حالة انهيار: هل بوسع القيادة اللبنانية المأزومة أن تنقذ البلاد؟
وكالات
2020-08-18 04:00
دفع الانفجار المروع بالعاصمة اللبنانية المثقلة بالجراح إلى الوراء 30 عاما بعنف لم يكن يخطر على البال حتى في البلد الذي كابد ويلات الكثير من الحروب والاجتياحات والاحتلال والضربات الجوية وتفجيرات السيارات الملغومة والاغتيالات.
وترك الانفجار المدينة، التي استغرقت عملية إعادة البناء فيها 15 عاما بعد حرب أهلية مدمرة من 1975 إلى 1990، بمرفأ محطم وأحياء بأكملها صارت أنقاضا، تماما مثلما كان الحال قبل ثلاثة عقود من الزمان، والآن، تبدد الأمل تقريبا. بحسب رويترز.
فهذه المدينة العتيقة المطلة على البحر المتوسط لملمت شتاتها ونهضت من بين الركام بعد الحرب الأهلية. وأعيد بناء بيروت لتصبح حاضرة متألقة تحتفظ بالكثير من بهائها القديم، وعاد قطاع كبير من أبنائها المغتربين المتعلمين من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والاقتصاديين والمحامين والفنانين للمشاركة في إعادة بناء بلادهم.
وتدفقت مليارات الدولارات من الدول الغربية والعربية ومن اللبنانيين المغتربين في أقاصي الأرض الذين يعتقد أن عددهم لا يقل عن ثلاثة أمثال سكان البلاد، وتظهر بيروت بانتظام في دوريات متخصصة مثل مجلة كوندي ناست ترافلر كوجهة سفر رائعة ومدينة للسهر والحفلات ينصهر فيها الجميع، مدينة ودودة وممتعة تتفجر بالحيوية وتجيش بالسحر والتنوع.
ومن المباهج التي تغوي بها الزائرين حياة الليل الجامحة والمهرجانات الدولية في أماكن أثرية ذات أجواء إغريقية رومانية وعثمانية مثل بعلبك التي تشتهر بمعابدها ومنها معبد جوبيتر ومعبد باخوس. ومن مغرياتها كذلك ما تقدمه من أطعمة شهية وأنبذة.
يتجول السياح على كورنيش بيروت أو يغامرون بصعود الجبل غير البعيد للتزلج على سفوحه أو يتنزهون في الجبال الغنية بغطائها الأخضر التي تشرف على المدينة، غير أن الانفجار الكارثي الذي أطلق سحابة على شكل ثمرة الفطر في سماء بيروت ربما يكون قد قضى على قدرة اللبنانيين الأسطورية على التكيف مع نوازل الدهر.
وقدر خبراء أن هذا الانفجار يعادل عُشر قوة القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما قبل 75 عاما في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقال جان كوبيس منسق الأمم المتحدة الخاص في لبنان لرويترز ”الوضع كارثة كبيرة حلت بالبلد وهو راكع. البلد منكسر والشعب مفلس ومنكسر“، واستقالت الحكومة بعد موجات من الغضب الشعبي من إهمال أدى إلى الانفجار الذي قالت إن السبب فيه كان 2750 طنا من مادة نترات الأمونيوم ذات القابلية الشديدة للاشتعال مخزنة بشكل غير آمن في مرفأ بيروت الذي يرى كثيرون إنه عنوان للفساد وسطوة أمراء الحرب، وقد تلقى الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء حسان دياب ومسؤولون آخرون وثائق تحذر من أن انفجار هذه المادة يمكن أن يدمر بيروت. وأصر عون ودياب على أنهما أحالا التحذير إلى السلطات المعنية، وأعلن الرئيس فتح تحقيق في الانفجار. لكن دبلوماسيين يتابعون النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية يشتبهون أن التحقيق ربما ينتهي إلى إخفاء أدلة أكثر مما يكشف، وبالنسبة للنخب التقليدية من أمراء الحرب وقيادات العائلات الكبرى في الطوائف المسيحية والإسلامية وحلفائهم من كبار رجال الأعمال سارت الأمور في طريقها المعتاد بعد الانفجار دون أن تحيد عن مسارها خلال العام الأخير الذي شهدت فيه البلاد أزمة اقتصادية متفاقمة، وقال كوبيس ”من المؤسف أن ما أراه هو أن الشخصيات السياسية والقيادات لا تزال تعمل بالطريقة المعتادة نفسها. بالطبع هم يدركون أن البلاد ربما تكون قد بلغت أقصى مدى، لكنني لا أرى أي تغيير في السلوك“.
ويقول دبلوماسيون ومسؤولون ومحللون إن هذه القيادات منشغلة الآن باختيار رئيس وزراء جديد سيتعين عليه أن يوافق على اتباع سياساتها والحفاظ على شبكات المحسوبية وتفادي الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي لمد يد العون، وعندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت عقب الانفجار قام بجولة في المنطقة المنكوبة وتجول في أحياء أصابها الدمار لمواساة المكلومين والاستماع لصوت الغاضبين، ولم يزر أي من حكام لبنان المناطق المنكوبة. وقال سكان إنه عندما التقى ماكرون بعون ودياب ونيبه بري رئيس مجلس النواب كان المعنى جليا إذ كان ماكرون وحده دون الثلاثة يضع رابطة عنق سوداء احتراما لضحايا الانفجار.
حكام بلا محاسبة
يقول دبلوماسيون ومحللون إن أزمات لبنان العديدة تنبع في الأساس من مشكلة واحدة هي حكامها وقدرتهم على الإفلات من المحاسبة، ففي نهاية الحرب ارتدى قادة الفصائل المتحاربة الملابس المدنية وتصافحوا وألقوا السلاح، باستثناء جماعة حزب الله الشيعية المدعومة من إيران. لكن هؤلاء القادة ظلوا في موقع القيادة وفي أغلب الأحيان تحت رعاية أجنبية، فاتجه السن، وشركاؤهم المسيحيون إلى الغرب والخليج بينما اتجه الشيعة وحلفاؤهم المسيحيون إلى سوريا وإيران، وتعمدت سوريا التي رابطت قواتها في لبنان لمدة 29 عاما ابتداء من 1976 الحفاظ على النظام الطائفي لكي تكون لها الكلمة العليا من خلال العمل بمبدأ فرق تسد. وقد اضطر الجيش السوري للخروج من لبنان في 2005 عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، أما إسرائيل التي احتلت أجزاء من جنوب لبنان على مدى 22 عاما فقد كانت الذريعة التي أسس عليها حزب الله احتفاظه بسلاحه. وأخرج حزب الله الجيش الإسرائيلي في العام 2000، ومنذ ذلك الحين أصبح حزب الله رأس الحربة الإيرانية في لبنان والمنطقة وقوة أقوى من الدولة نفسها في الداخل. وتلائم تركيبة القوى القائمة على قيادات الطوائف حزب الله ما دام أي منها لا يثير التساؤلات حول هيمنة الجماعة الشيعية.
وقال مراقب أجنبي ”هذا بلد ترسخت فيه ثقافة عدم المحاسبة. وهذا هو أبرز عنصر في لبنان. انفجار المرفأ راح ضحيته 170 شخصا ومع ذلك لا توجد مطالب قوية للمحاسبة على أعلى المستويات“، وقال المعلق اللبناني سركيس نعوم إن أمراء الحرب السابقين خلعوا الزي العسكري وارتدوا البذلات لكنهم ما زالوا يديرون البلاد بعقلية الميليشيا من فساد وطغيان وطائفية، وأضاف أن لبنان أصبح دولة فاشلة وأن أمراء الحرب أصبحوا مسؤولين مسؤولية مباشرة عن تحويل البلاد إلى دولة معطلة بسبب انقساماتهم وكراهية كل منهم للآخر. وتابع أن كلا منهم ربط نفسه بدولة أجنبية وتحالف مع قوى خارجية.
واتفق مهند حاج علي الباحث الزميل بمركز كارنيجي الشرق الأوسط في بيروت مع الرأي القائل بأن تطبيق إصلاحات عميقة في ظل الطبقة السياسية الحالية أمر مستبعد، وأشار إلى احتياطيات البلاد الناضبة من الدولارات فقال إن القيادات غير مستعدة للتخلي بهذه السرعة عن النظام القديم الذي يمكنها من تمويل أحزابها ومن مواصلة بذخها في الإنفاق. لكنه أضاف أن الوقت بدأ ينفد وأن لبنان لم يعد أمامه سوى العمل مع صندوق النقد الدولي أو الفوضى، وقد شهد اللبنانيون العاديون قيمة مدخراتهم تتبخر في المصارف المحلية التي حالت بينهم وبين حساباتهم. أما حكام لبنان ورجال المصارف فيواصلون على النقيض العيش في دعة، ويقول لبنانيون إن الاشتغال بالسياسة في لبنان عمل مربح حتى أن الساحة السياسية مرصعة بالمليارديرات. كما يقولون إن القيادات السياسية تستغل موقعها في تعيين أتباعها في الوزارات وتنهب المال العام وتقتنص لنفسها عقودا عامة مُبالغ فيها.
وثمة إجماع بين الدبلوماسيين على أن الحكومة المستقيلة طرحت خطة إصلاح معقولة في المحادثات مع صندوق النقد الدولي لكن لم يحدث شيء وذلك في الأساس لأنها لم تكن تحظى بالدعم السياسي من القوى التي رشحته، وقال نعوم إن الأطراف التي يحتمل أن تخسر من صفقة صندوق النقد الدولي هي نفسها أركان الدولة اللبنانية. مشيرا إلى أن هذه الأطراف اعتقدت أن بوسعها الحصول على عشرة مليارات أو 20 مليار دولار من صندوق النقد ثم العودة إلى أساليبها القديمة، ووسط هذه الفوضى بدأ نزوح جديد لأصحاب المهن مثلما كان الحال خلال الحرب الأهلية، وقال دبلوماسي ”هذا الانفجار أعاد لبنان للركوع من جديد. وما يحتاج إليه لبنان الآن هو نظام حكم حديث“.
فقدنا كل شيء
ظلت كلوديت حلبي تصرخ من تحت أنقاض منزلها على مدى ساعة كاملة.. ثم أسلمت الروح. لم يتمكن الجيران من فعل شيء لها، قال جوني خوند الذي كان يقف بالقرب من أنقاض بيتها في بيروت ”كنا نسمع الصراخ. سمعت صوتها لكن لم نقدر على عمل شيء. ما زال الأمر يعتصر قلوبنا“.
الانفجار المروع الذي وقع في المرفأ دمر المنزل المكون من ثلاثة طوابق مما تسبب في وفاة أربعة من بينهم كلوديت، وهي أرملة في السبعينات من العمر كان خوند الذي ولد في نفس الحي قبل 40 عاما يعرفها منذ أن كان طفلا.
وفي الكرنتينا، أحد أفقر أحياء بيروت والقريب من المرفأ، لا يزال الناس يعانون من تبعات الانفجار الذي وقع عصر الرابع من أغسطس آب ودمر منازل وفتك بأرواح العديد من الجيران الذين كانوا يشعرون أنهم عائلة واحدة، كل سكان الحي يعرفون بعضهم بعضا، وأجهش الجميع بالبكاء عندما تذكروا الانفجار.
وبعد مرور نحو عشرة أيام، يكابد الجيران لتدبير الأموال اللازمة لإعادة البناء دون مساعدة من الدولة في مدينة تغوص بالفعل في انهيار اقتصادي عميق، أدى انفجار مستودع المرفأ إلى مقتل ما لا يقل عن 172 شخصا وإصابة الآلاف وتدمير أحياء بأكملها، وأطاح بالجدران والشرفات في حي الكرنتنيا، وهو جزء مهمل من العاصمة.
