كيف تؤثر الأمم المتحدة في صياغة النظام الدولي؟
خالد علي عبود
2015-11-17 05:23
عندما كانت الحاجة ملحة إلى ميلاد منظمة دولية جديدة بعد الحرب العالمية الثانية لتدخل ميدان العمل وتعمل على حفظ الأمن والسلم الدوليين، كان هذا الشغل الشاغل لرجال القانون وقادة العالم من أجل إقامة نظام دولي مستقر وغير متناحر، وبعد المخاض العسير المعروف الذي أفرزته تصريحات الأطلنطي في عام 1941 والذي انتهى بتوقيع وثيقة التعاون الدولي من أجل حفظ الأمن والسلام في اجتماع على ظهر سفينة صاحب السمو الملكي الأمير ويلز في عرض البحر بين فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وونستون تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة (عرف باسم ميثاق الأطلسي) والذي تضمن هذا الميثاق مجموعة من المبادئ تفرض وجود نظام دولي متعاون أهمها: مبدأ الأمن الجماعي، ومبدأ عدم اللجوء إلى القوة، ومبدأ المساواة في الحصول على المواد الأولية، ومبدأ التقدم الاقتصادي، ومبدأ التأمين الاجتماعي.
بعد ذلك جاء تصريح أو إعلان واشنطن الذي تم فيه اقتراح اسم "الأمم المتحدة" من قبل فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بحضور 26 دولة من الحلفاء وهو داعم إلى ميثاق الأطلسي وذلك عام 1942. ثم تصريح موسكو وأهم ما جاء فيه بشأن التنظيم الدولي الدعوة الى ضرورة قيام هيئة عالمية واحدة، ثم تصريح طهران الذي أفرزه اجتماع قادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والصين والمملكة المتحدة في طهران في عام 1943 وقد أعلن المجتمعون مسؤوليتهم تجاه شعوب العالم. بعد ذلك جاء مشروع دميارتون أوكس" وأهم ما جاء فيه هو خلاصة لكل المؤتمرات والتصريحات السابقة ووضع أول مخطط للأمم المتحدة والأسس العامة التي تقوم عليها هذه المنظمة الدولية والكفيلة بنجاح إقامتها من حيث المبادئ والأهداف والتنظيم وكان هذا الاجتماع قد عقد في قصر يسمى دميارتون أوكس في واشنطن العاصمة.
وفي 25 نيسان/أبريل 1945، اجتمع مندوبو 50 دولة في سان فرانسيسكو بمناسبة مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمنظمة الدولية، حيث صاغوا ميثاقا من 111 مادة، اعتُمد بالإجماع في 25 حزيران/ يونيه 1945 في سان فرانسيسكو. ووقّعوا عليه، في اليوم التالي، في مسرح هيربست بمبنى النصب التذكاري للمحاربين القدماء.
هكذا ولدت الأمم المتحدة وميثاقها كشرعية ومرجعية دولية من أجل النظام الدولي الذي كان يمر في أزمات عسكرية خانقة في تلك الفترة، وفعلا استطاعت الأمم المتحدة انتشال النظام الدولي من الانزلاق الكلي وحاولت من خلال قوانينها وفروعها التي أقرها المشروع مثل الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. حفظ الأمن والسلم الدوليين على الأقل في تلك المرحلة التاريخية وربما تكون قد أنقذت العالم من حرب عالمية ثالثة.
أما بعد حدوث المتغيرات الجديدة والأحداث العالمية الكبرى بما فيها هجمات 11 سبتمبر 2001 ونهاية الحرب الباردة وتبلور أساسيات وأهداف النظام العالمي أحادي القطبية الذي يتمركز حول القوة الأمريكية المسيطرة، كل هذه التطورات والمتغيرات أدت الى ظهور اتجاهين في العلاقات الدولية هما دول الشمال ودول الجنوب، وهنا توضحت الرؤيا لمصادر التهديد في النظام الدولي الذي صار يعكس حقيقة مزدوجة وهي إن دول الشمال بصورة عامة تتصف بالتجانس الحضاري والاستقرار السياسي واحترام التعددية وحقوق الإنسان والمدنية والرقي إلى مستويات عالية من الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، فهذه الدول متفوقة على دول الجنوب تفوقا مطلقا في التكنولوجيا وفي مقدمتها الدول النووية الكبرى التي تؤثر في تطوير العالم ومستقبله.
