مركز الامام الشيرازي ناقش دور خيرية الصلح في ادارة الصراعات

مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

2023-08-27 08:07

تحرير: حسين علي حسين

ضمن نشاطاته المستمرة، عقد مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث حلقة نقاشية جديدة في ملتقى النبأ الأسبوعي تحت عنوان (والصلح خير.. في إدارة الصراع وبناء التفاهم)، حيث شارك عديد من الباحثين والأكاديميين في مداخلاتهم حول الورقة التي قدمها الباحث في المركز محمد علاء الصافي، والتي جاء فيها:

نص الورقة:

الصلح لغة: الصلاح هو ضد الفساد، وأصلحتهُ فصلح وأصلح، وهو الخير والصواب، والصلح اسم منه وهو التوفيق، وأصلحت بين القوم وفقت، وتصالح القوم واصطَلحوا، وهو صالح للولاية، له أهلية القيام بها، وأصلح الدابة أحسن إليها فصلحت.

الصلح اصطلاحاً له تعريفات عديدة منها:

– الصلح هو عقد يدفع النزاع ويقطع الخصومة.

– وهو عقدٌ يحصل به قطع المنازعة.

– وهو عبارة عن معاقدة يرتفع بها النزاع بين الخصوم، ويتوصل بها إلى الموافقة بين مختلفين.

– والصلحُ هو لرفع نزاعٍ أو خوف وقوعه.

وبالنظر إلى التعريفات السابقة، يرى أنها تدور حول معنى واحد، ألا وهو رفعُ النزاع، وقطع الخصومات، ويتبين لنا أن الصلح هو عقدُ مرضاة، يُصبح لازماً بعد انعقاد الصلح. وكذلك أفادت كلمة عقد: أن كل طرف يكون على بينة ممّا سوف يتنازل، وما سيقضي له أو عليه.

الصلح من المحاسن العظيمة في الشريعة الإسلامية، وقد تضافرت النصوص في الحث على الصلح بين الناس، والترغيب فيه، فالإصلاح بين الناس من العبادات الجليلة، كما أن من مقاصد الشريعة تحقيق المودة والألفة بين الناس.

وقد بين الله فضل الإصلاح بين الناس، فقال تعالى: “لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا“النساء 114. وهنا قد حثت الآية الكريمة على الإصلاح بين الناس، وبينت أن من يقوم بهذا العمل احتساباً، فسوف يؤتيه الله ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً، ويفهم من ذلك أن في الصلح خير ٌ ومنفعة.

لا يختلف اثنان بأن الصلح أمر محبوب ومطلوب لفض الخلافات وإصلاحها، لأن النفس السليمة ميالة إلى السلم والعيش بأمان فلا غالب ولا مغلوب، والعيش في دوامة الخلاف وإجبار الآخرين على الدوران في فلكها هو من ديدن النفس المريضة، من هنا كان الصلح تثبيتاً لحق وإزالة لفساد، (فالصلح كل ما يزيل الفساد فهو ضده، فإذا كان معيوبا أصلحه، وإذا كان ناقصا أتمّه، وإذا كان قبيحا أحسنه، وهكذا)، حيث يدخل الصلح في صميم السلم المجتمعي وهو مطلب إسلامي، إذ: (لا يخفى أن الإسلام في بنيته هو دين التعايش ودين الواقع المعاش، بمعنى أنه ينظر إلى الأمور بواقعية وينظر إلى الفرد من منظار العِشْرَة مع الآخر، فهما اللَّذان يكوِّنان المجتمع وما يترتب على هذه العشرة وما تتطلبه من أحكام وأسس يمكن ان تقوّمه نحو الأفضل والأقل سوءاً).

ولأن الصلح حالة لاحقة مترتبة على خلاف سابق، فإن من الطبيعي أن يمر في مراحل بعد أن يصل المتصالحان إلى مرحلة النضوج والوقوف على قاعدة الصلح والانطلاق نحو البناء والإعمار، وقد ميّزها الفقيه محمد صادق الكرباسي في كتابه "شريعة الصلح" بثلاث مراحل هي: (1) مرحلة التفاهم لوضع بنود الصلح، (2) مرحلة تثبيت بنود الصلح والتوافق عليها، (3) مرحلة تطبيق بنود الصلح.

الأخلاق وتقريب الصلح

وفي كل المراحل وبخاصة الأولى منها تدخل الأخلاق عاملاً مهما في ترطيب أجواء الصلح وتنقيتها وتمهيد النفوس لتقبل البنود وتطبيقها والعمل بمقتضاها لخير الطرفين، وربما يتطلب الأمر التنازل الحبي من أحدهما للآخر من أجل أن تستمر الحياة وعدم وضع العصي في عجلة الصلح، وخلاصة الأمر أنَّ: (الصلح صلحان، صلح على قاعدة الخلاف الذي نشأ على تفاهم سابق لإنهائه، وصلح على قاعدة التوافق لتفاهم جديد، وكلاهما أمران مادِّيان يدوران على المعاملات البينيَّة، فالأول لإزالة الخلاف الواقع، والثاني لدرء الخلاف اللاحق، وهما أمران قضى الشرع بصحتهما وقنَّنهما حسب مصالح الأمة آخذا بعين الاعتبار مصلحة الفرد).

ويقتضي في تنجيز خارطة طريق الصلح بشكل عام الى تحقيق أمور ثلاثة: (1) طيب الخاطر، (2) عدم الغش، (3) عدم مخالفة الشرع، مع التأكيد المبرم: (إنّ الصلح مقدم على الحُكم، بمعنى أن المصالحة مع طيب خاطر مقدّمة على تطبيق القانون بدقته وخصوصياته حيث هو الأسهل أولاً، وفيه طيب الخاطر ثانيا، ولا يستوجب المرافعة إلى القضاء أو غيره ثالثاً) وبتعبير أهل القانون عند المرافعات في قضايا الصلح العمل بـ "روح القانون" المتحرك وليس بـ "نص القانون" الجامد.

شروط الصلح

يشدّد الشرع على التسامح في عملية الصلح بين اثنين وتسهيل الأمور إلى القدر المكن حتى بالتنازل عن الحق الشخصي من أجل سلامة الفضاء الاجتماعي، فإنه يشدد على عدم التنازل عن الحق عندما يكون الخلاف بين بلدين، لأن الحقوق حينئذ تخرج من دائرة الشخصنة إلى دائرة المواطنة، والدائرة الثانية مقدمة على الأولى شرعاً وعرفاً وقانوناً، ولهذا يؤكد الفقيه الكرباسي على أن:

(المصالحة والتفاهم بين دولتين يجب أن لا يكون على حساب الوطن والمواطن ولا على حساب العقيدة والمبادئ، فلا تجوز المصالحة على الاحتلال من طرف الأجنبي)، ولهذا كانت مقاومة الاحتلال أمراً مشروعا أقرته شرائع الأرض والسماء وبنود الأمم المتحدة، فضلا عن إقراره وطنيا وفق شروط موضوعية يقررها قادة البلد المحتل وعلمائه وأعيانه دون غوغائه وسفلته وجهاله.

وحيث حقن الدماء أولى، فإنه: (تجوز المصالحة على رفع الاحتلال إذا انحصر الطريق الأسلم فيه، وإلا سُلك طريق آخر لا يتضرر المُصالح عليه)، ويفترض في مثل هذه المصالحة تقديم مصلحة الوطن والمواطن ومستقبل البلد، من هنا: (لا تجوز المصالحة مع العدو في غير ما هو صالح للوطن والمواطن والعقيدة) كما: (لا تجوز المصالحة إذا أدّت إلى تسليط الكفار على المسلمين)، حتى وإذا تحقق الصلح مع المحتل أو العدو فإنه ينبغي ملاحظة رفع الضرر الحاصل واللاحق، ولهذا: (إذا كانت هناك مصالحة ظالمة أُجريت من قبل من سبقهم على الحكم، وجب إزالتها وتحرير بلاد المسلمين من الأجانب، وتجوز المصالحة بشكل بما يرفع الضرر والحيف والميل).

إذن ما دام قطار الصلح قائماً على سكتي تثبيت حق وإزالة فساد، فإنه لابد من تعبيد الطريق وتوفير سبل سلامة الوصول الى محطة السلم المجتمعي، وهذا يتحقق ابتداءً بتحقيق السلم بين الأفراد حتى تتحقق العدالة الاجتماعية على مستوى القرية والناحية والقضاء والمدينة والقطر، واذا تحقق الأمن المجتمعي ازدادت قويت شوكة البلد فعظم في عين القريب وأمن شر البعيد.

استلهمنا عنوان الملتقى الأسبوعي "والصلح خير" من الآية الكريمة في سورة النساء: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ هذه جملة عامة في كل شيء، في الحقوق الزوجية وحقوق الارحام وحقوق المصاهرة وحقوق الجوار وحقوق المعاملة، كل شيء، الصلح خير، وهنا لم يقل: الصلح بينهما لإفادة العموم، يعني أن الصلح في كل شيء خير من عدمه، ومن المعلوم أن الصلح قد يتصور الإنسان أن فيه غضاضة عليه، فلهذا قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، يعني أنه عند النزاع وطلب المصالحة تكون الأنفس شحيحة، كل نفس تريد أن يكون الصلح في جانبها وفي مصلحتها، وكأن الله يقول: دعوا هذا الشح الذي أحضرته الأنفس واطلبوا الخير في المصالحة، ولهذا نجد أنه إذا تعقدت الأمور بين شخصين وأردنا أن نصلح نجد أن كل واحد منهما يركب رأسه ويأبى أن يتنازل إلا بعد جهد جهيد.

الصلح مسألة عقلية

فالصلح والإصلاح ينبع من الانسان المحسن المعطاء وليس من الانسان المسيطر عليه من الشهوات، كذلك أن مسألة الصلح والإصلاح مسألة عقلية، فالإنسان الذي يفضل النزاع على الصلح والتفاهم في حل القضايا الخلافية او المشتركة هو غير عاقل وهذا وفق قاعدة فقهية "درء المفاسد أَولى من جلب المصالح"، المراد بدرء المفاسد دفعها ورفعها وإزالتها، فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة فدفع المفسدة مقدم في الغالب، وذلك؛ لأن اعتناء الشرع بترك المنهيات أشد من اعتنائه بفعل المأمورات لما يترتب على المناهي من الضرر المنافي لحكمة الشارع في النهي.

ولهذا فإن الذين يدخلون في نزاعات لأي سبب كان، وبغض النظر عن كونهم على حق أو العكس، ينشغلوا بأمور النزاعات التي تعمل على تأخّرهم بسبب حدوث الاضطرابات والتهيئة المستمرة لإدامة مستلزمات النزاع حتى لا يتعرض للهزيمة سواء كانت فعلية أو معنوية.

لهذا فإن النتائج التي تتمخض عن النزاعات هي الفشل المستمر للأطراف المتنازعة، وعلى العكس من ذلك تماما، حينما يتم تجنّب النزاع والابتعاد عنه قدر الإمكان، فإن هذا النأي بالنفس عن النزاعات يكون سببا مهمّا لحدوث التقدم المستدام للأمة أو الدولة أو المجتمع، فمن يلجأ إلى النزاع يفشل ويتأخر، ومن يتحاشى النزاع يتقدم لسبب واضح، إنه لا يهدر وقته ومهاراته وطاقاته وممتلكاته وموارده دونما طائل، وهذا هو ديدن الحكماء والعقلاء من الحكام أو المسؤولين عن إدارة الدول والمجتمعات.

