سِحرُ الأَخلَاقِ وَفَنُّ التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ
قراءة في افكار المرجع الشيرازي
عبد الحسين السيد
2021-12-07 08:01
مقدمة ضرورية
قرأت اليوم معلومة فوقفت عندها طويلا متأملا ورحت أراجع الكثير من المعلومات والأفكار التي نطيل الحديث عنها ونغفل مثل هذه الحقائق الواضحة التي تلمع كالشمس الساطعة في كبد السماء.. إنها معلومة وملاحظة قرآنية، ولكن نحن نغفل عن حقائق القرآن هذه ونذهب بعيدا ونسبح في بحار الأزرقين، السماء والماء، ونترك هذه النفس التي بين الجنبين وهي تنطوي على أعظم آيات الخلق..
فلماذا نترك الماء ونركض خلف السراب في الأرض، والسحاب في السماء؟
فمن الحقائق القرآنية أنك تجد فيه العجب العجاب فالقرآن الحكيم هو قبل كل شيء، وفوق كل شيء هو كتاب هداية، وتربية، وصناعة الإنسان وفق منهاج السماء ورب العالمين الذي أنزله على حبيبه ورسوله المصطفى (ص) ليصنع البشر ويُربِّيهم ليقوموا وينهضوا فيصنعوا الحضارة الإنسانية الراقية ويعيشوا السعادة النسبية في هذه الحياة..
وإليك هذه المقارنة البسيطة لبعض جوانب القرآن الحكيم، التي نحن نغفل عنها عادة رغم شدة وضوحها لدى العلماء.. فالقرآن الكريم يتضمن (٦٢٣٦) آية، أو (٦٦٦٦)..
- وآيات العبادات في القرآن، فهي لا تزيد عن (١٣٠) آية فقط.. أي نسبة ٢٪ من القرآن.
- في حين أن آيات الأخلاق فهي أكثر من (1500) آية، أي نسبة ٢٤٪ من القرآن.. فهي تشكل ربع القرآن تقريباً.. مع ذلك أخذنا وركَّز عدد كبير منا نحن المسلمين على العبادات، وتركوا الجزء الأكبر من المعاملات، وهي أساس وأصل البعثة النبوية الشريفة كما قال (ص): (إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)، فالبعثة النبوية، والرسالة الخاتمة كانت لتتميم المكارم، والقيم، والفضائل، بهذه المنظومة القيمية الرائعة، التي لا يوجد في الدنيا كلها نظيراً أو شبيهاً بها.
علماً أن هذه المنظومة هي كلها قيم أخلاقية حتى العبادات، فهي برنامج تأديب للإنسان أمام الله سبحانه خالقه ورازقه وصاحب النعم كلها عليه، فهي أدب العبد مع الرب، والقياد بكل الواجبات والفرائض، والابتعاد عن كل المحرمات والنواهي والزواجر تأدية لحق الطاعة لهذا السيد العظيم رب العالمين، فهي نابعة من صميم الأخلاق، والمطلوب من الإنسان تهذيب نفسه ببرنامج ربه.
مهمَّة وهدف الدِّين
فالمتأمل في مهمَّة الدِّين – أي دين – هو تربية الإنسان، وضبط حركته وفق رؤية معينة يطرحها الدِّين نفسه، لأن هدف الدِّين تربية البشر وهدايتهم إلى منجاتهم، وما يُنقذهم من الهلكة، فهدف الدِّين هداية الإنسان، ورسالته اجتماعية عامة لبناء المجتمع الإنساني بكل قيمه الذي يتربع على قمتها العدل في الحكم، والقسط في المجتمع، وهذا في الحقيقة والواقع لا يمكن ضبطه إلا بضبط الحياة وحركتها ببرنامج الدِّين وقانونه وتشريعه في كل مفاصل الحياة العامة والخاصة ليكون الدِّين هو الاطار المنظِّم لحركة البناء والتقدم والتطور الاجتماعية كلها.
وما يُميِّز الدِّين الإسلامي العظيم عن غيره من الأديان السماوية والأرضية المخترعة هو أنه لديه برنامجاً دقيقاً لتربية الإنسان الفرد، كشخص واحد لأن الجنة والنار مشروع شخصي، فهو المسؤول عن تربية نفسه وفق هذا البرنامج الذي يوصله إلى الجنة ودرجاتها، أو إلى النار ودركاتها، وكذلك لديه برنامجاً لتربية المجتمع، ابتداء بالأسرة وحتى الدولة والأمة، كمجتمع إنساني متكامل وموحد، وهذا مشروع عام يشترك فيه الجميع لأن عوائده تعود للجميع وأضراره أيضاً تنعكس عليهم جميعاً إن خيراً أو شراً.
فالبرنامج الإلهي الذي يُقدِّمه الدِّين الإسلامي لك أيها الإنسان لتكون لائقاً أن تدخل جنَّة القدس وترافق أولئك العظماء من البشر قال تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) (النساء: 70)، نعم؛ وهذا من أعظم نعم الله تعالى عليك وأنت ترافق سادة البشرية..
وكذلك يفعل البرنامج بالمجتمع البشري، الذي يُربيه ليكون لائقاً ببناء الحضارة الراقية في هذه الدنيا، ويسكن جنان الخلد الوارفة في الآخرة ويُجاور الرَّب سبحانه، وينعم بكل أشكال وأنواع النعم الربانية التي لا تعد ولا تحد، ويعيش السعادة الأبدية التي كان يبحث عنها طيلة حياته في هذه الدنيا التي ما خُلقت إلا لتكون قاعة امتحان واختبار كبرى للبشر، قال تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (هود: 7)، فالاختبار بالعمل، والنجاح وتفاوت الدرجات بالأحسن، والكرامة التي ما بعدها كرامة، والشرف الذي فوق كل شرف هو التقوى ورضا الله سبحانه قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، فالدنيا دار اختبار وهي ممر لا مقر، وفاز فيها المخفون.
ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أكثر ما تلج به أمتي الجنة؛ تقوى الله، وحسن الخلق)، فالتقوى حُسن المعاملة مع الرَّب الخالق سبحانه، وحُسن الخُلق حُسن المعاملة مع الخلق، وبهما ندخل الجنة، والعجيب أن الله سبحانه في القرآن الحكيم يُقدِّم القول الحسن على كل العبادات وذلك في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة: 83)، وهذا ما أكده رسول الله (ص) في قوله: (عليكم بحُسن الخُلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسُوء الخُلق، فإن سوء الخُلق في النار لا محالة). (سنن النبي (ص): ج2 ص86)
الدِّين المعاملة بالحُسنى
جاء في أدبياتنا الدينية التي أخذناها عن أهل بيت العصمة والطهارة (ع) قولهم: (الدِّين المعاملة)، و(أعدل السِّيرة أن تعامل الناس بما تُحبُّ أن يعاملوك به)، و(اصحب الناس بأيّ خلق شئت يصحبوك بمثله)، و(أعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه، وكره لهم ما يكره لنفسه)، وجماع الحكمة ما جاء في وصيّة أمير المؤمنين (ع) لابنه محمّد بن الحنفيّة: يا بنيّ! أحسن إلى جميع الناس كما تحبّ أن يُحسن إليك، وارضَ لهم ما ترضاه لنفسك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وحسّن مع جميع الناس خلقك، حتى إذا غبتَ عنهم حنّوا إليك، وإذا متّ بكوا عليك).
ويروى أنه جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدِّين؟ فقال: (حُسن الخُلق)، ثمّ أتاه من قبل يمينه فقال: يا رسول الله ما الدِّين؟ فقال: (حُسن الخُلق)، ثمّ أتاه من قبل شماله فقال: يا رسول الله ما الدِّين؟ فقال: (حسن الخُلق)، وفي الحقيقة هذه خلاصة رسالة الأنبياء والرسل (ع) جميعاً، فما من نبي ولا رسول إلا كان آية من آيات الله في الأخلاق والقيم والفضائل في قومه، ولذا اتُّهموا جميعاً بالسِّحر، كما اتهمت قريش القرآن الكريم بأنه: (سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (المدَّثر: 24)
فللأخلاق الحسنة، والمعاملة الطيبة أثرها الذي يفوق السِّحر في الأمم والشعوب، وهذه صفات الأنبياء جميعاً (ع) لا سيما الرسول الخاتم محمد (ص) الذي وصفه رب العزة والجلال وأثنى عليه في أخلاقه ووصفها بالعظمة حيث قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)
وقال سبحانه عن سبب جذبه للناس: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159)
فالدِّين المعاملة لها معنى كبير وواسع، وشامل لجميع نواحي الحياة، العلمية العملية، في السياسة والاقتصاد، والإدارة والاجتماع، والتربية والتعليم، وغيرها من القطاعات الاجتماعية، فالمعاملة والسلوك الحَسَن، والأخلاق الطيبة، والكلمة الصادقة، والمحبة النابعة من القلب للجميع، هي التي تؤثر في الناس فتجذبهم لصاحبها، وداعيها، ومبلغها وهذا ما تتميَّز به المدرسة الشيرازية المباركة في هذا العصر، وهي ما توارثته كابراً عن كابر، فكل مَنْ كان يزور الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمة الله عليه) كان يخرج من عنده مسحوراً بأخلاقه وحُسن كلامه، وطيب معشره.
وكذلك المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في هذا الوقت، فإنه مدرسة متكاملة في الأخلاق النظرية والعملية، وهذا بيته المكرم يشهد له بذلك، ومجلسه اليومي يحكي عن قصص تكاد لا تنتهي عن أخلاقه الطيبة، وكلماته الحسنة، ويكفيك ابتسامته الدائمة، وبِشره الظاهر على وجهه الشريف ليُعطيك هذا الانطباع الإنساني الراقي جداً، ويمنحك الأمان وأنت في محضره الشريف..
عمارة الأرض بالصالحات
الإنسان خلقه الله تعالى ليُعمّر هذه الأرض بالصالحات، والمبرات، وأعمال الخير، ووهبه نعمة العقل، والفكر، والإرادة للتدبير الحسن، ومخالقة الناس بالحُسنى، ومعاشرتهم بأخوة ومحبة، وليكون مسؤولاً عن تغيير مجتمعه نحو الأحسن والأفضل، والإنسان كائن اجتماعي فلا بُدّ أن يرتقي بسلوكه وتصرفاته مع غيره، حيث يبدأ ببناء علاقته الطيبة مع أسرته وعائلته الصغيرة، ثمّ مع المجتمع والأمة وأسرته الكبيرة، وينطلق حتى يكون فاعلاً في أسرته الإنسانية، وذلك لا يكون إلا بالكلمة الطّيبة، والتّصرف بالحكمة، والموعظة الحسنة، وهذا جوهر الدعوة إلى الله التي يقوم بها السادة الشيرازية، وعلى رأسهم سماحة السيد المرجع صادق الشيرازي (حفظه الله).
يقول سماحته في محاضراته المجموعة في كتابه الرائع "العلم النافع" مشيراً إلى مقدَّميَّة الدَّعوة والأخلاق على العبادة حتى من الرسول الأعظم (ص)، حيث يقول: "لكنّا نرى أنّ هذا الرسول العابد الذي أبلتْه العبادة حتى خاطبه الله تعالى بقوله: (طه*مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه: 2) يرجّح في كثير من الأحيان التجوّل في الشوارع والطرقات، أو المساجد، أو البيوت، للتبليغ وهداية الناس، على العبادات المستحبّة ـ في حقّه ـ حتى لقد استغلّ (صلى الله عليه وآله) معظم وقته بعد البعثة بالتبليغ، ولقد كان يبلّغ في وسط أناس أُميّين بلغ الحال ببعضهم لأن يمدّ رجليه أو يستلقي بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول له: يا محمد حدّثنا!".
ثم يقول سماحته: " فما دام المبلّغ لا يدري أيّة أرض ستثمر فيها الكلمة الطيّبة أكثر، لذا عليه أن يسعى لبذر الكلمة الطيّبة في كلّ مكان ومع كلّ إنسان، وأن يقتدي برسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ذلك، فلقد كان (صلى الله عليه وآله) يغتنم كلّ الفرص للتبليغ ويدع التفرّغ للعبادات المستحبّة إلى الأوقات التي لا يمكن التبليغ فيها كمنتصف الليل مثلاً، ليخلو فيها مع ربّه يستمدّ منه العون والتأييد ويناجيه بقوله: (إلهي لا تكلنـي إلى نفسي طرفة عين أبداً). (العلم النافع: ص87)
ولذا تجد المرجع الشيرازي يؤكد في كل كلماته ولقاءاته على مسألة الأخلاق، ومداراة الناس لكسبهم، ومراعاتهم لهدايتهم، فيقول: "على المؤمن أن يكون مدارياً وإيجابيّاً في تعامله وكلامه مع الناس)، وينقل سماحته رواية عن جده رسول الله (ص) حي يقول: (بُعثت بمداراة الناس)، ويُعلِّق عليها فيقول: "كما يختلف الناس في أشكالهم وألوانهم كذلك يختلفون في أخلاقهم وأذواقهم، ولا يكاد يوجد إنسان يشبه الآخر في كلّ الجوانب، والمداراة هي واحدة من الجسور التي يمكن عبرها التأثير في الناس، وهي تختلف عن المداهنة".
ويقول المرجع الشيرازي: "من الطبيعي أنّ المؤمن لا يحبّ المنافق بل يبغضه ويكرهه، إلا أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يأمره بأن يصانعه بلسانه، أي يجامله في الحديث؛ لأنّ من الأخلاق الحميدة للمؤمن ألا يُظهر كلَّ الكراهية التي يحملها في قلبه للشخص الذي لا يتوافق معه على حال، وإن كان منافقاً، فكيف إذا كان مؤمناً؟"
ويوضِّح سماحته وجه الحكمة في المسألة بقوله: "أمّا المنافق وهو الذي يُبطن الكفر ويظهر الإسلام، فإنّ الإمام يوصينا بمجاملته: (وصانِع المنافق بلسانك)، فهذا هو الخطّ العـام للأخلاق الإسـلامية، وهو أن تتـحـدّث وتتعـامـل مع الناس ـ مؤمنهم، ومنافقهم، وكافرهم ـ بالحسنى".
فعلينا أن نلتزم بالإطار الإسلامي وحدوده ولا نخرج إلى المحظور والحرام، وأما الطريقة المتبعة والأسلوب فإنها مختلفة اختلاف البشر، يقول سماحة المرجع الشيرازي: "قد يختلف المؤمن عن أخيه المؤمن في أسلوبه، أو خلفياته، أو عاداته، أو ذوقه، أو بعض صفاته، إلا أنّ هذه الفوارق ليس من شأنها أن تسلب المؤمن التزامه بالتعاليم الإسلامية".
فن التعامل مع الناس
حقيقة هذا البحث الطويل والشائق والشائك في كل جوانبه العلمية والعملية هو بحث ضروري جداً في هذا العصر الرقمي الذي محقت عجلاته العملاقة الأخلاق والفضائل، وأحلوا محلها الأخلاق النفعية، والمادية، وبعض المجتمعات الغربية راحت تُنكر شيء اسمه الأخلاق لأنهم تربوا خطأً على الأنانية والعنصرية والنظر إلى الآخرين باستعلاء وفوقية واضحة، فحصروا الأخلاق في تعاملاتهم البينية فقط وكأنهم هم البشر والآخرين لا يحق لهم هذه المعاملة ولا حتى العيش بسلام ومحبة واطمئنان كما هم يعيشون ويتمتعون.
فالتعامل مع الناس في هذا العصر يجب أن يكون له مدارس وجامعات لتعليمه، وتعلمه، بعنوان "فن التعامل مع الناس"، وهم يدرسونه في فنون القيادة والإدارة، ولكن بشكل ضيق ومحدود وأما هو في تعاليم ديننا ومنظومتنا القيمية الأخلاقية هو شامل لكل الناس، وعام لكل زمان ومكان، ولذا فما أجدرنا أن نعلِّم الناس هذا الفن الراقي، الذي يصنع المجتمعات الإنسانية الراقية.
إن ما تعانيه الحضارة الرقمية من أزمات متفاقمة سيدمرها على رؤوس أصحابها لا سيما الأزمة الأخلاقية، والقيمية، وهي السبب بخراب الحضارات منذ أقدم العصور، فما من حضارة قامت إلا على أساس صحيح، وما بادت وسقطت إلا بالفساد الأخلاقي الذي ينشر كل أنواع المفاسد الأخرى والعالم اليوم بات في مستنقع آسن فيه كل المفاسد والعجيب أنهم يسعون لتقنينه، وحمايته بالتشريعات الباطلة لا سيما المثلية، والإباحية، وكل هذه البضائع الفاسدة التي ستُسقط هذه الحضارة البراقة بالظاهر، الخاوية من الداخل، فهي جسد بلا روح ولا معنوية ولن تصمد أمام أي عاصفة قوية بل ستسقط ويكون سقوطها مدوياً وهائلاً.. كما تنبَّأ الإمام الشيرازي الراحل يوماً.
ولقد حرص الرسول الأعظم (ص)، على أن يعطي الحياة منظومة قيمية أخلاقية، ويزرع في الأمة العادات السليمة، والسلوكيات المستمدة من الفطرة السليمة، وكانت أولى القواعد الروحية هي الإيمان بالله ورسوله، وأولى قواعد المجتمع الأخوة الإيمانية، فنشأت بين المسلمين الأوائل مجموعة من السلوكيات الراقية، فنهضت الأمة بها، وبُنيَتْ في ضوئها شخصية الإنسان المسلم، والمجتمع المسلم، والحضارة الإسلامية، يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): "مَنْ يتتبّع تاريخ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (سلام الله عليهم) ومن بعدهم تاريخ العلماء الأخيار، سيجد هذا النهج الأخلاقي القويم في سيرتهم وتعاملهم مع الناس".
فالأساس في الإسلام أن يُتقن الإنسان فن التعامل مع الناس، وينطلق من التعاطي الحسن مع الآخرين، قولاً أو عملاً، بما يحفظ كرامته، وكرامة الآخرين وحقوقهم، ويزيد من متانة العلاقات الاجتماعية، فالفوارق بين المؤمنين مع بعضهم، أو بينهم وبين الآخرين، لا تبرر الغلظة والفظاظة، والأساليب القاسية في التعاملات، فتلك أخلاق غيرنا وليست من أخلاقنا التي توارثناها وأخذناها من رسولنا العظيم (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما مِن شيءٍ أثقلُ في الميزانِ من حُسنِ الخُلُقِ).. فالدِّين كله خُلق، فمَنْ فاقَك في الخُلق، فاقَك في الدِّين.
كيف نعمل؟
علينا أن نتعلم ونعلّم أولادنا هذا الجزء الأعظم من هذا الدِّين العظيم، من حُسن الخُلُق، وحُب الخيرِ للغيرِ، وحُسن التعامُل، واللين، والرِفق، والبشاشة، والصدق، والإيثار والحق، كما نعلمهم الصلاة والصيام، ولكن كيف نتعلم ونعلِّم ذلك لأجيالنا؟
يُجيبنا المرجع الشيرازي بقوله: " إنّ المرء في أيّ مجال كان وفي أيّ بلد وفي أيّ مرتبة فهو مردّد بين الخير والشّر، إذ إنّ في الإنسان دافعاً إلى الخير وهو العقل ودافعاً نحو الشر وهي النفس الأمّارة بالسوء، فإذا كان المرء حسن الخلق فإنّ دافع الخير عنده يغلب دافع الشرّ وسيكون نصيبه خير الدنيا والآخرة، بخلاف سيّء الخلق فهو لا دنيا له ولا آخرة.
أمّا كيف يكون الإنسان حسن الخُلق، فهذا يرجع إلى كلمة واحدة يمكن لكلّ إنسان أن يبدأ بالعمل بها من هذه اللحظة ومن هذا المكان إلى آخر حياته، والكلمة هي ما ورد في حديث لمولانا الإمام الرضا (سلام الله عليه) حيث قال: (إنما هي عزمة).
فأيّ إنسان عزم عزماً أكيداً على أن يكون خلوقاً فإنّه يوفّق لذلك.
وحُسن الخُلق؛ هو أن تكون صادقاً في الكلام، صابراً عند المكاره، تلقى الناس دائماً ببشر الوجه وطلاقته، وأن تحلم عمّن يسيء إليك، وإلى غير ذلك من محاسن الأخلاق". (العلم النافع: ص303)
ثم يقول سماحته: " إنّ مَنْ يريد التوفيق وخير الدنيا وخير الآخرة والمحبّة عند الله عزّ وجلّ وعند الناس ينبغي له أن يردّ السيئة بالإحسان والحلم.. لقد رأيتُ الكثير ممَّن اتّصف بالخلق الحسن من العلماء وغيرهم من سائر الناس كانوا موفّقين في حياتهم وكانوا محبوبين عند الناس ولم يلقوا صعوبة في حياتهم.
إنّ أيّ فرد من أفراد الأسرة إذا كان حسن الخلق فإنّه سيكون محبوباً عند الجميع وسيقبل الله عزّ وجلّ أعماله، وإذا مات فسيترحّم عليه الناس، أمّا صاحب الخلق السيّء فإنّه سيكون على العكس من ذلك تماماً.. لذا ينبغي لكم أن تعزموا على التحلّي بالأخلاق الحسنة، لتنالوا خير الدنيا وخير الآخرة". (العلم النافع: ص305)
وذلك فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء، رزقنا الله وإياكم التوفيق للعلم والعمل بهذا البرنامج الأخلاقي الراقي لهذا الدين العظيم، ونشره بين العالمين فما أحوج الدنيا له في هذا العصر المتأزم..