مكانة الولايات المتحدة الامريكية في بوصلة التوازن العالمي
رؤية في تداعيات الافول غير المنضبط
علي زياد العلي
2019-01-22 04:49
تمثل الولايات المتحدة الامريكية القوة الاكبر والاضخم والاكثر إدراك على المستوى الاستراتيجي، من مثيلتها الاخرى في البيئة الاستراتيجية العالمية، انطلاقاً من حجم الامكانات التي تمتلكها (اقتصاديا، عسكريا، ادراكية).
وانطلاقاً من هذه المرتكزات، انطلقت في رسم توزان استراتيجي ذو امتدادات جيواستراتيجية، تشكل هذا المشهد بشكل ديناميكي بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً مع رسو الاتحاد السوفيتي في دائرة التفكك والافول، بدأ الدور الريادي للولايات المتحدة تتضح ملامحه من خلال ضبط خيوط الصراع والتوازن في الاقاليم ذات التزاحم الجيواستراتيجي من العالم (شرق اسيا، الشرق الاوسط، شرق اوروبا).
ملامح هذا التوازن جر معه عجلة الامن الدولي الاستراتيجي، فاصبح هناك ما يطلق عليه بعض المحللين الاستراتيجيين بـــ معادلة (الانضباط والشمول الامني)، فنحن نتحدث من رؤية تحليل من رؤية استراتيجي معزز بدلالات ادراكية وثوابت تفاعلية، اي ان هذه الرؤية قائمة على اسس ادراك الصفوة بعيدة عن الرؤية السطحية لمسارات الاحداث، لذا فان من مقتضيات هذا التحليل إعطاء الوزن الجيواستراتيجي للولايات المتحدة بموضوعية تامة، من اجل تقيم دورها في مسارات التفاعلات الدولية المرتبكة والتي باتت تأخذ صفة برغماتي متوحش، خصوصاً، لمعظم الدول ذات الاندفاعات الجيواستراتيجية (روسيا والصين).
لذا نستطيع القول ان افول الوزن الجيواستراتيجي للولايات المتحدة بشكل سريع، ونعني هنا في مدة لا تتجاوز (عقد او عقدين)، سيسبب انتكاسة استراتيجية لدوائر التوازن الاستراتيجي خصوصا في حلقات الصراعات الممتدة حول الهلال الثاني لمنطقة القلب الآسيوية، وصلاً الى قلب الصراعات الفاترة في منطقة شرق وجنوب شرق اسيا، وبالتالي سيسبب كارثة عالمية لا يمكن تقييم عقباها، ومن خلال الوقوف على ابعاد هذ الوزن، سوف نأخذ في الحسبان فرضية افول الوزن الاستراتيجي للولايات المتحدة الحثيث في حلقات التصادع الدولي، واثره على مسلمات الامن والتوازن الاستراتيجي العالمي.
فمنطقة اسيا في شقيها الشرقي والغربي تمثل حلقة جيوبولتكية ذات اهمية كبرى لمعظم القوى الفاعلة دولياً، ومن خلال ملاحظة حلقات التزاحم والتصادع الاستراتيجي في هذه البقعة الجغرافية نجد ان التوازن الجيواستراتيجي الذي تمثله الولايات المتحدة هو عامل ضبط لمسارات التفاعلات الدولية هناك، فاذا ما افترضنا جدلا ان الولايات المتحدة سوف تسحب تواجدها الاستراتيجي من منطقة شرق اسيا فالمشهد المتوقع سيتمحور حول ان اليابان سوف تدفع الى امتلاك اسلحة استراتيجية نووية في فترة قياسية، كما سوف تطور قدراتها العسكرية التقليدية بشكل كبير خصوصا القوة البحرية، كذلك الحال مع كوريا الجنوبية خلال تشكيل محور ايضاً تايون وبعض القوى النافرة من النفوذ الصيني كإندونيسيا، وبالتالي فان مشهد التصادم في بحر الصيني الجنوبي هو امر لا مفر منه وكذلك الصراع على تايون، اما الهند فسوف تكون اكثر قربا مع المحور الياباني ومن المتوقع ان يكون هناك تصادم في المناطق الحدودية مع الصين، الامر الذي سيدفع باكستان بان تكون اكثر قربا مع الصين ضد منافسها التقليدي الهند، لذا فان هذه التفاعلات المفترض حدوثها نتيجة افول الوزن الاستراتيجي للولايات المتحدة ستشكل بداية لمرحلة من العلاقات ذات نهاية الا يحمد عقباه.
اما الشرق الاوسط فالمشهد المتوقع هو ليس بأفضل حال من منطقة شرق اسيا فالولايات المتحدة هي في الوقت الحاضر ضابطة لمسارات الصدام والانسجام بين القوى الاقليمية، اذا الانسحاب غير الممنهج من المنطقة يشكل بخسا في ميزان التوان الاستراتيجي والذي يعني اتجاه القوى الاقليمية نحو التصادم بشكل مباشر خصوصاً بين السعودية وايران، والذي ربما يجر قوى عربية اخرى الى هذا الصراع، كما ان تركيا سوف تتمدد بشكل كبير في المنطقة على حساب مصالح الايرانية والسعودية والمصرية والاسرائيلية، حيث من المتوقع اين يكون هناك ثلاث محاور للصراع محور تقوده ايران ومحور تقوده اسرائيل ومحور تقوده تركيا، لذا فان الحاجة البرغماتية تفرغ وجود قوة تحمي ميزان التوازن الاستراتيجي في الشرق الاوسط هو امر لا مفر منه.
اما في اوروبا فالمشهد المتوقع سيكون اكثر تعقيداً من المناطق الاخرى، فالاندفاع الروسي النستلوجي سيؤدي الى بزوغ قوى تقليدية كألمانيا والتي ستندفع نحو ردع الاسلحة الاستراتيجية لروسيا من خلال امتلاكها للأسلحة النووية، وبالتالي سيؤدي هذا التوجه الى انهيار الاتحاد الاوروبي كما سيؤدي الى ظهور قوى اوربية ستكون قريبة من توجهات روسيا مثل كاليونان والتي ستحاول كبح جماح النفوذ التركي من خلال تحالفها مع روسيا، الامر نفسه في شمال او شرق افريقيا، لكن مستويات الصراع ستكون متفاوتة حسب الوزن الجيوبولتيكي للدول في تلك المنطقة.
لذا عندما نتحدث عن اهمية الوزن الجيواستراتيجي للولايات المتحدة في التوازن الاستراتيجي العالمي هو نابع من التوجهات الواقعية في تفسير التفاعلات الدولية واثارها على الامن والتوازن الاستراتيجي الذي بات في وضع مقلق، فوجوب قوة توازن وردع تحد من الاندفاع المزاجي لبعض القوى الدولية لأجل الحفاظ على ديمومة التفاعلات الدولية المرتبكة اصلاً، هو امر حتمي ولكبح تكرار سناريو الحروب العظمى، فنحن هنا ليس بصدد ان نعلو من شان احد، او نقيم الاحداث وفق ثوابت واهية او تفكير متواضع يعتمد على المتغيرات السطحية عن تفسيره للأحداث الدولي.