أهمية التقليل من النزاعات

الإمام الراحل، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول عن هذا الموضوع في كتابه القيّم الموسوم بـ (لكي لا تتنازعوا): (لقد وجدتُ في حكايات الذين تنازعوا ففشلوا، وحكايات الذين توحّدوا وتعاونوا فتقدّموا، دروساً وعبراً لمن يريد التقدم ويخشى التأخر، ووجدت في قصص هؤلاء وأولئك عاملاً مهماً في التقليل من الخصومات والنـزاعات بين أبناء الأمة الواحدة).

اختلاف الآراء ليس بالضرورة يقود إلى تضارب المصالح، ولا يؤدي إلى تناقض الأهداف والإرادات، وليس من المحتّم أن تؤدي الآراء المختلفة إلى الاقتتال أو الحروب، ولذلك لا يمكن إجبار أحد على تغيير رأيه بالقوة، بل يجب أن تكون هناك قناعة وفهم في حالة تغيير الرأي، وإلا فإن إكراه الناس على تغيير آرائها لا يصب في صالح أحد.

وهناك قضية أخرى مهمة تتعلق بموضوعنا هذا، موضوع النزاعات، حيث على الإنسان الذي يدخل في النزاعات مع آخرين أن يبحث عن الأسباب التي تقود إلى التصادم مع الآخرين، وعليه أن يسأل نفسه، ما هو السبب الذي يثير التنازع بينه وبين الآخرين، هل هو الجهل؟ أو هو التكبّر، وفي حال أجاب نفسه بالشكل الصحيح والصادق، عليه أن يعالج الأمر في ضوء الإجابة الصادقة التي يحصل عليها.

وللاستزادة اكثر عن هذا الموضوع فُتح باب النقاش امام الأساتذة الحاضرين والمتابعين عبر مواقع التواصل الاجتماعي من خلال السؤالين الآتيين:

السؤال الأول: كيف نفهم خيرية الصلح؟

السؤال الثاني: ما هي وسائل الصلح في إدارة الصراعات واحتوائها؟

المداخلات

الباحث حسن كاظم السباعي:

بما أن إرادة الصلح صادرة عن رغبة طرفين أو عدة أطراف؛ فهذا يعني أن الخير قد عمَّ الجميع دون أي استثناء، ذلك لأنه لو كان هنالك طرف لا يريد الصلح فسوف لا يبقى أي داع أو مجال لطرح هذا الصلح.

فالصلح ليس مبادرة من جانب دون آخر، أو تصرف فردي أو صادر عن أقلية أو حتى أكثرية مطلقة.

ولا بأس بنقل هذه القصة الطريفة عن التاريخ حيث ينقل عن هشام بن الحكم إنه تناظر هو وبعض المخالفين في الحكمين بصفين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، فقال المخالف: إن الحكمين لقبولهما الحكم كانا مريدين للإصلاح بين الطائفتين.

فقال هشام: بل كانا غير مريدين للإصلاح بينهما.

فقال المخالف: من أين قلت هذا؟

فقال هشام: من قول الله في الحكمين: "إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، فلما اختلفا ولم يكن اتفاق على أمر واحد ولم يوفق الله بينهما علمنا أنهما لم يريدا الإصلاح".

وفيما يرتبط بوسائل الصلح في إدارة الصراعات واحتوائها فإن اهم وسيلة هو وجود وسيط يكون مقبولا من قبل جميع الأطراف، ولابد أن يكون لهذا الوسيط امكانيات دبلوماسية او روحانية أو لديه حكمة يستطيع من خلالها أن يزيد رغبة أطراف الصراع على الصلح.

وبالإضافة إلى ذلك؛ فكما أن لحالة "الحرب" قوانينها وظروفها التي تلقي بظلالها على كل شيء مما يبدل ويغير وسائل الحياة والراحة إلى وسائل الدمار والموت -كما حصل مثلا في الحرب العالمية الثانية حين تحولت مصانع الألعاب إلى مصانع لصنع السلاح والقنابل! كذلك في حال الصلح يتحول الأمر إلى نقيضه تماما حيث تتحول الأمور أو الأشياء المنتجة للصراع والشجار إلى وسائل الأمن والوئام، فتتحول ساحات القتال مثلا إلى متاحف للعبرة لعدم الحاجة لاستخدامها من جديد، أو تستبدل الرموز التذكارية الدالة على العنف أو مفهوم معاكس يرمز إلى السلم واللاعنف، كما هو ملاحظ في شعارات بعض الفئات التي بدلت صورة السلاح إلى غصن أو ما شابه.

من هنا وبناء على ما سبق يمكن أن نستخرج من قوله تعالى "والصلح خير" نظرية أولوية الأولويات في كل صراع محتمل؛ وذلك إن أخذنا عبارة "الخير" هنا بمعنى التفضيل حيث "الصلح" هو أفضل خيار حين بروز أزمة، بالإضافة إلى معناه المتداول أنه خير ومبارك في كل الظروف.

الاستاذ عدنان الصالحي، مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

اعتقد ان موضوع الصلح متشعب وواسع جدا وقد ينطبق على مفهوم المجتمع وعلى مفهوم السياسة والى جوانب اخرى، ولكن بشكل عام ما يوحي الى الذهن انه موضوع ناتج عن صراع الحضارات او صراع المجتمعات.

باعتقادي ان تحقيق الصلح هو إرضاء النفوس وإلا لا يمكن أن يُقام الصلح بين نفوس تبقى متأزمة بعضها مع البعض الاخر، اذا لم تقتنع النفوس المتخاصمة بأهمية الرضا في داخلها حتى وإن كان هنالك رضا ظاهري شكلي لا يبقى طويلا، فعملية ارضاء النفوس دون ضغوط من اجل الصلح يجب ان تكون نابعة من تلك الاطراف على ضرورة التعايش والصلح، وأن تكون كلاهما تقتنع بالتواصل الأفضل لإدامة الحياة بينهما بهذه الطريقة.

أما إذا كان الصلح شكليا أشبه بالبرنامج الذي يتم تصويره فإنه لن يدوم طويلا، تتم المصالحات في اغلب الأحيان بين اشخاص أو بين جهات، قد تكون وقعت بينهما خصومات ادت الى ان يتعرض قسم منهم الى ضرر والآخر هو مسبب الضرر، فكيف يمكن ان تعالج هذه الأمور، هل يتم ذلك بأسلوب عفا الله عما سلف ام ان هناك طريقة اخرى لمساواة الأمور، هنا يأتي دور العدالة وقضية عدم الإفلات من العقوبة.

فيشعر المتضرر بأن العقوبة سوف تطول كل من تسبب له في ضرر مادي، او معنوي وكذلك يجب ان تكون هنالك قناعة بان العدالة موجودة ومطبقة حتى لا تتكرر مثل هذه الحالات، بالنتيجة يملك المتضرر العفو عمن الحق به الضرر او ترك القرار لأولي الأمر سواء كان حاكما شرعيا او رسميا او عرفيا، يمنحه المتضرر امكانية اتخاذ القرار، وفي نفس الوقت يجب ان تكون هناك جهة تعوض المتضرر سواء ماديا او معنويا حتى يشعر بأن الآخرين قد شعروا بما لحق به من ضرر وحيف.

في هذه الحالة يمكن أن تسوّى الأمور بهذه الطريقة، وبعدها يصبح الحديث عن قضية الصلح وعن قضية إرضاء النفوس في المجتمع أمرا ممكنا، أما حالة القفز على المظلوميات والقفز على الأضرار ومحاسبة الجاني قد يرجعنا إلى نقطة الصفر، لأن ما حدث بعد 2003 في العراق قضية واضحة جدا، لم تحدث عدالة انتقالية وقد يكون بعض الأشخاص لحق بهم ضرر معنوي أو مادي ولكن لم يُحاسَب الكثير من القائمين بالضرر.

ربما تمت محاسبة بعض الجهات التي ترتكب جرائم، ولكن قد يكون هو الحكم ويستعيد المناصب مرة أخرى، ولذلك كان الجاني والمجرم أمام عين الضحية مرة أخرى، في جبهة الحياة سواء اجتماعية أو حكومية، بالنتيجة بقيت هنالك مشكلات أدت إلى الذهاب باتجاه العنف، سواء كان هذا العنف ممنهجا، عرقيا أو سياسيا، وهذا ما حدث في العراق، ولو كانت هناك جهة تتبنى موضوع الظلم بشكل واضح والعدالة الانتقالية ورعاية هذا الملف لرأينا عدم الافلات من العقوبة بشكل مسبوق.

ان قضية الصلح قضية واسعة جدا وتحتاج الى قراءة حقيقية وصحيحة، والبدء أولا في انصاف الضحية، سأل بعض الخبراء في مؤتمر للأمم المتحدة متخصص بالإرهاب عن كيفية مكافحة الارهاب وكيف يمكن مكافحة الارهاب والتطرف، وكانت هناك كثير من الجهات الامنية الخاصة والتعاون الاستخباراتي لمعالجة ظاهرة الارهاب والتطرف، لكن كان هناك خبير قال لا يمكن مكافحة الارهاب بالطرق الأمنية وحدها لأن الارهاب والتطرف هي مظلومية في داخل النفوس تجعل من الانسان المظلوم مادة اولية للارهاب فيقع بأيدي الذين يجندونه للارهاب.

فانظروا الى داخل النفوس ستجدون هنالك مظلومية جعلت هؤلاء يلتحقون بإرهابيين يجندونهم بأفكار أخرى. بالنتيجة توجد في داخل النفوس مظلوميات، وإذا لم تحل لن يكون هنالك صلح حقيقي في كل الميادين.

الباحث حيدر الأجودي، مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

إن الناس في هذه الحياة على اختلاف ألوانهم وصفاتهم، ولغاتهم وتباعد أهدافهم عن بعضهم البعض في كل أرجاء المعمورة، لم يُعرَف عن أحد أنه لم يدخل في تنازع أو في خصومة لأن الطبيعة الإنسانية أو الطبيعة الغريزية للإنسان تحمله على أن يكون منتصرا على الآخر، وأن يكون هو صاحب السطوة على خصمه أو على الطرف المقابل، لكن جاء الإسلام في هذا الأمر وقد أدار قضية الصلح إدارة سليمة، وجعلها تتخطى الصراعات والنزاعات فيما بين الآخرين.

فلو عدنا إلى ما قبل الإسلام لوجدنا أن هناك حروب وصراعات كانت تحدث على أتفه وأبسط الأمور، مثلا إذا أخذنا حرب البسوس فقد استمرت لأربعين عاما من أجل ناقة، أو حرب داحس والغبراء حدثت بسبب سباق خيل، فلم يكون هناك إدارة صراع سليمة تصل إلى الحل السليم بين الأطراف المتصارعة، حتى جاء القرآن الكريم: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، سورة الحجرات، الآية 9.

إذا فإن الصلح والإصلاح يحتاج إلى إدارة، والقائم بالإصلاح يجب ان تتوفر فيه ضوابط وشروط حتى نحصل منه على نتيجة مثمرة للصلح والاصلاح وإلا سينقلب وبالًا أو ينقلب بالضد مما نريد، فيجب ان لا يكذب مثلا، وان يبتعد عن الانانية، وأن يستمع للآخرين وغير ذلك من الضوابط التي ينبغي أن يتمتع بها المصلح أو القائم بالإصلاح.

المجتمع الإنساني أو الإسلامي حين قام ارتكز على قاعدة جوهرية أساسية وهي قاعدة ثابتة مستوحاة من الآية الكريمة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). مقتضى قاعدة الإخاء تبرز فيها قاعدة الصلح، ويكمن في تطبيق قاعدة الإخاء تكون قاعدة الصلح مطبقة على الجميع، تسقط فيها كل العداوات والبغضاء والأحقاد، بمجرد أن يتم اللقاء بين الطرفين سوف يتم الصلح والإصلاح في المجتمع.

وقد تطرقنا لوسائل الإصلاح، ومن المهم أن يتمتع القائم بالإصلاح بالصفات الحسنة الجيدة، ويمتلك التأثير على الآخرين وإقناع الطرف الآخر بوجهة نظره وآرائه.

الدكتور قحطان حسين طاهر، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

الموضوع الذي طرحته هذه الورقة مهم، فطالما احتاجت له المجتمعات، لبناء حياة سليمة قائمة على السكينة والاطمئنان والاستقرار، موضوع الصلح حقيقة شغلت المجتمعات والمفكرين، والفلاسفة منذ بدء الخليقة لأن طبيعة المجتمعات البشرية، دائما ما تتسم بوجود حالات من الخصومات والنزاعات، لذلك شرعت القوانين والأحكام من قبل الديانات السماوية، والوضعية الكثير من المبادئ لمعالجة حالات العداوة والنزعات والخصومة في المجتمعات.

ولعل موضوع الصلح مرتبط بهذه المفاهيم بشكل عام، إن الصلح يعني الخير بما يرتبط من منافع تؤدي إليها تحقيق حالة الصلح في المجتمع، وهذه المنافع يمكن أن نحددها كالآتي:

النقطة الأولى: مدعاة وتثبيت لحالة من التعايش السلمي تسود المجتمع بعد الوصول إلى حالة الصلح الدائم والمتفق عليه بين أطراف الخصومة في المجتمع، سواء كان بين أفراد المجتمع او بين أطراف معينة في المجتمع كأن تكون كيانات سياسية أو جهات اجتماعية إلى أخره.

النقطة الثانية: من منافع الصلح أيضا إشاعة ثقافة العفو والتسامح والمودة بين أفراد المجتمع ومكوناته، على اعتبار أن الناس في هذا المجتمع اذا اعتادوا على نبذ المشاكل ونبذ النزاعات والخصومات واستحضار الحلول بشكل دائم والوصول إلى الصلح، سوف تنتشر ثقافة التفاهم والحوار السليم البناء بين أفراد المجتمع كافة.

النقطة الثالثة: من فوائد الصلح أيضا أنه يؤسس لحالة من الاستقرار والهدوء في المجتمع، يؤدي هذا بطبيعة الحال إلى الاهتمام بالجوانب المشرقة الأخرى في المجتمع، مثلا مشاريع تطويرية، ومشاريع في الصحة، وفي التعليم، لأن المجتمع عندما تسوده حالة من النزاع والخصومة والخلافات، سوف ينشغل عن كل ما هو جيد ونافع، ويركز كل الجهود والطاقات في عملية مواجهة ومجابهة الآخر، على اعتبار إنه ينظر إليه كخصم وخطر يهدد الحياة. بالتالي لابد أن أكون مستعدا كي استجمع كل القوى لمواجهة الخصم.

النقطة الرابعة: القضاء على روح العصبية والقضاء على سلوك العنف والانتقام ما بين الأفراد، بمعنى آخر الصلح يربي النفس البشرية على الابتعاد عن العصبية وسلوكيات العنف والتصادم والشحن الطائفي أو القومي أو الديني أو المذهبي أو اجتماعي، فإذا وصلنا إلى مجتمع مستقر فإن هذه السلوكيات سوف تختفي تلقائيا مع مرور الوقت.

النقطة الخامسة: من منافع الصلح أيضا، إنه يحمي المجتمع من التفكك، والانحلال، والفرقة، لماذا؟، لأن المجتمع الذي يعيش دائما في نزاعات وخصومات وحروب فتجد أنه مجتمع متفكك، يتخلى فيه الناس والأفراد عن مسؤولياتهم الحقيقية، مثلا إذا كان الأب يعيش في حالة حرب سوف يقصر في تربية الأبناء وتوجيههم، ويتصرف فقط بما يخص مستلزمات الحرب والخصومة مع الآخر، بالتالي إذا استطعنا أن نصل إلى الصلح سوف نوفر على المجتمع والمسؤولين جميعا يتفرغون لأعمالهم ومسؤولياتهم ومهامهم الإنسانية والنبيلة.

النقطة السادسة: يوفر الصلح الوقت لمؤسسات الدولة كالمحاكم خصوصا بالنسبة لنا، حيث نلاحظ يوجد لدينا في مناطق معينة من العراق، النزاعات العشائرية تشكل عبءً كبيرا جدا على مؤسسات الدولة القضائية وسواها، ونلاحظ أن الشغل الشاغل لمؤسسات الدولة هو كيف تنهي هذه النزاعات وتسيطر عليها، ومن الممكن أن تشغلها هذه المشاكل عن الاستمرار بالعمران والخدمات وبناء والمشاريع وغيرها. فالوصول إلى الصلح إنه يؤدي إلى توفير الجهد والمال للقيام في مشاريع الدولة.

النقطة السابعة: وهي مهمة جدا حيث يعني الصلح المحافظة على أرواح الناس، والمجتمعات المتخاصمة دائما ما تكون النفس فيها رخيصة الثمن، وبالتالي تسودها حالات من القتل والثأر وعدم حقن الدماء بل تنتشر حالات سفك الدماء إلى درجة خطيرة.

النقطة الثامنة والأخيرة: الصلح يعني رضى الله سبحانه وتعالى، في كتبه وفي آياته وفي كل ما يصدر عن الذات الإلهية، دائما ما يؤكد على أنه الصلح هو يحقق رضى الله وهو غايته سبحانه وتعالى في الأرض لأنه يريد أن يعمّر الأرض ولا يمكن أن تعمر الأرض والناس فيها يتقاتلون، هذا ما يتعلق بالسؤال الأول.