أما دول الجنوب فأهم سمة تميزها الى جانب التخلف الاقتصادي هي سمة عدم الاستقرار السياسي والتفكك السياسي، فاستمرار التخلف يجعلها تتعرض للثورات والانقلابات العسكرية والاضطرابات السياسية والاجتماعية، كما أنها فريسة للحروب الأهلية والإقليمية المدمرة التي تستنزف طاقاتها البشرية والإنتاجية، والى جانب ذلك كله تتحكم في معظمها أنظمة تسلطية وقمعية ومتعاونة مع الاحتكارات الدولية مما يساهم في استمرار تبعية الجنوب للشمال.
هذه سمات تجعل من دول الجنوب مصدرا للتهديدات التي تواجه النظام العالمي الجديد، وهذه التهديدات هي عسكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية وعقائدية، وان كان هناك مصدر لتهديد النظام العالمي الجديد تشترك فيه كل من دول الجنوب ودول الشمال وهو التهديد المتمثل في النزاعات والصراعات القومية.
كل هذه الأحداث تضع الأمم المتحدة كمنظمة مسؤولة عن حفظ الأمن والسلم الدوليين وتوازن النظام الدولي أمام مسؤولية كبيرة وتحديات خطيرة خاصة بعد عودة الإسلام الى معترك الصراع العالمي بالجمع من جديد بين ثالوث العقيدة والشريعة والجهاد، لن تعني فقط من وجهة نظر العديد من المسؤولين والمنظرين الغربيين، الاندماج السريع بين عدد كبير من دول الجنوب التي تمثل رقعة جغرافية واسعة تمتد في وسط العالم من الصين إلى المحيط الأطلسي، وإنما ستعني ظهور الكتلة الإسلامية بعد غياب طويل وتفكيك النظام العالمي الجديد الذي تهيمن عليه كتلة الدول الغربية.
لهذه الأسباب سعينا لتقديم هذه الدراسة كدليل إدانة للأمم المتحدة التي تم إنشائها من أجل حفظ الأمن والسلم الدوليين في الوقت الذي يشهد فيه عالمنا العربي احترابا، وصراعا عرقيا وقوميا لم يشهده التاريخ من قبل وعلى رأسها التنظيم العالمي المسمى (داعش) وهي لم تقدم للعالم البشري أي حلول في اتجاه إحلال السلام التي جاءت من اجله مبادئها التي اعتبرها القادة الذين وضعوا ميثاق الأمم المتحدة والمنظرون الدوليون (بأن هذا الميثاق خط بماء الذهب لما يتوفر عليه من أهمية قصوى في تحقيق السلام والعدالة والشرعية بين شعوب وحكومات العالم).
إذن في هذه الدراسة سنتناول عدة مفاهيم نحاول أن نقرب من خلالها أواصر العلاقة بين الأمم المتحدة والنظام الدولي وذلك من خلال التعريف بالطبيعة القانونية الخاصة للأمم المتحدة ومبادئها وأهدافها، ومسؤولية الأمم المتحدة أمام النظام الدولي في المبحث الأول، أما توضيح بعض المفاهيم الصرفة للنظام الدولي الجديد ومميزاته وتوضيح ما يتوجب على الأمم المتحدة كي تؤثر في صياغة النظام الدولي سيكون هذا في المبحث الثاني.
المبحث الأول: طبيعة وأهداف ومبادئ الأمم المتحدة
نتناول في هذا المبحث الطبيعة القانونية الخاصة بالأمم المتحدة، وأهداف تأسيسها ومبادئها وما هي البرامج والحلول التي قدمتها للمجتمع الدولي وهو يعيش في خضم المنازعات السياسية والعسكرية، إضافة الى تشكيلات الأمم المتحدة وأهمها مجلس الأمن، وسوف نحاول أن نختصر في بحثنا هذا من خلال التركيز على النقاط والمفاصل الأساسية فيما يتعلق بدور الأمم المتحدة في صياغة النظام الدولي.
