التشابُك الكمّي: فهمٌ منقوص وتطبيقاتٌ هائلة
موقع للعلم
2022-11-17 04:53
بقلم: أحمد جمال سعد الدين
تذهب جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022 إلى ثلاثة من الباحثين، هم آلييه آسبيه، وجون إف كلاوسر، وأنطون سايلينجر، عن إنجازاتهم الاستثنائية في مجال ميكانيكا الكم، هذا التكريم الرفيع هو تتويج لتجارب الثلاثي التي تناولت الفوتونات المتشابكة كميًّا، وإثباتهم لخروقات متباينات بيل، ما أثبت مبرهنته، ومهّد الطريق أمام علوم المعلومات الكميّة.
غرابة وارتباك
لو بدا لك أن هذا كله غير مفهوم على الإطلاق، فالحقيقة أن كثيرين، من بينهم علماء متخصصون، يشاركونك هذا الشعور، ومنهم أحد مؤسسي هذا العلم شخصيًّا، عالِم الفيزياء نيلز بور، الذي قال بوضوح: إذا قرأت ميكانيكا الكم ولم تشعر بشيءٍ من الغرابة فيما تقرأ، فإنك بالقطع لم تفهمها، لا نحاول هنا شرح ما لا يمكن شرحه، لكننا سنحاول توضيح بعض الأفكار الأساسية، وتطبيقاتها المستقبلية القريبة التي حصل هؤلاء العلماء على الجائزة بفضلها.
البداية هي من تعبير «التشابك الكمّي» هذا، وهي ظاهرةٌ لا يمكن وصفها إلا بالغرابة، يتصرّف فيها اثنان من الجسيمات كما لو أنهما يتشاركان المعلومات، رغم عدم وجود أي طريقة للتواصل فيما بينهما.
في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت تلك الظاهرة مساحةَ جدلٍ محتدم بين قطبين من العلماء، هما ألبرت أينشتين من جهة، ونيلز بور على الناحية الأخرى، ويمكننا القول إن الاختلاف بينهما كان -في جوهره- اختلافًا على الطريقة التي يعمل بها الكون نفسه.
ألبرت آينشتاين مثلًا كان يرى أن ظواهر هذا الكون كافةً لها وجودٌ موضوعي ثابت لا يتبدّل، وأن جميع العناصر والجسيمات والأشياء تتكوّن من خصائص مُحددة بعناية يمكن اكتشافها من خلال التجارب، أما الجبهة الأخرى التي يقودها بور وشرودنجر فقد كانت ترى العكس: أننا لا نستطيع التأكد بالكامل من عناصر هذا الواقع، وأننا لا نستطيع التأكّد من خصائص الجسميات حتى لحظة رصدها.
مع مرور الوقت، تأكدت صحة أفكار ميكانيكا الكم، وأنها على الأغلب فعلًا هي النظام التي يعمل به الكون، على الأقل على مستوى مكوناته الذرية.
وكلما ثبَّتت ميكانيا الكم أقدامها في هذا العالم الجديد، ازدادت المساحات التي تدخل فيها ظاهرة التشابك الكمّي هذه وتحققت النجاحات هي الأخرى، ويبرز اسم أنطون سايلينجر هنا بالتحديد، بما قدّمه من تقنيات اعتمدت على ظواهر التشابك الكمّي في تحقيق إنجازات حقيقية، في مساحات مثل الاتصالات والتشفير، بل الحواسيب الكمّية، وتكنولوجيا الاستشعار عن بُعد أيضًا.
عودة إلى فكرة التشابك الكمّي، التي ننطلق منها وإليها سنعود مرةً تلو الأخرى، تفترض هذه الفكرة أن بإمكاننا استنتاج خواص أحد الجسيمات في نظام كمّي عبر مراقبة خصائص الجسيم الثاني، حتى لو كان هذان الجسيمان يقعان على مسافة مادية حقيقية، أحد الأمثلة الشهيرة لتقريب هذه الفكرة -وهنا تعمل المجازات والتشبيهات الحتمية للفهم- هو أن هناك كرتين، واحدة سوداء والأخرى بيضاء، لو أعطيتك الكرة السوداء، فالكرة البيضاء معي بالتأكيد، والعكس بالعكس.
الفكرة هنا هي أن خصائص كل كرة (أي جسيم) ليست ثابتةً حتى ننظر إليها، يعني ذلك بطريقةٍ ما أن كلتا الكرتين في هذه اللحظة بلا أي لون، حتى نفحص إحداهما فنكتشف لونها، ونستنتج من هذا اللون أن الكرة الأخرى تحمل عكسه، ولو بدت تلك الفكرة أشبه بالسحر، فهي كذلك بطريقةٍ ما فعلًا.
اختلاف وجدال
اعترض "أينشتاين" على تلك الفكرة، بكل طريقة يمكن تخيُّلها، خاصةً وأنها تتناقض مع نظريته للنسبية التي تقول باستحالة حدوث تواصُل آني يتجاوز سرعة الضوء، وهنا تظهر مفارقة تُعجب مؤرخي العلم كثيرًا، أن "آينشتاين" نفسه كان هو الشخص الذي وصف حالة التشابك الكمّي هذه للمرة الأولى في ورقته البحثية الصادرة في نهايات عام 1934، وكان هو أكبر معارضيها في الوقت نفسه مبينًا استحالة كونها حقيقيّةً وأن قدرة التواصل تلك لا تتجاوز سرعة الضوء بطبيعة الحال.
في محاولةٍ لتفسير تلك الظاهرة، طرح بعض العلماء -ومنهم آينشتاين شخصيًّا- فكرة أن الجسيمات تحمل في واقع الأمر معلومات سرية (أو متغيرات خفية وفق ما وصفوها) تُحدد هذه الخصائص، وأننا لا نعرف هذه الخصائص حتى نرصدها، وبالتالي لا تتواصل الجسيمات بسرعة أعلى من سرعة الضوء، لكنها تحمل داخلها التعليمات التي تخبرها بما تفعله، حتى جاء العالِم جون ستيورات بيل، ليضع تصميمًا شديد التعقيد لتجربة يثبت من خلالها أن الجسيمات لا تحمل أي خصائص أو معلومات خفية أو سرّية من أي نوع، ويمكن القول إن تجارب "بيل" تلك فتحت الباب أمام إمكانية التعامل في المختبر مع الجدال الفلسفي المستعِر بين العلماء حول طريقة تفسير الكون.
جاء العالِم الأمريكي جون كلاوسر بعد ذلك ليثبت هذه النتيجة عبر تجارب متعددة، موضحًا أن تفسير الظواهر من خلال ميكانيكا الكم صحيحٌ ببساطة، ومبرهنًا على خروقات متباينات بيل، ومُثبتًا نظريته، باختصار لا تكتسب الكرات ألوانها إلا بمحض الصدفة، أو لو أردنا ترجمة التشبيه: لا يمكننا توقّع طريقة تصرُّف الإلكترونات، بأي طريقة.
في واحدة من مقابلاته مع معهد كاليفورنيا للتقنية، يقول كلاوسر: "يحزنني أنني مَن أثبت خطأ آينشتاين".
وتؤكد إسهامات العلماء الثلاثة الذين حازوا الجائزة لهذا العام أن أي جسيمين في هذا النظام الكمّي يتصرفان بوصفهما وحدةً واحدة، مهما كانت المسافة الفاصلة بينهما.
تكنولوجيا الكمّ
من المثير للتأمل أن العلماء الثلاثة طوّروا مجموعةً من الأدوات التجريبية التي وضعت أسس عالم تكنولوجيا الكمّ كما نعرفها اليوم، وأن جميع الأبحاث العلمية التي تتناول المعلومات الكمّية هي في واقع الأمر حصيلة إثباتاتهم وتجاربهم؛ فقدرتنا على التحكّم في الحالات الكمّية تمنحنا القدرة على تطوير أدوات جديدة، مثل الحوسبة الكمّية على سبيل المثال، التي تتيح لنا نقل المعلومات الكمّية وتخزينها، وتطوير خوارزميات تتيح لنا تحقيق حالة من التشفير الكمي، تستطيع فيها الرسائل -التي يُطلَق عليها المفاتيح الكمّية- تدميرَ نفسها حال اعتراضها أو التنصّت عليها، واستطاع العلماء كذلك تصميم حالات كمّية بين الفوتونات التي تُنقل بين مسافات تصل إلى عشرات الآلاف من الكيلومترات في الألياف الضوئية، وبين الأقمار الصناعية والمحطات على الأرض.
وفق وصف البيان الصادر عن لجنة الجائزة، فثورة ميكانيكا الكم أخرجت لنا الترانزستور والليزر، لكننا الآن ندخل عالمًا جديدًا بفضل الأدوات المعاصرة التي تتيح لنا التحكُّم في الظواهر الفيزيائية الكمّية والفوتونات المتشابكة كميًّا.
في العديد من محاضراته، كرر عالِم الفيزياء الشهير ريتشارد فاينمان مازحًا: "يمكنني القول -بدرجة كبيرة من التأكد- إنه لا يوجد شخص يفهم ميكانيكا الكم حقَّ الفهم"، لكن الأكيد أن تطبيقات هذه المساحة العجيبة من العلم تثبت مرةً تلو الأخرى إمكانية استخدامها وتطويرها وملاحظة آثارها، حتى وإن كنا غير قادرين على الإحاطة بها تمامًا.