انكشاف الوثائق السرية الامريكية بين الواقع والتضليل
وكالات
2023-04-16 06:11
كشف التسريب المخابراتي الأمريكي الأخير عن إشكالية في عمل المخابرات، فحماية المعلومات السرية تتطلب الحد من مشاركتها إلا أن التحسب لأخطار على غرار هجمات 11 سبتمبر أيلول 2001 يتطلب مشاركتها.
ويمثل حفظ التوازن بين المطلبين تحديا محوريا للرئيس الأمريكي جو بايدن، إذ تسعى إدارته إلى منع التسريبات وفي الوقت نفسه حماية أمن الولايات المتحدة وضمان أن يستمر الحلفاء الذين يخشون من التعرض للمخاطر في تبادل المعلومات المخابراتية.
وقد عادت المعضلة للواجهة من جديد في أعقاب اعتقال مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي لجاك تيشيرا، وهو موظف في الحرس الوطني التابع للقوات الجوية الأمريكية يبلغ من العمر 21 عاما، على خلفية تسريب عبر الإنترنت لعشرات الوثائق الأمريكية شديدة السرية التي يُقال إنها تكشف تفاصيل حساسة تتراوح بين كشف نقاط الضعف العسكرية لدى جيش أوكرانيا ومعلومات عن حلفاء الولايات المتحدة.
وراجعت رويترز أكثر من 50 وثيقة لكنها لم تتحقق بشكل مستقل من صحتها.
وقال مسؤولون سابقون إن من المرجح أن يدفع هذا الخرق بقوة باتجاه وضع قيود على تدفق المعلومات، وربما يجعل من الصعب على مسؤولي الأمن "ربط الأمور ببعضها" وتجنب مخاطر مثل هجمات 2001 على نيويورك وواشنطن.
وقال مايكل ألين وهو مسؤول كبير سابق في مجلس الأمن القومي والكونجرس "فكرة أن بمقدور طيار يبلغ من العمر 21 عاما الوصول إلى كل هذه (الوثائق)... تظهر أننا أفرطنا في مشاركة المعلومات في ظل التركيز بعد 11 سبتمبر على مشاركة المعلومات حتى نتمكن من ربط الأمور بعضها ببعض".
وتابع "وستفرط (الحكومة الأمريكية) في رد فعلها في هذه الحالة. وسيقيدون بشدة توزيع هذه الأنواع من الوثائق ولن يتمكن الأشخاص الذين يحتاجون إليها بالفعل من الوصول إليها بعد الآن. وأود أن أحثهم على اتباع نهج انتقائي بصورة أكبر".
ولم توضح وزارة العدل التهم التي سيواجهها تيشيرا، إلا أنها ستشمل على الأرجح تهما جنائية تتعلق بتعمد الاحتفاظ بمعلومات عن الدفاع الوطني ونقلها.
ولم يرد البيت الأبيض أو وزارة الدفاع على الفور على طلب من رويترز للتعليق.
وقالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إنها تعمل على مراجعة قوائم توزيع الوثائق السرية وتحديثها.
واشنطن تسعى لطمأنة حلفائها
وأجرى وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان محادثات مع نظيريهما الأوكرانيين في وقت تسعى الولايات المتحدة لطمأنة حلفائها ومن بينهم كييف بعد تسريب وثائق سرية للاستخبارات الأميركية.
وأكد وزير الخارجية أنتوني بلينكن أنه تحدث مع دميترو كوليبا ليؤكد له دعم الولايات المتحدة "المتواصل"، رافضا التعليق على صحة الوثائق المسربة أو مضمونها.
من جهته، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أنه تواصل مع أولكسي ريزنيكوف مؤكدا مرة جديدة أن واشنطن تنظر "بجدية تامة" إلى تسريب الوثائق السرية.
وبحسب تقارير صحافية ووثائق اطلعت عليها وكالة فرانس برس، فأن الاستخبارات الأميركية تشكك في جدوى هجوم أوكراني مضاد معتبرة أنه لن يتمكن سوى من تحقيق "مكاسب متواضعة" على صعيد السيطرة على مناطق، بمواجهة القوات الروسية.
وتندرج هذه الوثائق ضمن مجموعة من المواد السرية والبالغة الحساسية نشرت على الإنترنت جراء تسريب كشفت عنه نيويورك تايمز واعتبر البنتاغون أنه يشكّل "خطرا جسيما" على الأمن القومي.
وقال أوستن خلال مؤتمر صحافي مشترك في واشطن مع وزيري الخارجية والدفاع الفيليبينيين "تلقيت إحاطة للمرة الأولى حول الكشف غير المرخص به عن هذه الوثائق السرية والحساسة صباح السادس من نيسان/أبريل".
وتابع "منذ ذلك الحين استدعيت يوميا مسؤولي الوزارة لبحث ردنا وأمرت بفتح تحقيق" داخلي، مذكرا بأن وزارة العدل فتحت من جانبها تحقيقا جنائيا.
وأكد "ننظر إلى ذلك بكثير من الجدية ونواصل العمل مع حلفائنا وشركائنا" موضحا أن الوثائق المعنية تعود إلى 28 شباط/فبراير والأول من آذار/مارس.
تقلص قدرة أوكرانيا
ومن المتوقع أن تشن القوات الأوكرانية هجوما مضادا في الربيع، وتؤكد أوكرانيا بهذا الصدد أنها دربت وحدات هجومية وخزنت ذخائر تمهيدا للهجوم، ساعية إلى توفير قواتها وإنهاك القوات المعادية على الجبهة.
وتلقى الجيش الأوكراني من داعميه الغربيين دبابات ومدفعية بعيدة المدى.
غير أن وثيقة مصنفة "سرية للغاية" ذكرت أن الدفاعات الروسية القوية "وأوجه قصور متواصلة يعاني منها الأوكرانيون على صعيد التدريبات وإمدادات الذخيرة ستطرح صعوبة شديدة أمام أيّ تقدم وستفاقم الخسائر البشرية خلال الهجوم"، وفق تقرير "واشنطن بوست".
وفصّلت وثيقة أخرى مصنفة "سرّية" اطّلعت عليها فرانس برس، الواقع المتردّي للدفاعات الجوية الأوكرانية التي لعبت حتى الآن دوراً أساسياً على صعيد حماية البلاد من الضربات الروسية ومنع قوات موسكو من السيطرة على الأجواء.
لكنّ الوثيقة التي لم تتمكن فرانس برس من التثبت من صحتها في الوقت الحاضر، تفيد بأنّ الدفاعات الجوية الأوكرانية المتوسطة والبعيدة المدى مؤلفة بنسبة 89% من منظومتي إس إيه-10 وإس إيه-11 اللتين تعودان إلى الحقبة السوفياتية وقد تنفد صواريخهما قريبا.
واستنادا إلى وتيرة استهلاك هذه الذخائر حاليا، توقّعت الوثيقة أن تنفد ذخائر منظومة اس ايه-11 في أواخر آذار/مارس، وذخائر منظومة اس ايه-10 في مطلع أيار/مايو.
واستنتجت الوثيقة أنّ قدرة أوكرانيا على إمداد الدفاعات الجوية المتوسطة المدى لحماية خط الجبهة "ستتقلّص بشكل كامل بحلول 23 أيار/مايو".
صواريخ مصرية؟
وأشارت وثيقة مسربة إلى أنّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أمر بإنتاج 40 ألف صاروخ لتسليمها إلى روسيا، وأعطى توجيهاته للمسؤولين بإبقاء الأمر طيّ الكتمان "لتجنّب أي مشاكل مع الغرب"، وفق ما أوردت واشنطن بوست في تقرير منفصل.
لكنّ المتحدث باسم مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض نفى المعلومات مؤكدا أنه "ليس لدينا أي مؤشرات تفيد بأن مصر تمدّ روسيا بأسلحة فتاكة".
وصرح جون كيربي أن "مصر هي وتبقى شريكا مهما في المسائل الأمنية" مضيفا أن "الجيش الأميركي يقيم علاقة دفاعية بعيدة الأمد مع مصر".
وسُرّبت عشرات الوثائق والصور بصورة منتظم في الأيام الأخيرة على تويتر وتلغرام وديسكورد وغيرها من المنصات، مع احتمال أن يكون بعضها متداولاً على الإنترنت منذ أسابيع إن لم يكن منذ أشهر، قبل أن تلفت هذه المواد انتباه وسائل الإعلام الأسبوع الماضي.
ولم يعد الكثير من هذه الوثائق متوافرا على المواقع التي نشرتها بالأساس، وتعمل السلطات الأميركية على سحبها كلها من التداول.
تسريب تضليلي
وقال خبراء أمن غربيون ومسؤولون أمريكيون إنهم يشتبهون في أن شخصا من الولايات المتحدة قد يكون وراء التسريب.
ويقول المسؤولون إن اتساع نطاق الموضوعات التي احتوت عليها الوثائق، والتي تتناول الحرب في أوكرانيا والصين والشرق الأوسط وأفريقيا، تشير إلى أنه تم تسريبها من أحد المواطنين الأمريكيين وليس من أحد الحلفاء.
وقال مايكل مولروي المسؤول الكبير السابق في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لرويترز في مقابلة "التركيز الآن على أن هذا تسريب من الولايات المتحدة لأن العديد من هذه الوثائق كان بحوزة الولايات المتحدة فقط".
وقال مسؤولون أمريكيون إن التحقيق في مراحله الأولى ولا يستبعد القائمون على إدارته احتمال أن تكون عناصر مؤيدة لروسيا وراء التسريب الذي يُنظر إليه على أنه من أخطر الخروقات الأمنية منذ تسريبات موقع ويكيليكس في عام 2013 والتي شملت ما يزيد على 700 ألف وثيقة ومقطع فيديو وبرقية دبلوماسية.
ولم ترد السفارة الروسية في واشنطن والكرملين على طلبات للتعليق.
وبعد الكشف عن التسريب، راجعت رويترز أكثر من 50 وثيقة بعنوان "سري" و"سري للغاية" ظهرت لأول مرة الشهر الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي، بداية من منصتي ديسكورد وفورتشان. ورغم أن بعض تلك الوثائق جرى نشرها قبل أسابيع، فقد كانت صحيفة نيويورك تايمز أول من أورد نبأ عنها يوم الجمعة.
ولم تتحقق رويترز بشكل مستقل من صحة هذه الوثائق، واحتوى بعضها على تقديرات للخسائر في ساحة المعركة من أوكرانيا، لكن يبدو أنه تم تعديلها لتقليل الخسائر الروسية. كما لم يتضح بعد سبب وضع علامة "غير سري" على إحدى تلك الوثائق على الأقل رغم أنها تضمنت معلومات سرية جدا. وتم وضع علامة "نوفورن" على بعض الوثائق، مما يعني أنه لا يمكن نشرها للأجانب.
وقال مسؤولان أمريكيان لرويترز يوم الأحد إنهما لا يستبعدان احتمال التلاعب بالوثائق لتضليل المحققين بشأن مصدرها أو لنشر معلومات كاذبة قد تضر بالمصالح الأمنية الأمريكية.
وتوضح إحدى الوثائق، وهي بتاريخ 23 فبراير شباط وتحمل علامة "سري"، بالتفصيل كيف سيتم استنفاد أنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية إس-300 بحلول الثاني من مايو أيار وفقا لمعدل استخدامها الحالي.
وربما تكون مثل هذه المعلومات الخاضعة لحراسة مشددة ذات فائدة كبيرة للقوات الروسية، وقالت أوكرانيا إن رئيسها وكبار مسؤوليها الأمنيين اجتمعوا يوم الجمعة لمناقشة سبل منع تلك التسريبات.
تقول وثيقة أخرى، تحمل ختم "سري للغاية" ومأخوذة من إفادة للمخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) بتاريخ الأول من مارس آذار، إن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) دعم الاحتجاجات المناهضة لخطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإحكام السيطرة على المحكمة العليا.
وقالت الوثيقة إن الولايات المتحدة علمت بذلك من خلال إشارات مخابرات، مما يشير إلى أن واشنطن كانت تتجسس على أحد أهم حلفائها في الشرق الأوسط.
وقال مكتب نتنياهو إن الوثيقة "كاذبة ولا أساس لها على الإطلاق".
وعرضت وثيقة أخرى تفاصيل متعلقة بمناقشات خاصة دارت بين كبار المسؤولين الكوريين الجنوبيين حول الضغط الأمريكي على الحليف الآسيوي للمساعدة في إمداد أوكرانيا بالأسلحة وسياسة سول القائمة على ألا تفعل ذلك.
وقال مسؤول في القصر الرئاسي بكوريا الجنوبية يوم الأحد إن سول على علم بالتقارير الإعلامية المتعلقة بالوثائق المسربة وإنها تعتزم مناقشة الولايات المتحدة في القضايا التي أثارتها التسريبات.
ولم يتطرق البنتاجون إلى مضمون هذه الوثائق، ومن بينها على ما يبدو مراقبة الحلفاء.
وقال مسؤولان أمريكيان اشترطا عدم الكشف عن هويتهما إنه بينما كان هناك قلق بشأن الوثائق المسربة في البنتاجون ووكالات المخابرات، فإن الوثائق لم تقدم سوى لمحة جزئية عن الحرب في أوكرانيا تعود لشهر مضى وليس تقييمات حديثة.
وأضاف المسؤولان أن وكالات المخابرات والجيش يبحثان في عملياتهما لمعرفة إلى أي مدى تمت مشاركة المعلومات المخابراتية داخليا.
تحميل روسيا مسؤولية كل شيء
من جهته قال الكرملين إن هناك اتجاها عاما لتحميل روسيا مسؤولية كل شيء وذلك ردا على سؤال حول اتهامات باحتمال ضلوع موسكو في تسريب وثائق للمخابرات الأمريكية عن عدد من الدول من بينها أوكرانيا.
وقال ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) إنه من المرجح للغاية أن تكون موسكو هي التي دبرت التسريب لبث الارتباك والفرقة المحتملة بين واشنطن وحلفائها.
وفي رده على سؤال بشأن احتمال ضلوع روسيا في التسريب، قال ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، للصحفيين "لا يمكنني التعليق على هذا على أي نحو. أنا وأنتم نعلم أن هناك في الواقع اتجاها دائما لتحميل روسيا مسؤولية كل شيء. هذا، في العموم، مرض".
ورفض جهاز المخابرات الخارجية الروسي التعليق حين سألته رويترز عن التسريبات الأمريكية.
ووصف بيسكوف التسريبات بأنها "مثيرة جدا للاهتمام". وفي رد على سؤال عن احتمال تجسس واشنطن على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال بيسكوف إن هذا غير مستبعد.
وأضاف "تكررت كثيرا حقيقة أن الولايات المتحدة كانت تتجسس على عدد من رؤساء الدول، خاصة في العواصم الأوروبية، منذ فترة طويلة، وتسبب هذا في مواقف فاضحة عديدة".
مستوى خطير من عدم الدقة
بدورها قالت وزارة الدفاع البريطانية إن تسريب المعلومات الأمريكية السرية، والذي تناقلته التقارير الإعلامية على نطاق واسع، ينطوي على "مستوى خطير من عدم الدقة".
وقال متحدث باسم وزارة الدفاع البريطانية في بيان نُشر على تويتر "تسريب المعلومات الأمريكية السرية الذي تنقله التقارير على نطاق واسع يظهر مستوى خطيرا من عدم الدقة".
وأضاف "يتعين على القُراء توخي الحذر قبل تصديق مزاعم من المحتمل أن تنشر معلومات مضللة".
الحاجة للمشاركة
بعد هجمات 2001 التي شنها مسلحو تنظيم القاعدة، سهلت الولايات المتحدة تبادل المعلومات المخابراتية بين الوكالات الحكومية.
ودعا تقرير لجنة 11 سبتمبر لعام 2004 إلى مزيد من تبادل المعلومات، وألقى باللوم على وكالات الأمن الأمريكية بسبب دعمها لثقافة "’الحاجة للمعرفة’ لحماية المعلومات بدلا من الترويج لثقافة ’الحاجة للمشاركة’ التكاملية".
وهذا يعني، بطبيعة الحال، أن المزيد من الأشخاص صار بإمكانهم الاطلاع على معلومات سرية.
وقال مسؤول أمريكي إن بعض الوثائق التي اتُّهم تيشيرا بنشرها على الإنترنت كان من المحتمل أنها تكون متاحة للآلاف بتصاريح أمنية من الولايات المتحدة وحكومات حليفة على الرغم من كونها شديدة الحساسية.
وقال مايكل أتكينسون وهو مسؤول سابق في مجال المخابرات "من بين الأشياء التي تعلمناها من 11 سبتمبر ... أننا نحتاج حقا إلى مشاركة المعلومات ... لسوء الحظ يمكن أن تضر التسريبات بهذا النمط المفيد من مشاركة المعلومات".
واتخذت الحكومة خطوات في عام 2013 لتقييد الوصول إلى المعلومات بعد نشر ما يقرب من 750 ألف وثيقة دبلوماسية وعسكرية أمريكية سرية وغير سرية على منصة ويكيليكس المعنية بكشف المخالفات.
ولا تزال التسريبات التي كشفت عنها تشيلسي مانينج، التي كانت في ذلك الوقت محلل استخبارات بالجيش الأمريكي اسمه برادلي مانينج قبل أن تتحول إلى امرأة، هي أكبر تسريب معروف لمواد حساسة تابعة للحكومة الأمريكية.
وردا على ذلك، أنشأت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما برنامج إنسايدر ثريت الذي يلزم الأجهزة الأمريكية بتعزيز تدابير الحماية من عمليات الكشف غير المصرح بها، بما في ذلك المراقبة والتدقيق الروتيني لشبكات الكمبيوتر السرية "لاكتشاف ومراقبة وتحليل أي سلوك غير طبيعي للمستخدمين ورصد مؤشرات سوء الاستخدام".
نوع مختلف من التهديد
في حين أن هذه التغييرات يحتمل أن تكون قد وفرت قدرا إضافيا من الأمان، يقول محللون إن برامج الأمن الحكومية مصممة لمنع التسريبات من جانب أولئك المدفوعين بأيديولوجية أو رغبة في الحصول على مكافأة مالية، على عكس دوافع أخرى مثل المطلعين الذين ينشرون الأسرار بهدف الشهرة.
ويلزم برنامج إنسايدر ثريت موظفي الحكومة بالإبلاغ عن سوء التعامل مع المواد السرية وإزالتها من المنشآت الآمنة وسفر زملائهم غير المعلن إلى الخارج ودائرة معارفهم وأي زيادة في الثروة غير واضحة المصدر. لكن لا يمكنهم تتبع أنشطة زملائهم في العمل الخاصة على الإنترنت مثل نشر معلومات سرية لإثارة إعجاب الآخرين.
وقال ستيفن أفترجود، وهو خبير بشأن السرية الحكومية الأمريكية في اتحاد العلماء الأمريكيين، إن برنامج إدارة أوباما فشل في الكشف عن أحدث التسريبات وردعها لكنه أشار إلى أنه مصمم لمواجهة تهديد مختلف.
وأضاف "تم تصميم برنامج إنسايدر ثريت ردا على (ما فعله) برادلي مانينج في ذلك الوقت وسيناريو ويكيليكس إذ كانت التسريبات غير المصرح بها ذات دوافع أيديولوجية أو سياسية ... لقد كانت ردا على ظلم مزعوم، أو تهدف لانتقاد سياسة الولايات المتحدة".
وعُرف تيشيرا لأول مرة من خلال صحيفة نيويورك تايمز التي وصفته بأنه مدير لمجموعة دردشة عبر الإنترنت شارك عبرها الوثائق السرية مع نحو 20 إلى 30 معظمهم من الشبان الذين يتجاذبون أطراف الحديث بخصوص حبهم للأسلحة النارية ويتبادلون صورا طريفة (ميمز) وألعاب فيديو عنصرية.
وقال أفترجود "كان برنامج إنسايدر ثريت يبحث عن أشباه لبرادلي مانينج ... لكن هذه المجموعة الأحدث من التسريبات لم يرتكبها مثيل لبرادلي مانينج. إنها ظاهرة من نوع جديد يكون فيها التسريب إما استعراضا أمام الأصدقاء ... أو يكون حيادا فيما يتعلق بمضمون التسريبات".
شاب مهووس بالأسلحة
وجّهت محكمة أميركية الجمعة لائحة اتّهام إلى عنصر في الحرس الوطني يبلغ 21 عاماً على خلفية تسريب مجموعة من الوثائق الاستخبارية السرية.
ومثُل جاك تيشيرا أمام قاض في محكمة ماساتشوستس الفدرالية في بوسطن في الساعة العاشرة صباحا (14,00 ت غ).
ويأتي مثوله أمام غداة توقيفه الخميس بعد تحقيق استمر أسبوعاً في واحدة من أكبر قضايا تسريب الوثائق منذ أن سرّب إدوارد سنودن وثائق تابعة لوكالة الأمن القومي عام 2013.
ولم يُطلب منه الإدلاء بأيّ أقوال، وتقرّر توقيفه في انتظار جلسة الاستماع المقرّرة الأربعاء المقبل.
ووجّهت إليه أثناء جلسة الاستماع القصيرة في بوسطن تهم من بينها "تخزين ونقل معلومات متعلّقة بالدفاع الوطني من دون تصريح" و"سحب وتخزين وثائق أو مواد سرّية من دون تصريح"، وتصل عقوبة التهمتين إلى السجن لمدة 10 سنوات وخمس سنوات على التوالي.
وخلال الجلسة هتف والده "نحن نحبك يا جاك"، وردّ تيشيرا "أحبك أيضًا يا أبي".
وقال وزير العدل ميريك غارلاند إنّ النيابة العامة ستطلب إنزال "عقوبات شديدة للغاية" بالمتّهم.
وأضاف أن "الأشخاص الذين يوقّعون اتفاقات للإطلاع على وثائق سرية يقرّون بمدى أهمية عدم إفشاء هذه الوثائق على الأمن القومي، وننوي بعث رسالة لإظهار مدى أهمية ذلك لأمننا القومي".
وقال الرئيس جو بايدن إنه أمر الجيش والاستخبارات بتشديد الإجراءات الأمنية بشأن المعلومات الحسّاسة والسرية بعد هذا الخرق.
ويشتبه في أنّ تيشيرا نشر الوثائق اعتباراً من مطلع آذار/مارس في مجموعة دردشة خاصة على منصة التواصل الاجتماعي "ديسكورد".
وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أنّه كان مدير مجموعة الدردشة المسمّاة "ثاغ شايكر سانترل" وأنّه نشر الوثائق تحت الاسم المستعار "أو جي".
وشارك المتهم في البداية مع المجموعة مقاطع من الوثائق السرية، لكنّه بدأ لاحقًا في نشر صور للوثائق طالباً من بقية أعضاء المجموعة عدم مشاركتها، وفق صحيفة "واشنطن بوست".
لكن ظهرت بعض الوثائق على مواقع أخرى من بينها "تويتر" و"4 تشان" و"تليغرام".
ولم يعلن المحققون بعد عن استنتاجاتهم بشأن الدافع وراء تسريب تيشيرا الوثائق.
والتحق الشاب بالقوات الجوية للحرس الوطني في أيلول/سبتمبر 2019 وكان متخصصًا في تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات.
أثار التسريب تساؤلات حول سبب وصول عنصر في رتبة متدنية (رتبته تعادل رتبة جندي أول) إلى مثل هذه الأسرار التي قد تكون ضارّة.
ووصفه عدد من أصدقاء في مقابلات أجرتها معهم صحيفة "واشنطن بوست" بأنه كاثوليكي متدين وليبرتاري مهتمّ بالأسلحة.
كما ذكرت الصحيفة أنّه يتحدر من عائلة لها تقاليد عسكرية، فقد قضى والده 34 عامًا في نفس الوحدة العسكرية التي عمل فيها ابنه بينما عملت والدته في منظمات غير ربحية تدعم العسكريين السابقين.
تم بثّ توقيف جاك تيشيرا في منزله في بلدة نورث دايتون بجنوب ماساتشوستس على الهواء مباشرة على شبكات التلفزيون الأميركية.
وأظهرت لقطات صوّرت من الجوّ المشتبه به يرتدي سروالاً قصيراً أحمر وقميصاً ويضع يديه خلف رأسه، ويتراجع ببطء نحو أفراد إنفاذ القانون المسلحين ببنادق الذين أوقفوه.
وحصل القضاء على إفادة من أحد عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي كُشف عنها الجمعة أنّ تيشيرا يحمل تصريحاً للإطلاع على وثائق شديدة السرية منذ عام 2021.
من جهته، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إنه أمر "بمراجعة الوصول إلى المعلومات الاستخبارية وإجراءات المحاسبة والمراقبة داخل الوزارة لتعزيز جهودنا لمنع حدوث هذا النوع من الحوادث مرة أخرى".
وفي هذا الإطار، أخبر عضوان في مجموعة على منصّة التواصل الاجتماعي "ديسكورد" صحيفة "واشنطن بوست"، أنّ مئات الصفحات من هذه الوثائق نشرها هناك شاب أخبرهما أنه يعمل في قاعدة عسكرية أميركية، وكان قد أخذ الوثائق معه إلى المنزل.
ونشر الرجل الذي أطلق على نفسه لقب "أو جي" (OG) وثائق أمام هذه المجموعة على مدى أشهر، حسبما أفاد العضوان فيها "واشنطن بوست"، شرط عدم الكشف عن هويتيهما.
ووفق الصحيفة، فإنّ بعض الوثائق كانت حسّاسة للغاية، إلى درجة أنّه تمّ تمييزها بختم "لا أجانب" (نو فورينرز) ممّا يعني عدم مشاركتها مع رعايا أجانب.
وأضافت "واشنطن بوست" أنّ المجموعة التي تضمّ حوالى 24 شخصاً، من بينهم أشخاص من روسيا وأوكرانيا، شُكّلت بناء على "حبهم المتبادل للأسلحة النارية والمعدّات العسكرية والله"، كما أقاموا "عبر ديسكورد نادياً للمدعوين فقط في العام 2020".
ووفق "واشنطن بوست"، خبر "أو جي" أعضاء المجموعة أنّه أمضى "جزءاً من يومه في منشأة آمنة تحظر الهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية الأخرى".
كذلك، أشار إلى أنه "عمل لساعات في كتابة وثائق سرية لمشاركتها مع رفاقه عبر ديسكورد"، وفقاً للصحيفة.
عُثر على عشرات الصور للوثائق على "تويتر" و"تلغرام" و"ديسكورد" وغيرها من المواقع في الأيام الأخيرة، رغم أنّ بعضها ربما تمّ تداوله عبر الإنترنت على مدى أسابيع، إن لم يكن أشهراً، قبل أن تثير اهتمام وسائل الإعلام.
لم يعد العديد من الوثائق موجوداً على المواقع التي ظهرت عليها في البداية، فيما أفيد بأنّ الولايات المتحدة تعمل على إزالتها.
قد تكون تداعيات هذا التسريب كبيرة، إذ من المحتمل أن تعرّض مصادر الاستخبارات الأميركية للخطر، فيما حصل أعداء الولايات المتحدة على معلومات تعدّ قيّمة.