أولا: الطبيعة القانونية الخاصة للأمم المتحدة
من الناحية القانونية وبلا شك تعد الأمم المتحدة شخصا من أشخاص القانون الدولي العام يتمتع باختصاصات ووظائف وصلاحيات نص عليها الميثاق وتترتب عليها شخصية المنظمات الدولية ولها قاعدة استثنائية لأن حتى الدول غير الأعضاء فيها هي في مواجهة آثار ميثاقها وليس فقط الدول الأعضاء، ومواجهة هذه الآثار يتيح لها لتتمتع بشخصية قانونية كما تتمتع بفقه وممارسات من شأنها الحفاظ على توازن النظام الدولي.
ثانيا: أهداف الأمم المتحدة
اضطلعت الأمم المتحدة عند تأسيسها بعدة أهداف مهمة ومحددة أهمها ما يلي:
1ــ حفظ الأمن والسلم الدوليين.
2ــ تنمية علاقات الصداقة بين الدول احتراما لمبدأ المساواة واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها.
3ــ تحقيق التعاون في حل المشاكل المالية في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتشجيع احترام حقوق الحريات الأساسية دون تمييز في العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين.
4ــ أن تكون مركزا لتنسيق الجهود بغية الوصول الى هذه الغايات.
ثالثا: مبادئ الأمم المتحدة
1ــ المساواة في السيادة بين كل الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة.
2ــ إخلاص الدول في الوفاء بالتزاماتها.
3ــ التسوية السلمية للنزاعات الدولية.
4ــ منع استخدام القوة في العلاقات الدولية.
5ــ مساعدة الأعضاء للأمم المتحدة هو التزام دولي يعتمد على جميع الدول الأعضاء.
6ــ ضمان إن الدول غير الأعضاء تتصرف وفقا لمبادئ الأمم المتحدة.
7ــ عدم التدخل في المسائل التي تكون بصفة أساسية من اختصاصات الداخلية لأي دولة.
رابعا: تشكيلات هيئة الأمم المتحدة
تتكون الأمم المتحدة من ست هيئات مهمة ومختلفة نذكر منها:
1ــ الهيئة العامة.
2ــ مجلس الأمن.
3ــ المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
4ــ مجلس الوصاية.
5ــ محكمة العدل الدولية.
6ــ الأمانة العامة.
وما يهمنا هنا أكثر هو مجلس الأمن الذي له صلاحيات واسعة في حفظ الأمن والسلم الدوليين ويعتبر من أهم أجهزة الأمم المتحدة والمسؤول بشكل مباشر عن حفظ الأمن والسلم طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ولمجلس الأمن سلطة قانونية على حكومات الدول الأعضاء لذلك تعتبر قراراته ملزمة للدول الأعضاء (المادة الرابعة من الميثاق) ويتكون المجلس من 15 عضوا:
ــ منهم خمسة أعضاء دائمين ولهم حق النقض (الفيتو) وهم كل من روسيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
ــ أما الأعضاء العشرة الآخرين تنتخبهم الجمعية العامة ليكونوا أعضاء غير دائمين في المجلس لفترات مدة كل منها سنتان. ولكل عضو من أعضاء المجلس صوت واحد وتتخذ القرارات بشأن المسائل الإجرائية بموافقة تسعة على الأقل من الأعضاء الـ 15 وتتطلب القرارات المتعلقة بالمسائل الموضوعية تأييد تسعة أصوات من بينها أصوات كافة الأعضاء الخمسة الدائمين وهذه القاعدة هي قاعدة (إجماع الدول الكبرى) التي كثيرا ما تسمى حق الفيتو، وبموجب الميثاق يوافق جميع أعضاء الأمم المتحدة على قبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها، والمجلس هو الجهاز الوحيد التابع للأمم المتحدة الذي يتمتع بسلطة اتخاذ قرارات تكون الدول ملزمة بتنفيذها بموجب الميثاق أما الأجهزة الأخرى فإنها تقدم التوصيات الى الحكومات.
