهوية القومية اصلاً تشتمل في جزء مهم منها على ايلاء المواطن الجغرافي وحدوده اهمية عليا في ذاكرة اعضاء المجتمع ومخيلتهم, فقد ادى ذلك الى توليد حالة من تشوش الهوية القومية عينها. ثم ان عملية تكوين الدولة كانت تتم اساساً عبر تحريك المشاعر القومية ضمن اطار هذا الاقليم المصطنع.

وبذلك, فأن خيار الهوية الوطنية العراقية هو الاكثر تعبيراً عن تاريخ العراق المعاصر, وهو الاكثر التزاماً بحقائق الواقع الاجتماعي والسياسي الراهنة في العراق, كما ان من المأمول ان يكون هذا الخيار هو الاكثر ضماناً لمستقبل عراق موحد مزدهر يسوده السلم الاهلي, ويعيش فيه مواطنون عراقيون احرار واسوياء ومتساوون في الحقوق والواجبات .

وتأسيسا" على ما تقدم, قد يصدق رأينا القائل ان ازمة الهوية هي نتيجة مباشرة لأزمة الاندماج, فالأخيرة هي اصلا" نتاج ضعف فاعلية الدولة في توظيف قدراتها المادية والفكرية في استيعاب التنوع المتنامي لجماعات المجتمع ومطالبها.

هذا النقصان سيؤدي الى تعميق ازمة الهوية المتولدة اساسا" ضمن اطار عملية بناء الدولة, بحيث ان سوء توزيع الموارد والثروات, على قلتها, سيقود المركز ونظامه السياسي نحو فقدان الشرعية, ومن ثم بروز وضعية التنافس والتنازع بين المركز والاطراف للاستيلاء على الدولة.

ومثل هذا الوضع سيدفع المركز الى تصعيد مستوى الاكراه في تعامله مع الاطراف غير الموالية تحديدا", وهو ما سيفضي لاحقا" الى استنزاف المزيد من موارد الدولة, وتغليب هوية الاكثرية وهيمنتها على سائر الهويات الفرعية, ومن ثم جمود مؤسسات الدولة في كلا مساري مشروع الدولة – الامة, أي تكوين الدولة وبناء الامة, بحيث تندفع اقليات كثيرة, ضمنا" او علانية, الى الارتداد عن موالاة الدولة, وتغليب مصالحها وهوياتها الفرعية على مصالح الاكثرية والانتماء المشترك.

وبذلك فان إستمرارية حالة الجمود المؤسسي هذه تنذر بتوافر البيئة الملائمة لقيام الانقلابات, وربما الثورات .

ويبدو ان الذي يجعل التعددية الاثنية والسياسية في العراق تتحول الى ازمة بنيوية في هيكلية النظام السياسي, هو نمط التعاطي معها, فبدلاً من ان تستند الى اطار تناغُمي وقواعد مقبولة للعبة, قامت على مباراة (صفرية) تلغي الآخر ولا تقبل بأي منطق توافقي, اذ تحولت هذه التعددية الاثنية الى محفز لصراع شامل ولا سيما عندما ارتبطت بالشعور بـ(المظلومية التأريخية) من بعض الاطراف فيما ارتبطت بشكاوى اقتصادية وشعور بالتهميش من قبل اطراف اخرى, وهو ما يعني ان للتعددية الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالهوية تأثيراً اعمق في العادة من حيث القدرة على التعبئة الاجتماعية, ولا سيما في المجتمعات التي لم تستكمل بعد مشروع بناء الامة او الدولة القومية بمفهومها الحداثي, وبالتالي ان انعكاساتها السياسية تكون اوضح واشمل طالما انها تتحفز من خلال ما يُعرف بالانتماءات الاولية .

وعلى هذا الاساس, يجب اعتماد مصلحة الدولة العراقية اساساً في التفاعل الاقليمي, وليس المصلحة الاثنية او العرقية.

فمن تغليب الانتماء للثوابت القيمية المجتمعية العراقية الوطنية, ومن تغيير الارتباطات الاقليمية ودلالاتها التفاعلية الايجابية, يذهب التخطيط الاستراتيجي الامني, باتجاه الثوابت القيمية الجمعية, ويمنح صانع القرار العراقي بعداً قيمياً ايجابياً داخلياً واقليمياً, فيحصل على هامش اوسع من المقبولية او الرضا, نتيجة لادراك ايجابي يتبلور, لغياب الهواجس الانحيازية او التمايزية .

وعلى هذا الاساس, فالثقافة العراقية في مراحلها القادمة تقف على مفترق طرق حاسم, فهي امام خيارات مصيرية ستُحدد مستقبلها المتطور دونما ريب, حيث ان تدويل قضايانا الوطنية فضلاً عن التدخلات والاختراقات والمصالح المعقدة التي اثقلت وستثقل كاهل برامجنا الوطنية في اتجاهاتها كافة, وما تعانيه منظوماتنا الثقافية من تخلخل في البنية واضطراب في الاتجاه بفعل ثقل الازمة وتبعاتها, يجعل من تحديد الخيارات الثقافية من اهم واخطر عوامل نهوضنا المنبعث او انتكاستنا الجديدة.

........................................
* بحث مقدم لمؤتمر الاستقرار الأمني والمجتمعي في العراق لمرحلة ما بعد داعش، الذي عقد من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جامعة بغداد، وبالتعاون مع مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام بتاريخ 23/10/2017.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي