الهوّيات والدرس الهندي
د. عبد الحسين شعبان
2019-03-04 06:31
"الهند – الفوضى التي تعمل" ذلك ما قاله المفكّر الأميركيّ المعروف جون كينت غالبرايت في وصف حالة الهند التي تمثِّل "الوحدة في إطار التنوّع"، وقد قصد به "الفوضى التي تشتغل بشكلٍ جيّد"، فكيف يُمكن تصوّر مثل ذلك المسار الاستثنائيّ الذي يبدو مُتناقضاً بشكلٍ حادّ؟
إذا كانت الهند قد عاشت معاناة طويلة تحت السيطرة الاستعمارية البريطانية، فإنّها تمكّنت بفعل المقاوَمة السلمية اللّاعنفية بقيادة المهاتما غاندي من إحراز الاستقلال في العام 1947، وهو استثناء آخر لدرسٍ هنديّ متميّز، وتمكّنت لاحقاً من تحقيق تنمية متميّزة جَعلتْها لاعِباً مهمّاً في "دول البريكس" التي تضمّ روسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا إضافة إليها.
عبّرت "خيا باتاشاريا" سفيرة الهند في المغرب خلال محاضرتها في "مهرجان السينما العالَمي للذاكرة المُشترَكة"، الذي انعقد في مدينة الناظور الشمالية الريفية، عن استثنائية الدَّرس الهندي في تدبير التعدّد والاختلاف من خلال مقولة هنديّة قديمة بقولها " أنا هندي، لا أذهب إلى المسجد أو إلىالكنيسة أو إلى المعبد، وإذا أردتَ أن تراني، فستجدني في جميع هذه الأماكن".
فكيف تمّ بلوغ الوحدة والتجانس والتناغم في ظلّ التعدّد والاختلاف والتنوّع؟ ثمّ كيف تمكّنت الهند من تحقيق مثل هذا القدر من النجاح في التنمية لمليارٍ وما يزيد على 20 مليون نسمة، وبهذه المساحة الشاسعة والمختلفة من التضاريس الجغرافية والمَناخية وعشرات اللّغات والأديان والطوائف والقوميّات والإثنيّات؟
الأركان الأساسيّة للمُواطَنَة
وإذا كان ثمّة عوامل تاريخية أسهَمت في إنتاج هذا التنوّع، فإنّ مسألة التحكّم به وإدارته لضمان الاستقرار والسلام تحتاج إلى تدبيرٍ قياديّ في فلسفة الدولة وإدارتها، ولاسيّما تحقيق قدر من المساواة والحرّية والعدالة والمُشارَكة، وهي أركان أساسيّة للمُواطَنة، وخصوصاً بمواجَهة سياسات الاستعلاء والتمييز ومحاولة الاستتباع.
وقبل الحديث عن القيَم الديمقراطية الحديثة، فالحضارة الهندية القديمة، ولاسيّما الكونفوشوسية والبوذية قامت على التسامح، وهو ما شكّل خلفية فكرية تاريخية لحاضر الهند، التي عرفت كيف توظّف ذلك التنوّع والاختلاف في إطار الوحدة التي تمّ تثبيتها بالدستور كأحد المبادئ الأساسية التي قامت عليها الدولة وأسهَم وقوفها على مسافة واحدة ومع الجميع، ومن دون انحياز، في ترسيخ هذه القيَم الإنسانية، ولكنّ ذلك لا يعني عدم حدوث اختراقات أو تجاوزات أو أعمال عنف منفلت، وخصوصاً في ظلّ وجود تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب حاولت الدولة احتواءه بتوسيع دائرة المُواطَنة والمساواة.
في حوارٍ مع الصديق الفيلسوف والشاعر والسينمائي "خال طورابولي" من موروشيوش، وهو من أصل هنديّ، قال: "نحن شغوفون بالألوان والأشكال الهندسيّة وبالتنوّع، فأرضُنا بسبعة أنهار، وهيبلاد التوابل، وطريق الحرير يمرّ منها، و"الفضاء الثالث" هو حِكمة الهند التاريخية ضدّ الثنائية،فليس هناك مركز وهامش، واللّون الرماديّ هو "اللّون الثالث" بين الأبيض والأسود، وهو أقلّيقيناً، بل إنّه يخفِّف من اليقينيّات، ولذلك نحن نحبّ التعامل مع الغير، والغيريّة بالنسبة إليه تعنيقبول الآخر وحقّ الاختلاف، وتلك واحدة من "معجزات" الهند كما عبّر عنها وهي "الاختلاف عندالتشابه" و "التّناظر عند الاختلاف".
وبحسب "المهاتما غاندي"، فإنّ القبول بفتْح النوافذ يعني الاستعداد لاستقبال الثقافات الأخرى والانفتاح عليها وقبول الآخر، وبالطبع فإنّ ذلك لا يعني مُصادَرة ثقافتنا التي تمتاز بالغنى الروحي.
الأوهام حيال الهويّة
حين نتوقّف عند الدرس الهندي تُواجهنا خمسة أوهام بخصوص الهويّة، وهي التي طَبعت كلّ مرحلة الحرب الباردة، وهذه الأوهام هي:
الوهم الأوّل– الذي يقول إنّ الدول الصناعية المتقدّمة بفعل ما حقَّقته من منجزٍ اقتصادي وتنموي ورفاه اجتماعي حلّت مسألة الهويّة.
الوهم الثاني – الذي يزعم أنّ الدول الديمقراطية حلّت مسألة الهويّة بتأكيد احترام حقوق الإنسان والحرّيات.
الوهم الثالث– اعتقادنا أنّ الدول الاشتراكية السابقة حلّت مسألة الهويّات، ولاسيّما القومية بالاعتراف بحقوقها وحقّ تقرير المصير، وأنّها وضعت مسافة متساوية من جميع الأديان، وفقاً لمنهجها العلماني.
الوهم الرابع– إنّ الدول الفيدرالية بشكلٍ عامّ كانت أكثر رحابة في حلّ مسألة الهويّات، بفعل توزيع السلطات والصلاحيّات بين الدولة الاتّحادية والأقاليم.
أمّا الوهم الخامس فيقوم على أنّ مشكلة الهويّات، هي حكر على البلدان النامية، التي تعاني من شحّ الحريات، وعدم المساواة، وتقليص فُرص المُشارَكة والعدالة الاجتماعية.
وإذا فَحصنا هذه الأوهام سنرى أنّ الدرس الهنديّ أجاب عنها بشكلٍ متميّز؛ فحتّى الآن تعاني بلدان صناعية ومتقدّمة وديمقراطية وفيدرالية من مشكلة الهويّة، التي هي أبعد وأعقد من مسألة التنمية، لأنّها تتعلّق بالخصوصية وتحقيق الذات. فهناك نحو 20 حالة في الغرب تريد تحقيق هوّيتها الخصوصية بغضّ النظر عن التنمية والتقدّم ومستوى المعيشة، كان آخرها استفتاء كاتالونيا، وقبل ذلك استفتاء اسكتلندا، ولا تزال مشكلة إقليم الكيبك (كندا) وإقليم الباسك (إسبانيا)، قائمة ومستمرّة، فضلاً عن التهديد بالانقسام بين الوالانيّين والفلامانيّين في بلجيكا.
كما يُمكن استحضار ما آلت إليه أوضاع البلدان الاشتراكية السابقة من انبعاث الهويّات الفرعية لدرجة الاحتراب والتشظّي، بحيث تفتَّتت يوغسلافيا السابقة لتنقسم بعد حروب وأعمال إبادة إلى 6دول، والاتّحاد السوفييتي إلى 15 دولة، ولا تزال تركة الماضي ثقيلة عليها جميعاً، بحيث يبحث بعضها عن هويّات وكيانيّات لتعويض ما فاته من فُرص ضائعة ولتحقيق "ذاته".
ويبقى موضوع إدارة التنوّع وتدبير أُسس الوحدة مع الحفاظ على الخصوصيّات واحدةً من معضلات العصر الرّاهن الموضوعية والذّاتية التي تُواجِه الجميع بلا استثناء، وتتطلّب تطامناً وتضامُناً وتعايُشاً وتشارُكاً وسلاماً.