إضافة إلى انه منظم بحيث يستطيع العمل بدون انقطاع، ويجب أن يكون ممثل عن كل واحد من أعضائه موجودا في مقر الأمم المتحدة طول الوقت، وتتناوب الدول الأعضاء في المجلس على رئاسته شهريا وفقا للترتيب الأبجدي الانجليزي لأسمائها.
المبحث الثاني: المفاهيم الصرفة للنظام الدولي وكيف تؤثر الأمم المتحدة في صياغته
وفي هذا المبحث نحاول تسليط الضوء على أهم المفاهيم للنظام الدولي ومميزاته وكيف تشكله مبادئ الأمم المتحدة وتؤثر في صياغته لتجعله ملزما بتنفيذ قراراتها والالتزام بشرعيتها عليه، ولتكون هي الجهة الآمرة في مفاصله الدولية
أولا/ المفاهيم الصرفة للنظام الدولي
تتجزأ المفاهيم الصرفة إلى نوعين حسب مقتضيات النظام الدولي وفق نظرة الدول الغربية الليبرالية والاشتراكية، سنتحدث عنها في فقرتين منفصلتين وباختصار.
الفقرة الأولى: المفاهيم الصرفة ضمن تبلورات النظام الدولي
لقد كان للسوابق التاريخية من تجارب التعاون وإيجاد الحلول الاتفاقية لشتى المعضلات القائمة بين الدول الأوربية في الممارسة، دورا في بلوغ أهداف تنظيمية لمعظم المصالح المشتركة بينها، في حالة السلم والحرب تطورا نحو بلورة نظام ليبرالي ديمقراطي، ازداد في ترسيخه تحول الولايات المتحدة من السلبية الدولية بفعل مبدأ مونرو إلى الإيجابية، والتفاعل مع القضايا الدولية الأوربية داخل وخارج أوربا لتكتمل الحلقة من مجموعة الدول التي تسمى بالمجموعة الغربية ذات الفعالية والتأثير البالغ على مجرى العلاقات الدولية مما انعكس عمليا على سلوكها في نطاق التنظيم الدولي.
وهنا تعددت وجهات النظر والتفسيرات التي كانت على الشكل الآتي:
1 ــ نظرة الدول الغربية الليبرالية للمنظمات الدولية.
2 ــ نظرة المجموعة الاشتراكية الى المنظمات الدولية وتفسيرها لها.
3 ــ تطور موقف المجموعة الاشتراكية في ظل التحولات العالمية.
4 ــ العالم الثالث والمواكبة للتنظيم الدولي.
الفقرة الثانية: المفاهيم الصرفة في ظل النظام الدولي الجديد
التفاعل الدولي بديناميكيته المستمرة والتي لايمكن أن تستقر عند أوضاع معينة، وتركن لمفاهيم قارة في الزمان والمكان، بل على العكس من ذلك يخضع لعديد من المؤثرات التي تساهم في تطوراته وتحولاته، فتتغير تبعا لتلك المفاهيم القائمة في ظل النظام الدولي وتتكون نتيجة لذلك مفاهيم مسايرة للمعطيات المستجدة في أحوال النظام الدولي طبقا لتحولات واضحة المعالم والأسباب أدت إلى تسميته بالنظام الدولي الجديد، في أعقاب نهاية الحرب الباردة التي سادت العلاقات الدولية عموما منذ الحرب العالمية الثانية حتى مطلع عقد التسعينات.
إن تغيير درجة الفواعل في النظام الدولي أفرزت نمطا من العلاقات الجديدة وتشكلت على إثرها مفاهيم متطورة للمنظورات الصرفة التي كونتها مختلف المجموعات الدولية إزاء سلسلة من القضايا الدولية، وتأتي في صدارتها المفاهيم الصرفة تجاه المنظمات الدولية التي عرفت توجهات متطورة بفعل ما حققه دورها الوظيفي ونشاطها في الممارسة على مستوى الحياة السياسية الدولية من تحول منحها مركزا متميزا في محيط العلاقات الدولية على ضوء تغير موازين القوى نحو النظام الدولي الجديد المتميز ومن خلال الآثار المترتبة على ذلك.
ثانيا: النظام الدولي الجديد ومميزاته
النظام الدولي كمنسق قائم على بنية مادية ومعنوية تتداخل فيه العوامل وتتفاعل في عملية تأثير وتأثر، لتفرز الطبيعة والخصائص التي تميزه فتتجاذبه تلك الفواعل، لتطبعه في إطار نمطي معين تتبلور عنه المميزات والخصائص التي تطبعه في تطابق وانسجام مع مختلف المعطيات المحيطة في الزمان والمكان وانطلاقا من البيئة المخيمة على العلاقات السائدة وتفاعلاتها المتأثرة الى حد كبير بمختلف القضايا والمعضلات المطروحة على الساحة الدولية حيث تنعكس المواقف وسلوكيات القوى الفاعلة على مسار النظام الدولي وتوجهاته متأثرا الى حد كبير بما يلاحقه من مستجدات.
وللاستدلال على ذلك يمكن الإشارة الى النظام الدولي الذي ساد ردحا من الزمن ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إذ تميز إبانها بالثنائية القطبية نتيجة تحالف القوى المنتصرة في الحرب، وتخللته أنماط من السياسات الصراعية فيما عرف بالحرب الباردة ثم البحث عن علاقات من أجل التعايش السلمي تلافيا لمغبة التدمير النووي ثم سياسة الوفاق التفاوضي لإيجاد صيغة ملائمة ومرضية للأطراف المتصارعة على الساحة الدولية بحيث ظهر ذلك جليا في المواقف والمفاهيم الصرفة المتبلورة للجماعات الدولية حتى صارت هذه الحالة تصنف إلى كتلة شرقية وكتلة وغربية وعالم ثالث على مستوى التنظيم الدولي مما يجعلنا نلمس تباين المواقف من سياسة الاحتواء في مواجهة الاستقطاب.
ثالثا : كيف تؤثر الأمم المتحدة في صياغة النظام الدولي
إن نهاية الحرب الباردة والخلل الاستراتيجي في التوازن الدولي وآثاره المترتبة على الساحة الدولية تصب في خانة مصلحة النظام الرأسمالي ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، إذ دعت الى قيام نظام دولي جديد دون النظر الى آراء ومواقف دول أوربا النامية، فرؤية أوربا للنظام الدولي الجديد هو ما تضمنه (ميثاق باريس 19/22/ تشرين الثاني 1990) وكان من أهم ملامحه تحقيق الديمقراطيات بما ينطوي على الإرادة الشعبية واحترام حقوق الإنسان، ودولة القانون، والحرية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، وحماية البيئة، أما الدول النامية (دول الجنوب) فلم تكن مشاركة في الدعوة الى نظام دولي حسب المفهوم الأمريكي له، ولكن برغم ذلك كانت معنية بالتغيير لان انهيار الاتحاد السوفيتي جعلها في حيرة شديدة لأنها فقدت طرفا داعما وقويا، فقد كان من مصلحتها بقاء قطب دولي مثل الاتحاد السوفيتي لاعبا أساسيا في الساحة الدولية من اجل خلق توازن دولي له تأثيره ونفوذه السياسي في المواقف السياسية على العديد من دول العالم لصالح دول الجنوب، وفي مساندتها ودعمها ومعاونتها في قضاياها المختلفة فكان من الطبيعي أن يكون لغيابه اثر عميق على النظام الدولي، لكن الولايات المتحدة الأمريكية فضلت حيرتها في أمرها على أن يبقى الاتحاد السوفيتي ودليل ذلك وقوف روسيا الحالية في وجه الولايات المتحدة الأمريكية في قضية أحداث سوريا حتى وصلت حلقات السيناريو الى إشراك روسيا في هذه الأحداث كفاعل دولي مهم كي تخلق حالة من التوازن على بساط المتغيرات الدولية، وفق منظور النظرية الواقعية في العلاقات الدولية حسب تعريف روادها ومنهم "ادوارد هاري كار"و" رونالد نيبو" (إن السياسة في معناها الدائم هي سياسة القوة).
وما أكدته المتغيرات الدولية الأخيرة إن ماهو قائم فعلا هو نظام مرحلي للانتقال من الثنائية الى الأحادية، ولم تتحدد ملامح هذا النظام بعد لان انهيار النظام الثنائي نجم عن انهيار الأوضاع السابقة واوجب إيجاد نظام بديل. وان ماهو قائم ليس بالنظام الدولي المنشود الذي جاءت من اجله الأمم المتحدة لأنه لم يلبي طموح ثلاثة أرباع البشرية وهي دول الجنوب لأنها لم تجد من تستطيع الاحتكام إليه حيث أسفر اختفاء المواجهة بين الشرق والغرب عن مواجهة بين الشمال والجنوب، فانهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية (عدا الصين) جعل من العالم الثالث أي عالم الجنوب يصبح العالم الوحيد المقابل للعالم الأول وهو الرأسمالية، فقد كان النظام الدولي السابق رغم الثغرات والإشكاليات التي تكتنفه يرتكز على توازن قائم على الاستقطاب ذي المحورين ويؤمن مجالا واسعا للمناورة كي تتحرك دول الجنوب لتستطيع تلبية طموحاتها الدولية في التعايش السلمي، وعليه فان انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية الذي يعتبر من الأطراف الرئيسية التي ساهمت في صياغة النظام الدولي، فقد وظفت الولايات المتحدة الأمريكية نتائج هذا الانهيار وفق رؤيتها التي تمحورت حول مفهوم مفاده: إن النظام الدولي الجديد ماهو إلا استمرار للنظام الدولي السابق ولكن بترتيبات وآليات جديدة وعلى أساسها نصبت نفسها كقوة مهيمنة بشكل خاص، والدور الغربي بشكل عام وهذا يؤكد لنا إن النظام الدولي الجديد أقيم على ارث النظام الدولي السابق في الوقت الذي توضحت لنا محاولة قيام النظام الدولي الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والتي عبرت عن دور محوري قوامه النظام الرأسمالي وهذا أدى الى عدم استقرار وتوازن هذا النظام بسبب عدم توفر وحضور الإرادات الدولية الأخرى في المشاركة والموافقة على صياغة هذا النظام.
أما فيما يتعلق بمنظمة الأمم المتحدة فقد زعمت الولايات المتحدة الأمريكية إنها تحاول إعادة الاعتبار لها ودعمها لتنهض بدور أكثر أهمية وفاعلية، ولكن يحق لنا أن نتساءل: هل إن القوى الكبرى التي ساهمت بتأسيس الأمم المتحدة لم تعرف أهميتها إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؟ ونعتقد إن الجواب على ذلك مرتبط في نزوع القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية الى توظيف الأمم المتحدة لمصالحها.
الخاتمة:
صار العالم يراقب ويتفاعل ويتأثر بهيمنة القطب الواحد، ويتطلع إلى صياغة نظام دولي ينبع من الإدارة الجماعية وتخط مساره مبادئ الأمم المتحدة لكن للأسف لم يتحقق هذا التطلع، وكثير من زعماء العالم أكدوا على ضرورة إعادة قراءة ميثاق الأمم المتحدة ووضع دراسة جديدة لتصويب عيوبه وسد ثغراته وهذا ما أكده رئيس وزراء الهند السابق (نار اسيما راو) في قمة مجلس الأمن في العام 1990.
وخلاصة القول إن النظام الدولي الجديد يمثل استمرار للنظام الدولي السابق وفق ترتيبات جديدة طغت عليها الأصابع الأمريكية نتيجة المتغيرات الدولية المعروفة في أماكن مختلفة من العالم ومنها أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 واحتلال أفغانستان، واحتلال العراق 2003، وأحداث الربيع العربي وآخرها أحداث سوريا، ويبقى النظام الدولي الذي تسعى إليه الدول عامة وعالم الجنوب بشكل خاص يكمن في الدعوة إلى إصلاح نظام الأمم المتحدة، وإرساء ديمقراطية العلاقات الدولية وإقامة نظام اقتصادي دولي جديد قوامه التعاون والتضامن، وعلى الرغم من إن ملامح الشرعية الدولية غير متوفرة وغير حاضرة في النظام الدولي الجديد، لكن السياسة الدولية ستبقى متأثرة ولسنوات طويلة بالمتغير الأمريكي وكذلك المتغيرات الأوربية والأسيوية، فعالمنا اليوم هو أحادي على الصعيد العسكري والسياسي ومتعدد على الصعيد الاقتصادي وهذا ما يجعل النظام الدولي الجديد يعيش أزمة التشكل لان الولايات المتحدة الأمريكية رغم وجودها كقوة في السياسة الدولية لكنها لوحدها لا تستطيع أن تنفرد بالهيمنة المطلقة على العالم فهي بحاجة الى شراكة دولية ومن الممكن أن تظهر متغيرات في أوربا واسيا تقف حائلا دون الرغبة الأمريكية مثل الصين وروسيا وهذا ما يحدث الآن في المشهد السياسي الدولي فعلا.
وما يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تغامر في ترسيخ هيمنتها على النظام العالمي او الدولي الجديد بمعزل عن إرادة الأمم المتحدة او تحدي هذه الإرادة من خلال ما أقدمت عليه في إحداث متغيرات مهمة ومنها حرب الخليج الأولى في الحرب العراقية الإيرانية، وما أعدته من سيناريو لحرب الخليج الثانية، وإعدام الصحفي البريطاني باز وفت، والتي امتدت أكثر من عام قبل الاحتلال العراقي للكويت، وكذلك التدريبات العسكرية للقوات الأمريكية ضمن ما يسمى بـ "اللعبة الحربية السنوية للقوات الأمريكية" التي قامت على فكرة تحرير الكويت من احتلال مفترض وتمت تحت عنوان (الشرك الأمريكي للعراق) كما أشار بذلك الجنرال الأمريكي (نورمان شوارتزكوف) في مذكراته عن حرب الخليج وكيف استحصل موافقة رسمية عليها في الاجتماع الذي عقد في البيت الأبيض أول حزيران عام 1990 الذي عرض فيه سيناريو الرد الأمريكي على الاعتداء العراقي الذي تعرضت له الكويت، وكان هذا السيناريو يهدف الى إثبات الدور القيادي الأمريكي وهيمنته على النظام الدولي الجديد موضوع دراستنا والذي أكده الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب في لقائه بالكونغرس الأمريكي في 11/9/1990 عندما قال "إننا نتطلع الى نظام عالمي جديد يصبح أكثر تحرزا إزاء التهديد بالإرهاب" وهذا يؤكد لنا عدة نقاط على خلفية الرد الأمريكي على الاعتداء العراقي في الكويت وهي:
أولا/ ترسيخ تنحي المعسكر الشرقي وبالذات الاتحاد السوفيتي من ممارسة أي دور سياسي دولي يقابل الدور الأمريكي. وثانيا/ ترويض أوربا وعدم إعطائها الفرصة في التفكير بأي دور يتقدم على الدور الأمريكي. وثالثا/ إحداث الصدمة النفسية اللازمة لإرهاب المجتمع الدولي وقهره على التسليم بما تقرره الولايات المتحدة الأمريكية. ورابعا/ تحقيق مرجعية دولية فاعلة لمجلس الأمن في توجيه السياسة الدولية.
ومن خلال ما تقدم نستخلص إن الأمم المتحدة غير قادرة على صياغة النظام الدولي بالشكل الذي يؤمن الاستقرار والتوازن والأمن الذي نصت عليه أهداف ومبادئ ميثاقها الذي تأسست بموجبه عام 1945، لأنها حبيسة إرادة الدول الكبرى المؤسسة لها وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول تمرير القرارات الدولية التي مصالحها فقط على حساب النظام الدولي الغارق في الأزمات.