الأساس القانوني والأخلاقي لإعادة بناء البقيع الغرقد

د. علاء إبراهيم محمود الحسيني

2022-05-11 07:08

لكل إنسان حيثما وجد حقوق أزلية يتفانى لصيانتها لكونها تمثل جزء من كيانه ووجوده، وحيث تقسم هذه الحقوق إلى صنفين رئيسين هما المادي والمعنوي ولكل منهما ميدانه الأصيل المحقق لإشباع الحاجات وتحقيق المنافع الفردية والجماعية، كما ولابد من تكامل الجوانب المادية والمعنوية للوصول إلى الغاية من إقرارهما ألا وهي "صيانة الكرامة الإنسانية"، فمن الحق في المأكل والملبس والمسكن إلى الحق بتوفير الأمن وحرية الاعتقاد والضمير وممارسة الشعائر والتعبير عن الذات، تتصل الحقوق والحريات وتتكامل مع بعضها لتكون منظومة منسجمة ومتجانسة لتكون حالة إنسانية، ولما تقدم يتناهى إلى المدارك ان الحقوق المادية والمعنوية يمثل الاعتراف بها الإقرار الرسمي بكيان الفرد المتميز عن بقية بني البشر.

إذ يعيش الإنسان منذ ان خلق الله تعالى الخلق في مجتمعات تتفاعل فيما بينها وتتقارب بدافع الشعور بالروابط الإنسانية المشتركة كاللغة والتاريخ والثقافة والدين والمذهب والشعور وحتى اللون أو ممارسة المهنة أو العمل لتشكل عوامل تقارب وتكون سبباً لتصنيف الناس لفئات، وساعد على ما تقدم التقدم التقني والتطور التكنلوجي الذي سهل التواصل بين الغرب والشرق وكان عاملاً حاسماً في نشر الثقافات والتعبير عن الذات، بل كانت تلك الوسائل التقنية الحديثة أداة للتعبير عن الرأي ونقل الحقائق المغيبة واستثمرت لممارسة العادات والتقاليد فكانت سلاحاً للتأثير والتغيير الممنهج والمقصود في البنية الثقافية والمعرفية للأجيال، وهذا ما نراه اليوم إذ تتعالى الأصوات في كل عام للتعبير عن الرجاء بإعادة بناء المقبرة التي تعود لأهل البيت في منطقة البقيع كونها تمثل تراثاً إنسانيا لبني البشر جميعاً، ليس من اتباع الطائفة الشيعية، بل من كل الطوائف والأديان والمذاهب وكل الأحرار في العالم.

فمقبرة ومسجد البقيع أحد الأماكن المقدسة لدى طيف واسع من المسلمين وتمثل إرثا ثقافيا توارثه المسلمون، بل هي جزءً من الإرث الثقافي الإنساني إذ تختزن جزء من الذاكرة الحضارية فقد انتهت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إن الثقافة والموروث الحضاري له القدرة على التغيير الجذري في المجتمعات فتجليات الموروث الإنساني الثقافي من شأنه ان يثري الحياة بشكل عام ويزيد من تماسك الشعوب ويكون مقدمة صالحة لانتعاش الحياة الاقتصادية والعمرانية، فالتراث من شأنه ان يسهم في صناعة الحياة المفعمة بالإبداع والتعددية والاستقرار، بل ان الثقافة من شأنها ان تسهم في تحقيق التنمية المستدامة على جميع المستويات لا سيما الاقتصادية والتعليمية والثقافية، وحيث نعطف الكلام على أرض البقيع فبالتأكيد هي تحقق ما تقدم فهي السبيل إلى جمع كلمة المسلمين وغلق صفحات الفرقة والخلاف، وتفتح الأفق واسعاً لحوار حضاري فيما بينهم، تمهيداً للمصالحة مع الذات للانطلاق نحو حوار مع الأديان الأخرى والثقافات المغايرة.

وتأييدا لما تقدم نشير إلى ان القرآن الكريم وهو دستور الأمة المسلمة قد أجاز إقامة المساجد على قبور الأولياء والصالحين حيث ورد في قوله تعالى بمعرض الحديث عن أهل الكهف وهم من الأناس الصالحين "وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا"، كما ان تعظيم أماكن العبادة المقدسة وعمرانها هو تكريم للعلم الديني والإنساني أولاً ومقدمة لتكريم التضحية والشجاعة والمثل العليا ومن ضحى من أجلها لا سيما المسلمون الأوائل ممن دفن في مقبرة البقيع بدءً من الصحابي الجليل عثمان بن مظعون وأهل البيت عليهم السلام والصالحين من العلماء والمؤمنين، يقول تعالى "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ".