أما ما يخص السؤال الثاني، فهو يتعلق بوسائل الصلح، فإننا نراها بالصورة التالية:

أولا: لابد من وجود وسيط أو ساعٍ إلى الصلح، يمتلك سمات ومؤهلات شخصية غير جدلية، ويكون مقبولا من قبل الأطراف المتخاصمة ليكون وسيطا قادرا على أداء مهمة الصلح بشكل جيد، ويجب أن يكون عادلا وذا غايات نبيلة وإنسانيا.

ثانيا: اقتراح الحلول العادلة، إذ يجب أن يقوم من يتوسط للصلح باقتراح قضايا عادلة تكون منصفة للطرفين، ومرضية ومقبولة من قبل أطراف الخصومة.

ثالثا: أن يكون الصلح وفق الأحكام الشرعية والقانونية المعمول بها، وهذا الشرط مهم جدا، لأن المجتمع قد تسوده ديانة واحدة، مثلا نحن في الإسلام دائما عندما تحصل خصومة يتم التركيز على الأعراف الاجتماعية والقواعد الشرعية، والقوانين السائدة عندما يتم التوصل إلى صلح بين الأطراف المتصارعة.

رابعا: من وسائل الصلح وشروطه أن يتم الصلح بحضور الشهود، لابد من وجود شهود حتى عندما يرتدّ أحد أطراف الخصومة عن موضوع الصلح ويخالف العهد الذي تم التوصل إليه يوجد شهود يشهدون ضده ويكونون ثابتين على هذه الشهادة، وبالتالي يمكن قطع الطريق على كل من يتنصل عن بنود الصلح الذي تم التوصل إليه.

خامسا وأخيرا: أن يتم الصلح بين أطراف العداوة والخصومة بملء إرادتهم، ليتم الصلح بقناعة وإرادة تامة من قبل أطراف الخصومة، لماذا؟ لأنه أي إكراه لأي طرف في هذه الخصومة من الممكن أن يقوم أحد الطرفين بالتظلّم أو الادّعاء بأنه لم يكن مقتنعا بالصلح ومن الممكن العودة مرة ثانية إلى الخصومة وحالة العداوة.

الدكتور خالد العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

حقيقة هذا الموضوع قيم، وعندما نتكلم عن الصلح فإنه ضد العداوة والخصام والصراع، ولا نتكلم عن تنافس أو اختلاف، لأن حالة التنافس حالة طبيعية في حياة الأفراد والمجتمعات والدول، لكننا نتكلم هنا عن أن الصراع حينما يتحول إلى سبب من أسباب المخاطر، التي تؤثر على الفرد أو على المجتمع، بالنتيجة يمكن أن نشبه هذا الصراع كالحريق، فكلما يستمر أكثر وكلما يكبر أكثر سوف تزداد الضحايا والخسائر الناجمة عنه سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى أكبر.

فالصراع بين الرجل والزوجة ينتهي بتفكيك الأسرة، والصراع بين مكونات المجتمع ينتهي بالحرب الأهلية وتفكيك المجتمع، والصراع بين الدول ينتهي بالحروب وهنا سوف تكون الخسائر كبيرة، كما لاحظنا ذلك في الصراع العراقي الإيراني في حرب الثمان سنوات وبالنتيجة كانت الخسائر بالملايين، ومئات المليارات من الأموال.

نلاحظ اليوم الصراع في أوكرانيا، وكيف أدى إلى أمور سلبية للغاية، حتى أن الكل يتكلم عن ان العالم هو أقرب إلى الحرب النووية أكثر من أي وقت مضى، وهذا يعني بأن الصراع هو حالة سلبية في حياة الأفراد وحياة الشعوب، وهذا يجر إلى مخاطر كبيرة.

باعتقادي أن المفردات في القرآن الكريم مترابطة، بعضها بالبعض الآخر، ولذلك ذُكرِت كلمة الخير في الخصام بين الرجل والمرأة، ولكن في موقع آخر يقول الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). لذلك فإن معنى الصلح والخيرية في الأمة إنها ترتكز إلى جانب آخر وهو (جعلناكم أمة وسطا)، ووسطية الأمة هنا معناها الاعتدال، وقد أشار الدكتور قحطان إلى قضية التسامح والاتزان.

الإنسان عندما يكون معتدلا ومتّزنا معنى ذلك إنه يمتلك منظومة قيم صالحة وهذه المنظومة هي المنظومة القيمية الخيرية للفرد، وهي نفسها المنظومة الخيرية للأمة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى عندما أصبحت هذه المنظومة منظومة القيم الخيرية للأمة هو الذي أعطاها قيمتها: (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). بمعنى عليكم الالتزام بهذه المنظومة هذه الوسطية وهذا الاعتدال وهذه الخيرية التي تستحقونها أنتم هذا هو الخير لتكونوا شهداء على الناس، أما خلاف ذلك فأنتم لا تستحقون أن تكونوا شهداء، يعني حجة على الناس.

هذا هو معنى خيرية الصلح، وبالنتيجة فإن الصلح هو الخير، والمصلح هو الذي يمارس عملية إطفاء الحريق، لذلك تجد أنك عندما تبادر بعملية الصلح فإنك تطفئ الحريق، إذا كان الحريق داخل أسرة فإنك تحافظ عليها، وإذا كان الحريق داخل مجتمع سوف تمنع هذا المجتمع من الدخول في حرب أهلية ونزاعات يمكن أن تجعله يفقد استقراره الأمني والسياسي والاجتماعي. أما إذا كان إطفاء الحريق يتعلق بدولتين حتى وإن كانتا بعيدتين عنك، فأنت سوف تفتح آفاق التعاون معهما.

وحتى أجيب عن السؤال الثاني، أعتقد أن قضية السير في طريق الصلح يمر في هذه القضية، ونعني بذلك استعداد النفوس باتجاه الصلح، وهذا الأمر يحتاج إلى متطلبات، وذكرت هنا مضادات الصلح، فما هي مضادات الصلح؟ وما هي الأمور التي ممكن أن تحول دون أن يأخذ الصلح طريقه الصحيح، أنا أعتقد أن أول هذه المضادات وجود الأطماع سواء كانت هذه الأطماع فردية أم اجتماعية، سياسية أم غير سياسية.

فعندما تكون هنالك أطماع، فهذه الأطماع سوف تدفع الطرفين نحو الخصومة، لذلك من الصعوبة أن تكون هنالك حالة إيجابية للتعامل مع الصلح، ونلاحظ نحن في العراق أن القوى السياسية بعد سنة 2003 لعبت على وتر الخصومة، لأنها تجد فائدة في ذلك ولديها أطماع وهي مستفيدة من حالة الصراع.

حتى في العلاقة بين الزوجين، حين تكون هناك أطماع، مثلا تريد الزوجة أن تتخلص من زوجها أو العكس الزوج يريد أن يتخلص من زوجته، فبالنتيجة مهما كانت جهود المصلحين فإنها سوف تفشل لأنها أصلا لديها حالة طمع بالانتصار وليس بالصلح، فوجود الأطماع يزيد الحرائق ويزداد الصراع.

قال الإمام علي (عليه السلام): (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع). فالأطماع هي أول مضادات الصلح.

ومن مضادات الصلح كما أعتقد هو الجهل بالعواقب، عندما يكون طرفا الصراع جاهلين بالعواقب، فاعتقد أن هذا الأمر سوف يقودهما إلى تفضيل حالة الخصام والصراع، ولذلك هناك قول للإمام علي (ع): (من تبصر في العواقب سلم من النوائب) لذلك فإن التبصر في العواقب مهم، لذلك نلاحظ العواقب اليوم حتى على مستوى الأفراد أو المجتمعات او على مستوى الدولة، لذلك لابد من وجود الرؤية الاستراتيجية، لابد من وجود عقلية استراتيجية، فالعقل الذي يدير الأسرة أو المجتمع أو الدولة يجب أن يكون عقلا استراتيجيا حتى يتبصّر بالعواقب وإلا أنت تريد أن تقول بهذا الفعل حاليا وأنت لا تعرف ماذا سينتج عنه غدا، مثلا شخصين يلتقيان في الشارع يختلفان فيما بينهما فيسحب أحدهما السكين وقتل المقابل، من دون تبصر بالعواقب، ومن دون إدراك لما سيحدث لاحقا من عواقب، بالنتيجة بعد أن قتله ودخل السجن ودفع الفصل أو الديّة، حينئذ يدرك عواقب ما قام به، وأحيانا ربما هو يفقد حياته بسبب عدم التبصّر بالعواقب.

أيضا وجود المحرضين ضد الصلح، هذه أيضا من مضادات الصلح، فإذا كان هنالك حالة داعمة للصلح، ففي نفس الوقت هنالك محرضين، حتى داخل الأسرة في بعض الأحيان هناك من يحرض الأب أو الأطراف الذين يحيطون بالزوجة، كالأصدقاء أو العائلات أو حتى أناس بعيدون عنهما، هم أناس محرضون يأججون نار الخصام بينهما ويمنعون الصلح بينهما، كذلك وجود من يستمع لهذا المحرض هذه أيضا مشكلة تواجه الصلح.

لذلك نلاحظ في الكثير من العلاقات والمشاكل الدولية تُحاك مؤامرات كما أن الحرب العراقية الإيرانية حيكت في واشنطن، ولكن في نفس الوقت كان هناك استعداد للقيادة العراقية أن تدخل في هذه الحرب، فوجود المحرض ووجود من يستجيب للتحريض مشكلة حقيقية.

كذلك وجود منظومة قيمية غير داعمة للصلح، هناك قول للإمام علي (ع): (وكان الظلم فخرا ثم ضعفا)، هنا يصف حالة مجتمع، حيث يصبح الظلم فيه فخرا، ثم يصبح ضعفا، فعندما تكون منظومة القيم للمجتمع غير مساعدة، ففي مثل هذا المجتمع عندما يحدث صراع ما فإن الأقوى هو الذي يحاول أن يكسر إرادة الطرف الآخر، وليس من يمد الجسور معه ويحاول أن يستجيب للرأي، هذه هي مضادات الصلح.

أما محفزات الصلح، فهنالك محفزات للصلح أيضا، ذكرها بعضها الدكتور قحطان ومنها وجود الوسيط، فعندما يكون هناك وسيط جيد ومحترم من قبل طرفي الصراع، فهذا هو الذي سوف يقرب وجهات النظر بين الطرفين، لكن الله سبحانه وتعالى في الصراع بين الزوج والزوجة لم يقل حكم من أهله، ولا من أهلها فقط، وإنما حكم من أهله وحكم من أهلها، فالحكم هنا عادل، بمعنى حين يكون الحكم منها وبها سوف تطمئن، وكذلك الزوج حين يكون الحكم منه وبه سوف يطمئن أيضا، وهذا الأمر يمكن أن نطبقه حتى على الصراعات بين المجتمع.

كالصراعات بين المكونات والصراعات بين الدول، لذلك نلاحظ أن الأمم المتحدة عندما تختار وسيطا فإنها دائما تختاره جيدا ويحظى بالاحترام.

لابد من وجود مصلحة في الصلح بين الطرفين، أي يعود الصلح بمصلحة على الطرفين، وغياب الصراع بينهما، في حين هناك صلح يلغي مصلحة الآخر وهناك طرف يريد أن يربح كل شيء والآخر يخسر كل شيء، هذه القاعدة تجعل الصراع يتأجج، لذلك لابد من وجود المعادلة التي تسمى (واحد واحد) أي يربح كلا الطرفين من الصلح، وهو أفضل من عواقب استمرار الصراع.

نفس الوقت يجب أن يقوم الصلح على عدم شعور احد الطرفين بالظلم كما يحدث في الصلح بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لهذا هكذا صلح أو سلام هو سلام غير عادل، فالطرفان يجب أن يشعرا بوجود مصلحة في الصلح، ولا بد من وجود تبصّر استراتيجي من قبل طرفيّ النزاع، لذلك أخواننا في المحاكم الشرعية يلاحظون في مطلق الأحوال بعد تتطلق الزوجة والزوج فتلاحظ أن الزوجة نادمة على قرار الانفصال والزوج كذلك، وكثير منهم يندم على ذلك، لكن هذه العواقب كان يجب التفكير والتبصر بها قبل اتخاذ قرار الانفصال.

بعد أن يقع الفأس في الرأس لا عودة للأمور، فحين تقطع الجسور لا يمكن التراجع بعد ذلك، لهذا يجب التفكير بعدم قطع الجسور قبل القطيعة الكلية، وكذلك وجود منظومة قيمية داعمة للصلح وهذا ما نسميه اليوم بالرأي العام الذي يدعم الصلح، كوجود وجهاء المجتمع ووجود العشائر والبيئة العقلانية التي تتصف بالعقل بحيث تدعم الصلح.

هذا كما اعتقد ما نحتاجه لترسيخ عمليات الصلح كي تتحول من حالة فردية إلى حالة جماعية عامة، ومن حالة استثنائية إلى حالة طبيعية سائدة بين الأفراد وبين المجتمعات وبين الدول.

الحقوقي صلاح الجشعمي، مؤسسة مصباح الحسين:

لفهم خيرية الصلح، يجب أن نرجع إلى تكاليف الصراع، أو ما هي تكلفة الصراع، وهذه التكلفة تختلف بحسب طبيعة الصراع، يعني مثلا الصراع الموجود بين الزوج والزوجة وحالة الأطفال وتكلفة هذا الصراع على الحياة الزوجية وعلى الأطفال يختلف عن الصراع ما بين قبيلتين أو عشيرتين، أو ما بين رب العمل والعامل أو بين أصدقاء أو بين شركاء أو بين مؤسسات أو بين دول.

كل فئة مما ذكرته أعلاه تختلف تكلفة الصراع المتعلق بها عن الفئة الأخرى، قد نجد في بعض الأحيان أن الصراع حدث بسبب جريمة قتل تحدث بسبب وجود خلاف سابق أدى إلى حدوث جريمة عقل، فنستطيع من خلال ذلك فهم وأهمية الصلح، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون هناك مراكز قوى ومؤسسات تستقرئ هذه الصراعات وتحاول التخفيف منها مستقبلا أو تجفيف أنواع هذه الصراعات لكي يتحقق الصلح.

بالنسبة لمفهوم الصلح فهو واسع جدا، بالتالي هو مختلف من فرد إلى فرد ومن حالة الى حالة، ومن آلية إلى آلية بحسب طبية الصراع التي ذكرتها قبل حين، والصلح بشكل عام ذو طبيعة مختلفة، فهناك صلح مؤقت ويوجد صلح دائم، وهناك صلح اختياري، ويوجد صلح إجباري، وهناك صلح بسيط وممكن، وهناك صلح مركب، ويحتاج إلى وقت وشخصيات حتى تستطيع تهيئة الصلح.

وبذلك فإن عملية الإصلاح أو الصلح، تختلف حسب الحالة المعروضة حيث نجد هناك صراعات مستمرة دائما، غير قابلة للصلح خاصة في بعض المجتمعات الموجودة حاليا، حيث يوجد رفض تام لعملية الصلح، من خلال شخصيات عشائرية أو من شخصيات مثقفة أو حتى من بعض القوى السياسية، فهناك رفض تام لعملية الصلح وإبقاء الصراع بشكل مستمر وهذا يعود لأسباب مختلفة، فأما يرجع إلى مصالح ذاتية أو مصالح فئوية أو مصالح مالية، وهذا كما أراه نوع من أنواع الجهل المستشري وهذا الجهل من الصعوبة معالجته.

هذا النوعية من الصراعات هي المتفشية حاليا في واقعنا، نقول هذا نتيجة احتكاكنا بالآخرين كمحامين ووجودنا في دوائر الأحوال الشخصية ومحاكم التحقيق والجنايات، حيث يوجد صراع دام ومستمر ولا يقبل الطرفان أية وساطة للتفاهم، أو أية وساطة لرأب هذا الصدع ولو بشكل مؤقت لحل هذا الصراع ولو على مراحل، لكن كأنما أصبحت هذه الصراعات جزء من ذاتيات الفرد والمجتمع، وأصبحت مسألة الصلح نوع من الجبن واستمرار الصراع مسألة قوة سواء بين أطراف أو أفراد المجتمع.

يعني خفض الجناح للصلح أصبح مسألة جبن تام، لذلك يواجَه برفض تام، فهناك مشاكل قد تحدث بين زوجين، أو بين أفراد آخرين، وقد تتطور إلى حالات ضرب وتجاوز وجروح يتعرض لها الآخرون المعتدى عليهم، فهناك إدام للصراع واعتقد نحتاج مراكز او مؤسسات في علم النفس وعلم القانون لفهم اسباب هذه الظاهرة وإيجاد الحلول ولو بشكل مؤقت وعلى مراحل لحل هذه المشكلات ونأمل أن يكون هناك تسليط ضوء على هذه المسألة وحلّها بشكل واقعي وليس تنظير فقط بل نحتاج إلى إحصائيات حول الصلح في المجتمع العراقي.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد