هل اختفت منظمات حقوق الإنسان؟
جميل عودة ابراهيم
2024-02-24 09:51
مثير للدهشة والاستغراب أن تختفي منظمات حقوق الإنسان الدولية وغير الدولية فجأة، فلا يُسمع لها صوت، ولا يُقرأ لها بيان، ولا تُقدم من خلالها مساعدات إنسانية تذكر، في ظل حرب كارثية تخوضها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين من الأطفال والنساء والمعاقين وكبار السن، وبحق الطواقم الصحية، كالصليب الأحمر والهلال الأحمر، وبحق الصحفيين والقنوات الإعلامية التي تغطي جزء من جرائم إسرائيل بحق السكان المحليين في غزة.
ليس هذا وحسب، بل تجاوزت اعتداءات الإسرائيليين لتطال المنظمات الأممية التي تعنى بالفلسطينيين اللاجئين والمهجرين والمهاجرين مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى المعروف بـ(الأونروا) ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات الأممية التي كانت تقدم خدمة أو مساعدة للفلسطينيين.
ما هو السر وراء صمت هذا الكم الهائل من المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية والمحلية، التي كانت تظهر بقوة في حوادث عالمية أخرى، قد تكون أقل تأثيرا على الإنسان أو البيئة مما يجري الآن في فلسطين؟ ما هو السر وراء اختفاء خطاب الحقوق والحريات التي كانت تتبناه هذه المنظمات في كل مناسبة وحدث، كبيرا كان أو صغيرا، كجزء أساسي من فلسفتها الحقوقية وإستراتيجيتها في العمل، وتغليب خطاب الإغاثة والإعاشة في حرب إسرائيل بحق الفلسطينيين مع أن سبب هذه الحرب هو اغتصاب الأرض، واغتيال الإنسان، وتجريده من حقوقه وحرياته، ودفعه نحو الهجرة أو الموت؟
هذا السؤال لا أطرحه على القراء، ولا أطرحه على المنظمات الإنسانية، بل هو سؤال ظل يدور في خاطري طوال هذه الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل ومازالت، في أثناء متابعتي لنشاطات منظمات حقوق الإنسان كوني أيضا مهتم بهذا الموضوع. فلا أجد ما يصدر منها يلبي الحد الأدنى من الالتزامات الإنسانية التي تعهدت بها هذه المنظمات، والتي كانت تثيرها في حروب دولية أو نزاعات محلية أخرى.
هناك احتمال أن منظمات حقوق الإنسان الأممية والدولية تقوم بدورها الإنساني المعهود لها، وهي تصدر البيانات، وتعقد المؤتمرات، وتقدم المساعدات، ولكن نحن في ظل هذه الحرب الكارثية لا نسمع إلا صوت الطائرات والقاذفات والمدرعات الإسرائيلية، وهي في نهاية المطاف محكومة بمهماتها ومسؤوليتها المحددة، ولا تستطيع أن تتجاوزها.
ولكن هذا الاحتمال ضعف جدا، لأن هذه المنظمات لاسيما العاملة منها في فلسطين بدأت تتخلى تدريجيا عن واجباتها الإنسانية تحت حجج واهية مثل الخوف من الاعتداءات الإسرائيلية عليها، أو عدم توفر مستلزمات الخدمة أو المساعدة في ظل الحصار الإسرائيلي المطبق على غزة. هذا فضلا عن أن المنظمات الحقوقية الأخرى كان بإمكانها أن تقف بوجه آلات التدمير والقتل الإسرائيلي، وتمنع تلك الجرائم من خلال ما تملكه من وسائل وأدوات إنسانية وقانونية دولية.
هناك احتمال أن المنظمات الحقوقية الأممية والدولية تخلت عن دورها الإنساني والأخلاقي في الوقوف إلى جانب الفلسطينيين أطفالا ونساء وذوي الحاجات الخاصة وكبار السن، لأنها تتلقى أموالها من دول غنية تقف إلى جانب إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين، مثل أمريكا وفرنسا وبريطانيا وكندا وغيرها، وفي حال الوقوف إلى جانب المظلومين في فلسطين فإنها معرضة للمساءلة والمحاسبة وقطع التمويل المالي عن موظفيها وأنشطتها الإنسانية. كما يحدث الآن مع منظمة (الأونروا) حيث أعلنت عدة دول وقف دعمها المالي لها بعد إعلان إسرائيل أن هذه المنظمة تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة إلى تألف لجنة تحقيق مستقلة برئاسة وزيرة خارجة فرنسا للتحقيق في صحة ادعاءات إسرائيل.
وهناك احتمال أن أكثرية المنظمات الحقوقية التي لها تأثير في العالم هي تقيم في دول مثل أمريكا وأوروبا، وهي تتأثر بسياسات هذه الدول، كما تتأثر بتوجهات وسائل إعلامها التقليدي الذي يكون بالعادة منحاز إلى جانب إسرائيل كليا، كما أن مسؤولي هذه المنظمات وموظفيها لا يأخذون قرارا مستقلا بمعزل عن إرادة حكوماتها، وأن تظاهرت بأنها تتمتع بالاستقلال.
وهناك احتمال أن هذه المنظمات مرتبطة مباشرة بالدول الكبيرة من حيث الأفكار والسياسات، ومن حيث الإعلام والتوجهات، ومن حيث الدعم والأموال، وهي لا يمكن أن تقوم بدورها في نصرة حقوق الإنسان إلا بإذن تلك الدول وبإشارة منها. وهو ما يفسر لنا أن انتهاكات حقوق الإنسان عندما تصدر من دولة فقيرة أو دولة غير متحالفة مع أمريكا والغرب فان نشاطات هذه المنظمات تزداد فوق العادة، بينما إذا انتهكت حقوق الإنسان من قبل هذه الدول الكبرى أو من دول حليفة لها فان نشاطاتها تمثل الحد الأدنى من الواجب الإنساني. وبالطبع هذا يفسر لنا أيضا طبيعة نشاطات منظمات حقوق الإنسان الصغيرة المتواجدة في بلادنا، لأنها بالنهاية تترجم سياسات المنظمات الكبيرة وتتأثر بها تأثيرا كبيرا.
لكن هذه الاحتمالات من المفروض ألا تنطبق على المنظمات الإنسانية في بلادنا العربية والإسلامية التي لا ترتبط بالمنظمات الأممية والدولية ارتباط عضويا، ومن المفروض أنها تعكس قيمها الإنسانية ومبادئها التي قد تختلف مع ما تؤمن به تلك المنظمات الإنسانية المرتبطة بأمريكا والعالم الغربية. فمعروف أيضا أن هذه المنظمات لم تأخذ دورها الإنساني والأخلاقي المفترض في هذه الحرب، وهي حرب ضد شعب عربي وشعب مسلم بالأساس.
هذا صحيح، فالمنظمات الإنسانية العربية والإسلامية لم تأخذ دورها الإنساني المطلوب منها، ولم تنصر المظلومين من سكان غزة، مع أن هذه الجرائم لا يختلف عليها عربيان أو مسلمان. وفي الواقع هناك أسباب تقف وراء عدم قيام هذه المنظمات العربية والإسلامية بدورها الإنساني المعهود، ولعل أهمها أنها انصاعت لسياسات حكوماتها الرافضة لنصرة غزة لحسابات دولية ومالية، أو أنها مرتبطة بالمنظمات الدولية من حيث الإدارة والتمويل، وإن كانت بلباس عربي أو إسلامي.
إن صمت منظمات حقوق الإنسان عما يجري في غزة، صحيح أنه كان مخيبا لآمال كثير من الناس المؤمنين بأهمية وجود هذه المنظمات لحماية الحقوق والحريات، بغض النظر عن الأسباب التي تقف وراء عدم نصرة الشعب الفلسطيني، ولكن هذه الحرب أبرزت اتجاهات حقوق أخرى أكثر فعالية من تلك المنظمات، وتتمتع بحرية واسعة بعيدا عن التأثيرات السياسية والإعلامية للدول والحكومات وهي: -
1. الناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي: لعب ناشطو التواصل الاجتماعي دورا أكبر بكثير مما لعبته المنظمات الإنسانية في نصر الشعب الفلسطيني، وفي إظهار الحقائق ونشرها لتكون متاحة للناس جميعا في معرفة ما يجري في غزة من جرائم وإبادة جماعية تحجبها وسائل الإعلام التقليدية مرتبطة بأجندة دول ومنظمات منحازة لمصلحة إسرائيل.
2. الجماهير المؤيدة للحقوق والحريات: شهدت غالبية دول العالم حتى الدول التي تقف حكوماتها مع إسرائيل بالسياسة والمال والإعلام مظاهرات كبيرة ومستمرة لا تكاد تتوقف يوما تدعو إلى وقف الحرب ونصرة الفلسطينيين وتقديم العون والمساعدة والدعم لهم، وقد أثرت هذه التظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني على سياسات وقرارات حكوماتهم.
3. الدول المناصرة للحقوق والحريات: في هذه الحرب التي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين ومن الأطفال والنساء ظهرت دول تناصر حقوق الشعب الفلسطيني وتدعو إلى إنهاء الاحتلال، ووقف الحرب، ومساءلة المجرمين، مثل بعض الدول أمريكا اللاتينية، ومثل دولة جنوب إفريقيا التي رفعت دعوة ضد إسرائيل لارتكابها جرائم حرب، وجرائم إبادة، وأصدرت محكمة العدل حكمها لمصلحة الشعب الفلسطيني.