عقوبة العمل لمصلحة المجتمع

د. علاء إبراهيم محمود الحسيني

2023-01-23 06:06

بعد التطورات الدولية والوطنية على الصعيد القانوني التي كرست ضمانات حقوق الإنسان باتت الأخيرة تقوم على أسس متينة، فبدأ المختصون رحلة البحث عن التعزيز والتحديث للأساليب والآليات التي تتبعها السلطات العامة لضمان عدم المساس بالحق أو الحرية، كما دأبت المواثيق الدولية تناول ضمانات تشريعية وقضائية من شأنها حماية الحد الأدنى من الاحترام والتكريم اللازمين للذات البشرية.

فالحرية أسبق من التنظيم وأقدس من التقييد بيد ان من واجب السلطة العامة تحقيق التوازن بين المصلحة العامة والخاصة، ومن مقتضيات استقامة الحياة ان توجد السلطة العامة وسائل تردع من يهدد الحقوق والحريات الفردية والعامة على المستوى الجمعي أو الفردي، كما ان التساؤل ومنذ عشرات السنين يدور حول جدوى العقوبات السالبة للحرية لاسيما منها قصيرة المدة التي قد تعرض المحكوم عليه لخطر مخالطة عتاة المجرمين.

لذا دعت المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، والمختصون في مجال السياسة الجنائية الحديثة إلى استبدال تلك العقوبات ببدائل من شأنها ان تعيد إدماج المجرمين ومرتكبي المخالفات بالمجتمع بشكل أمن، وتخلص الدول جميعاً من مشاكل العقوبات الجسدية لا سيما المتضمنة تقييد أو سلب الحرية الشخصية، وبعد ان تبنت قوانين بعض الدول ما تقدم من نهج بانت ثماره إذ ورد في قانون العقوبات الفرنسي هذا النوع من الجزاءات بالقانون رقم (83/466 في 10/6/1983) فأثبت نجاحاً كبيراً في التطبيق وحقق نقلة نوعية في مجال العدالة الجنائية الحديثة التي اعتمدت بدائل للعقوبات التقليدية.

وللفائدة نشير إلى ان عقوبة العمل المجتمعي تعرف بأنها إلزام المحكوم عليه بعقوبة سالبة للحرية بالقيام بأعمال معينة لخدمة المجتمع، أو هي عقوبة قوامها إلزام المحكوم عليه بعمل إيجابي لصالح المجتمع، وبالغالب يكون العمل مجانياً لمدة يحددها القانون وتقررها المحكمة وتنطق بها في قرار الحكم، لما تقدم تعد عقوبة خدمة المجتمع إحدى تطبيقات العقوبات البديلة بالعمل لمصلحة المجمع يقررها القاضي الجزائي في ضوء سلطته التقديرية في تفريد العقوبة، وبالغالب تعمد القوانين التي تبنت هذا النوع من العقوبات إلى تخيير الجاني المحكوم عليه وبرضاه يساق إلى خدمة اجتماعية تعادل مدة المحكومية الواجب عليه قضائها في السجن.

حيث تحقق العقوبات الاجتماعية فوائد عدة على المستوى الاجتماعي والأسري والاقتصادي فمن شأن هذه العقوبات ان تمثل مصدر إضافي للدخل القومي والفردي حيث سيحافظ الفرد المحكوم عليه على استمرارية عمله ليكون فرد منتج ومفيد في المجتمع وليس عالة على الدولة والأسرة، ولهذا العمل العديد من السمات التي تجعله متفرداً ونبين بعضها وفق الآتي:

1- الغالب ان يكون مجانياً أو مقابل أجور رمزية، فمن فلسفة هذه العقوبة هي تحقيق الإيلام للجاني بحرمانه من الأجر أو جزء منه، فيكون عمله للتكفير عن الخطأ الذي ارتكبه وتذهب حصيلة عمله لتعويض المجني عليه أو المجتمع عن الأضرار التي حاقت بهم.

2- يتم تنفيذ العقوبة في المؤسسات الرسمية المعدة خصيصاً لهذا الغرض، ولذا يكون العمل منتجاً ومحققاً للمصلحة العامة، ويلزم ان يخصص عمل المحكوم عليه بالعمل في دوائر الدولة أو بالمشايع الخاصة المكرسة للمنفعة العامة كدور الإيواء أو الجمعيات والنوادي الخيرية.

وقد أشارت العديد من الوثائق الدولية إلى هذه الآلية كبديل للعقوبات الجزائية فقد أكد مؤتمر الأمم المتحدة الذي عقد في لندن العام 1960 إلى ان "الحل لمشكلة الجريمة بالإقلال من توقيع العقوبات التقليدية واستبدالها بالعمل خارج السجن"، كما أكد مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين الثاني عشر المنعقد بالبرازيل العام 2010 ذلك إذ أكد المؤتمرين في الإعلان الختامي ضرورة اللجوء لبدائل السجن التي تتضمن خدمة المجتمع، كما أشار إعلان الدوحة الصادر عام 2015 إلى اعتزام الأمم المتحدة على حث الدول جميعاً بالحد من اكتظاظ السجون بمراجعة السياسات العقابية المعتمدة وتبني عدالة جنائية بأسس حديثة، وتضمن قواعد الأمم المتحدة الدنيا لإدارة شؤون القضاء المعروفة بقواعد (بكين) المعتمدة بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (22،40) في العام 1985 نص القاعدة رقم (18) التي بينت أهمية اللجوء إلى الخدمة الاجتماعية كبديل عن العقوبات السالبة للحرية.

ولما كان العراق يفتقد إلى نصوص صريحة تتضمن مثل هذه البدائل نشير إلى ان بالإمكان استحداثها لاسيما وان الدستور العراقي النافذ 2005 أشار في المادة (19/ثاني عشر) إلى "لا يجوز الحبس أو التوقيف في غير الأماكن المخصصة لذلك وفقاً لقوانين السجون المشمولة بالرعاية الصحية والاجتماعية والخاضعة لسلطات الدولة" ولذا هي دعوة للمشرع العراقي إلى المسارعة في تحديث السياسات الجزائية في العراق بما ان هذه العقوبة بديلة عن السجن أو الحبس وتتم في مؤسسات الدولة العامة، ويشار ان لهذا النوع من العقوبات صور عدة نذكر منها:

أولاً: قد يكون العمل عقوبة بديلة عن الحبس أو السجن: لا سيما في الجرائم البسيطة والتي يتم الحكم فيها على الجاني بعقوبات قصيرة المدة، فمن نافلة القول ان المشرع العراقي عرف الاستعاضة عن السجن أو الحبس جزئياً في قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل بالمادة (331) التي تنص على "للمحكمة التي أصدرت الحكم أو المحكمة التي حلت محلها ان تقرر الإفراج عن المحكوم عليه بعقوبة أصلية مقيدة للحرية إذا أمضى ثلاثة أرباع مدتها أو ثلثيها إذا كان حدثاً".

ثانياً: قد تعتمد كنظام وقائي أو تدبير احترازي: فمن الممكن ان تجد المحكمة ان الجاني له من المقومات الشخصية أو الأسرية أو الاجتماعية وبما لا يتفق مع فرض العقوبات السالبة للحرية عليه كما لو كان في ماضية إنسان سويا وأنساق إلى الجريمة بسبب الغضب أو الاستفزاز لو الخطأ، فمن المصلحة ان يترك في الخدمة الاجتماعية، لا سيما ان علمنا ان المشرع العراقي في قانون العقوبات النافذ رقم (111) لسنة 1969 المعدل تبنى نظام وقف العقوبة في المادة (144) إذ ورد النص بأنه "للمحكمة عند الحكم في جناية أو جنحة بالحبس مدة لا تزيد على سنة أن تأمر في الحكم نفسه بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا لم يكن قد سبق الحكم على المحكوم عليه عن جريمة عمدية ورأت المحكمة من أخلاقه وماضيه وسنه وظروف جريمته ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى ارتكاب جريمة جديدة"

ثالثاً: قد يتم الاعتماد على نظام العقوبة الاجتماعية كتدبير وقائي في نطاق تسوية قضائية بديلة عن الحكم الجزائي بفرض العقوبة التقليدية: فمن نافلة القول ان الكثير ممن يقبعون اليوم في السجون والمواقف في العراق والكثير من دول العالم هم من المدينون المعسرون ممن لا يملكون تسديد ديونهم لا سيما الديون الحكومية فبدل وضعهم في المؤسسات الإصلاحية (السجون) يمكن الزج بهم في أعمال خدمات اجتماعية، فيتحقق هدف مزدوج أولا يتم إصلاح هؤلاء وثانياً يتم استيفاء الديون التي بذمتهم من أجور أعمالهم، لا سيما ان علمنا ان المشرع العراقي في قانون الكمارك رقم (23) لسنة 1984 النافذ سمح بالصلح لتوقي السجن في المادة (242) التي تنص على "للمدير العام أو من يخوله ان يعقد تسوية صلحيه في الجرائم الكمركية قبل إقامة الدعوى أو خلال النظر فيها أو بعد صدور الحكم وقبل اكتسابه درجة البتات، وذلك بالاستعاضة كلياً أو جزئياً عن العقوبات الكمركية المنصوص عليها في هذا القانون بغرامة نقدية"، فان لم يملك المحكوم عليه المال يمكن الاستعاضة عنه بالعمل المجتمعي.

ولابد من الإشارة إلى ان هذا الأسلوب في تنفيذ العقوبة من شأنه ان يوفر فرص مزدوجة بصالح الجاني والمجتمع كما ان من شأنه ان يحد من سياسة التجريم والعقاب التي أفرط المشرع الجنائي بانتهاجها في العراق وأغلب دول العالم ما يعني انتهاج سياسة جنائية ناجحة تحقق:

1- إعادة تأهيل المحكوم عليهم بالعقوبات الجزائية: فمن أخص أهداف العمل الاجتماعي إعادة إدماج الجاني بالمجتمع وإصلاحه بعيداً عن السجن، ومن شأن العمل التطوعي، أو شبه التطوعي ان ينمي الإيجابية عند الشخص والشعور بالمسؤولية إزاء المصلحة العامة وتحقيق الأمن والسلم المجتمعي والابتعاد عن كل ما من شأنه ان يعرضهما للخطر، ومن شأن العمل ان يكسبه الخبرة والتأهيل المهني اللازم في العديد من الحالات للحصول بعد انتهاء المحكومية على عمل لائق من شأنه ان يوفر الحياة الكريمة للشخص ولأسرته.

2- إمكانية إخضاع المحكوم عليه لبرنامج إصلاحي: يعالج المشاكل التي دفعت الشخص إلى الجريمة ومن شأنه ان يقضي على عوامل الميل إلى الجريمة.

3- يحقق التفريد العقابي: فالقاضي يستطيع وبمساعدة بعض المرافق التنفيذية ذات الصلة ان يفرد العقوبة لكل محكوم عليه بما من شأنه ان يحقق الغاية المتمثلة في الإصلاح والتأهيل من جهة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالمصلحة العامة والخاصة أو إحداهما، ويجنب المحكوم عليه المشاكل الاجتماعية التي تلحق به لا سيما ببعض الفئات كالنساء على سبيل المثال التي تلحقها أضرار جسيمة ان زج بها في اتون السجن لاسيما في الجوانب الأسرية والسمعة والاعتبار، وقد تكون العقوبة مدعاة لمشكلات مستقبلية وعائقاً أمامها لتأسيس أسرة في المستقبل.

4- حل مشكلة تكدس النزلاء في السجون: وما ينفق عليهم من مبالغ طائلة لأغراض الإطعام والملبس وغيرها كما يتحول الغالب منهم إلى عالة على المجتمع.

5- يعالج مشكلة العود إلى الجريمة في المستقبل: من الجاني ذاته نتيجة العوامل الإيجابية التي يحققها هذا النظام للمحكوم عليه وما يوفره له من فرصة.

6- يمكن المجتمع من الإسهام في تنفيذ العقوبات وإصلاح المدانين: فالكثير من الدعوات التي أطلقتها مؤتمرات الأمم المتحدة تجسدت بضرورة إسهام مؤسسات المجتمع المدني في تقرير وتنفيذ العقوبة لا سيما المؤسسات ذات النفع العام.

7- يأخذ بنظر الاعتبار إرادة المحكوم عليه: إذ بالغالب ان يكون اللجوء إليه اختياراً.

8- يلائم المحكوم عليهم من جميع الأعمار بما فيهم الأحداث دون (16) السادسة عشر من العمر ممن سمح قانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015 بعملهم.

....................................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2023
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

الإمام علي عليه السلام وتحجيم الجبروت والطغيانعلى حكومة السيد السوداني ان تكون أكثر حذراالمطلوب فهم القرآن بشكل جديد!مَعرَكَةُ بَدر هِيَ يَومُ الفُرقَانِ العَظِيمِ حَقَاًتعلم ثقافة السؤال بداية التعليم