ضاعِفْ حسناتك وصفِّر سيّئاتك
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2020-04-23 05:42
شهرُ رَمَضَانَ هو شهر الله، لغويا (الجمع: رَمَضانات وأرمضاء وأرمضة ورماضين)، وهو الشهرُ التاسعُ في التقويم الهجري يأتي بعد شهر شعبان، ويعتبر هذا الشهر مميزًا عند المسلمين وذو مكانة خاصة عن باقي شهور السنة الهجرية، فهو شهر الصوم الذي يعد أحد أركان الإسلام، حيث يمتنع في أيامه المسلمون (باستثناء بعض الحالات، مثل السفر والمرض) عن الشراب والطعام مع الابتعاد فيه عن الشهوات من الفجر وحتى غروب الشمس.
يبدأ شهر رمضان عند ثبوت رؤية الهلال يوم 29 من شعبان، وفي حالة عدم رؤيته يصبح شهر شعبان 30 يوماً فيكون اليومُ التالي أول أيام رمضان، وتبلغ مدة الشهر 29-30 يوم أيضًا بثبوت رؤية الهلال، وعند انتهاء رمضان يحتفل المسلمون بعيد الفطر.
كما إن لشهر رمضان مكانة خاصة في تراث وتاريخ المسلمين الذين يؤمنون أن نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كان في ليلة القدر من هذا الشهر، ثم نزل بعد ذلك في أوقات متفرقة في فترة نزول الوحي حيث كان النبي محمد في غار حراء عندما جاء إليه المَلَك جبريل، وقال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، وكانت هذه هي الآية الأولى التي نزلت من القرآن.
في هذا الشهر تسود أجواء مختلفة عن بقية الشهور، تسمو فيها القدسية، وتمتلء القلوب بالإيمان، ويكثر التجويد وترتيل القرآن وتُقرأ الأدعية، وتسود حالة من السمو الروحي لدرجة تقل معها أخطاء الناس، لاسيما الغريزية والحسيّة منها، لأن الشياطين في هذا الشهر يندحرون، فلا مكان لهم في أجواء شهر رمضان المفعمة بالقداسة والإيمان وتصاعد النزوع الإنساني والروحي لدى الناس.
في ظل أجواء كهذه لا تحدث إلا مرة واحدة في شهر رمضان، من الخطأ أن يتركها الإنسان أن تمر من دون أن يستثمرها، ويعدّها من الفرص الذهبية التي يمكن أن تغيّر حياته نحو الأفضل في حال تم استثمارها على النحو الصحيح، لذلك لابد أن يحصل الإنسان على درجة من التغيير في شهر رمضان، ويحذر من فوات هذه الفرصة النادرة، ويتنبّه من الضعف الروحي والوقوع ثانية في حبائل الشيطان.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية:
(في شهر رمضان تُغلّ الشياطين، بيد أنَّ عمل بني آدم قد يفتح الغلّ من الشيطان فيتسلّط عليه من جديد، فلنكن حذرين يقظين منتبهين جدا!).
ولا يختص هذا الشهر الكريم بفئة أو مجموعة أو طائفة من الناس دون غيرها، فهو للجميع، وخيراته وفضائله للجميع أيضا، ولذلك فإن أبواب الرحمة والخيرات والتوبة مفتوحة في للجميع، ما يتيح الفرصة حتى للناس البعيدين عن الصلاح والتقوى، كي يعودوا عمّا هم فيه من لهو وسهو وإيغال بالابتعاد عن الله والدين.
شهر رمضان وحلبة الصراع مع النفس
قد يفكّر أحدهم بأنه غير مشمول بفضائل شهر رمضان كونه غير مؤمن، أو مرتكب لأخطاء مختلفة، لكن هذا التفكير ليس صحيحا، على العكس من ذلك، فإن شهر رمضان هو فرصة لمن يعتقد بأنه غير مشمول بالرحمة والتوبة والعفو الإلهي، نعم إنها فرصة أن يعود مرتكب المعاصي إلى جادة الصواب، ويدخل في رحاب شهر رمضان، ليحصل على بركاته ويتخلّص من القنوط واليأس من رحمة الله، مع العلم أن مستلزمات ومقومات الصلاح موجودة في تركيبة خَلْق الإنسان.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(مهما كان الإنسان بعيداً عن الخير والصلاح والتقوى، يمكنه أن يستفيد من أجواء شهر رمضان المبارك لتغيير نفسه، فإن الله تعالى أودع هذه القدرة في الإنسان، وشهر رمضان فرصة مناسبة جدّاً لهذا الأمر).
فهدف الإنسان الأول ينبغي أن يصبّ في إطار تغيير نفسه وكينونته من حال أدنى إلى حال أفضل، في التفكير والسلوك وفي الخطوات التطبيقية لهذا المتغيّر، ولا توجد فرصة تلائم ذلك وتضمن النجاح فيه أكثر من شهر رمضان، حيث تسود أجواء الخير والمحبة والتكافل والتقارب والتعاون بين الجميع، وترتفع درجة إنسانية الإنسان وطيبته ونقائه إلى أعلى مستوياتها.
لذلك شهر رمضان يعدّ من الفرص النادرة التي يجب أن يقتنصها الإنسان لتحقيق صلاح النفس، حتى لو يتم ذلك بالتدريج خطوة بعد خطوة، وليس بالقفز السريع من حال إلى حال، فقد يُصعب الانتقال من من منظومة فكرية سلوكي درج عليها الناس طويلا، هنا سوف يكون الانتقال المتدرّج من الأسوأ إلى الأفضل هو الأسلوب الضامن للنجاح وضمان درجة مقبولة من العودة إلى الصواب.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكّد ذلك في قوله:
(من الممكن أن يغيّر الإنسان نفسه ولو خطوة خطوة، وشهر رمضان مناسبة جدّاً للتغيير).
لهذا علينا جميعا التنبّه إلى قضية ترويض النفس، والتعامل معها بأسلوب التدرّج الحذر للتغيير، فإذا دخلْنا الشهر الكريم، وجب علينا اتخاذ الاحتياط والخطوات التي تدفع بنا إلى تحصيل درجة مقبولة من تغيير أنفسنا وأفكارنا ومن ثم سلوكنا بما يؤكد صفة الصلاح والإيمان والسطوع الروحي الأصيل في كينونتنا.
الإنسان بحاجة إلى ترويض وحذر
فلا يصحّ أن نخرج من شهر رمضان كما دخلناه، من دون أن نحصل على تغيير يُحسَب لصالحنا، فهذا الشهر الذي نعيش كرمه وخيراته شهرا واحدا من شهور السنة، لا يصح أن يمر بنا ونمر به مرور الكرام ونخرج منه كما دخلناه دونما تغيير يّذكَر، إذ لابد أن نلمس درجة من التغيير قد حدثت لصالحنا.
سماحة المرجع الشيرازي يقول عن ذلك:
(نحن، جميعاً، بحاجة إلى ترويض وانتباه بحيث إذا دخل أحدنا شهر رمضان وخرج منه يكون قد تغيّر ولو قليلاً).
شهر رمضان مناسب جدا لمراجعة أنفسنا، والاختلاء بها، ومناقشتها بشكل يومي، ففي نهاية كل يوم نهارا، يمكننا الجلوس إلى أنفسنا لدقائق لا أكثر، لكنها يجب أن تكون وقتا خالصا لمناقشة ما فعلناه وما قلناه في يومنا، وكيف تعاملنا مع الآخرين في بيتنا أو في محيط العمل والمدرسة وأينما تواجدنا، أين أخطأنا وما هي سبل التصحيح التي يجب أن نلزم أنفسنا القيام بها بالاعتذار وتغيير السلوك مع الآخرين نحو الأفضل والأصحّ.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ينصح في هذا الإطار فيقول:
(ليخصّص المرء كل يوم من شهر رمضان بعض وقته ويخلو فيه، ليراجع ما قد مضى منه خلال الساعات الماضية، فينظر ما عمل وما قال وما سمع وما رأى وما أخذ وما أعطى، وكيف تصرّف مع زوجته وأصدقائه وزملائه؟).
وبعد المراجعة الدقيقة، لابد من التصميم على المعالجة، إذ ما الفائدة من معرفة الأخطاء وأسبابها، ومن ثم البقاء عليها كسلوك أو أقوال؟، المطلوب بعد الانفراد بالنفس، ومراجعة النشاطات المختلفة، أن يتم تأشير الخطأ، ووضع البدائل الصحيحة، والشروع بتطبيقها في اليوم الثاني على واقع التعامل مع الآخرين سواءً في البيت أو خارجه.
إذا استطاع الإنسان أن يستثمر شهر رمضان بهذه الآلية والخطوات والأسلوب، فإنه سوف يخرج منه إنساناً آخر، بقلب آخر وسلوك مختلف، لذلك فإن التدقيق في السلوك والكلام وطريقة استثمار الوقت يستدعي تصميما عاليا وقويا من الإنسان، حتى يصل إلى الهدف الأهم في شهر رمضان، وهو زيادة عدد الحسنات وتصفير السيئات أو تقليلها.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(ليدقّق الإنسان مع نفسه فيمَ صرف وقته؟ وليصمّم بعد ذلك على أن يزيد من حسناته ويقلّل من سيئاته).
شهر رمضان سوف يبدأ من جديد في أيامنا هذه، فماذا أعددنا له، وهل سنجعل منه فرصة حقيقية لبناء أنفسنا وعقولنا بطريقة أفضل، بما يثبت بأننا لم نهدر الفرصة الثمينة المتمثلة بهذا الشهر الروحاني الإيماني النادر؟، هو أشبه بالامتحان، ندخلهُ جميعا، هناك من ينجح بدرجة عالية وآخرين بدرجات أقل، وهناك من سيفشل في الاختبار، الأمر يعود للشخص نفسه، ومدى استعداده لخوض شهر رمضان والخروج من بحصيلة نادرة، وهي ثقل كفّة الحسنات، وقلّة كفّة السيئات، شهر رمضان كريم لنا جميعاً.