كيف نساعد السوق الحُرّ على محاربة فيروس كورونا؟
دورية Nature
2021-08-29 02:09
بقلم: ستيفن ك. بورلي
إنّ معرفة أشكال بروتينات الفيروس المُتسبب في الإصابة بمرض «كوفيد-19» من شأنها التعجيل باكتشاف أدوية ولقاحات مضادة، ولكنَّ هذا لن يتحقق إذا ما اعترضت سبيلَنا عراقيلُ أخرى؛ سواءً أكانت مالية، أم تنظيمية، أم قانونية. ومن ثم، فإن مواجهة المرض تستلزم العمل على تذليل هذه العقبات، والتأهّب للتصدِّي لتفشي أوبئة أخرى، ستظهر حتمًا في المستقبل.
وبالعودة إلى منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لو وجد مطوِّرو الأدوية حينئذٍ حوافز مشجِّعة، لربما توافَر لدينا الآن دواء لمرض «كوفيد-19». ففي عام 2003، صمَّمت شركة «إس جي إكس فارماسوتيكالز» SGX Pharmaceuticals، التي توليتُ فيها إدارة النشاط البحثي آنذاك، أوّل بِنْية هيكلية لبروتين فيروس «سارس» SARS (البروتياز الرئيس للفيروس، الذي تستهدفه الأدوية)، وأودَعَته في «بنك بيانات البروتينات». أدهش قرارُنا المنافسين، لأن تلك البيانات أُتيحت دون قيودٍ أو التزامات بعوائد الملكية الفكرية. ومنذ ذلك الحين، تَبادَل المجتمع العلمي -بهذه الطريقة- المعلومات بشأن مئاتٍ من بِنى البروتين الهيكلية الإضافية لهذا الفيروس، ولغيره من فيروسات كورونا الأخرى. وكَشَفَ الكثير منها عن كيفية تعطيل البروتينات الفيروسية باستخدام جزيئات صغيرة.
عندما تفشَّى مرض «سارس»، كنتُ على ثقةٍ من أنَّ شركات الأدوية سوف تنتفع بتلك البيانات المفتوحة؛ لإنتاج أدويةٍ لعلاج هذا المرض.. لكنَّ شيئًا من ذلك لم يتحقق. وقد عاوَدَني التفاؤل مرةً أخرى إثر انتشار وباء «ميرس»، بعد مُضيِّ عَقْد من الزمن. ومن جديد، خاب أملي. يصف الاقتصاديون هذا بإخفاق السوق الحُر. ففي ظلِّ غياب تصوُّر واضح عن حجم العوائد المتوقعة من الاستثمار في تطوير الأدوية المضادة للأوبئة المستقبلية، تلجأ غالبية الشركات إلى التركيز على المجالات التي تتوفَّر لها أسباب النجاح التجاري.
ومن أجل ذلك.. يحتاج القطاعان؛ العام، والخاص إلى العمل معًا. هناك بالفعل مشروعات مشتركة لمواجهة الملاريا، وأخرى تهدف إلى التصدّي لقضايا بعينها، مثل مقاومة المضادات الحيوية، والأمراض المُهمَلة، غير أننا بحاجةٍ إلى تكثيف الجهود الرامية إلى احتواء فيروس كورونا؛ إذ من شأن ذلك أن يعزز قدرتنا على مجابهة انتشار الأمراض مستقبلًا، وأن يفتح أمامنا سُبلًا للتعامل مع الاحتياجات الطبية غير المُلَبَّاة. فعن طريق تكثيف الجهود، أمكن التغلُّب على إخفاقٍ آخر من إخفاقات السوق الحُر؛ كان ذلك في حالة مرض التليف الكيسي، الذي لم يعد يصيب سوى حوالى 70 ألف شخص حول العالم. فقد قامت مشارَكة مبتكرة بين «مؤسسة التليف الكيسي» Cystic Fibrosis Foundation -وهي مؤسسة غير ربحية، تتخذ من مدينة بيثيسدا بولاية ميريلاند الأمريكية مقرًّا لها-وشركة «فيرتكس فارماسوتيكالز» Vertex Pharmaceuticals المتخصصة في مجال التكنولوجيا الحيوية، في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس، تمخَّضت عن أدويةٍ جديدة آمنة وفعّالة.
قد يبدو أنَّ استثمار الأموال العامّة أو الخاصّة في مكافحة فيروس لم يُكتشَف بعد ضَرْبٌ من التهوُّر؛ بيد أنَّ الأمر لا يخلو من منطق. ففيروسات كورونا، شأنُها شأن العديد من الفيروسات الأخرى، تبدأ بإنتاج بضعة بروتينات أساسية في صورة سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية. ولا تؤدي هذه البروتينات وظيفتها قبل أن تفصلها «آلات قَطْع» تُعرف بالبروتياز الفيروسي. وبدون هذا البروتياز الرئيس، لا يمكن لعدوى فيروس كورونا أن تنتشر. والجديرُ بالذِّكر أن إنزيمات البروتياز الرئيسة بالفيروسين المسبِّبَين لمرضَي «سارس»، و«كوفيد-19» متطابقة على مستوى تسلسل الحمض الأميني بنسبة 95%. والأهمُّ من ذلك.. هو التطابق في المواقع النشطة (أو «المقصّات» الجزيئية) على مستوى الأحماض الأمينية، فيما يكمُن التباين الطفيف بينهما في البِنْية الهيكلية ثلاثية الأبعاد.
وأكبر الظن أنَّ العقار الذي ينجح في إعاقة عمل البروتياز الرئيس لأحد فيروسات كورونا سوف ينجح مع غيره من أفراد العائلة نفسها. ومن واقع خبرتي الممتدَّة في شركات الأدوية الصغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء، ومن موقعي كمدير لمركز البيانات الأمريكي التابع لـ«بنك بيانات البروتينات»، فإنني على دراية بمدى براعة تلك الصناعة في استهداف البروتياز. فهناك عشرات الملايين من الأشخاص الذين ينتفعون يوميًّا من مثبطات البروتياز التي تعالج ارتفاع ضغط الدم، أو الفشل القلبي.
إنني أدعو قادة العالم إلى الالتزام بطرح فئة جديدة من القواعد التنظيمية الخاصة بالأدوية واسعة المدى، بحيث يمكن الاحتفاظ بها على سبيل الاحتياط؛ لمواجهة انتشار الأمراض في المستقبل، مع وضع معايير مناسبة لإثبات عنصرَي الأمان، والفعَّالية. ويمكن للشركات أن تمنح الحكوماتِ والمنظمات غير الحكومية تراخيص تلك الأدوية، لقاءَ مقابلٍ مادي، وحماية من المسؤولية، وهي حوافز ضرورية، بخلاف مبيعات الأدوية، حتى إذا حلَّ بنا الوباء المقبل، تكون في إمكاننا الاستعانة بالتسلسل الجينومي للفيروس؛ لتحديد الأدوية التي تمثّل أفضل خيارات العلاج. وسوف توجَّه الأموال العامّة إلى تمويل أنشطة التصنيع والتوزيع. وبالمثل، يتعيّن كذلك التعجيل بإجراء التجارب الإكلينيكية للأدوية المُعتَمدة، أو تلك التي اجتازت اختبارات الأمان، والتي يمكن إعادة توظيفها لمقاومة أمراضٍ جديدة.
وثمّة تفاصيلُ كثيرة يتوجّب العمل عليها، ولكنّ المخاطر كبيرة لدرجة تجعلنا في حاجة ماسّة إلى إنجاح الأمر. فلَدَى صانعي السياسات الحكومية، وقادة الصناعة، وممثلي المنظّمات غير الحكومية أدوارٌ مهمة، يتعيّن عليهم القيام بها على صعيد بناء تَوَافُقٍ في الآراء، ووضْع إطار للعمل. أتذكّر أزمة الأوزون في ثمانينات القرن الماضي؛ حينما اعترف العالَم بالتهديد الوشيك للحياة على كوكب الأرض، وتكاتفت الجهود العلمية من أجل الربط بين مركبات الكلوروفلوروكربون، ونضوب الأوزون، مما دفع إلى توقيع بروتوكول مونتريال في عام 1987، الذي حظر إنتاج تلك المُركّبات. وفي عام 2019، ذكرت وكالة ناسا أن «ثقب الأوزون» السنوي قد تقلّص إلى أصغر حجم له منذ عام 1982.
تُبْرِز الأعداد المتزايدة من المصابين بمرض «كوفيد-19»، والوفيات الناتجة عنه، أنه يتحتَّم علينا الاستعداد للتفشِّي المقبل لفيروس كورونا. والموقف العلمي حيالَ ذلك واضح، مثلما كان في مسألة الأوزون. ويمكن القول -مستفيدين بمَيزة النظر إلى الوقائع بأثر رجعي- إن استثمار بضع مئات الملايين من الدولارات في أعقاب وباء «سارس» ربما كان ليَحُول دون سقوط آلاف الضحايا من جرَّاء الإصابة بمرض «كوفيد-19»، ودون وقوع خسائر مالية يُتوقّع أن تتخطّى تريليون دولار أمريكي على مستوى العالم. لقد آنَ للحكومات، وصناعة الأدوية، والمنظّمات غير الحكومية أن تواجه إخفاق السوق الحُرّ في الخروج بعلاجٍ طارئ لمواجهة هذه الأزمة.