موقع الدول الجغرافي كسبب للسلام أو الحرب
اندبندنت عربية
2021-12-05 05:20
بقلم: فيديل سبيتي
لم يعد هناك مكان لا يدخل ضمن التنافس الاستراتيجي بين البلدان الكبرى القوية
ما التنافس في القطبين الشمالي والجنوبي إلا دليلاً على أن كل بقعة في الأرض هي موقع استراتيجي بحد ذاته
لم تعد هناك دولة أو بلد أو جزيرة أو إمارة أو أي رقعة على كوكب الأرض مهما كان حجمها صغيراً، خارج السياسات التنافسية والاستراتيجيات الجغرافية أو العسكرية أو التجارية للدول الكبرى التي تبحث دوماً عن أسواق جديدة لمنتجاتها، أو عن مصادر جديدة للطاقة وللمواد الأولية، أو عن موقع استراتيجي عسكري، أو مدني، يقع محل التقاء طرق دولية، أو قرب قناة بحرية مهمة، أو في وسط البحار والمحيطات.
فبعد انفتاح العالم جغرافياً بوسائل النقل، واتصالاً بعد ثورة الإنترنت في ما اتفق على تسميته "القرية الكونية" و"العولمة"، واكتشاف كوكب الأرض شبراً شبراً خلال مرحلة الرحلات الاستكشافية التي انتهت فوائدها خلال القرن العشرين، بعد أن انفتح العالم كله أمام الجغرافيين وصناع الخرائط، ولم تعد فيه أي بقعة غير معروفة، وبات في متناول الجميع عبر تطبيق "غوغل إيرث" وغيره من التطبيقات، حيث يمكن الوصول إلى أي مكان على الأرض بنقرة زر.
دول غير محاربة
لم يعد هناك مكان لا يدخل ضمن التنافس الاستراتيجي بين الدول الكبرى القوية، ولكن يمكن القول إن هناك دولاً محايدة، وهذا الدور اختارته لنفسها، وتم تسجيلها في الأمم المتحدة بهذه الصفة، وتنظم علاقاتها مع الدول الأخرى القريبة والبعيدة في حالات الأزمات والحروب بحسب نصوص واتفاقات مصنفة في المعاهدات الدولية، ويتم التعامل على أساسها مع الدول التي اختارت الحياد، وهي مختلفة عن دول عدم الانحياز، أي التي اتخذت موقفاً ثالثاً أثناء الحرب الباردة لا يماشي أياً من المتحاربين الأميركي والسوفياتي، وهناك الدول غير المسلحة، أي التي لا تملك جيشاً ولا قوة عسكرية مسلحة، وتقوم قوات الشرطة بتأمينها، وهناك الدول التي لم تعرف الحروب منذ سنوات طويلة لأسباب مختلفة، هذه هي أنواع الدول التي يمكن اعتبارها خارج الصراعات السياسية العالمية ولا تتدخل في الحروب المسلحة، أما أن يكون هناك مكان لا يخضع لأطماع التنافس الدولي فهذا أمر بات من المستحيلات، وما التنافس في القطبين الشمالي والجنوبي إلا دليلاً على أن كل بقعة في الأرض هي موقع استراتيجي بحد ذاته.
الجغرافيا لعنة ونقمة
لكن طلب الدول الحياد أو العيش بسلام مع الدول القريبة والبعيدة، ومحاولة الابتعاد عن الحروب بكل الوسائل الممكنة قد يصطدم بموقع هذه الدولة الجغرافي، فهذا الموقع قد يكون نقمة وقد يكون نعمة على هذه الدولة. فقد وقعت دول كثيرة في حروب لا تنتهي لمجرد موقعها على الخريطة، أفغانستان هي المثال الساطع، وهناك شعوب لم تتمكن من بناء دولها أيضاً بسبب الموقع الجغرافي كما هي حال الأكراد الموزعين بين العراق وإيران وسوريا وتركيا، في موقع وسطي بين هذه الدول الأربع المتصارعة التي تجعل من شبه المستحيل أن يكون للأكراد دولتهم التي تمتد بين حدود هذه الدول الأربع.
الكاتب الأميركي روبرت كابلان يتناول هذا الموضوع بشكل دقيق في كتابه الشهير "انتقام الجغرافيا"، إذ يتتبع تاريخ النقاط الساخنة في العالم من خلال دراسة مناخها، وطبوغرافيتها، ومدى تقاربها من الأراضي المحاصرة الأخرى، فعلى سبيل المثال، أدى المناخ الذي لا يرحم للسهوب الروسية والغطاء النباتي المحدود إلى صنع رجال يتميزون بالصلابة والقسوة، ومصممين على إحداث الدمار، في حين قال خبراء الجغرافيا السياسية في الدولة النازية، وبسبب شعورهم بالتفوق العسكري والعرقي والتنظيم الأيديولوجي المتين، إن بإمكانهم تشويه الجغرافيا وتمديد الإمبراطورية الألمانية نحو الإمبراطوريتين السوفياتية والإنجليزية، وهذا كان سبب دمار النازية ومشاريعها نهائياً، وهذا ما يمكن تسميته بعقاب الجغرافيا.
وفي مثال آخر، فإن حدود أفغانستان التي يسهل اختراقها تجعل منها الطريق الرئيس لغزو الهند، وقاعدة خلفية حيوية لباكستان، وهي العدو الرئيس للهند. أما إيران، فستستغل ميزة كونها الدولة الوحيدة التي تمتد عبر كل المناطق المنتجة للطاقة في الخليج العربي وبحر قزوين، ويؤكد كابلان الباحث في العلوم الجيوسياسية والمستشار السابق في البيت الأبيض ولدى الجيش الأميركي، آراء المفكرين في القرنين الـ 19 والـ 20 مثل هالفورد ماكيندر، الذي استشرف منذ عام 1904، بأن السيطرة على أوراسيا، وهي المنطقة المتداخلة بين أوروبا وآسيا في الدول المحيطة بروسيا، تحدد مصير الإمبراطوريات.
وبحسب قراءة الخرائط، يرى معظم الجيوسياسيين والجغرافيين أن منطقة البحر الأبيض المتوسط سوف تربط مجدداً بين جنوب أوروبا وشمال أفريقيا كما فعلت في العالم القديم، بدلاً من الاستمرار في أن تكون الخط الفاصل بين القوى الاستعمارية السابقة ومستعمراتها السابقة بفعل وجود احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي والنفط تحت شمال وشرق البحر الأبيض المتوسط في قاع البحر.
أما بخصوص روسيا، فيرى معظم المحللين الاستراتيجيين أن هذه الدولة الممتدة جغرافياً لن تكتسب قوة كبرى تحت قيادة فلاديمير بوتين الذي لا يملك أي أفكار للنهضة، إنما يملك عاملاً مهماً جداً، وهو الجغرافيا. أما عن وضعية العالم العربي المعاصر، فيرجع كابلان إلى ما كتبه المفكر الفرنسي الشهير فرناند بروديل من أن الحدود الحقيقية لأوروبا ليست هي البحر الأبيض المتوسط، بل الصحراء الكبرى.
الدول المسالمة والدول المحايدة
في تحقيق كتبه مايكل ب.سوتر وليزا أ.نلسون وألكساندر إي أم هيس، في "اندبندنت"، تناولوا فيه عدداً من الدول التي ما زالت تحيا بسلام ومن دون حروب منذ سنوات طويلة. ووفقاً للتقرير، "من المعروف أن تعريف السلام يصعب تحديده"، ولكنه في أبسط أشكاله "الانسجام الذي يتحقق بغياب الحرب أو الصراع"، وبحسب توصيف منظمة الاقتصاد والسلام "IEP"، فإن تلك الدول التي يمكنها تجنب الصراع العسكري أو الدبلوماسي مع الدول الأخرى والحفاظ على الاستقرار والسلامة داخل حدودها، هي دول سلمية، وفي رأي رئيس ومؤسس المنظمة ستيف كيلاي، فإن "الأمة المثالية هي التي لا تشهد جريمة، ولا تحتاج للشرطة، ولن يكون هناك مجرمون في السجون. هذا في داخلها، أما في علاقاتها الخارجية فإن المؤشرات على مدى سلمية دولة تكون بقراءة نوعية السلام الذي تقيمه مع الدول الأخرى وخفوت القدرة العسكرية إلى حدها الأدنى، وانخفاض مؤشر استيراد وتصدير الأسلحة".
وعلى هذا الأساس، اعتبر التقرير أن الدول الأكثر سلمية في العالم تقع في المقام الأول في أوروبا وعلى رأسها عديد من الدول الإسكندنافية، كما تعد نيوزيلندا واليابان وكندا من بين الدول الأكثر سلمية، في مقابل هذه الدول، تأتي دول كثيرة في أفريقيا شمال وجنوب الصحراء، وفي أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وبعض دول أميركا اللاتينية.
ولكن بخلاف المؤشرات المباشرة المذكورة آنفاً لتحديد كون الدولة مسالمة، هناك مؤشرات غير مباشرة يدل توفرها أو عدم توفرها على كونها دوافع محتملة للعنف أو السلام. مثل الناتج المحلي والقدرة الشرائية ومحو الأمية والبطالة والحريات المدنية وحرية الصحافة والتعبير، فهذه المؤشرات تدل على مدى استقرار أو عدم استقرار مجتمع معين، أو دوام هذا الاستقرار. وبحسب مقياس منظمة الشفافية الدولية، فإن هناك ارتباطاً عكسياً بين السلام والفساد، فقد تبين أن الدول غير السلمية تعيش في ظروف فساد مالي وإداري عالية، كما هي الحال في كوريا الشمالية والصومال والكونغو والسودان قبل الثورة، بينما العكس كان صحيحاً، أي أن الدول المسالمة في القول والفعل تشهد أقل نسب من الفساد في حكوماتها ومؤسساتها.