تصحيح اليقين
المرجع الديني السيد صادق الشيرازي
2022-02-09 06:48
(وَصَحِّحْ بِمَا عِنْدَكَ يَقِينِي)
الامام علي بن الحسين السجاد (ع)
إنّ أعلى درجات العلم عند الإنسان هو اليقين. فقد يسير الإنسان على طريق ما بهدف الوصول إلى غايته، وفي الوقت نفسه يكون شاكّاً في سلامة هذا الطريق ومدى صوابه، ومع ذلك يصل إلى مرامه ومقصوده إن استعمل الاحتياط. وقد يسير الإنسان على الظنّ، فيكون احتمال نجاحه أكبر. ولكن مهما قوي الظنّ فإنّه لا يبلغ مرحلة اليقين، لأنّ اليقين أعلى مرتبة في العلم يمكن أن يبلغها الإنسان.
بيد أنّه حتى اليقين كثيراً ما ينكشف أنّه كان خلاف الواقع، فهناك حالات كثيرة من اليقين يتبيّن أنّ الإنسان كان مخطئاً فيها.
وهذا الانكشاف قد يكون بعد آن وقد يكون بعد مرور أشهر، وقد لا يتحقّق إلا بعد مرور سنوات - وهناك أمثلة كثيرة على هذا الأمر(1) - وأحياناً قد لا ينكشف زيف يقين مّا إلا في الآخرة والعياذ بالله، وهذه هي الطامّة الكبرى.
اليقين بالله أفضل اليقين
روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار»(2).
فهناك من يعبد الله تعالى عبادة العبيد، حيث يدفعه خوفه من النار للامتثال، فلا يكذب ولا يظلم ولا يرتكب ما حرّم الله تعالى؛ خوفاً من نار جهنّم، ويقوم بالطاعات والواجبات للسبب نفسه، فهو يصلّي ويصوم ويتصدّق على الفقراء لتحاشي الوقوع في العذاب. وهذه مرتبة من اليقين أيضاً وإن كان سببها الخوف، ولكنّها مقبولة على كلّ حال، والالتزام بهذا الحدّ لا بأس به، وما أسعد الناس لو التزموا بهذا الحدّ وبهذا المقدار. ولكن إذا ما قورنت هذه الحالة وهذا المقدار بمن يعبد الله لأنّه أهل للعبادة فإنّها ستبدو ناقصة أو كالأعور في مقابل من له عينان صحيحتان. فالأعور لا يمثّل الحالة الفضلى ولكنّه أحسن من الأعمى على كلّ حال، ولا مناقشة في الأمثال.
وهناك من يعبد الله تعالى طلباً لثوابه وطمعاً في الجنّة التي حشوها البركة(3).
[وأكبر النعم في الجنّة رضوان الله تعالى؛ يقول تعالى: ﴿وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ﴾(4) بمعنى أنّ علْم أهل الجنّة بأنّ الله راض عنهم يعدّ من أكبر النعم. لتوضيحٍ أكثر نقرّب الموضوع بمثال:
لو أنّك كنت تحترم شخصاً ما ولنفرض أباك وكان يكرمك ويعطيك المال بل يُعطيك من وقته واهتمامه، ولكنك لا تعلم هل هو راض عنك حقّاً، فإنّك إذ ذاك لا تشعر بالقيمة الحقيقيّة لما يقدّمه لك، ولكن إذا كنت تعلم بأنّه راض عنك فسيكون رضاه أهمّ شيء وأكبر مكسب عندك. والأب مثال في المقام وإلا فقد يكون من تحبّ صديقاً عزيزاً أو غيره.
وهكذا الحال في شعور المؤمن باللذة في الجنّة، فإنّ أكبر مكافاة له هي شعوره برضى الربّ تعالى عنه].
ولكن تبقى هذه الحالة (العبادة طمعاً في الجنّة) أيضاً عبادة تجّارـ كما عبّر عنها الإمام عليه السلام ـ وهي أدنى مرتبة من عبادة الأحرار التي لا تنبع من خوف ولا طمع بل من يقين بأنّ الله تعالى يستحقّ العبادة.
روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قوله: «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(5).
ولتوضيح المطلب نذكر مثالاً: إذا كان لمرجع دينٍ خادمٌ وصديقٌ ومقلّد، أما الخادم فتراه يُجدّ في عمله مخافة أن يُطرد ويُبدل بآخر إن لم يؤدّ مهمّته على الوجه المطلوب لأنّ الهدف الذي كان يتوخّی منه لم يتحقّق. فهو يعمل بجد ولا يتخلّف عن الحضور في الأوقات المطلوبة للخدمة مخافة الطرد أو الاستغناء عنه.
أمّا الصديق فتراه يحاول أن يحبّب أو يقرّب نفسه للمرجع أيضاً، ولكن بدافع مختلف عن الأوّل، لأنّه لا يبتغي مالاً من وراء ظهوره بالمظهر اللائق الذي يجعل المرجع يرتاح إليه. بيد أنّه هو أيضاً ربما يكون يبحث عن منفعة وإن لم تكن المنفعة مادّية بصورة مباشرة، كما لو كان يحاول أن يكسب ثقة المرجع أكثر فأكثر ليكون من مقرّبيه؛ لينال حظوة أو مكانة اجتماعية، ومن ثمّ يكون مؤثّراً في المجتمع، أو ذا كلمة مسموعة قد يستطيع من خلالها أن يحصل على فوائد مادّية أو فئوية.
بينما المقلِّد لم يقلّد المرجع خوفاً ولا طمعاً بأيّ نفع مادّي أو اجتماعي وإنّما قلّده لأنّه رآه أهلاً لذلك. فإذا قال المرجع إنّ الصلاة كذا قال سمعاً وطاعة، وإذا قال الخمس كذا نفّذ مقالته بلا تردّد.
فطاعة المقلّد لأقوال المرجع والامتثال لأوامره نابعة من نظرته للمرجع في أنّه ممن يجب تنفيذ أقواله وامتثال أوامره فهو مرجعه المتخصص في الشؤون الشرعية، وليس خوفاً من طرده كالخادم أو الأجير ولا طمعاً في كسب الدنيا من ورائه كبعض الأصدقاء.
هكذا هو حال الأئمة عليهم السلام في علاقتهم بالله، فهم لا يعبدونه سبحانه خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنّته وإنّما رأوه أهلاً للعبادة فعبدوه.
اليقين باعث على الطمأنينة
الإنسان الذي يؤمن بالغيب وعنده يقين بأنّ المقادير كلّها بيد الله تعالى، ينعم براحة بال دائمة وطمأنينة واستقرار؛ لأنّه يعتقد بأنّ كلّ ما يصيبه إنّما هو بقضاء من الله وقدره؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إلاّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا﴾(6). ولكن هذا لا يعني أن لا يعمل الإنسان بالشروط والأسباب الطبيعية التي أمره الله تعالى بها، مبرّراً فشله بعد ذلك بأنّه مكتوب عليه من الله سبحانه.
فلو أنّ طالباً تقاعس عن الدراسة ولم يصبح متعلماً رغم مرور السنين، فهذا لا يمكنه القول إنّ الله عزّ وجلّ كتب عليه الجهل والتخلّف. فإنّ الله تعالى كتب أنّ طريق الرقي العلمي هو الجد والاجتهاد، ولابدّ من سلوكه للوصول إلى الهدف، ولا شكّ أنّ من لا يسلك الطريق لا يصل إلى الغاية. والشيء نفسه يصدق على كلّ مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، فكما أنّ الله تعالى سنّ قوانين تشريعية مثل ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾(7) وغير ذلك من الفروض والواجبات أو النواهي والمحرّمات مثل ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾(8) وغيرها، فكذلك هنالك لله عزّ وجلّ سنن تكوينية يستتبع التخلّف عنها شقاءً لازماً، مثل ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾(9).
إذاً على الإنسان أن يعمل بالأسباب الظاهرية، فإن لم يوفَّق مع ذلك يستسلم إلى تقدير الله ويردّد قوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا﴾.
من يصحّح اليقين غير الله عز ّ وجلّ؟
الظاهر من عبارات الإمام السجّاد سلام الله عليه في هذه الجملة والتي قبلها أنّه عندما طلب توفير النيّة ذكر السبب الذي يتمّ به توفّرها وهو لطف الله تعالى فقال: «اللهم وفّر بلطفك نيّتي»، ولكنّه عندما طلب تصحيح اليقين - وهو أهمّ ما يبني عليه الإنسان العاقل حياته - أوكل الأمر في تعيين السبب والوسيلة إلى الله تعالى نفسه، فلم يقل بلطفك أو أيّ صفة من صفاتك يا إلهي بل قال: «بما عندك» أي بالصفة التي تراها أنت يا إلهي؛ ولا يُتوهّم أنّ الإمام لم يذكر السبب ههنا من جهة أنّه قد لا يكون بمستوى أفهامنا ـ فإنّه سلام الله عليه ليس بصدد التفسير والبيان، بل هو في حالة سؤال من الله تعالى ـ ولكن ليثبّت حقيقة ويكشفها لنا وهي: أنّ موضوع تصحيح اليقين مشكل جدّاً، لأنّ الإنسان إذا كانت نيّته غير صالحة فهو يعلم بذلك، ولكن أنّی له أن يعلم أنّ يقينه غير صحيح وهو علی يقين؟!
ولفظة «ما» الموصولة - كما نعلم - تستعمل للعاقل وغير العاقل، للمفرد والمثنّى والجمع، والمذكر والمؤنّث على السواء، فهي أعمّ لفظة.
هل يستطيع أن يصحّح اليقينَ الخاطئ غير الله تعالى؟ إنّ الإنسان في شدةّ قوّته هو في منتهی الضعف، فكيف في ضعفه؟ ولذلك يعلّمنا الإمام صلوات الله عليه أن نتوسّل في مثل هذه الحالات إلى الله تعالى، فنقول: «اللهم صحّح بما عندك يقيني»، فكان اختياره سلام الله عليه لكلمة «بما عندك» في غاية الدقّة والروعة.
أي: يا إلهي أنا لا أعرف أسلوب تصحيح اليقين، فأنت الذي تصحّح لي ـ بما عندك ـ يقيني، لأنّ المرء عندما يكون متيقّناً بشيء فمعناه أنّه متيقّن بصحّته فكيف يصحّحه؟ أجل، إنّ الله سبحانه قادر على أن يبدّل يقين الإنسان إن كان زائفاً إلى اليقين الصحيح.
فرُبّ شخصٍ اعتمد علی صديق له ووثق به ثقة مطلقة، فأودعه أسراره وكشف له عن أموره خاصّها وعامّها، ثمّ تبيّن له بعد ذلك أنّه كان يتجسّس عليه وينقل أخباره إلى أعدائه! والعكس بالعكس(10).
فمن ذا الذي يصحّح يقين الإنسان والحال هذه؟ لا شكّ لا أحد غير الله عزّ وجلّ، ولا طريق لذلك إلا الدعاء! قال تعالی: ﴿قُلْ مَا يَعْبَاُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾(11).
إنّ الإنسان الذي لا يدعو الله تعالى لا يستحقّ العناية الإلهية، ومن لا يستحقّ العناية فليس من الحكمة أن يُعطاها. إنّ الطفل مهما كان عزيزاً عند أبويه فإنّهما لا يعطيانه صكّاً نقدياً كبيراً ليلعب به مع الصبية في الطرقات، لأنّه غير مدرك لقيمته، وقد يباغته شخص ويسرقه منه. فإذا كان الأبوان حكيمين فإنّهما لا يعطيانه الصك مهما بكى وألحّ، إذ ليس من الحكمة إعطاؤه. وهكذا الإنسان غير المستحقّ لعناية الله تعالى، ليس من الحكمة أن يعطاها.
ولذلك نرى الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين يتضرّعون إلى الله عزّ وجلّ في دعائهم، تضرّعاً لا يبلغه سواهم، وهم الذين خلقهم الله تعالى في الذروة وطهّرهم من كلّ رجس، والروايات في هذا المجال كثيرة وما وصلنا لا يشكّل إلا نزراً يسيراً لأنّ أكثر عبادتهم عليهم السلام كانت في الخفاء، وهذا هو شأن من يعبد الله عزّ وجلّ حقّ عبادته لمّا وجده أهلاً للعبادة.
فحال الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم مع المولى تعالى شأنه؛ هو أنّهم رأوه أهلاً للعبادة، فبالغوا في عبادته ودعائه والتضرّع إليه، وما ظهر لنا في هذا المجال عنهم صلوات الله عليهم لا يمثّل إلا القليل النادر مما لم يظهر أو لم يُنقل.