تقرير الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان والمعايير المزدوجة...؟!
مصطفى قطبي
2021-04-04 08:16
اعتاد العالم سنويا على سماع نغمة أمريكا حول حقوق الإنسان في طول القارات وعرضها، وذلك عبر التقرير السنوي الذي تصدره خارجيتها، وهي نغمة فيها من المفارقات ما فيها وتحتوي من التضليل والخداع ما لم يسمعه العالم من قبل، ففي كل عام يستفيض التقرير الأمريكي بالحديث عن انتهاك حقوق الإنسان في الصين وروسيا والدول العربية والأفريقية والآسيوية واللاتينية، ويتجاهل تماما انتهاكها داخل أمريكا. وخلال تقديمه التقرير السنوي لوزارة الخارجية حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: "سنستخدم كل أدوات دبلوماسيتنا للدفاع عن حقوق الإنسان ومحاسبة الذين يرتكبون الانتهاكات"، مشدداً على أن "إدارة بايدن، ستعترض على انتهاكات حقوق الإنسان أينما حصلت، ومن دون أن تهتم لكون المسؤولين عنها خصوماً أو شركاء" على حد تعبيره، وهنا تجاهل الوزير الأميركي عمداً كل الجرائم ضد الإنسانية التي تقترفها بلاده، من خلال مواصلة حروبها واحتلالها للعديد من الأراضي في الكثير من دول العالم.
إنّ المفارقة الكبرى، أن واشنطن تصدر كل عام تقريرها عن حقوق الإنسان في العالم، ولكن وفق طريقتها الخاصة! في التقرير السنوي الأخير الذي صدر الثلاثاء 30/03/2021، نكاد نقرأ كل هذه المفارقات والتفاصيل التي ذكرناها، ولعل قراءة سريعة وعاجلة في مضمون التقرير الأمريكي الجديد ستجعل المتابع يكتشف كم هو مملوء بالقوالب الجاهزة وكم هو قائما على المعايير المزدوجة التي تغيب جرائم إسرائيل وانتهاكاتها لكل حقوق الإنسان وتحاول إظهار أشياء مزعومة في دول أخرى لا تروق أمريكا لتوجهاتها، وكم يعاني هذا التقرير من العيوب ذاتها التي اتسمت بها التقارير السابقة على مدى السنوات الماضية، وكأنها نسخة واحدة لا تتبدل فيها إلا الأسماء والأماكن. والملاحظة الثانية التي يتضمنها التقرير الأمريكي هي تجاهله بشكل مقصود الأوضاع غير المنسجمة مع حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة، والانتهاك الكبير لتلك الحقوق في السجون الطائرة والعائمة والسرية والعلنية والداخلية والخارجية، ويكفي أن نشير هنا إلى أن عدد المساجين داخل أمريكا هو الأكبر في العالم إذ يتجاوز المليونين وربع المليون مواطن أمريكي.
إنّ مُحاكمة التقارير الأمريكية والبحثُ في صدقيتها من عدمها ليس خيارنا ولا الموضوع الذي يشغلنا أو يستحق منّا أن نهدر الوقت عليه لتفنيده أو للطعن فيه، فهي التقارير التي لا نُقيم وزناً لها ونعتبر أن لا قيمة لها ولما جاء فيها ولا لمجمل ما تأتي الخارجية على ذكره فيها، لكنّها التقارير التي تشغل الكثيرين على امتداد الجغرافيا، والمُلفت أنّ من بين المُهتمين بها أولئك الذين يحاولون استخراج شهادة حسن سلوك لهم من هذه التقارير. والشاذ في الأمر، أنّ الولايات المتحدة أكثر دول العالم صخباً وضجيجاً بالحديث عن حقوق الإنسان وشعاراته، كما أنها الدولة الأكثر استخداما لورقة حقوق الإنسان في سياستها الخارجية، إلا أنها على صعيد الممارسة الفعلية تعد الدولة الأخطر على مر التاريخ التي انتهكت وتنتهك حقوق الإنسان، أما كل هذا الضجيج والصخب الأمريكي حول حقوق الإنسان لم يكن سوى ستاراً، أخفى خلفه نزعة التوسع والسيطرة التي تملكها.
حقائق بينتها الخارجية الروسية والصينية بوصفهما تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول وضع حقوق الإنسان في العالم بأنه مملوء بالقوالب الجاهزة ومبني على أساس المعايير المزدوجة. وفي هذا السياق انتقدت موسكو بشدة تقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم لافتة إلى أن الولايات المتحدة تمارس ازدواجية المعايير وتعاني "جنون العظمة". وذكرت وكالة نوفوستي، أن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا وصفت التقرير الأمريكي، بأنه "فارغ إلى حد كبير"... وأوضحت زاخاروفا أن على الولايات المتحدة أن تفرق بين دول جيدة وسيئة اعتمادا على ما إذا كانت تتبع الإرشادات الاستراتيجية الأمريكية أو لديها رؤية خاصة بها لكيفية العيش والتطور، لافتة إلى أن "الولايات المتحدة لا تجري استعراضا شاملا من هذا النوع لوضع حقوق الإنسان في أراضيها على الرغم من أن مسؤوليها يلجؤون من حين إلى آخر للحديث عندما يقتضي الأمر ذلك عن انشقاق ومخالفات حقوقية في مجتمعهم". أما الصين فقد دعت الولايات المتحدة إلى معالجة مشاكلها الداخلية العميقة التي تعاني منها، بما في ذلك مسائل التمييز العنصري وتطبيق القانون من خلال استخدام العنف وإلى اتخاذ إجراءات ملموسة لتحسين وضع حقوق الإنسان فيها. ودعا المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية "تشاو لي جيان" أمريكا إلى التوقف عن تسييس قضايا حقوق الإنسان وتطبيق ازدواجية المعايير فيها والعزوف عن تقويض مصالح الصين والتدخل في الشؤون الداخلية للصين.
