رحيل الزعيم الأخير الذي تسبب في انهيار قوة عظمى

وكالات

2022-09-04 06:57

توفي ميخائيل غورباتشيف، آخر زعيم للاتحاد السوفياتي، عن 91 عاماً في روسيا، بحسب ما نقلت وكالات الأنباء الروسية عن المستشفى حيث كان يتعالج.

وقال "المستشفى المركزي العيادي" التابع للرئاسة الروسية في بيان أوردته وكالات "إنترفاكس" و"تاس" و"ريا نوفوستي" إنّه "مساء اليوم (الثلاثاء) وبعد صراع طويل مع مرض خطير، توفي ميخائيل سيرغي غورباتشيف".

وحضر مئات الروس السبت لوداع آخر زعيم للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشيف في مراسم جنازة محدودة لن يحضرها الرئيس فلاديمير بوتين ما يدل على إرثه المثير للجدل في روسيا.

رغم الإصلاحات الكبرى التي قام بها من أجل حرية التعبير، حمّله العديد من الروس مسؤولية انهيار قوة عظمى وسنوات من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تلت ذلك.

في دليل على هذا الأمر، لم يتم إعلان يوم حداد وطني كما ان الجنازة تنظم في ظل غياب بوتين الذي عزاه الكرملين الى "ارتباطات بالمواعيد".

اصطف مئات الروس صباحا أمام مجلس النقابات في موسكو حيث سجي جثمان غورباتشيف لالقاء نظرة الوداع كما أفاد مراسل وكالة فرانس برس.

في الداخل، وضعت صورة للزعيم السابق الى جانب النعش المفتوح حيث جلست ابنته إيرينا.

وقف حارسا شرف على جانبي النعش فيما كان الزوار يضعون الزهور وينحنون احتراما امام النعش.

ورفع مشيعون نعش جورباتشوف الخشبي المغطى بعلم روسيا ذي الثلاثة ألوان ووضعوه في وسط القاعة بينما تم تشغيل تسجيل لموسيقى حزينة من فيلم “قائمة شندلر”.

في إطار من التوتر الشديد بين روسيا والدول الغربية حول النزاع في أوكرانيا، لم يحضر أي زعيم أجنبي الى موسكو للمشاركة في الجنازة.

لكن تم في اللحظة الأخيرة الاعلان عن مجيء رئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان المقرب من الكرملين ليكون الزعيم الاجنبي الوحيد الذي اعلن عن حضوره السبت. بحسب الرئاسة الروسية فانه ليس هناك أي لقاء مقرر بينه وبين بوتين.

مجلس النقابات الذي سجي فيه جثمان غورباتشيف هو مكان رمزي في العاصمة الروسية سجيت فيه جثامين عدة قادة شيوعيين مثل جوزف ستالين عام 1953.

بعد هذه المراسم، سيوارى الزعيم السوفياتي السابق الثرى في مقبرة نوفوديفيتشي الى جانب زوجته رايسا غورباتشيفا التي توفيت عام 1999 والتي كان قريبا جدا منها.

رغم انه لن يحضر الجنازة السبت، توجه بوتين الخميس الى المستشفى المركزي في موسكو حيث توفي غورباتشيف ووضع باقة ورود قرب نعشه.

غداة وفاته وجه بوتين له أول تحية في رسالة تعزية. بلهجة حيادية، قال إن غورباتشيف "ترك تأثيرا كبيرا على تاريخ العالم" وكان "يجهد لعرض حلوله الخاصة للمشاكل".

وكانت العلاقات بين الرجلين معقدة وتتارجح بين علامات التقدير والمآخذ المتبادلة قبل ان تصبح لامبالاة ودية.

لكن لم يكن مفاجئا رفض بوتين، ضابط المخابرات السوفيتية لفترة طويلة والذي وصف انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه “كارثة جيوسياسية“، إقامة مراسم تكريم رسمية كاملة لجورباتشوف، معللا عدم تمكنه من حضور الجنازة بازدحام جدول أعماله.

الغرب يحترمه وروسيا تلومه

ويحظى غورباتشيف الذي وصل إلى السلطة في 1985، باحترام كبير في الدول الغربية، فيما يأخذ عليه جزء من الروس مساهمته في انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 عند محاولته انقاذه مع إصلاحات ديموقراطية واقتصادية.

وغورباتشيف الذي وصل إلى السلطة في 1985، أطلق موجة إصلاحات سياسية واقتصادية هدفت إلى تحديث الاتحاد السوفياتي الذي كان يعاني من أزمات حادّة.

وكان غورباتشيف من أنصار التقارب مع الغرب. وبين 1990 و1991 تولّى غورباتشيف منصب رئيس الاتحاد السوفياتي قبل أن يضطر في النهاية إلى الاستقالة في 25 كانون الأول/ديسمبر، في خطوة أدّت لانهيار الاتحاد السوفياتي.

وكان غورباتشيف آخر زعيم من حقبة الحرب الباردة لا يزال على قيد الحياة.

وأمضى غورباتشيف القسم الأكبر من العقدين الماضيين على هامش الحياة السياسية في روسيا، وقد دعا، بشكل متقطّع، كلاً من الكرملين والبيت الأبيض إلى إصلاح العلاقات بين واشنطن وموسكو مع تصاعد التوترات بينهما إلى المستوى الذي كانت عليه خلال الحرب الباردة منذ ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014 ثم غزوها أوكرانيا في شباط/فبراير الماضي.

وأمضى غورباتشوف سنيّ حياته الأخيرة بين المستشفى والمنزل، إذ تردّت صحّته كثيراً كما أنّه فرض على نفسه الحجر الصحّي الوقائي خلال فترة جائحة كوفيد-19.

وكان غورباتشيف موضع تقدير كبير في الغرب الذي كان يسمّيه تحبباً "غوربي".

وفاز الراحل بجائزة نوبل للسلام في 1990 لتفاوضه مع الرئيس الأميركي في حينه رونالد ريغن على اتفاقية تاريخية لنزع الأسلحة النووية، كما اعتُبر قراره بمنع الجيش السوفياتي من التدخّل للحؤول دون سقوط جدار برلين قبل عام من ذلك عاملاً أساسياً في الحفاظ على السلام.

أدى انهيار الاتحاد السوفياتي الذي وصفه بوتين بانه "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين" الى انتهاء الحرب الباردة.

برلين في حداد

في المقابل فان العواصم الغربية من واشنطن الى برلين مرورا بباريس وروما وجهت تحية تقدير لذكرى غورباتشيف بسبب عمله على التقارب بين الغرب والشرق وخفض الترسانات النووية ما أدى الى منحه جائزة نوبل للسلام في 1990.

وأعلنت المانيا التي أتاح سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي إعادة توحيدها، أنه سيتم تنكيس الاعلام السبت في العاصمة.

في المقابل، يظهر التكريم المحدود الذي خص به الروس غورباتشيف ضعف شعبيته في البلاد. ويرى كثيرون انه ساهم في انهيار القوة السوفياتية العظمى التي كانت تتنافس مع أميركا والتي فتحت نهايتها المجال أمام عقد من الأزمات والعنف.

يشار الى ان الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، المنافس الاكبر لغورباتشيف، والذي حكم خلال السنوات الصعبة في تسعينات القرن الماضي وعيّن فلاديمير بوتين خلفا له في 1999، خصصت له مراسم جنازة وطنية عند وفاته في 2007.

حضر بوتين وغورباتشيف آنذاك جنازة يلتسين وأعلن يوم حداد وطني في البلاد بعد وفاته.

تتناقض مظاهر جنازة جورباتشوف تناقضا حادا مع تلك التي أقيمت للرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين حين أٌعلن يوم حداد وطني وأُقيمت جنازة رسمية في الكاتدرائية الرئيسية في موسكو عام 2007. وكان ليلتسين دور أساسي في تهميش جورباتشوف مع انهيار الاتحاد السوفيتي واختار لاحقا بوتين خليفة له.

وبعد المراسم، سيدفن جورباتشوف مثل يلتسين في مقبرة نوفوديفيتشي في موسكو، إلى جانب زوجته رايسا، التي توفيت قبل 23 عاما.

بريسترويكا و جلاسنوست

أصبح جورباتشوف بطلا في الغرب لسماحه بأن تتخلص أوروبا الشرقية من السيطرة الشيوعية السوفيتية التي استمرت لأكثر من أربعة عقود، والسماح بتوحيد ألمانيا الشرقية والغربية، وإبرام معاهدات للحد من التسلح مع الولايات المتحدة.

لكن عندما انتزعت الجمهوريات السوفيتية الخمس عشرة الحريات نفسها للمطالبة باستقلالها، كان جورباتشوف عاجزا أمام منع انهيار الاتحاد في عام 1991، بعد ست سنوات من توليه الحكم.

من أجل ذلك، وبسبب الفوضى التي نتجت عن إصلاحاته الاقتصادية التحررية المعروفة بسياسة “البريسترويكا“، لم يستطع الكثير من الروس مسامحته.

ومع دخوله الكرملين في عام 2000، لم يهدر بوتين الكثير من الوقت في التراجع عن التعددية السياسية التي مهدت لها سياسة “جلاسنوست” أو حرية التعبير التي انتهجها جورباتشوف، وبدأ ببطء في إعادة بناء نفوذ موسكو في العديد من جمهورياتها السابقة.

تأثير الحرب الاوكرانية

وقال مترجم ومساعد جورباتشوف منذ فترة طويلة الأسبوع الماضي إن تصرفات روسيا في أوكرانيا تركت الزعيم السابق “مصدوما ومرتبكا” في الأشهر الأخيرة من حياته.

وأضاف بافيل بالاتشينكو في مقابلة مع رويترز “ليست العملية التي بدأت في 24 فبراير فقط، ولكن التطور الكامل للعلاقات بين روسيا وأوكرانيا على مدى السنوات الماضية كان حقا ضربة كبيرة له. لقد سحقه ذلك معنويا ونفسيا”.

وقبل وفاته لم يعلن الراحل عن موقف علني من الغزو الروسي لأوكرانيا. وهذا النزاع الذي اتّسم بضراوة غير مسبوقة في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يُنظر إليه في الغرب على أنّه مؤشر لمحاولة إحياء الإمبراطورية الروسية.

أمضى غورباتشيف القسم الأكبر من العقدين الماضيين على هامش الحياة السياسية في روسيا، وكان يدعو بين الفينة والأخرى كلاً من الكرملين والبيت الأبيض إلى إصلاح العلاقات الأميركية-الروسية بعدما تصاعدت التوترات بين واشنطن وموسكو إلى المستوى الذي كانت عليه خلال الحرب الباردة منذ ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014 ثم غزوها أوكرانيا في شباط/فبراير الماضي.

كان غورباتشيف الحائز جائزة نوبل للسلام العام 1990 تقديرا لخفضه حدة المواجهة بين الشرق والغرب بشكل كبير، احتفظ بتقدير كبير في الدول الغربية. قد استدعت وفاته ردود فعل مشيدة.

فرأى الرئيس الأميركي جو بايدن في غورباتشيف "رجل دولة قل مثيله" فيما اعتبره الفرنسي إيمانيول ماكرون "رجل سلام".

وأشادت الصين الأربعاء بالدور الذي لعبه آخر رئيس للاتحاد السوفياتي في التقارب بين بكين وموسكو بعد قطيعة استمرت ثلاثة عقود.

وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية تشاو ليجيان أمام الصحافيين إن "غورباتشيف كانت له مساهمة إيجابية في تطبيع العلاقات بين الصين والاتحاد السوفياتي".

وكتب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في تغريدة "في زمن عدوان (فلاديمير) بوتين على أوكرانيا التزامه الدائم لانفتاح المجتمع السوفياتي يبقى مثالا نحتذي به جميعا".

كذلك أشاد الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير بغورباتشيف شاكرا "مساهمته الحاسمة في توحيد ألمانيا".

تفكك الاتحاد السوفياتي

ولد غورباتشيف العام 1931 في عائلة متواضعة الحال في جنوب غرب روسيا وقد ارتقى سريعا في الحزب الشيوعي السوفياتي وصولا إلى زعامة الاتحاد السوفياتي في 1985.

حتى استقالته في العام 1991 التي شكلت نهاية الاتحاد السوفياتي، أطلق سلسلة إصلاحات سياسية واقتصادية عرفت باسمي "بيريسترويكا" (إعادة الهيكلة) و"غلاسنوست" (الشفافية) هدفت إلى تحديث الاتحاد السوفياتي الذي كان يعاني من أزمات حادّة.

واجه ازمات هائلة مثل كارثة تشرنوبيل (1986) وحركات انفصالية في أرجاء الاتحاد السوفياتي قمعها بشكل جزئي. وحاز العام 1990 جائزة نوبل للسلام مكافأة على "إنهائه الحرب الباردة سلميا".

ويقف كذلك وراء انهاء الغزو السوفياتي لأفغانستان فيما لم يعترض مسار سقوط جدار برلين.

إلا ان السنوات التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991، أصابت الروس بصدمة لا تزال راسخة في الأذهان مع فقر مدقع وفوضى سياسية وحرب دامية في الشيشان.

ومع وصول فلاديمير بوتين والذي يعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي "أكبر كارثة جيوسياسية" في القرن العشرين إلى السلطة في 2000، أخضعت الدولة المجتمع الروسي وسعت إلى إعادة فرض روسيا كقوة عظمى على الساحة الدولية.

وبقيت العلاقات بين غورباتشيف وأسياد الكرملين الجدد معقدة إن كان مع أول رئيس روسي بوريس يلتسين (1991-1999) خصمه اللدود أو مع فلاديمير بوتين الذي انتقده رغم انه رأى فيه فرصة لتطوير روسيا بشكل مستقر.

وبعد محاولة فاشلة للعودة إلى السياسة في تسعينات القرن الماضي، كرس غورباتشيف جهوده لمشاريع انسانية.

وكان أحد الداعمين الرئيسيين لصحيفة "نوفايا غازيتا" المستقلة الرئيسية التي اضطرت في آذار/مارس إلى تعليق صدورها في خضم حملة قمع لمنتقدي الهجوم على أوكرانيا.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي