حكاية الشتات الحديث
د. ميثاق بيات ألضيفي
2019-02-11 04:54
أدى النمو السريع لمجتمعات المهاجرين ومأساتها إلى الحديث عن "الشتات الحديث" كأحد السيناريوهات للتنمية البشرية وإن هذه العملية تزداد عمقًا متخذة المزيد من الأشكال الجديدة كما أن دور المغتربين وتأثيرهم ازداد حدة في البلاد التي استقروا فيها. ومن السمات المميزة لعالم العولمة هو تعزيز عمليات الهجرة وجعلت الحدود الوطنية أكثر شفافية ودفعت بالملايين من الناس الذين يبحثون عن الأفضل لترك اوطانهم ويهرعون إلى بلاد أخرى وضاعفت عدد المهاجرين الدوليين عدة اضعاف وإن الزيادة الحادة في حجم الهجرة سارت جنباً إلى جنب مع توحيد المجتمعات العرقية المهاجرة والميل إلى التوحد من اجل البقاء وكذلك للحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم في بيئات غريبة وعرقية ثقافية ولذلك فإنهم إما ينضمون إلى المغتربين الموجودين بالفعل أو ينشئون جماعات جديدة ولذا فإن عدد المغتربين في العالم يتزايد باستمرار.
للشتات تأثير كبير على الدول المضيفة وعبره يتغير هيكلها الديموغرافي والتركيبة العرقية والطائفية وإن الشتات مع انه لا يحافظ على تقاليدها وعاداتها وطقوسها غير انه يفرض في كثير من الأحيان قيمًا غريبة على المجتمع ويؤثر داخل البلاد وأيضا على السياسة الخارجية للبلاد المضيفة إذ أن جماعات الشتات الكبرى التي لديها موارد مالية كبيرة تعمل بنشاط على التأثير على مصالح تلك البلاد التي كانت موطنها في الآونة الأخيرة والتي تربطها علاقات وثيقة معها. فتبدو لذلك الحالة مع دراسة مشكلات الشتات متناقضة وتكرس دراسات عديدة لظاهرتها لكن مفهومها ذاته لا يزال غير محدد الوضوح ويفسره العلماء بطرق مختلفة غير إن التفسير الواضح هو أن الشتات موضوع دراسة جميع العلوم المختلفة كالتاريخ وعلم الاجتماع والإثنربولوجيا والعلوم السياسية والدراسات الثقافية وما إلى ذلك، وهذا وحده يوحي بحتمية مجموعة متنوعة من الطرق لفهم تلك الظاهرة المعقدة والمتنوعة وكل كاتب يفسر ذلك بطريقته الخاصة ويعطيه تعريفه الخاص، وتبقى بعض الأسئلة مفتوحة كمنذ متى يمكننا أن نفترض أن المجموعة العرقية قد أصبحت بالفعل شتاتًا؟ هل التحول العكسي ممكن؟ وكيف وتحت أي ظروف تحدث تلك العملية؟ وكل ذلك يتلخص في إيجاد معايير تحدد الشتات وتوفر إرشادات نظرية ومنهجية واضحة.
إن مفهوم "الشتات الحديث" موجود بالفعل والمحاولات تبذل لفهم نظري له وسيكون من غير المنطقي رفضه لكن المشكلة تتمحور في العثور على مكان لوضعه، وكيفية تحديد مكانه في المجتمع وادراك أتصاله بالفهم الكلاسيكي للمصطلح، ووفقاً لهذا فإنه ظاهرة لا تزال تحتوي على جوانب مدروسة بشكل سيء للتداخل في المجالات الاجتماعية والعرقية والسياسية مما أدى إلى ظهور ووجود جيوب عرقية عالمية تعبر الثقافات وحدود الدول. وإن تجربة دراسة الشتات الكلاسيكي مع تحديد خصائصها الأساسية وخصائص المجموعة يصعب تمديدها لتشمل دراسة العمليات الجديدة وإن المزيد من المجموعات الوطنية تقع خارج أنظمة الإحداثيات الراسخة المعتمدة عند النظر في النماذج المثالية على الرغم من أنها تحل في الأساس نفس المهام الإعلامية والاتصالية والأيديولوجية للبقاء والتكيف في البيئة الجديدة ولذا فإن الأحكام المتعلقة بماهية الشتات التي صيغت فيما يتعلق به كلاسيكيا أو تاريخيا تتطلب فهما جديدا في سياق العولمة وصنع حيز اقتصادي واحد.
الاستخدام العلمي لمفهوم كارثة الشتات يربط ظهور مثل هؤلاء المغتربين بتفكك تشكيلات الدولة الكبيرة المؤدية إلى تغيير في الحدود السياسية كأساس لاختيار اللجوء المأساوي والتي عبرها يتترجم الشتات على انه ليس حركة الناس عبر الحدود بل حركة الحدود نفسها لتتمثل بصورة الشتات في الجحيم, على النقيض من الشتات التاريخي أو العمل المألوف بالفعل، فهو يحدث ألان نتيجة للتغيرات الحادة في النظام السياسي وخلافا لرغبات الناس وتلك مسائل أكثر تعقيدًا من الشتات ذاته.
وإن المهمة الاهم في الشتات هي المشاركة النشطة في الحفاظ وتعزيز الثقافة الروحية لشعوبهم في زراعة التقاليد والعادات الوطنية وفي الحفاظ على الروابط الثقافية مع وطنهم الام، ولذا يكتسب عامل مثل الحفاظ على اللغة الأم أهمية خاصة لأنه هو من يكرر الثقافة الوطنية ويؤثر فقدانه على المجال الروحاني للمجتمع العرقي، وفي حالة عدم وجود مسافة ثقافية جدية بين الشتات والمجموعات العرقية الفكرية وإذا لم تكن هناك علامات أخرى توحده فإن تفكك الشتات نتيجة الاستيعاب أمر لا مفر منه. فلذلك نؤكد إن الوظيفة الرئيسية للشتات هي الحفاظ على الهوية العرقية أو الشعور بالانتماء إلى عرق معين مما يتجلى خارجيا في شكل اسم ذاتي أو عرق، ومن الأهمية بمكان بالنسبة للشتات هو وظيفته لتحقيق الحماية الاجتماعية لأفراده وحماية حقوقهم والحصول على ضمانات وأمن وفقا لإعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
والشتات هو مجتمع متميز ثقافيا يقوم على فكرة وجود وطن مشترك وروابط جماعية مبنية على هذا الأساس حسب التضامن الجماعي والموقف الواضح تجاه الوطن وإذا لم تكن هناك مثل هذه الخصائص فلا يوجد أي شتات لانه نمط من أنماط السلوك الحياتي وليست حقيقة ديموغرافية قاسية وهذه هي الارتكازة التي تختلف عبرها ظاهرة الشتات الحديث عن بقية انواع الهجرة الروتينية. ومن السمات المميزة للشتات الحديث ضرورة وجود وصيانة الذاكرة الجماعية والأفكار أو الأساطير حول الوطن الأم والتي تشمل الموقع الجغرافي والنسخة التاريخية والإنجازات الثقافية والأبطال الثقافيين والاعتقاد الرومانسي لموطن الأجداد باعتباره موطنًا وموقعًا مثاليًا حيث يجب أن يعود أفراد الشتات أو أحفادهم عاجلاً أو آجلاً.