ولاية الفقيه والمركزية التسلطية
شبكة النبأ
2018-03-14 06:35
إن تكريس مفهوم مركزية الدولة يأخذ في أحيان كثيرة طابعاً سلطوياً يتقنّع بمؤسسة أو مؤسسات هي في الحقيقة تمثل ظلاًّ وعمقاً لمشروعية المركزية الادارية، الأمر الذي يعني أن ردود فعل تجاه التسلط المركزي قد تحدث، خصوصاً لو اتخذ التسلط شكلاً من أشكال قمع الحريات ومصادرة الآراء الناقدة أو المعارضة بشكل عنفي.
ولكن حين تتلبس المركزية قميصاً دينياً تخيط أزراره مؤسسة لن تسمح بالنقد مطلقاً؛ فإن القلق هنا يكون متزايداً بدرجة أكبر من القلق الذي يصاحب الأشكال الأخرى للأنظمة؛ وذلك لأن حضور الدين في الذهنية البشرية يأخذ عدة مسارات واهمها توفير الطمأنينة الداخلية للفرد الانساني، فكيف إذا صُدِمَ الانسان بأن مصدر طمأنينته تحول إلى نظام يقمع الانسان الذي خلقه الله "في أحسن تقويم"؟
في النظام الإيراني الحالي، والذي بدأ منذ عام 1979 حين أسقط رجل الدين (الخميني) نظام الشاه (بهلوي) وأعلن قيام نظام ولاية الفقيه وإعلان قيام الجمهورية الاسلامية؛ بدأت بعد فترة قصيرة من إحكام نظام ولاية الفقيه قبضته على السلطة ؛ تجسدت المركزية بشكل أخذ سلماً تصاعدياً نحو الديكتاتورية والهيمنة، والدخول في لعبة الصراعات الدولية، حتى بدأت تنشأ موجات التذمر الشعبي تجاه هذه المركزية المتنامية والخانقة، حيث وصل التذمر إلى الذروة أيام الصراع الانتخابي بين المحافظين الذين يمثلون جناحاً مقرباً من المؤسسة الأولى (الولي الفقيه)، والاصلاحيين المنادين بتغيير الأوضاع وإصلاحها.
وقد شملت دائرة المناداة بإصلاح الأوضاع مجموعة من العلماء التي وجدت أن الاستبداد صار صريحاً تحت عنوان الدين والفقه، وهذا النوع من الاستبداد يعد أسوأ من الاستبداد السياسي القائم على مصالح الأحزاب والإيديولوجيات المتنافرة؛ لأنه ــ كما قلنا ــ يمثل العمق الأكثر تأثيراً على النفس البشرية وهو العمق الديني.
وقد تصل المركزية التسلطية إلى درجة نسف القيمة الدينية في حال كانت معارضة وناقدة لتوجهاتها، كما حصل مؤخراً مع السيد حسين الشيرازي نجل المرجع الديني السيد صادق الشيرازي حين هاجم أفراد تابعين لاستخبارات النظام الإيراني السيارة التي كانت تقل السيد المرجع ونجله وقاموا بتوجيه الإهانات واقتياد نجل المرجع بطريقة أثارت استياء عامة الناس الذين لم يعودوا يستغربون مثل هذه التصرفات بعد أن شاهدوا العنف السلطوي أيام الصراع بين المحافظين والاصلاحيين، حيث تجلى الاستبداد بكامل معناه ممثلاً بـ "حصر الفرد الحاكم لسلطات الحكومية كلها في يده أو في يد من يرتضيه".
والحال أن النظام الإيراني وإن استند ظاهرياً إلى الفقه؛ فإنه يمارس التسلط وفق تغييب لكل من ينادي بطرح بديل عقلاني ينطلق من الفقه لمعالجة الثغرات الكبيرة التي سببها الاتكاء غير الناضج على الفقه، غير أن التغييب يتم بصور لا تختلف عن الصور العنفية التي مورست ضد المعارضين لأنظمة الديكتاتوريات التي حكمت العالم يميناً ويساراً، فالمهم هو تعزيز النجاح القومي وإيصاله إلى المنافسة العالمية على النفوذ وإن كان ذلك التنافس يتطلب دعم بعض الحركات التي تنتمي عقائدياً للسلفية التكفيرية على حساب الثوابت الشرعية التي يدعي النظام أنه حارسها الأمين، والحارس يتمثل بشخص يكون الكل في الكل معتمداً على من يقدمون فروض الطاعة في الداخل والخارج، وفروض الطاعة تتنوع بين ما هو سياسي واقتصادي وغير ذلك، حتى وان امتد إلى الجانب الاجتماعي الذي قد يكون مخالفاً على مستوى العقائد، وهنا قد يكون تعارضاً مع فحوى الآية الكريمة "لكم دينكم ولي دين"، فالمتابع الجاد للصلاحيات التي يتمتع بها شخص الولي الفقيه يلحظ حالة الهيمنة على كافة المقدرات المتعلقة بشؤون الناس على مختلف توجهاتهم سواء كان ذلك داخل البلد أو خارجه، وهذا فضلاً عن كونه غير منطقي؛ فهو أيضاً على خلاف ما هو التعارف عليه من التسامح الديني وخصوصاً مع الآخر المختلف الذي يمارس النقد بأشكال لا تتعدى التصريح بالرأي وبسلمية.
لا مكان للنقد مهما كان سلمياً ومشخصاً لثغرات النظام طالما أن حلم الوصول إلى قوة عالمية مهيمنة هو السائد على حساب معيشة المواطنين في الداخل، يقول الشيخ المحقق (محمد جميل حمود العاملي): " فكل نظام لا يعطي الحقوق لمواطنيه سيهتـز وسيزول، فالحاكم الديني لا يجوز له ان ينسلخ عن المفاهيم الدينية الدالة على الرأفة والرحمة والشعور مع الآخرين، فعلى الحاكم تأمين فرص العمل للعاطلين عنه وإسباغ السلام عليهم لا ان تكون لغته الدائمة الحرب والقتل والحبس والجلد والتخوين"
العالم يتطور، والمتغيرات من حولنا تتسارع؛ لذلك لا بد من الالتفات إلى قضية جوهرية وهي الإيمان بالمختلف ومحاورته، وأن القمع مهما تعددت أساليبه وأشكاله لن يقدم شيئاً ذا فائدة بقدر ما سيزيد من حالات التذمر وردات الفعل تجاه الدين والتدين بصورة عامة.