والغريب هناـ أو الطبيعي حسب خبرتناـ أن تحاول الولايات المتحدة صاحبة أكبر سجل في انتهاكات حقوق الإنسان، أن تعطي الدول والشعوب والأمم دروساً في "حقوق الإنسان" وأن توزع شهادات حسن السلوك على من تريد! فأمريكا هي التي تقرّر أين يُساء إلى حقوق الإنسان، ومن هي الدول التي تلتزم بها، حتى وإن كان هذا القرار يجافي الواقع إلى حدّ بعيد! وإذا ما قررت أمريكا أن تتجاهل انتهاكات وإساءات الدول "الصديقة" أي التابعة لها إلى حقوق الإنسان، فإنه لا يجرؤ أحد من السياسيين والإعلاميين على انتقاد أو ذكر هذه الإساءات والانتهاكات، وإذا تجرّأ أحد على فعل ذلك فسوف ينال نصيبه من العقاب من هذه الدول الغربية، وأكبر مثال على ذلك هو الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لحقوق الإنسان الفلسطيني في فلسطين المحتلة ولحقوق الإنسان في الجولان السوري المحتلّ... ورغم أن هذه الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان مستمرة منذ عقود، فإنّ أحداً في الغرب لا يدين هذه الانتهاكات، ومن يجرؤ على إدانة هذه الانتهاكات وتأييد حقّ الشعب الفلسطيني في أرضه والسوري في جولانه، فإنهم يتعرضون إلى عقوبات صارمة.
اليوم الولايات المتحدة وبحجة دعم حقوق الإنسان تثير الفتنة في العراق وليبيا وفنزويلا وبوليفيا ولبنان وسورية أو حتى في الصين مؤخراً حيث أصدرت قرارين لدعم المتمردين في هونغ كونغ، وما يسمونه دعم المسلمين في مقاطعة شينجيانغ، الأمر الذي يقصد منه التدخل في شؤون الصين الداخلية ومحاولة تفتيتها كي لا تصبح القوة الأولى في العالم، وكذلك تدخل الولايات المتحدة بحجة دعم الأكراد في شمال العراق وشمال شرق سورية، إذ وضعت أيديها على النفط السوري وتدخلت في شؤون البلد في محاولة منها لتقسيم البلاد، كما قام الناتو بقصف ليبيا خارج إطار الشرعية الدولية، والأمم المتحدة.
وبهذا المعنى، فإنّ أمريكا ما زالت تستخدم مفهوم "حقوق الإنسان" كأداة من أدوات التدخل في شؤون الدول المناهضة لسياسات النهب الاستعماري بهدف إضعافها والسيطرة على مواردها، أو احتلال موقع جغرافي، أو لنهب النفط، أو لحرمان السكان الأصليين من حقهم في إدارة البلاد كما حدث مؤخراً في بوليفيا وفنزويلا.
إذاً المرحلة التي يواجهها العالم اليوم هي مرحلة خطيرة ناجمة عن استفراد القطب الواحد بتعريف وتطبيق الشرعية الدولية، وتعريف وتطبيق حقوق الإنسان في جميع بلاد العالم، ولا شكّ أن روسيا والصين تحاولان جاهدتين إعادة تشكيل قطبين أساسيين يحدّان من هيمنة القطب الواحد، وكلّما قامت روسيا والصين بخطوة حقيقية في هذا الاتجاه، كالت إليهما الولايات المتحدة العقوبات في محاولة منع تقدمهما في هذا المسار، ذلك لأن تقدّم روسيا والصين سواء في التعامل بالعملة المحلية في التجارة وعدم استخدام الدولار، أم في دعم الدول الأخرى، فهذا من شأنه تهديد هيمنة القطب الواحد والمحاولة الجادّة للانتقال إلى عالم متعدّد الأقطاب... قد لا يحدث هذا الأمر غداً ولكنّ طريق الألف ميل يبدأ بخطوة.
خلاصة الكلام: إن حقوق الإنسان ربما تريح الضمائر حين تكتب في شكل مذكرة سنوية، لكن لا يمكن أن تحل مشكلة لأن المنوط بهم حل المشكلات الدولية يعرفون أنفسهم جيدا، وهم الدول التي تملك صنع القرار في مجلس الأمن الدولي لأن المشكلات في أساسها سياسية وبحاجة إلى قرار سياسي منصف وليس إلى تقرير يصدر روتينيا كل عام، ويحمل في طياته أهدافا غير إنسانية ويرمي إلى تخدير الشعوب تحاشيا من ردود أفعال انتقامية عنيفة تؤثر على مصالح واشنطن التي تعتبر نفسها راعية لحقوق الإنسان في العالم. وصدق الرئيس الأمريكي الأسبق "كارتر" الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2002، حينما نشر مقالا في صحيفة ''هيرالد تربيون'' قال فيه: ''إنَّ بلاده تخلت عن دورها التاريخي في الدفاع عن حقوق الإنسان حول العالم'' بل تجاوز ذلك ليقول بملء الفم: ''إن سجل أمريكا مُعيب، وإنها فقدت السلطة المعنوية للتحدث عن حقوق الإنسان وعن صون الحريات الشخصية حتى في الداخل الأمريكي''.