العدالة المنسية في المجتمعات العربية
حسين أحمد آل درويش
2020-08-16 07:15
العدالة هي إحدى القيم الإنسانية الرفيعة والصفات الثابتة، لا تتغير مع تغير الزمان، والتي تحقق الأمن والأمان والاستقرار والصلاح والهدوء والطمأنينة، وتمنع تفشي وباء الظلم والفساد والخراب والدمار وضياع الحقـوق ونهب خيرات الشعوب.
يعرفها بعض الفقهاء والعلماء بأنها: الملكة الباعثة على ملازمة تقوى الله وخشيته والخوف منه لقوله تعالى في كتابه العزيز: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا، أعدلوا هو أقرب للتّقوى) (1). وهناك من يعرف العدل بالحكمة، إذ كل منهما يصدق عليه وضع الشيء في موضعه، لقول أمير المؤمنين علي (ع): "العدل يضع الأمور في مواضعها، والجور يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام، والجور عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما" (2).
ويقول أمير المؤمنين علي (ع) أيضًا في عهده لمالك الأشتر: "أنصف الله وأنصف النّاس من نفسك، ومن خاصّة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيّتك، فإنّك إلاّ تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجّته، وكان لله حربًا حتّى ينزع أو يتوب وليس شيءٌ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ الله سميعٌ دعوة المضطهدين وهو للظّالمين بالمرصاد " (3).
نلاحظ بكل وضوح في المجتمعات التي تحكمها ثقافة الاستبداد، تتفشى فيها أنواع الظّلم والفساد والمصالح الضيقة والنرجسية، وأنّ القانون لا يطبّق فيها إلا على الضعفاء والفقراء، أمّا ذوو المناصب العليا وأصحاب النفوذ والثروة والجاه، فهم في حصانة كاملة عن تطبيق القانون ومحاسبتهم، ولكن الإمام علي بن أبي طالب (ع) استطاع في زمانه، أن يرفع هذه الحصانة عن أي فرد منهم إذا انحرفوا عن طريق الحقّ والـعدالة، ووضع حدًّا واضحًا وعقوبة صارمة أمام الانحرافات والتجاوزات على القانون لكي يحفظ للقانون هيبته ومكانته ووقاره.
من هنا يصح القول، أن من الأزمات المستعصية التي تعصف بالمجتمعات العربية، أزمة الابتعاد عن العدالة من قبل القائمين على الأمور وأصحاب النفوذ في السلطة، هذه الأزمة هي سبب رئيسي وأساسي لنشوء أغلب الأزمات والمشكلات الأخرى على اختلاف صورها وأشكالها، وصدق الإمام جعفر الصادق (ع) حينما قال: "اتقوا الله واعدلوا فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون" (4).
وكتب الحسن البصري رسالة طويلة وأرسلها إلى (الأمير عمر بن عبد العزيز) في وصف الإمام العادل نذكر بعضها: "لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلّط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمّة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالًا مع أثقالك، ولا يغرّنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك، ولا تنظرن ّإلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدًا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يديّ الله تعالى" (5).
إذا غابت العدالة وعمّ الظلم وتفشى وباؤه وانتشر في مجتمع من المجتمعات، فسوف يذيب العلاقات والأواصر والروابط الحميمة الداخلية، مما يجعل مجتمعـًا متفككـًا لا يقوى على الصمود أمام قوى التحدي الداخلي، كما لا يقوى أمام الغزو الخارجي إطلاقًا، بل نرى ونسمع أن بعض أبناء الأمة يقفون صفـًا مع الغازي (المحتل الخارجي) لإزاحة الظلم والظالم حين يقدّرون أن خطره أكبر أو أقل الأحوال، لا يعينون الظالم الداخلي في مواجهة الخطر الخارجي، كل ذلك كان بسبب ممارسة الظلم الاجتماعي والقهر السياسي والإرهاب الفكري بحق الآخرين.
ولا يقتصر الظلم على أثره الأخلاقي الفردي في إسقاط صاحبه ورفيق دربه، بـل يمتد للجانب الاقتصادي (الفردي والجمعي) فيمحقه ويهلكه، ثم يدمر المجتمع كاملا ً، وفي هذا السياق يقول أمير المؤمنين علي (ع): "الظلم يزل القدم، وبسلب النعم، ويهلك الأمم" (6). ويقول الرسول الأعظم (ص): "إذا غضب الله عز وجل، على أمة ولم ينزل بها العذاب: غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم تربح تجّارها، ولم تزكّ ثمارها، ولم تغزر أنهارها، وحبس الله عنها أمطارها، وسلّط الله عليها شرارها" (7).
ولقد أشار كذلك المفكر الإصلاحي السيد جمال الدين الأفغاني إلى أثر فضائل الأخلاق والصفات الحميدة في الصعود، وأثر رذائل الأخلاق والصفات الخبيثة في الهبوط، فقال: "هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدّل بتبدل الأجيال" (8)..
وهذه حقيقة واضحة لا جدال فيها، تؤكدها لنا المصادر والكتب التاريخية والدينية وكثير من الباحثين والمفكرين أشاروا إلى تلك الحقائق والأسباب المهمة في انحلال الدول وسقوط الحضارات والأمم.
وختامًا وفي نهاية المطاف، عندما تتحقق العدالة في مجتمعنا، فسوف يشعر أبناءه بالطمأنينة والاستقرار والهدوء، وهذا بدون شك سيحفزهم على العمل والإنتاج والتطوير والتنمية، سيزدهر مجتمعنا ويتقدم إلى الأمام بكل ثقة ٍوحيوية ٍ. فمن يشعر بأن حقوقه محفوظة سيعمل ويجتهد من أجل الوصول إلى أهدافه النبيلة وبالطرق الشرعية والقانونية، ومن يشعر بعكس هذا، إما أن يتكاسل أو يلجأ للطرق غير القانونية، لتحقيق ما يطمح إليه.
وعندما يكون رأس الهرم فاسدًا وظالمًا بالتأكيد سيتفشى الحقد والبغض والكره والحسد بين أبناء المجتمع، وبالتأكيد سيكون المجتمع ضعيف منهار داخليًا، وسيصبح أكثر عرضةً للتدخلات الخارجية، وسيعم الخراب والدمار والفوضى، ويجب على كل واحد منّا أن يبدأ بنفسه أولاً حتى تتحقق العدالة في المجتمع كافة، وكما يقول المثل الإنجليزي المشهور: "العدالة ثمينةٌ جدًّا، ولذا فهي تكلّف غاليًا" (9).