الإخلاص وتعضيد البنية المجتمعية

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ

2020-08-13 04:55

الإخلاص من القيم التي لا يمكن الابتعاد عنها في حال خططت النخب المجتمعية لدعم بنية المجتمع الأخلاقية، كي تنهض بالقيم الرصينة، وتحمي أفراد المجتمع من الانحدار في متاهة الخداع، والضياع في متاهة المغريات المادية، وتسلل الانحلال والتفسخ، وانتشار قيم التضليل التي يرفعها مروجو المادية الاستهلاكية كي تدمر قيم الإخلاص والرصانة الإنسانية.

الإخلاص بحسب مختصين هو فضيلة من الفضائل وخلق من الأخلاق الحسنة الحميدة، والتي يعبر فيها الشخص بالقول والفعل عن آرائه ومشاعره ومعتقداته ورغباته دون رياء أو نفاق أو مواربة. ويرتبط الإخلاص بالصدق، إذ أنه يعبر عن مدى تطابق القول مع الفعل.

أما مفهوم الإخلاص في اللغة فهو مشتق من خَلَص، بفتح الخاء واللام، خلص يخلص خلوصاً وإخلاصاً، وهو في اللغة بمعنى صفا وزال عنه شوبه إذا كان في الماء أو اللبن أو أي شيء فيه شوب يعني تغير لونه بشيء يشيبه، أي يغيره، فقمت وصفيتَه أي أخرجت منه الشوائب التي لوثته فيقال: إنك أخلصته، بمعنى صفيته ونقيته من الشوائب التي شوهت نقاءهُ.

في الاصطلاح يعني الإخلاص صدق العبد في توجههِ إلى الله اعتقاداً وعملاً، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِين لَهُ الدّين﴾ سورة البينة الآية (5). ويقول تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ سورة النساء الآية (146).

مما تقدم من شروح وتفصيلات يتبين أن قيمة الإخلاص هي حجر الزاوية في بناء منظومة أخلاقية سلوكي تحمي المجتمع من التهافت على الصغائر، وتنمي روح الصدق وتستبعد جميع أشكال وأساليب التضليل والخداع من العلاقات الاجتماعية، وتنقي التعاملات كافة من الزيف المادي الذي يسعى لتدمير البنية الأخلاقية للمجتمع حتى يسهل التسلل الاستهلاكي المادي المغالى به (فوق ما يحتاجه الناس) كي تسود النزعة الكمالية على حساب الحاجة الفعلية.

تنتعش المظهرية، وتختبئ القيم الرصينة بفعل التراجع الأخلاقي للمجتمع، بسبب حملات منظمة، إعلامية وفكرية وغيرها، هدفها تحويل العقول عن فوائد قيمة الإخلاص للإنسان الفرد والمجتمع، ولهذا لا يغالي ولا يبالغ العلماء والمصلحون حين يحذرون الكل من مغبّة الإهمال الذي تتعرض له قيمة الإخلاص في التعاملات الاجتماعية المختلفة.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:

(أهم المسائل التي ينبغي أن نكون واعين لها وأن نبدأ بمعالجتها هي مسألة الإخلاص والتخلّص من الرياء، فلنراجع أنفسنا في كل موقف بدقة).

لا انفصام بين الصدق والإخلاص

الإخلاص والصدق قيمتان مترابطتان لا يمكن فك الترابط العميق بينهما، فانفصام أحدهما عن الآخر، يعني فيما يعنيه تحوّل الإخلاص إلى رياء، والصدق إلى تصنّع واختلاق، وهذا ما لا يليق بالقيمتين الأخلاقيتين العظيمتين، فهل يمكن أن يكون هناك من يتصنّع الإخلاص وهو ليس كذلك؟

نعم هنالك من يختبئ وراء الزيف والمراءاة، ويسعى لإظهار الإخلاص في قوله ومشاعره وسلوكه وتعاملاته المجتمعية المتنوعة، بيد أن الواقع والمواقف الفعلية سوف تكشف هذا الإخلاص المصطنع وتفضح من يعتمده في سلوكياته أو مواقفه وأقواله، وحينذاك يظهر الإنسان على حقيقته وينكشف للجميع.

ويتعالى ويتضخّم خطر هذا السلوك المزدوج كلّما ازدادت أهمية الشخصية العلمية والاجتماعية بين الناس، فالقائد السياسي هو النموذج الذي يسعى أفراد المجتمع للتشبّه به، قولا وأخلاقا، وسلوكا، وكذا الحال مع العالِم والمعلم والمثقف، وكلما كانت مكانة الإنسان عالية ومرموقة، يكون تأثيره أكبر على الناس إيجابا وسلبا.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ينبّه على هذه الحالة فيقول:

(لو شعر من يصاحبنا بعد فترة أنّنا كنا نتصنّع الإخلاص ولم نكن مخلصين حقّاً، فربما يشكّ على أثره في المخلصين من أهل العلم كلهم، ويقول مع نفسه: إن هذا الذي عاشرته كل هذه المدّة متصوّراً أنه مخلص تبيّن لي زيفه، فكيف بالآخرين، وهم يعرفون جيّداً كيف يتظاهرون بالإخلاص؟!).

ويضيف سماحته قائلا في السياق نفسه: (إن لعمل شخص واحد من أهل العلم متظاهراً بالإخلاص تأثيراً سيّئاً على المخلصين الحقيقيين من العلماء).

المشكلات التي تتولد عن قلة الإخلاص لا حصر لها، فعواقبها ليست أخروية فقط، بل الحياة اليومية الواقعية للمجتمع تصبح أكثر هشاشة ورداءة حين يسود الإخلاص المزيف في تعاملات الناس، يحدث هذا الاختلال في السياسة ويمتد للاقتصاد، والتعليم وكل مرافق ومجالات الحياة الاجتماعية.

لهذا يدعو العلماء المخلصون إلى التنبّه إلى بناء شخصية الإنسان منذ الأسس الأولى على الإخلاص المنقّى من الشوائب، على أن يتم غرس هذه القيمة الأخلاقية السلوكية العظيمة، في نفوس الجميع، لاسيما شريحة الشباب التي تندفع بقوة في صنع الحياة، وتتحمس لتأسيس حياة شخصية رصينة خالية من الهفوات والزلل.

الشباب أكثر تحصيناً ومبدئية

البنية المجتمعية تزدهر وتخبو فيها نيران الشر، كلما كان الشباب أكثر تحصينا وأشد قوة مبدئية في مواجهة الخطايا المقصودة أو غير المقصودة، لأن شريحة الشباب هم الأكثر والأوسع في التعاملات والحركة والتأثير الأفقي مجتمعيا، هذا يعني كلما زرعنا قيمة الإخلاص أكثر لدى الشباب، فإن البنية المجتمعية تكون أكثر تماسكا وصلاحا وقوة.

الشيطان حاضر مع الجميع، الفئات العمرية لا تنجو من مغريات الشيطان، لكن الشباب هم الشريحة الأقوى في مقارعة فخاخ الشياطين، وكلما تقدم الإنسان في العمر صارت مهمة مقارعة مغريات الشيطان أكثر صعوبة، لهذا كي ينجو المجتمع من الانحلال والهشاشة الخلُقية، هناك فرصة للنخب المعنية بغرس الإخلاص في نفوس وقلوب الشباب.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(الشباب أقدر على أن يسحقوا جبين الشيطان ويرغموا أنفه، فليبادروا قبل أن يتمكّن الشيطان منهم، فإنّ الخلاص من رقبته في المستقبل أصعب، والشيطان نفسه يعرف ذلك، ويعرف أن الإنسان إذا بلغ الأربعين ضعفت قواه وإرادته على محاربة الشيطان إلاّ من رحم الله).

هل لا تزال الفرصة متاحة للإنسان كي يصحح مساراته، وينقّي نفسه وقلبه من الرياء، ويعتمد الإخلاص الصارم في سلوكه وأخلاقه ومواقفه؟، نعم الفرصة لا تزال موجودة، ولكن يجب اغتنامها اليوم قبل غد، ذلك أن فرص التغيير نحو الأفضل تعتمد على ظروف عديدة منها طبيعة الواقع الفعلي والنفسي ومدى تأثيرهما على الإنسان، يُضاف لهما الوضع الفسيولوجي له وكم يبلغ من العمر، فالتقدم في السن يقلل من فرص معالجة الانتصار على المغريات.

فأنْ نعتبر اليوم ونصحح ونستثمر الفرصة المتاحة، هذا سوف يكون أفضل من انتظارنا للغد، علينا المبادرة الآن في مراجعة النفس، وتنمية قيمة الإخلاص الصادق في نفوسنا وقلوبنا، وأن نعكس ذلك على سلوكنا وأفكارنا وأخلاقنا، فهذا يعني تدعيما للبنية المجتمعية الرصينة التي تدل على بناء مجتمع متوازن مستقر متطور.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(لنعتبر قبل فوات الأوان، وقبل أن نكتشف أنه لات حين عبرة، ولنأخذ الدروس من قصص الآخرين، ولنبدأ من الآن في مراجعة أنفسا كل يوم، كل في مجال عمله، ولننزّهها قبل أن يصعب الأمر علينا أكثر، وقبل أن تصيبنا الغشاوة التي تكون مانعاً من نفاذ نور اليقين والعلم إلى أعماقنا).

هل نريد مجتمعا قويا معاصرا خاليا من الهشاشة والضعف؟، هذا ما يرنو إليه الجميع، لاسيما النخب القيادية في المجتمع، ولكن هذا الهدف الصعب، يحتاج إلى جهود وتخطيط على المستويين النظري والتطبيقي، وهي مهمة من يتصدّر قيادة المجتمع سياسيا ودينيا وعلميا، ومن يسعى نحو أهدافه لن يخيب.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي