عمال النظافة في الهامش المنسي

د. جمانة جاسم الاسدي

2025-12-24 04:24

لا توجد فئة في الحياة اليومية نراها كثيرًا ونفكر فيها قليلًا مثل فئة عمال النظافة، أولئك الذين ينهضون قبل الجميع، ويرحلون بعد أن تغفو المدن، يعملون في صمت ليُبقوا الشوارع صالحة للعيش، بينما يمر أغلب الناس بقربهم دون أن يبادلوا حضورهم نظرة تقدير، ولعلّ المفارقة المؤلمة أن المهنة التي تحفظ الصحة العامة وتمنع انتشار الأمراض، هي الأكثر تعرضًا للوصم الاجتماعي والإهمال الاقتصادي، هذه المفارقة هي ما يعبّر عنها الكثيرون بعبارة ظلامة عمال النظافة؛ ظلامة تتجاوز الأجور المتدنية لتصل إلى بنيةٍ كاملة من التهميش.

فمن الناحية القانونية، يبدو المشهد أكثر تعقيدًا مما يظهر في الوهلة الأولى، فقانون العمل العراقي رقم 37 لسنة 2015 يمنح العامل نظريًا مجموعة واسعة من الحقوق كالحد الأدنى للأجر، ساعات العمل، الإجازات، وسائل السلامة المهنية، والتسجيل بالضمان الاجتماعي، لكن واقعيًا عمال النظافة غالبًا ما يعملون بصفة عمال عقود يومية، أو ضمن شركات أهلية تتعاقد مع البلديات، مما يجعلهم خارج المظلّة الكاملة للحماية القانونية أو الاجتماعية، كثيرون منهم لا يحصلون على معدات السلامة الأساسية كالقفازات، وأحذية خاصة، كمامات، أو ستر واقية، وهذا الإهمال لا يشكّل مخالفة قانونية فحسب، بل يعرضهم لتهديدات صحية مباشرة كإصابات اليد، الالتهابات التنفسية، التسممات، ناهيك عن التعرض للنفايات الطبية التي تُرمى أحيانًا دون فرز.

المفارقة الغريبة أن العراق صادق على عدة اتفاقيات دولية تتعلق بالسلامة المهنية والعمل اللائق، لكن الالتزام الفعلي بها ما يزال محدودًا، وعندما تُترك فئة تعمل في أعلى درجات الخطورة بلا تأمين صحي أو ضمان اجتماعي أو مخصصات خطورة، فإن ذلك يكشف خللًا مؤسسيًا واضحًا لا يتعلق بالقانون وحده، بل بمنظومة التنفيذ والرقابة.

أما الظلامة الاجتماعية فلا تقل وطأة عن القانونية، فالمجتمع ما يزال ينظر إلى عامل النظافة باعتباره في قاع الهرم المهني، رغم أن دوره يمسّ حياة الجميع، هذه النظرة تولّد شعورًا بالنقص لدى العامل نفسه، وتنعكس على طريقة التعامل العام معه، وصولًا إلى امتناع بعض الناس عن تقديم أبسط صور الاحترام، فنادرًا ما نجد مبادرات ترفع من شأنهم، أو حملات مجتمعية تُبرز أهمية ما يقدمونه، بل قد يواجه بعضهم سخرية أو استعلاءً في الشارع، مثل هذه المواقف لا تصنع فقط جرحًا نفسيًا، بل تغذي ثقافة طبقية تتعارض جذريًا مع قيم العدالة والمساواة التي يفترض أن يقوم عليها القانون، أو الدين!.

أما اقتصاديًا، فيعيش كثير من عمال النظافة في دائرة الفقر العامل ويعملون بدوام كامل ومع ذلك يبقون دون خط الفقر، لأن الأجور الشائعة في هذا القطاع غالبًا لا تواكب تكاليف المعيشة، ولا تتضمن بدلات الخطر أو التعويض عن العمل الليلي، وإن أصيب أحدهم أثناء العمل، فإن التعويضات إما معقّدة إجرائيًا أو غير متاحة أصلًا في حالة العمال غير المسجلين ضمن قاعدة بيانات الضمان الاجتماعي، ومع غياب الأمن الوظيفي، يصبح العامل مهددًا دائمًا بالفصل، بلا ضمانات حقيقية أو نقابة فعّالة تدافع عنه.

ومع ذلك، تبقى ظلامة عمال النظافة ظلامة صامتة، لا تشعل احتجاجات كبيرة، ولا تثير ضجة إعلامية، لأنها تتعلق بفئة اعتادت الصمت، وعادةً ما تُقدّم وتفضل لقمة العيش على المطالبة بالحقوق، لكن الإنصاف لا يتحقق بالصمت، والعدالة لا تنمو تلقائيًا، بل تحتاج إلى إرادة قانونية ومجتمعية.

كما إن إعادة الاعتبار لهذه الفئة ليست مسألة تعاطف، بل مسألة عدالة اجتماعية وسياسة عامة، فمن غير المعقول أن يُطلب من عامل النظافة أن يحمي صحة مدينة كاملة، بينما لا يُحمى هو نفسه بالقوانين التي تكفل له حياةً كريمة، والطريق إلى رفع الظلامة يبدأ بتطبيق القانون بصرامة، وتعديل العقود المؤقتة، وتوفير معدات السلامة، ورفع الأجور بما يتناسب مع خطورة العمل، وإدماجهم في الضمان الاجتماعي، إضافة إلى تصحيح الخطاب المجتمعي الذي يربط المهنة بالدونية بدل أن يربطها بالاحترام.

ختامًا- وفي النهاية نقول، لا يمكن لأي مدينة أن تدّعي التمدّن وهي تُهمل من يصنع نظافتها كل يوم، ولو أنصف المجتمع والقانون عمال النظافة كما يستحقون، لتبدّلت نظرتنا لهم من كونهم عمّال هامشيين إلى كونهم ركنًا أساسيًا في الصحة العامة والنظام المدني، وعندها فقط يمكن القول إننا بدأنا نرفع الظلامة عن قلوبٍ اعتادت العمل في الظل وتحت الكمامة الخجولة.

د. جمانة جاسم الاسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية بجامعة كربلاء

ذات صلة

الإمام علي الهادي (ع) واستراتيجية المواجهة للظلم والظالمينالاقتصاد الاجتماعي والتضامنيالإمام علي الهادي (ع) ومنهج البقاء الحر في زمن التضييقالغضب.. أوله جنون وآخره ندماستراتيجية الأمن القومي الأميركي.. كيف قرأناها؟