النبي محمد (ص): مؤسّس الرحمة والعفو والإنسانية
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2022-10-13 07:40
(بالأخلاق والفضيلة، قولاً وعملاً، تقدّم الإسلام ودخل الناس فيه أفواجاً أفواجاً)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
تبقى البشرية بحاجة إلى التوازن والاستقرار، طالما هناك حياة مستمرة، فالكيان الاجتماعي البشري متضارب، متناقض، مصالحه متصارعة ومختلفة، وإراداته متعددة، ولهذا تعصف بعالمنا الحروب والنزاعات بسبب تصادم المصالح، وضعف المعايير واختلاف المكاييل، فليس هناك احتكام لمنطق الحق والعدل، والسياسة باتت اليوم محكومة بالمصلحة قبل الحق وقبل الأخلاق، وهذا ما أدى إلى اشتعال الأزمات العالمية واستمرارها.
سياسة الإكراه ومنطق القوة والفرض هي السبب في أزمات العالم، وهي المسبب الأقوى للتناحر بين الأمم، أو داخل المجتمع الواحد، فحين بُعث خاتم الأنبياء النبي محمد صلى الله عليه وآله رسولا ناصحا للبشر، واجهته مشكلة التناحر داخل المجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية، وكانت الصراعات على أشدّها، مع غياب شبه تام للقيم والأخلاق والضوابط.
بدأ معهم الرسول (ص) بسياسة الأخلاق ونشر الفضيلة وقيم العفو واللين والرحمة والتعاون، ولم تكن هذه القيم مصنّعة أو طارئة أو جاءت نتيجة لمصلحة سياسية أو سلطوية معينة، بل كانت هذه الأخلاقيات حقيقة ملموسة في شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهذه القيم تشكل حجر الزاوية في شخصيته وسياساته وقراراته وتعاملاته مع الآخرين.
فقد تعامل النبي (ص) مع عدوّه (سهيل) بأسلوب أخلاقي لم يعهده هذا الشخص ولا مجتمعه الذي كان التطرف يتفشى فيه، وتحكمه العلاقات القائمة على النزاع والتصادم، كانت أخلاق النبي (ص) هذه وأسلوبه المتّسم بالفضيلة، أول طريق التغيير الأخلاقي للأمة التي أنقذها الإسلام من براثن الأزمات والتصادمات والكراهية، هذه الأخلاق الفاضلة غيّرت العدو إلى صديق، ودفعته للانضمام في الدين الاسلامي وترك الشرك.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في إحدى محاضراته القيّمة:
(في فتح مكّة المكرّمة لم يجبر رسول الله صلى الله عليه وآله سهيل (وهو عدوّه المشرِك) على الإسلام كما لم يجبر غيره، ولكن الأسلوب الفضيل من رسول الله صلى الله عليه وآله في تعامله مع المشركين وبالذات مع سهيل صار سبباً لأن يسلم سهيل طوعاً ورغبة).
إطفاء العداوات بالفضيلة
بهذا الأسلوب الأخلاقي الكبير، استطاع النبي (صلى الله عليه وآله) أن يليّن القلوب ويهدي النفوس، ويغيّر العادات والاعتقادات، وتم بناء دولة المسلمين العظمى، تلك الدولة التي صارت في غضون عقدين ندًّا قويَّا لأعظم الدول في ذلك الحين، وكل هذا بسبب الأسلوب الأخلاقي النبوي في تعامله مع ألد أعدائه، فأثَّر بهم وكسبهم مسلمين مخلصين.
وبسبب هذه الأخلاق الرفيعة، تدفق الناس أفواجا أفواجا للدخول في الإسلام، ودافعوا عمّا آمنوا به، ولم يسمحوا للارتداد عليه بعد أن استشهد الرسول (صلى الله عليه وآله)، بل من المفارقات العجيبة أن ألد أعداء الرسول والإسلام منع هذا الارتداد، وهدى الشباب المرتدين إلى البقاء على دينهم والدفاع عنه بقناعة وإيمان.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (بعد أن استشهد رسول الله صلى الله عليه وآله، عرض بعض شباب المشركين في مكّة، على مجموعة من الشباب أن يرتدّوا عن الإسلام، مع انّ أحداً منهم لم يكره على الإسلام، ولم يجبروا عليه، وإنّما كان للجو الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله بأخلاقه، حيث جعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. ولما طُرِحت هذه الفكرة بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، على أن يرتدّ المشركون في مكّة عن الإسلام، قام فيهم سهيل بن عمرو خطيباً وقال لا تكونوا آخر من أسلم وأوّل من ارتدّ، ومنعهم بهذا الكلام من أن يرتّدوا).
