هل للنمو حدود؟.. جدلٌ عمرُه 50 عامًا
دورية Nature
2022-06-01 06:57
في مثل هذا الشهر، قبل خمسين عامًا، خرج فريق «سيستِم داينامِكس» System Dynamics، بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بمدينة كامبريدج الأمريكية، على العالَم برسالة صادمة، مفادُها أن استمرار النمو الاقتصادي والسكاني من شأنه أن يستنفد موارد الأرض، بما يقودها إلى الانهيار الاقتصادي العالمي، بحلول عام 2070. وردَتْ هذه النبوءة في كتابهم الصادر تحت عنوان «حدود النمو» The Limits to Growth، الواقعِ في مائتي صفحة، والذي يُنظر إليه باعتباره إحدى أوائل الدراسات القائمة على النمذجة (modelling)، التي تنبَّأت بالتأثيرات البيئية والاجتماعية المرتبطة بالتصنيع.
كان لهذه النبوءة، في وقتها، وقعُ الصدمة، ولم تصادف هوًى في الأوساط البحثية؛ حتى أن دورية Nature ذكرت آنذاك أن تلك الدراسة ترسم صورة قاتمة للعالم، كأنها "مشهد من مشاهد نهاية العالَم". وحتى في الدوائر البحثية، اعتُبر أنه مما يدخل في باب الهرطقة أنْ تُطرح فكرة أنَّ بعض ركائز الحضارة القائمة على نشاط التصنيع (مثل استخراج الفحم، وصناعة الصلب، وأعمال الحفر لاستخراج النفط، ورش الأسمدة الزراعية) قد تتسبب في إحداث أضرار غير قابلة للإصلاح. فقد أقرَّت الشخصيات البارزة في ميدان البحثِ العلمي بأن للصناعة يدًا في تلوُّث الماء والهواء، إلا أنهم اعتبروا أن ضررًا كهذا قابل للعلاج.
كما أن الباحثين الذين تلقَّوا تدريبهم في عصر ما قبل الحاسوب، نظروا كذلك بعين الارتياب إلى النمذجة، وانحازوا إلى الفكرة القائلة بأن التكنولوجيا سوف تُنقذ كوكب الأرض. من هؤلاء سولي زوكرمان، عالِم الحيوان الذي كان يعمل كبيرًا للمستشارين العلميين لدى حكومة المملكة المتحدة، حيث قال: "أيًا ما كان ما تقوله الحواسيب عن المستقبل، فلا يوجد شيء في الماضي يعطي أي مصداقية لوجهة النظر القائلة بعجز العبقرية البشرية التغلب في الوقت المناسب على الصعوبات المادية التي تواجه الإنسان".
إلا أن دونيلا ميدوز، المؤلفة الرئيسة للدراسة، وزملاءها، أصروا على موقفهم، وأشاروا إلى إمكان تحقيق الاستقرار في النظام البيئي والاقتصادي، فقط في حالة اتخاذ الإجراءات اللازمة مبكرًا. وقد كان كتاب «حدود النمو»، مرجعًا أساسيًا لإنشاء «برنامج الأمم المتحدة للبيئة»، الذي خرج إلى النور هو الآخر في عام 1972. وإجمالًا، بِيع من الكتاب أكثر من ثلاثين مليون نسخة.
على أنَّ الجدل لم يتوقف منذ ذلك الحين. وحتى مع وجود إجماع حاليًا على أن للأنشطة البشرية تأثيرات بيئية غير قابلة للإصلاح، لا يزال الباحثون مختلفين على الحلول، وخاصة تلك التي تنطوي على كبحٍ للنمو الاقتصادي، وهذا الخلاف يعرقل العمل البيئي. وهكذا، فقد حان الوقتُ ليضع الباحثون حدًا لهذا الجدل؛ فالعالَم يحتاج منهم التركيز على الأهداف الكبرى، لوقف التدمير الكارثي للبيئة، والعمل على رفع مستوى الرفاه العام.
وهناك مِن الباحثين مَن يذهب إلى أن الاقتصادات يمكنها النمو دون تحويل الكوكب إلى مكان غير صالح للعيش، ومنهم يوهان روكشتروم، الذي يعمل في معهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ في ألمانيا. وهم يستشهدون في ذلك ببُلدان شمال أوروبا، حيث يستطيع الاقتصاد مواصلة النمو بالتوازي مع اتجاه الانبعاثات الكربونية نحو الانخفاض. وهذا يُظهر الحاجة إلى حثِّ الخطى على طريق تبنّي الحلول التكنولوجيَّة، مثل تلك القائمة على الطاقة المُتجددة. وإلى ذلك، ظهرَتْ حركة بحثية موازية، يُطلق عليها «حركة ما بعد النمو» أو «الحركة المناهِضة للنمو»، تقول بأن العالَم يحتاج إلى التخلِّي عن ضرورة مواصلة النمو الاقتصادي، من منطلَق أنَّ النمو في حد ذاته ضارّ. ومن أعلام هذه الحركة، كيت راوُرث، الباحثة في علم الاقتصاد بجامعة أوكسفورد، بالمملكة المتحدة، ومؤلفة كتاب «اقتصاديات الدونات» Doughnut Economics الذي صدر في عام 2017، وكان مصدر إلهام لحركتها الفكرية العالمية.
تجدُر الإشارة هنا إلى أن النمو الاقتصادي لبلدٍ ما يقاس عادةً بناتجه المحلي الإجمالي (GDP)؛ يُحسَب هذا المؤشر المركَّب استنادًا إلى الإنفاق الاستهلاكي، واستثمارات القطاعين الحكومي والخاص، من أجل الخروج برقم يوضح الناتج الاقتصادي لذلك البلد. و معروفٌ أنّ للحكومات إداراتٍ كاملة، تجعل كلَّ همِّها العمل على ضمانِ أن يشير منحنى الناتج المحلي الإجمالي دائمًا إلى الأعلى. وكما يقول باحثو حركة «ما بعد النمو»، فإن هذا المقياس يضعنا أمام مشكلة، خاصة عندما يتعين علينا الاختيار بين سياستين (إحداهما أكثر حفاظًا على البيئة من الأخرى)؛ إذ تتجه الحكومات في غالب الأحيان إلى الأخذ بالسياسة الكفيلة بتعزيز النمو على نحوٍ أسرع، من أجل دعم الناتج المحلي الإجمالي، وهو الخيار الذي يسبِّب غالبًا مزيدًا من التلوث.
وقد ورَدَ في تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية الأسبوع الماضي (انظر: gocire.com/ 3j9xcpi) أن صانعي السياسات كانوا ليعملوا على زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية من أجل جعلها في متناول الجميع، لولا "ولعُهم المرضي بالناتج المحلي الإجمالي". والحق أن نصيب الإنفاق الصحي من الناتج المحلي الإجمالي لا يساوي، مثلًا، قيمة الإنفاق العسكري، حسبما ذكر مؤلفو التقرير، وعلى رأسهم ماريانا مازوكاتو، باحثة الاقتصاد بكلية لندن الجامعية.
يجب على كلا الفريقين أن يتحدثا إلى بعضهما أكثر من ذلك، بدلًا من أن يتحدثا عن بعضهما. ولن يكون ذلك بالأمر السهل؛ لكن نظر كل فريق إلى أدبيات الفريق الآخر بعين التقدير قد يكون بمثابة نقطة الانطلاق. فمهما يكُن من شيء، فقد ألهم كتاب «حدود النمو» الفريقين كليهما: أنصار «النمو الأخضر»، وحركة «ما بعد النمو»، كما تأثر كلاهما على السواء بأول دراسة عن حدود قدرات كوكب الأرض (J. Rockström et al.Nature 461, 472–475; 2009)، وهي الدراسة التي حاولت التعرُّف على العمليات الفيزيائية الحيوية المحدِّدة لقدرة الأرض على التنظيم الذاتي.
وفي الحقِّ أن فرص التعاون باتت وشيكة حقًا. ففي أواخر شهر يناير الماضي، أعلن «المنبر الحكومي الدولي للسياسات العلمية المعنية بالتنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية» (IPBES) عن عزمه تدشين دراسة كبرى، تهدف إلى الوقوف على أسباب فقدان التنوع البيولوجي، بما في ذلك الأسباب المتصلة بالنظم الاقتصادية. ضمن هذه الدراسة، سيُمضي أكثر من مائة باحث، من أربعين دولة، متخصصين من مجالاتٍ شتّى، عامين كاملين في تقييم الأدبيات، للخروج بتوصيات من شأنها "إحداث تغييرات جذرية لتحويل مسار الأنظمة التي تدفعنا إلى الكارثة"، حسبما يقول آرون أجراوال، باحث العلوم السياسية بجامعة مشيجان في مدينة آن آربُر الأمريكية، وأحد المشاركين في الدراسة.
وثمة فرصة أخرى، تتمثل في إجراء مراجعة وشيكة للقواعد التي يُقاس على أساسها الناتج المحلي الإجمالي. يقوم على هذه المراجعة – التي يُنتظر أن تتمَّ في عام 2025 – عددٌ من كبار الإحصائيين من مختلف البلدان، وتنظمها منظمة الأمم المتحدة. للمرة الأولى، يبحث الإحصائيون كيف يمكن للاستدامة والرفاهية أن تكونا أكثر اتساقًا مع الناتج المحلي الإجمالي؛ ولدى كلا الفريقين (فريق «ما بعد النمو» وفريق «النمو الأخضر») وجهة نظر جديرة بالاعتبار.
قد تكون الأبحاث مقيَّدة بنطاق تخصصاتها؛ بحيث تظهر التوجُّهات المختلفة في بعض الأحيان لا لشيء إلا لوجود فوارق بين المجالات البحثية. ولكن على أنصار «النمو الأخضر» و«ما بعد النمو» أن يتجاوزوا الرؤى الضيقة، لرؤية الصورة الأشمل. ولما كانت الرؤى التي يصُوغها كل فريق، ويعرضها على صناع السياسات، مختلفةً كل الاختلاف عن رؤى الفريق الآخر، فإن هذا قد يؤدي إلى تأخير الانتقال إلى مرحلة وضع هذه الرؤى موضع التنفيذ. في عام 1972، حين صدر الكتاب موضع النظر، كان هناك متَّسع للنقاش، ولم تكن الحاجة مُلحَّة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة؛ أما الآن، فلم يعُد العالَم يملك ترف إضاعة الوقت.