موجات الجاذبية: عِلْم الحفريات النجمي
دورية Nature
2023-10-08 04:37
بقلم: إليا ماندل، وأليسون فارمر
رُصدت إشارة موجة جاذبية ثالثة بشكل مؤكد، وهي نتجت مرة أخرى عن اندماج اثنين من الثقوب السوداء. وتساعد البيانات المجمَّعة لهذه الاكتشافات في الكشف عن تاريخ النجوم التي خَلَّفَت وراءها هذه الثقوب السوداء.
مع دقات الساعة الثانية صباحًا، سَجَّل جهاز الكشف في مرصد قياس تداخل موجات الجاذبية بالليزر المتطور - ليجو المتطور- الذي يقع في هانفورد، واشنطن - تموجًا طفيفًا في نسيج الزمان والمكان. ولم يمض ثلاثة أجزاء من الألف من الثانية، حتى التقط توأمه - الواقع على بعد حوالي 3000 كيلومتر في ليفينجستون، لويزيانا - تذبذب مطابِق. يتكون كل تموُّج من تمدُّد وانضغاط للفراغ بما يقل عن جزء من مليار تريليون (1021)، وأدى التمدد والانضغاط معًا إلى اكتشاف إشارة موجة الجاذبية GW170104. وقد أشار آبوت وآخرون (مجموعة التعاون العلمي لمرصد ليجو، ومجموعة التعاون فيرجو)1 في دورية "فيزيكال ريفيو ليترز" Physical Review Letters إلى تفاصيل هذا الاكتشاف، فيما يعد إضافة هامة إلى مجموعة متزايدة من البيانات التي من شأنها أن تساعد علماء الفيزياء الفلكية على معرفة قصص حياة النجوم الضخمة.
انبعثت الإشارة التي تم رَصْدها أثناء اندماج اثنين من الثقوب السوداء؛ كما هو حال الاكتشافين المؤكدين السابقين لموجات الجاذبية، بالإضافة إلى الاكتشاف الآخر المحتمل2. كانت الكتلة المجتمعة للثقبين الأسودين المندمجين اللذين نتجت عنهما إشارة GW170104 أكبر من كتلة الشمس بمقدار 50 مرة تقريبًا، مما يجعلها ثاني أثقل اندماج جرى رصده حتى الآن. ويُعَدّ مصدر موجة الجاذبية - الذي يقع على بعد 920 مليون فرسخ فلكي (3 مليار سنة ضوئية) من الأرض - أبعد مصدر جرى رصده بشكل مؤكد.
كانت الإشارة المرصودة ضعيفة، غير أن الطاقة المنبعثة كموجات جاذبية كانت تعادل حوالي كتلتين شمسيتين، ففي الثانية الأخيرة قبل الاندماج، تجاوَز سطوع موجة الجاذبية للإشارة GW170104 السطوع المجمَّع لكافة النجوم المرئية في الكون. وفي الواقع، إنّ فقدان الطاقة المصاحِب لانبعاث موجة الجاذبية هو ما يؤدي بالثقوب السوداء إلى الاندماج.
إن إشارات موجات الجاذبية تسبر بدقةٍ الجاذبية فائقة القوة الموجودة بالقرب من الثقوب السوداء. وكما هي الحال في الأحداث السابقة، وجد آبوت وزملاؤه أن بياناتهم متسقة مع نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين في كل من ديناميكيات اندماج الثقوب السوداء، والانتشار اللاحق لموجات الجاذبية عبر الفراغ.
وبالإضافة إلى كون علم فلك موجات الجاذبية أداة لاختبار قوانين الفيزياء الأساسية، فإنه يبشِّر أيضًا باستكشاف الكون، من خلال دراسة المصائر الدرامية لـ"الحفريات" النجمية؛ أي الثقوب السوداء التي تخلِّفها النجوم الضخمة وراءها في نهاية حياتها. ومن خلال الإشارات التي جرى رصْدها حتى الآن، حدَّد آبوت وزملاؤه معدل اندماج أزواج الثقوب السوداء. فبالنسبة إلى مجرّة مماثلة في الحجم لمجرّتنا "درب التبانة"، يعادل المعدَّل الذي جرى حسابه 1 إلى 20 اندماجًا تقريبًا كل مليون عام. وتُظْهِر نُظُم الثقوب السوداء التي تم رصدها توزيعًا موحدًا تقريبًا في مجموع الكتلة، ولكن هذا يعكس جزئيًّا حساسية مستكشفات مرصد ليجو المتطور للثقوب السوداء الأثقل، مقارنةً بمثيلاتها الأخفّ. ويَستنتِج الباحثون أن توزيع الكتلة الأساسي للثقوب السوداء المندمجة منحرف نحو الكتل الأقل، مما يتفق مع توزيع الكتلة المبدئي للنجوم الضخمة.
ولكي يمكن للثقبين الأسودين المسؤولين عن الإشارة GW170104 أن يندمجا معًا أثناء عمر الكون، لا بد أنهما كانا في وقتٍ ما يبعدان عن بعضهما البعض بمسافة لا تزيد على خُمس المسافة التي تفصل الأرض عن الشمس3، غير أن النجوم الضخمة التي تنهار لتُكَوِّن ثقوبًا سوداء كهذه تتمدد لأحجام أكبر بكثير من هذه المسافة أثناء تطورها، فكيف إذًا تتجنب الاندماج في نجم واحد في المراحل التي تسبق تَحَوُّلها إلى ثقوب سوداء؟
طُرِحَت احتمالات عديدة حول كيفية حدوث هذا؛ ففي أحد السيناريوهات، يكون النجمان في البداية بعيدَيْن عن بعضهما البعض، في نظام ثنائي له مدار واسع. وأثناء تمدُّد أحد النجمين مع تَقَدُّمه في العمر، تقوم جاذبية رفيقه بتشويه وتمزيق طبقات النجم الخارجية المتمددة. ويمكن لهذا أن ينتِج غلافًا كثيفًا من الغاز، يحيط بالنجمين معًا (الشكل 1أ)، ثم يعمل الاحتكاك بين النجمين والغاز المحيط بهما على تقريب المركزين الكثيفين للنجمين بعضهما من بعض4،5. وفي سيناريو آخر، يبدأ النجمان على مقربة من بعضهما البعض، ولا يتمددان (الشكل 1ب). وبدلًا من ذلك، فإن الدوران السريع - الذي يحافظ عليه الإطباق المُحكم المفضَّل بقوة بين دورة الدوران النجمي، والدورة المدارية للنظام الثنائي - يتسبب في عملية مزج فعالة داخل النجمين، مما يتيح لهما تحويل كل الهيدروجين الموجود داخلهما تقريبًا إلى هيليوم، عن طريق الاندماج النووي، كما يساعد على انكماشهما أثناء تطورهما6،7.
وربما لم يبدأ الثقبان الأسودان كزوج على الإطلاق. فبعد فترة طويلة من انهيار النجمين، ليكونا ثقبين أسودين، ربما تؤدي تفاعلاتهما مع النجوم الأخرى في عنقود نجمي كثيف إلى وضعهما في مدار قريب بشكل كافٍ؛ ليسمح باندماج ناتج عن انبعاث موجات الجاذبية8،9 (الشكل 1ج). وهناك أيضًا احتمالات أكثر غرابة وإثارة للدهشة، منها احتمال أن الثقبين الأسودين لهما أصل غير نجمي. فهل يمكن أن يكونا قد تشكَّلا - بدلًا من ذلك - من الانهيار المباشر لاضطرابات الكثافة في مراحل مبكرة من عمر الكون10؟
توفِّر إشارة GW170104 - بالإضافة إلى الإشارات التي تم رصدها سابقًا - تلميحات محيرة بشأن آليات التكوُّن المرجَّحة أكثر من غيرها. إنّ معدلات الاندماج وحدها لا تضيِّق نطاق الاحتمالات كثيرًا في الوقت الراهن، وذلك بسبب الشكوك التي تشوب جميع نماذج التكون، إلا أن توزيع الكتلة للثقوب السوداء المندمجة سوف يوفر محددات أكثر صرامة، بعد إجراء المزيد من عمليات الرصد.
أحد الأدلة المشوقة للغاية، وهو دليل مستمد من إشارة GW170104، يتعلق بدوران الثقبين الأسودين اللذين انبعثت منهما الإشارة. فعلى الرغم من صعوبة قياس ترددات واتجاهات الدوران المنفرد لكل من الثقبين الأسودين، فإن آبوت وزملاءه يقولون إنه لم يكن هناك أي دوران نهائي في الاتجاه نفسه لمدار النظام الثنائي. ولذا، فإن الثقبين الأسودين يدوران ببطء شديد، أو يُعتبر دورانهما المغزلي منحرفًا بشدة عن المدار. ويمكن أن يشير الدوران المنحرف إلى الآلية التي تَكَوَّن بها الثقبان الأسودان على نحو مستقل (الشكل 1ج)، لأن دوران الثقبين الأسودين يُتوقع أن يُظْهِر اتجاهًا عشوائيًّا مقارنة بالمدار في مثل هذا السيناريو، إلا أن التطور المنعزل للنظام الثنائي الذي كان له مدار مبدئي واسع (الشكل 1أ) قد ينتِج معدلات دوران منخفضة11، أو يتسبب في الانحرافات عندما يمر النجمان بمرحلة انفجارات المستعرات العظمى (السوبرنوفا).
والأمر الواضح هو أنه سوف يجري رصْد اندماج أزواج الأجسام الكثيفة بأعداد أكبر من أي وقت مضى، مع زيادة حساسية أجهزة الكشف في مرصد ليجو المتطور. وسوف توفِّر عمليات الرصد هذه مجموعة ثرية ومدهشة من بيانات الفيزياء الفلكية. ومثلما يَستخدِم علماء الحفريات الهياكل العظمية الحفرية في استنتاج أشكال الديناصورات، وأنظمتها الغذائية، وسلوكياتها، سيبدأ علماء الفيزياء الفلكية الآن في استخدام موجات الجاذبية الناجمة عن البقايا النجمية الكثيفة؛ لاستكشاف حياة النجوم الضخمة، وموتها.