ومن الحقائق القرآنية ان بعض الأماكن أو الأشياء مقدسة لا ريب في ذلك وأن لها كرامة حيث ورد في الذكر الحكيم في بعض ما دار مع النبي موسى عليه السلام مع السامري "فقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ" وقال تعالى عند التعرض لقصة النبي يوسف عليه السلام "اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً" وقال جل وعلا "فَلَمَّا أَنْ جَاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلى‏ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً"، وقال "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ". فما تقدم ادلة قرآنية تدل دلالة قاطعة على أهمية اقتران الجوانب المادية بالأخرى الإعتقادية التي تقترن بالحالة المعنوية للفرد فتمنح القوة والثبات على المبدأ وتكون مقدمة صالحة لبناء الفرد والجيل والمجتمع ككل وتسهم في التنمية البشرية.

لذا نشير بهذا الصدد إلى أهمية ان يسود الاحترام المطلق للثقافات والهويات الفرعية الأخرى وان نسعى لصيانة الخصوصية الثقافية للمسلمين وغير المسلمين فمما لا شك فيه ان المعارف الشعبية الحضارية والجوانب الثقافية تملك القدرة على الدوام والاستمرار والانتقال من جيل إلى أخر، ولذا حرصت المنظمات الدولية المعنية بالإرث الثقافي على إعطاء الموروثات أياً كانت تعريفاً حيث لفتت منظمة اليونسكو على هامش الأعمال التحضيرية لمؤتمرها المنعقد العام 1982 في مدينة مكسيكو النظر صوب ما تقدم وورد في حيثيات المؤتمر ان الموروث الثقافي يتمثل بـ"جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة بعينها، وتنصرف للفنون والآداب وأنماط الحياة اليومية، كما تضم الحقوق الأساسية للإنسان والتقاليد والمعتقدات وما تقدم يجعل المجموعات البشرية كائنات تتميز بالإنسانية المتمثلة بالتعقل، والالتزام بالمثل، كما أنها تساعد الأجيال في التعرف على الذات".

والأمر ذاته أكدته منظمة الأليسكو ((المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)) حيث بينت في الوثائق الصادرة عنها ان الموروث الثقافي هو "نشاط يظهر بصورة فعالية إنسانية متميزة عن أفعال الطبيعة، أو هي القيم المبتكرة من قبل الإنسان يحقق بها ويكتسب إنسانيته وينظم على أساسها حياته الخاصة الاجتماعية والفكرية والروحية والجمالية" ولما تقدم نشير ان مقبرة البقيع وإعادة أعمارها من شأنها ان تحقق المقاصد المتقدمة وبالتالي ستحقق تأصيلاً من شأنه احياء الثقافة الإسلامية الحقة القائمة على تقديس المبادئ والقيم السامية التي تمثل معارف إنسانية ونواميس طبيعية قبل ان تتسم بالسمة الدينية ومن دفن من الصحابة وأهل البيت في تلك البقة مصداق لتلك القيم وحقيق بالجميع ابراز هذا الموروث الثقافي للعالم للتعرف عليه ودراسته عن قرب.

وتأكيدا لما تقدم نشير إلى ما انتهت إليه منظمة ((الأسيسكو)) المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة حين تعرضت للثقافات الإسلامية الاصيلة وعرفتها بأنها "الوعاء الحضاري الذي يحفظ للأمة وحدتها ويضمن تماسكها، ويكسبها الصفات والسمات الخاصة فكرية أو مادية تميزها وتعد هويتها وركيزة وجودها، وهي مجمع علومها الخاصة، وخلاصة إبداعها، ومصدر قوتها، وأصل تميزها عن الأمم"

ونود التذكير ان الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت في أحدى دوراتها قراراً حمل الرقم (69/281 في العام 2015) ورد فيه الآتي "تدمير التراث الثقافي، الذي هو تجسيد للثقافة الإنسانية على تنوعها يمحو الذكريات الجماعية لكل الأمة ويزعزع استقرار المجتمعات، ويهدد هويته الثقافية، وإذ تشدد على أهمية التنوع والتعددية الثقافية وحرية الدين والمعتقد في تحقيق السلام والاستقرار والمصالحة والتماسك الاجتماعي....، ان الهجمات الموجهة عمداً ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو للأغراض الخيرية، أو الآثار التأريخية، قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب..".

بمعنى ان تعمد تدنيس دور العبادة أو الأماكن الثقافية التي تعد تراثاً انسانياً يعد وبحق جريمة حرب تنطبق عليه أحكام المادة (8) النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية الذي وضع بموجب اتفاقية روما 1998 إذ تم التأكيد على "أن الهجمات ضد المباني المخصصة لأغراض دينية أو تعليمية جريمة حرب".

وأخيرا نذكر ان النظام الأساس للمملكة العربية السعودية الصادر العام 1992 أشار في غير مورد إلى مبادئ إسلامية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على حرية العبادة وقدسية اماكنها وضرورة احترامها حيث يؤكد النظام احترام المملكة للتراث الإسلامي والإنساني إذ أشارت المادة (7) إلى أنه "يستمد الحكم في المملكة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة" وبينت المادة (8) أنه "يقوم الحكم في المملكة على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية" وأضافت المادة (26) "تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية" كما نجد ان المادة (29) تنص على ان "ترعى الدولة... وتصون التراث الإسلامي العربي" واستناداً لصراحة النصوص المتقدمة نجد ان التزاماً قانونياً وشرعياً يقع على كاهل السلطات العامة هنالك بضرورة إعادة البناء وافتتاح المسجد الذي بني فوق المقبرة المعروفة في البقيع وان يفتح للجميع بلا استثناء لممارسة شعائرهم الدينية ولصيانة التراث الإنساني بما يديم العلاقة الإنسانية بين جميع الديانات والمذاهب.

وما تقدم ولا شك إمضاء لما انتهت إليه اتفاقية العام 2005 التي أبرمت برعاية منظمة اليونسكو الخاصة بـ(حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي) والتي تنص في مادتها الأولى على أبرز الأهداف التي تسعى إليها ((أ- حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي، ب- تهيئة الظروف التي تكفل ازدهار الثقافات وتفاعلها تفاعلاً حراً تُثري من خلاله بعضها بعضاً، ج- تشجيع الحوار بين الثقافات لضمان قيام مبادلات ثقافية أوسع نطاقاً وأكثر توازناً في العالم دعماً للاحترام بين الثقافات وإشاعة لثقافة السلام، د- تعزيز التواصل الثقافي بهدف تنمية التفاعل بين الثقافات بروح من الحرص على مد الجسور بين الشعوب، هـ- تشجيع احترام تنوع أشكال التعبير الثقافي وزيادة الوعي بقيمته على المستوى المحلي والوطني والدولي، و- تجديد التأكيد على أهمية الصلة بين الثقافة والتنمية بالنسبة لجميع البلدان، وبالأخص للبلدان النامية، ومساندة الأنشطة المضطلع بها على الصعيدين الوطني والدولي لضمان الاعتراف بالقيمة الحقيقية لهذه الصلة)).

وخلصت المادة الثانية إلى تحديد بعض المبادئ التوجيهية وعلى رأسها ((أ- مبدأ احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية: فلن يتحقق التنوع الثقافي أو تتم صيانته أو تعزيزه إلا بكفالة الحقوق والحريات الأساسية، مثل حرية التعبير والإعلام والاتصال، وما لم تُكفل للأفراد إمكانية اختيار أشكال التعبير الثقافي. ولا يجوز لأحد التذرع بأحكام هذه الاتفاقية لانتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو المكفولة بموجب القانون الدولي أو لتقليص نطاقها.

ب- مبدأ السيادة: إذ تتمتع الدول، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، بحق سيادي في اعتماد تدابير وسياسات لحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي على أراضيها.

ج- مبدأ تساوي جميع الثقافات في الكرامة وفي الجدارة بالاحترام: حيث يفترض حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي الاعتراف بأن جميع الثقافات، بما فيها ثقافات الأشخاص المنتمين إلى الأقليات وثقافات الشعوب الأصلية، متساوية في الكرامة وفي الجدارة بالاحترام.

د- مبدأ الانتفاع المُنصف: ويراد به الانتفاع المُنصف بطائفة غنية ومتنوعة من أشكال التعبير الثقافي في كل أنحاء العالم، وانتفاع الثقافات بوسائل التعبير والنشر، هما عاملان أساسيان للارتقاء بالتنوع الثقافي وتشجيع التفاهم.

هـ- مبدأ الانفتاح والتوازن: حيث ينبغي للدول، لدى اعتماد أي تدابير لدعم تنوع أشكال التعبير الثقافي، أن تسعى، بالصورة الملائمة، إلى تشجيع الانفتاح على الثقافات الأخرى في العالم، وأن تضمن اتفاق تلك التدابير مع الأهداف التي تتوخاها هذه الاتفاقية)).

...........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2022
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي