الحق في الأمن القضائي
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2022-01-04 05:39
يعد استقلال القضاء وحياديته ونزاهته الطريق الطبيعي للوصول إلى العدالة الحقيقية والسبيل إلى جودة الأحكام وتعبيرها عن التطبيق الصحيح لحكم القانون، ويمكننا إن نبين المعنى المقصود بالأمن القضائي من الجوانب الشخصية للمواطن بأنه الشعور الذي يخالج الشخص معنوياً كان أو طبيعياً فيورثه الثقة في المؤسسة القضائية لكونها تجعل سيادة القانون فوق كل اعتبار.
أما من الجوانب الوظيفية فيعني الأمن القضائي إن يحصل الشخص طبيعياً كان أو معنوياً على الخدمة القضائية بنحو من الموضوعية والحياد والاستقلال، بما يحقق المصلحة العامة ويحفظ الأمن الشخصي والمؤسسي، فالتدخل في عمل المؤسسة القضائية يتنافى مع القانون الوضعي والطبيعي والنواميس الإنسانية التي وجدت بمختلف الخلفيات الثقافية والحضارية، سواءً أكان التدخل أو محاولة التأثير بطريق مادي أو بوسيلة معنوية، فما تقدم يحقق بالنتيجة مبدأ سيادة القانون ويمهد الطريق نحو الأمن القانوني والقضائي للفرد والمجتمع.
بل من شأن ما تقدم إن يوفر ضمانة للحقوق والحريات ويرسخ الحكم الديمقراطي، وان قيل أن العدل أساس الملك فان استقلال القضاء هو أساس العدل، فلا يمكن إن يتحقق العدل بلا ضمان استقلال القضاء والقضاة لتتمكن المؤسسة القضائية من تحرى الحقيقة بعيداً عن التدخل بكل صوره، فلا بد من تحرر السلطة القضائية من الضغوط أو التهديد أو الوعيد، وحينها فقط يمكن إن يصدر الحكم القضائي في أي قضية معروضة على المحكمة بتطبيق حكم القانون عليها بعيداً عن أي تأثيرات جانبية وليتحقق ذلك لابد من توافر ضمانة الاستقلال ويقصد باستقلال القضاء تحرر السلطة القضائية من أي تدخل من جانب السلطة التشريعية أو التنفيذية، والاستقلال له مدلولان هما:
أ- المدلول الشخصي: المتعلق بشخص القاضي وهو ما أشار إليه الدستور العراقي للعام 2005 في المادة (الثامنة والثمانون) "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم لغير القانون،
ب- ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة" ويتصل بالضمانة الشخصية أهمية التركيز على صياغة القانون المتعلق بالسلطة القضائية لضمان تعيين أفضل وأكفأ العناصر ليشغلوا الوظائف القضائية، كما يجب إن يتضمن القانون المتعلق بتنظيم السلطة القضائية الضمانات اللازمة لتوفير مميزات وظيفية للقاضي ضد العزل غير المسوغ، وأهمية تحسين أوضاع القضاة المادية وتوفير الضمانات الوظيفية المتعلقة بترقيتهم وحقوقهم الوظيفية الأخرى، ولاحظنا إن المشرع العراقي في قانون التنظيم القضائي رقم (160) لسنة 1979 النافذ أشار إلى بعض ما تقدم ونورد على سبيل المثال المادة السابعة منه التي انتهت إلى أنه "يلتزم القاضي بما يأتي:
أولاً: المحافظة على كرامة القضاء والابتعاد عن كل ما يبعث الريبة في استقامته.
ثانيا: كتمان الأمور والمعلومات والوثائق التي يطلع عليها بحكم وظيفته أو خلالها إذا كانت سرية بطبيعتها أو يخشى من إفشائها لحوق ضرر بالدولة أو الأشخاص ويظل هذا الواجب قائماً حتى بعد انتهاء خدمته.
ثالثاً: عدم مزاولة التجارة أو أي عمل لا يتفق ووظيفة القضاء" وأضافت المادة الثامنة من القانون ذاته أن "لا يجوز إن يشترك في هيئة قضائية واحدة قضاة بينهم مصاهرة أو قرابة لغاية الدرجة الرابعة، ولا يجوزان ينظر القاضي طعناً في حكم أصدره قاض آخر تربطه به العلاقة المذكورة"
ب- المدلول الموضوعي: ويعني ضمان استقلال القضاء كمؤسسة وكيان مستقل عن السلطات العامة الأخرى في الدولة وهو ما أشار إليه الدستور العراقي للعام 2005 بالمادة التاسعة عشر التي تنص على " القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون" وأكدت هذا المعنى المادة السابعة والثمانون من الدستور التي تنص على "السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفقاً للقانون".
وللوصول لما تقدم لابد من تضافر العديد من العوامل من أهمها الآتي:
أولاً: حسن إدارة المرفق القضائي: بمعنى تحسين أداء المرفق القضائي بما من شأنه ان يفعل الأداء المرفقي ويرفع مستوى الثقة العامة بالقضاء من خلال:
أ- الحد من الشكلية المفرطة والإجراءات المعقدة، وان تكون إجراءات القضاء تتصف بالوضوح والدقة والتوقع والاستقرار.
ب- الحد من المغالاة في الرسوم والأجور واجبة الدفع قبال الخدمات القضائية بكل مسمياتها ومستوياتها.
ت- سهولة الوصول إلى المعلوم القضائية.
ثانياً: تحقيق رضا المتعاملين مع مرفق القضاء ولا نعني بهذا الأمر رضا المتقاضين لان من سيخسر الدعوى لابد إن يكون ساخطاً، بل نعني بما تقدم رضا المتعاملين مع مرفق القضاء عن أسلوب تقديم الخدمة وطريقة الأداء وقرب المواعيد، وحسن التعامل بما يحفظ الكرامة، وتكامل الخدمات القضائية وعدم تجزئتها، بوجود المباني المناسبة والعدد الملائم من الموظفين، وان جودة القضاء وتحقيق الأمن القضائي من شأنه إن ينعكس إيجابياً على مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فمن شأن الأمن القضائي إن يكون عامل جذب للاستثمارات الخارجية وبالتالي يسهم في ازدهار اقتصاد الدولة فأصحاب رؤوس الأموال لايمكن إن يقبلوا على مشاريع في بلدان تمتاز بهشاشة النظام القضائي، ومن شأن الأمن القضائي إن يحقق الاستقرار السياسي والعدالة ويكون ضمانة لفاعلية التطبيقات الديمقراطية، وعلى الجانب الأخر إن وجود سلطة قضائية قوية وعادلة ومستقلة من شأنه إن يشكل ضمانة مؤكدة لحقوق وحريات الأفراد ويضع أي شخص مهما كان منصبه أو مكانته تحت وطأة المساءلة العادلة، أضف لكل ما تقدم، إن من أهم ضمانات الحكم الرشيد الشفافية والمساءلة وكلاهما يمكن بلوغه بمعونة السلطة القضائية حين تستجيب المحاكم لكل أنواع الدعاوى أو الطلبات المتصلة بمراقبة الهيئات العامة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن أساس استقلال القضاء يرجع لمبدأ الفصل بين السلطات الذي ارساه الدستور العراقي بالمادة (47) يعد ركيزة مهمة لبلوغ الدولة القانونية ويرسخ جذور النظام الديمقراطي، كما ويعني استقلال كل سلطة عامة من السلطات الثلاثة عن الأخرى عضوياً ووظيفياً، بمعنى كل واحدة منها تختص بوظيفة معينة فتختص التشريعية بما يتعلق بتشريع القوانين وتختص السلطة التنفيذية بالشؤون الإدارية والتنفيذية وتختص السلطة القضائية بالفصل بالخصومات.
بيد إن هذا الاستقلال لا يمكن إن يكون جامداً بل لابد من وجود نوع من التعاون لاسيما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، أما القضاء فلابد من ضمان استقلاله ليبقى هو الضامن للحقوق والحريات والجهة القادرة على مراقبة أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية لضمان اتفاق ما يصدر عنهما مع الدستور والقوانين التي أقرها البرلمان بوصفه الممثل للإرادة العامة الشعبية فالقضاء هو الجهة القادرة على حفظ التوازن بين المصلحة العامة التي تمثلها الهيئات العامة (التشريعية والتنفيذية) والمصالح الخاصة أو العامة التي تعود للمجتمع أو الفرد.
ومما يشار إليه إن الأمن القضائي تم التأسيس له في الكثير من القواعد القانونية والإعلانات الدولية فقد ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948 في المادة العاشرة منه أن "لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة.." وورد بالمادة الرابعة عشر في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للعام 1966 أن "الناس جميعاً سواء أمام القضاء، ومن حق كل فرد لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية إن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون".
لذا نؤكد إن تحقيق الأمن الإنساني مرتبط بالجزئيات المكونة لهذا الحق ومن أهم الجزئيات هي الأمن القضائي الذي يمكن إن يتحقق من خلال:
أ- علانية الجلسات القضائية.
ب- المساواة بين الخصوم.
ج- افتراض قرينة البراءة.
د- احترام حق الدفاع.
ه- تسبيب الأحكام القضائية.
و- تعدد درجات التقاضي وكفالة حق الطعن.
ز- مراعاة مبادئ العدل والإنصاف، وتفريد العقاب.
وعطفاً على ما تقدم العراق بحاجة لتأكيد مبادئ ضامنة لتحقيق الأمن القضائي ونرى أن من أخصها:
1- الإصلاح الدستوري بتعديل دستور 2005 والتأكيد على محورية الادعاء العام بمنحه صلاحيات محددة وعدم الاكتفاء بما ورد بقانون رقم (49) لسنة 2017 ليكون متصدياً لكل المخاطر التي تتهدد المجتمع العراقي أو تهدد المصلحة العامة، لاسيما ما يتعلق تعقب الجرائم ذات الخطر العام وجرائم الفساد الإداري والمالي.
2- إعادة النظر بالمادة (61/ خامساً) بخصوص موافقة مجلس النواب على تعيين القضاة من أعضاء محكمة التمييز الاتحادية ورؤساء محاكم الاستئناف ورئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى، وجعل تعيينهم يجري بلا تدخل فعلي من السلطة التنفيذية، أو التشريعية واستبدالها بطريق التعيين من بالانتخاب داخل السلطة القضائية ذاتها وفق شروط معينة تتصل بالخبرة والخدمة والكفاءة أو بإسناد سلطة التعيين لجمعية عمومية تنبثق من مجلس القضاء الأعلى وتتكون من القضاة حصراً ممن يشغلون وظائف قيادية في محكمة التمييز ومحاكم الاستئناف وهذا الأمر سيبعد التأثير السلبي حتما على السلطة القضائية ويجعلها بمنأى عن التأثير أو التدخل في شؤونها.
3- العمل على تبني نظام تخصص القضاة في التقسيمات المعروفة في القانون العراقي لما يتيحه من إمكانية إكساب القاضي الخبرة العملية الممتزجة بالملكة العلمية وبما من شأنه إن يتيح للقضاة الوقت الكافي لدراسة ظروف كل واقعة معروضة عليهم.
4- تأسيس معهد لتدريس حقوق الإنسان يكون تخرج ضباط الشرطة منه شرطاً لتخصصهم في مجال التحقيقات في الجرائم كما يزج به المحققون العدليون لصقل مهاراتهم في مجال التحقيق القضائي وممازجتها مع الخبرة العملية والمعرفة العلمية بالحقوق والحريات الفردية والجمعية.
5- استحداث محكمة الحقوق والحريات للبت في المسائل المتعلقة بحرية الأفراد أو حقوقهم المستعجلة التي لا تحتمل التأخير بسبب إتباع الإجراءات القضائية العادية.
6- المضي نحو برنامج مساعدة قضائية كامل ليس على صعيد المتهم بارتكاب جرمة من نوع جناية أو جنحة بل تعميم الأمر عبى مختلف أنواع الدعاوى لتتحمل الخزينة العامة مصاريف إقامة الدعوى وأجور المحامٍ.
...........................................