كانت سلسلة الشوارع، التي تضم مجزرا ومصنعا للنفايات، شاهدا على أحد أسوأ المذابح في الحرب الأهلية التي دارت رحاها من عام 1975 إلى 1990، ومع هذا قال كثيرون إن الانفجار خلف في بضع ثوان أضرارا تفوق ما تسببت فيه الحرب الأهلية على مدار 15 عاما. ومع تراكم الحطام مجددا على أعتاب منازلهم، أقامت أسر أمضت عقودا في حي الكرنتينا خياما خارج مساكنها. باتوا ينامون الأرض أو على أرائك متهالكة في العراء دون أبواب أو نوافذ.. في انتظار المجهول.
إنقاذ حياتنا
قال جورج حلبي نجل كلوديت الذي جاء من الخارج للمشاركة في تشييع جثمانها ”أنا في كابوس لا أصحو منه. لا أصدق أني أنظر إلى نعش أمي“، وفي مقابر الكنيسة، أدى الانفجار إلى تطاير الأبواب التي توصد مدافن العائلة، فانبعثت رائحة كريهة أزكمت أنوف المشيعين، قال حلبي ”إنها جريمة بحق كل لبنان.. أمي نجت من الحرب“ لتموت في الانفجار، ومثل الكثير من اللبنانيين، أنحى باللوم في دفع البلاد نحو الخراب على النخبة التي حكمت البلاد منذ الحرب، ولا يزال التحقيق في ملابسات الانفجار جاريا، لكن المسؤولين أشاروا إلى وجود كمية ضخمة من المواد المتفجرة كانت مخزنة في ظروف تفتقر للسلامة في المرفأ لسنوات.
وقبل أشهر من انفجار المستودع، أتى انهيار العملة على ما جناه طوني مطر من متجر الأقمشة الخاص بعائلته، قال مطر (68 عاما) الذي وُلد جده في حي الكرنتينا ”مدخرات حياتنا كانت في هذا البيت... كان جنة لنا“.
الهزات القوية الناجمة عن الانفجار أسقطت الأبواب والخزائن والكراسي على ابنته باتريشا (25 عاما) التي قدمت إلى بيروت لحضور زفاف شقيقتها، ولن تتعافى من كسور عظامها قبل شهور، وقالت سعاد زوجة طوني وهي متشحة بالسواد ”كل مرة أعود فيها إلى المنزل أتذكر تلك اللحظة. أتذكر كيف سقطت ابنتي وأبكي“، كانت والدتها قد توفيت متأثرة بالسرطان قبل أيام وقالت ”لم يكن لدي حتى وقت للحداد عليها.. هل تتصورين أني حمدت الله على وفاتها حتى لا ترى هذا“.
صدمة طفل
فقد عبده بتروني الذي يعمل بالصيد مدخراته الضئيلة التي كان يودعها خزانة في غرفة نوم دمرها الانفجار، وتعتمد عائلته على التبرعات والمتطوعين الشباب الذين توافدوا للمساعدة من أنحاء البلاد. قال هو وآخرون إنه لم يجيء أي مسؤول للمنطقة التي استقر بها لاجئون منذ زمن وأصبحت لاحقا سكنا أيضا لبعض العائلات السورية والعمال المهاجرين.
كانت زوجة بتروني قد حمت بجسدها طفليها اللذين يبلغ عمر أحدهما تسع سنوات والآخر ثلاث سنوات. لم يصب أحدهما بخدش، لكن بتروني وجد ابنهما إيلي جاثما على الأرض يصرخ ”لا أريد أن أموت.. لا أريد أن أموت“، قال الأب ”لو مجرد صفقت يفزع وينفجر بالبكاء.. في الليلة الأولى ناموا جميعا بجانب بعض على مرتبة عند مدخل بلا باب“.
في كل زاوية كان هناك جيران يروون قصصا عن الخسائر، وأيضا عن الشجاعة.. رجل ألقى بنفسه على ابنته لحمايتها واحتاج عشرات الغرز.. امرأة حملت والدتها الطاعنة في السن ووضعتها بين خزانتين، قالت هدى جوني التي تدير متجرا صغيرا ”نشأنا معا وحضرنا زواج بعضنا بعضا.