كل العداوات تمكن الرسول (صلى الله عليه وآله) من إطفائها بأخلاقه الفاضلة وتواضعه، وعفوه وتعاونه، والتعامل مع الجميع حتى أعدائه بروح إنسانية عالية، حتى في الحروب الدفاعية أو السلاح أو طبيعة التعامل، كانت الأخلاق والإنسانية هي التي تطبع تعاملات النبي، فيهيمن بهذا السلوب على القلوب، ويكسب تأييد الجميع، ويؤثّر فيهم.
هذا ما جاء في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(هكذا وبالأخلاق في مسألة الحروب ومسألة الأسلحة وفي المعاملة مع الذين أسّسوا الحروب ضدّ رسول الله صلى الله عليه وآله، كالحرب الأولى وهي حرب بدر، ثم الحرب الثانية والثالثة والرابعة والعاشرة والعشرين والثلاثين، كان سهيل بن عمرو أحد المحاور فيها، وقد ابتدؤوها ضدّ رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان في كل حروبه، بلا استثناء، في موقع الدفاع فقط وفقط).
إنه الدرس البليغ الذي يجب أن يتعلمه الجميع، سواء كانوا في مناصب قيادية رفيعة ومسؤولية كبيرة، أو في وظائف صغيرة، أو حتى أولئك الذين لا ينتمون للمناصب الحكومية، فالجميع يجب أن يتعلم من الرسول (صلى الله عليه وآله) كيف يحافظ على إنسانيته، وكيف يكسب الناس بأخلاقه وأسلوب تعامله، سواء كان مسؤولا ذات منصب عال، أو كان إنسانا بسيطا من عامة الناس، فالأخلاق يحتاجها الجميع صغارا وكبار في المسؤولية.
ليتعلّم حكام اليوم من أخلاق النبي (ص)
إذًا كانت الأخلاق، واعتماد العفو، والرحمة في التعامل مع الناس، هي السبيل لكسبهم إلى الإسلام، بمن في ذلك الأشخاص الذين كانوا يضمرون الكراهية والعداوة للنبي (ص)، وللإسلام والمسلمين، فدخلوا الإسلام أفواجا أفواجا، بعد أن لاحظوا التعامل الإنساني، والتواضع، والرحمة التي تملأ القلوب، وتشذب نفوس الناس وسلوكهم.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(بهذه الأخلاق، وبهذه الفضيلة، قولاً وعملاً، من رسول الله صلى الله عليه وآله تقدّم الإسلام ودخل الناس فيه أفواجاً وأفواجاً).
هنا لابد من أن نتساءل، إذا كانت هذه الأخلاقيات، وهذا النوع من التعامل منع الآخرين، وهذه القيم النبيلة قادرة على تحويل العدو إلى صديق، والمعارض إلى مؤيّد، فلماذا يُحجم المسؤولون والقادة السياسيون وغيرهم عن اعتماد هذه الأساليب المتحضّرة في كسب الآخرين، لماذا لا يتواضع قادتنا اليوم، ولماذا لا يحسنوا أساليب تعاملهم حتى يكسبوا الناس، ورضا الله تعالى في آن واحد؟
الرسول (صلى الله عليه وآله) يقدم دروسا عظيمة للقادة وللحكام وحتى للحكومات، دروسا في كيفية التعامل مع الناس، بمن فيهم الأعداء أو عامة الناس، وما على هؤلاء القادة والحكام وغيرهم، سوى التمسك بهذه الدروس بعد دراستها بشكل جيد وعميق، ومن ثم الاستفادة منها وتطبيقها في حياتهم العملية كحكام وقادة للناس.
إن ثقافة الفضيلة وثقافة الرحمة والإنسانية والعفو التي تعامل بها الرسول (صلى الله عليه وآله) مع أعدائه ومؤيديه، هي التي نشرت هذه القيم، وضاعفت من مكانة الإسلام بين الناس، ولابد من الاستمرار في نشرها بين البشر، حتى يعرف الجميع ما هو الإسلام، وما هي القيم والأخلاقيات التي يدعو لها ويؤمن بها.
ولذا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(أليس من الواجب على الجميع أن ينشروا ثقافة الرحمة وثقافة الفضيلة وثقافة الإنسانية وثقافة العفو الصادرة من رسول الله صلى الله عليه وآله في العالم، كي يتعلّم الجميع ذلك شيئا فشيئا، من مسلمين وغير مسلمين، وخصوصاً الحكومات الإسلامية ورؤساء الحكومات).
وأخيرا على المسلمين وهم يعيشون هذه الأيام المباركة ولادة خاتم الأنبياء الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، أن يعملوا بمسؤولية نشر الأخلاق المحمدية، ونشر ثقافات القيم التي جاء بها (ص) ودعا لها، وزرعها في النسيج الاجتماعي، وأعطت نتائجها الباهرة، حيث انتقل الناس من ظلام التطرف، إلى نور التسامح والتسالم والإيمان.