لماذا لا نقبل أن ينقدنا الآخرون؟!

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ

2018-07-05 06:00

ما نعنيه بمفردة (نقد) هو تصحيح الأخطاء، وقد يأتي على أنواع منها ملاحظة أفكار وسلوكيات الآخرين، ونقدهم، أي تصويب تلك الأخطاء، انطلاقاً من الحرص وليس الإساءة، وإلا تحوّل النقد إلى وسيلة خبيثة لإسقاط الآخر، ويُسمّى في هذه الحالة بـ (النقد الهدّام)، لأنه تحوّل من فعل التصويب إلى التهديم، لكننا نحتاج النقد (البنّاء) الذي يقوِّم ولا يهدِّم، وثمة من النقد ما يتعلق بالنفس حين يراقب الإنسان أفكاره وأفعاله ويحاسب نفسه يوميا في وقفة مع الذات ويصوِّب ما زلَّ منها، وهذا النوع من النقد يسمى بـ (النقد الذاتي).

وجاء حول تفسير مفردة النقد في معجم المعاني الجامع، نقَدَ يَنقُد، نَقْدًا، فهو ناقد، والمفعول مَنْقود، نقَد الشّيءَ، أي بيَّن حسنَه ورديئه ، أظهر عيوبه ومحاسنه، وفي كل الأحوال يبقى الإنسان أحوج ما يكون إلى عملية النقد (البنّاء)، الذي لا تسبقهُ نيّة العداوة والإسقاط، وما تقدم الأفراد والجماعات والدول على مر التاريخ، إلا كحصيلة لعمليات التقويم والدعوة للتصحيح عبر النقد الذي يروم التعديل وإعادة الأمور إلى نصابها بعد تصويب الاعوجاج في القول أو الفكر.

ومن أحسن الناس أولئك الذين يقبلون نقد الآخرين لهم، شريطة أن لا يكون الهدف التجريح وتثبيط الهمم وتقليل المكانة الاجتماعية أو الوظيفية، فإن كان مصدر النقد موثوقا فهذا هو المطلوب، ومن الخطأ أن نتطيّر من النقد أو نرفضه، لأن الناقد السليم ذو السريرة النقية، لا يبغي من وراء نقده سوى التصحيح، فعلينا أن نستمع له بشغف وتصميم على الاستفادة من تصويباته.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:

(لندع الآخرين ينقدوننا ونشجّعهم على ذلك، ثم نطوّر قابلياتنا بالاستفادة من وجهات النظر الصحيحة من بينها).

وتأتي أهمية النقد بالدرجة الأولى لتنبيه العقل على ما يفعل، واللبيب هو من يستفيد منه لتطوير حياته، وليصبح أكثر هداية ووعيا وحضورا اجتماعيا أخلاقيا فاعلا، وإذا قوَّم الإنسان نفسه، واعتمر بالهداية، فهذا هو الهدف الأهم، وقد لا يفيد بعض الناس من تجربته هذه، فلا ينبغي أن يكون إعراض الآخرين عنه وعدم التعاون معه مصدر إحباط له، فالمهم أن يتخلص هو من الضلالة.

كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في إحدى نصائحه:

(تصرّف أنت بالنحو الصحيح واستفد من حياتك بصورة صحيحة ولا يهم بعد ذلك إن كان قد استفاد الآخرون منك ومن تعاملك معهم أو لا؛ فإن الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم).

احترام الوقت لأقصى حدّ

فالنقد في هذه الحالة سيكون عاملا مساعدا على التصحيح والتصويب والتعديل، إن لم يكن بالفعل هو العامل المهم لأن قبول النقد والتعامل معه على أساس مصدره ومدى صدقه ونقاء سريرته، سيكون سببا حاسما في تطوير حياة الإنسان، ومن ثم المجتمع ككل، لذلك لابد من الاستفادة القصوى من الحياة والوقت المتاح للإنسان كي يطور نفسه وعائلته إلى أقصى حد ممكن، على أن يبتعد كل البعد عن استصغار الآخرين، فناك من لا يقبل النقد مطلقا ويعدّه مساسا بكرامته وشخصه وهذا نوع من الترفّع الفارغ.

فحذارِ من استصغار الآخرين الناقدين إذا كان نقدهم ليس بغرض التجريح أو السخرية، ومن الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها الإنسان حين يستصغر أي إنسان آخر، فقد يكون واهما بنظرته هذه، وقد يكون الخاسر الأكبر في الحياة، نتيجة نظرته الإستصغارية للآخرين بسبب تضخم الذات والتعالي غير المبرَّر، فقد يكون لمن تستصغره مكانة كبيرة عند الله وفي المجتمع أيضا وما أدراك أن يحدث هذا بالفعل؟.

يقول سماحة المرجع الشيرازي بكلمته نفسها:

(على الإنسان أن يستفيد من حياته ووقته أحسن الاستفادة وبأقصى ما يستطيع، فما أدراك أن لا يصبح هذا الأمي الذي نستصغر شأنه اليوم عظيماً من العظماء عند الله في يوم ما؟!).

وقد تنعكس الحالة فيكون الإنسان الذي تظن بأنه مثقف وتنظر له نظرة إكبار فارغا من أية صفات كبيرة تجعل منه إنسانا كبيرة، فربما يكون خارجه مثقفا وداخله سطحيّا، حين ذاك ستكون خسارتك كبيرة، لأنك أضعت على نفسك فرصة الإبصار الدقيق الذي يترتب عليه كثير من الخسائر الفكرية والمعنوية بسبب خطأ في التعامل مع الآخرين، وتحديد مكانتهم الفعلية.

لذلك يتساءل سماحة المرجع الشيرازي قائلا:

(ومن الذي أعلمك أن ذلك المثقّف الذي يبدو مهمّاً في نظرك اليوم من الناحية الاجتماعية أو العلمية وتركّز عليه في تبليغك أكثر من غيره، قد لا ينفع في شيء، وربما ارتحل من الدنيا دون أن يقدّم شيئاً ما ينفع الآخرين).

التداعيات المؤلمة لحب الذات

ومن العلل الكبيرة التي يُصاب بها البشر، هي حب الذات وتعظيمها والنظر إليها كأنها فوق الجميع، وهذا ما يترتب عليه أخطاء هائلة، فالجميع إلا ما ندر، يحبون أنفسهم ويوقرونها، ويعدونها الأفضل من الآخرين طرّاً، لكنها نظرة تجافي الحقائق كونها تنطلق من نظرة ضيقة الأفق وإحساس ينطلق من محبة الإنسان لنفسه، وتفضيلها على الجميع، من دون الركون إلى المنطق.

لأنّ الإنسان إذا ابتغى الدقة والتمحيص، سوف يكتشف من دون عناء كبير، بأن معظم الرزايا التي يتعرض لها في حياته، سببها النفس التي تدفع به نحو المجهول، لاسيما إذا كان ضعيفا رخواً حيالها، فجميع حالات الظلم التي يقترفها الإنسان وكل حالات التجاوز التي يرتكبها بحق الآخرين تنطلق من الإنسان لذاته.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله:

(كل إنسان يعيش على وجه البسيطة إلاّ القليل منهم يوقّر ذاته ويحترمها ويراها أعلى كل شيء، مع أن كل البلايا والمصائب وكل ظلم وتجاوز يأتي من حبّ الذات).

والأغرب من ذلك، أن معظم الناس يرون إلى ذواتهم بالتساوي مع الذات الإلهية، ويضع نفسه والمجتمع كله في مستوى واحد، وهذا ما يقود إلى صنع أنانية قاتلة تتلبس الإنسان فكرا وسلوكا، فتتحول حالة التفضيل الذاتي إلى سلوك يدفع بالإنسان إلى تدمير كل شيء من أجل ذاته، وهذه إشكالية لا يمكن أن يتنبّه لها الإنسان إلا إذا آمن بالنقد كوسيلة لوضع الأمور الذاتية في موقعها الصحيح.

فلا يمكن أن تكون على صواب إذا رفضت نقد الآخرين لك من منطلق أن الأفضل منهم جميعا، وأنك لا يمكن أن تخطئ، لأن هذه النظرة الاستعلائية سوف تبني في داخلك صرحا من الأنانية من الصعب تهديمه، فيتحول إلى مرض نفسي يستعصي على العلاج، وهذه هي الأمراض التي تصيب الطغاة المستبدين كبارهم وصغارهم، لسبب بالغ الوضوح، أنهم يرفضون نقد الآخرين لهم، وينظرون إلى أنفسهم وذواتهم على أنها منزّهة من الخطأ، فيما يقذفون على الآخرين بشتى الصفات المسيئة، بحجة أنهم الأعلم والأفضل والأرقى من غيرهم.

من هنا يطالب سماحة المرجع الشيرازي بقبول النقد، والاستفادة منه للتصحيح والانطلاق في حياة متصاعدة قليلة الأخطاء والأنانية وبعيد عن حب الذات التي تسبب سحق الجميع من أجل مآربها التي لا تعدو أن تكون شخصية آنية معرّضة للزوال في أية لحظة.

لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أنّ: (أكثر الأشخاص يرى الله ويرى ذاته معاً؛ ويرى المجتمع ويرى ذاته معاً؛ ولذلك ترى الناس في الغالب يسحقون كل شيء من أجل ذواتهم).

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي