البلورات الزمنية: زمن الأعاجيب لم ينتهِ بعد
Nature Masterclasses
2025-10-06 04:00
تُعَد البلّورات الزمنية صورةً من صور المادة، إلا أنها دائمة التشكُّل لتتَّخذ هيئاتٍ وأنماطًا تتكرر عبر الزمان، على نحو يشبه إلى حد بعيد الكيفية التي يتكرر بها ظهور أنماط الذرات في البلورات العادية عبر المكان. كانت الأمثلة على هذه البلّورات منحصرةً في المادة الكمّية المعقدة دون غيرها، لكن ها هم الفيزيائيون يكتشفون طريقة لابتكار بلورة زمنية يمكن رؤيتها – تحت ظروف معيَّنة – بالعين المجردة.
تحقق هذا الإنجاز على يد فريق من علماء الفيزياء بجامعة كولورادو بولدر الأمريكية، نُشرت دراستهم بدورية «نيتشر ماتيريالز» Nature Materials في سبتمبر الجاري. استعان الباحثون ببلورات سائلة على شكل قضبان تتمتع بخصائص وسيطة بين الحالتين السائلة والصلبة. وما كان منهم إلا أن سلَّطوا الضوء على البلورات السائلة، فأحدثوا داخل تلك البلّورات تموجات من الجزيئات، ظلَّت في حالة حركة على مدى ساعات، وبإيقاعٍ خاص لم يتغيَّر حتى عندما غيَّر الباحثون ظروف التجربة. وباستمرار إيقاع حركة التموجات من دون تأثر بأي قوة خارجية، تحقق الشرطان الأساسيان اللازم تحققهما في البلورة الزمنية.
وقد ذكر يونج-كي كيم، عالم المواد بجامعة يوهانج للعلوم والتكنولوجيا في كوريا الجنوبية أن جانبًا من سلوك البلورات السائلة كان معروفًا بالفعل، إلا أن أحدًا لم يفكر من قبل في إمكان توظيفه لابتكار بلورة زمنية. وأضاف أن الحجم الكبير للبلورة الزمنية – الذي يتراوح من ملّيمترات إلى سنتيمترات – يمنحنا فرصة لفهم هذه الظاهرة "فهمًا أعمق" حسب وصفه. ويرى الباحثون المشاركون في الدراسة أن لهذه البلورات أنماطًا مميَّزة قد يُستفاد منها في أجهزة مكافحة التزوير.
آلات مستحيلة
كان ذلك في عام 2012، حين عرض عالم الفيزياء الحاصل على جائزة نوبل، فرانك ويلتشيك، فكرة البلورات الزمنية للمرة الأولى. كانت فكرته أقرب إلى استحداث آلة تولِّد حركة دائمة؛ حركة دائبة لا تنقطع ولا تتوقف حتى في أوقات السكون. وفي وقت لاحق، نشر فريق بحثي دراسة أثبتت استحالة هذا المفهوم من الناحية الرياضية2، لكن سرعان ما وجد الباحثون أن ثمة أنواعًا أخرى من البلورات الزمنية يمكن الوصول إليها. ومنها، على سبيل المثال، البلورات الزمنية المنظَّمة، التي قد توجد في أنظمة غريبةٍ توجد في حالة صيرورة دائمة، عوضًا عن أن تكون في حالة سكون.
ومنذ ذلك الحين، أمكن تصنيع البلورات الزمنية بطرق متنوعة، منها استغلال عيوب الألماس نانوية الحجم، ومنها الاعتماد على الأيونات المحاصرة، أو حتى باستخدام حاسوب «جوجل» الكمي المعروف باسم «سايكامور» Sycamore. لكن معظم هذه التجارب كانت على المستوى المجهري.
أما النظام الحديث فيعتمد على تسليط الضوء – حتى ولو من مصباح عادي – على غشاء بلوري سائل محصور بين لوحين زجاجيين. عندما يصطدم الضوء بجزيئات الصبغة الحساسة للضوء الموجودة على اللوحين الزجاجيين، يتغير اتجاهها، ويترتَّب على ذلك التواء الجزيئات في البلورة السائلة.
ولوجود قوى بين جزيئية تؤثر في الجزيئات البلورية السائلة عصوية الشكل، فإن هذه الجزيئات عادةً ما تأخذ نفس الاتجاه. لكن إذا بدأ بعضها في التمايل، فإنها تُحدث حركة متتابعةً فيما يشبه تأثير الدومينو؛ إذ تعيد الجزيئات توجيه نفسها في تفاعل معقد ينتقل عبر الجزيئات في مشهد أقرب ما يكون إلى الموجة التي يصنعها مشجِّعو كرة القدم في مدرَّجات الملاعب (أو ما يُعرف بالموجة المكسيكية).
ومن هذا المزيج الجزيئي، تنشأ تشكيلات ملتوية مستقرة تتصرف مثل الجسيمات، ويتفاعل بعضها مع بعض لتشكِّل في مجموعها تموجات يمكن رصدها. يقول إيفان سماليوخ، الفيزيائي بجامعة كولورادو بولدر الذي قاد فريق البحث: "بعيونٍ تملؤها الدهشة والحماس، وقفنا ننظر إلى هذا النظام الزمني البلوري الذي يمكن رصده بسهولة في أنظمة المادة اللينة".
وللتدقيق في مشاهدة هذه الرقصة الجزيئية، لجأ الباحثون إلى نوع من المجاهر لا ينقل سوى الضوء المستقطب (أي الذي يأخذ اتجاهًا بعينه، دون غيره من الاتجاهات). تتوقف كمية الضوء المار عبر المجهر على اتجاه الجزيئات، بحيث تظهر تموجات البلورة الزمنية على شكل سلسلة من الخطوط الداكنة والبراقة.
حافظت البلورة الزمنية على إيقاعها المميز لساعات، حتى عندما قام الباحثون بتغيير درجة حرارتها وشدة الضوء. ويقول سماليوخ إن إعدادات التجربة قابلة للتعديل لإنشاء أنماط يصل طول الواحد منها إلى سنتيمترات، مما يجعل التأثير مرئيًا للعين المجردة، ولكن بدرجة تباين ودقة أقل مقارنةً بالرصد عبر المجهر.
ولأن الأنماط المميزة في هذه البلورات تتغير عبر المكان والزمان في آنٍ معًا، فإن هذه البلُّورة تُعَد – في التطبيق الفعلي – بلورة زمانية مكانية، حسبما يقول الباحثون. ويرى سماليوخ أن تعريف البلورة الزمنية ينطبق على هذا النظام بلا شك، وفي الوقت نفسه تطرح هذه البلورة سؤالًا حول ما إذا كان ثمة تأثيرات أو ظواهر فيزيائية أخرى تنتهي إلى النتيجة نفسها.
يقول المؤلفون إن هذه البلورات الزمنية ليست مجرد اكتشاف مثير أو غريب؛ بل يمكن دمج الطبقات الرقيقة من البلورة في العملات الورقية كوسيلة للتحقق من سلامتها. فعندما يمر الضوء عبر حزم من البلورات المختلفة، ولكل منها نمط مميز خاص بها، لا يتولد تموج في اتجاه واحد فقط، بل يظهر أيضًا رمز أقرب إلى الباركود ثنائي الأبعاد، يكون تزويره صعبًا للغاية، ويمكن استخدامه أيضًا لتخزين المعلومات، وفق قولهم. وفي تصريح أدلى به سماليوخ، قال: " لا نريد أن نفرض أشكالًا محددة للاستفادة من هذه التقنية الآن. أعتقد أن الفرصة سانحة أمامها للانطلاق في كل الاتجاهات".