عظمة عيد الغدير
المرجع الديني السيد صادق الشيرازي
2017-09-09 06:36
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
(1)
إكمال الدين وإتمام النعمة
لقد أنزل الله تعالى في يوم الغدير: (اليَوْمَ أكمَلتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتـي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلامَ ديناً)(1).
وقال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) عن هذا اليوم: (وهو اليومُ الذي أكملَ اللهُ فيه الدينَ وأتمَّ علَى أمّتِي فيه النعمةَ ورَضِي لهُم الإسلامَ ديناً...)(2).
وهذا معناه أنّه بإعلان ولاية أمير المؤمنين عليّ (سلام الله عليه) كفريضة من الله تعالى على المسلمين، يكون قد كمُل الإسلام، وبه تمّت نِعَمُه تعالى على الخلق. ومنه يمكن أن نستخلص أنّ الغدير:
أوّلاً: آخر الفرائض
روي عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر (سلام الله عليه) أنّه قال: آخِرُ فريضةٍ أنزلها اللهُ الولايةَ (اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتـي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلامَ ديناً) فلم يَنزِلْ من الفرائضِ شيءٌ بعدها حتَّى قَبَضَ اللهُ رسولَهُ (صلى الله عليه وآله)(3).
وروي عن الإمام الباقر (سلام الله عليه) أيضاً قوله:
(وكانت الفرائضُ يَنزلُ منها شيءٌ بعد شيء، تَنزلُ الفريضةُ ثم تنزلُ الفريضةُ الأخرى وكانتِ الولايةُ آخِرَ الفرائضِ فأنزلَ اللهُ عزّ وجلّ: (اليَوْمَ أكْمَلْتُ...) يقولُ اللهُ عزّ وجلّ: لا أُنزِلُ عليكُمْ بعدَ هذهِ الفريضةِ فريضةً، قد أكملتُ لكُمْ هذهِ الفرائض)((4.
لقد أوحى الله عزّوجلّ بالأحكام والواجبات الواحدة تلو الأخرى حتى ختمها بالولاية، فأنزل هذه الآية (اليَوْمَ أكمَلتُ...) ليعلن أن لا فريضة بعدها. فبعد نزولها وتنصيب أمير المؤمنين (سلام الله عليه) خليفةً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أدرك الناسُ مرادَ الله تعالى من الآية الكريمة: (أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ((5) وعلموا أنّ عليهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يطيعوا أمير المؤمنين (سلام الله عليه). فكانت فريضة الولاية آخر فريضة أنزلها الله تعالى على نبيّه (صلى الله عليه وآله).
ثانياً: تمام النعم
ممّا يثير الانتباه في هذه الآية الكريمة أنّ الله تعالى قد ربط إتمام نعمته على الخلق بموضوع الولاية، أي كما أنّ كمال الدين يتحقّق بالولاية لمحمد وآل محمد (عليهم الصلاة والسلام) كذلك فإنّ بها تمام النعمة على المسلمين.
والمقصود بالنعمة ــ في الآية ــ جميع النعم، ظاهرها وباطنها، كالعدل والمساواة والاتّحاد والأخوّة والعلم والأخلاق والطمأنينة النفسية والروحية والحرّية، وبعبارة موجزة جميع أنواع العطايا.
لذا، فقول أولئك الذين سعوا إلى تفسير النعمة في الآية بالشريعة وبالنعم المعنوية فحسب، محلّ تأمّل ونظر، لأنّ الآية المذكورة لم تتطرّق لمسألة أصل النعمة، بل سياقها يدور حول إتمام النعمة، أي جمع أنواع النعم، فأينما ورد ذكر إتمام النعمة في القرآن الكريم كان المراد منها كلّ النعم التي يصيبها الإنسان في الدنيا(6)، ومن هنا نستطيع معرفة علاقة مباشرة بين ولاية أمير المؤمنين علي (سلام الله عليه) والتمتّع بالنعم الدنيوية المشروعة، وذلك لمحورية الولاية العلوية باعتبارها أحد الشروط المهمّة والرئيسية للوصول بنا إلى مجتمع قائم على أساس الحرية والعدالة والقيم والفضائل الأخلاقية والإنسانية؛ لذا يحتمّ الواجب أن نسلّم لما بلّغ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير، وأن نقبل عملياً بولاية أمير المؤمنين (سلام الله عليه).
بعبارة أخرى: إنّ الأخذ بولاية أمير المؤمنين (سلام الله عليه) التي أنزلها الله تعالى وفرضها على المسلمين في يوم الغدير، له أثر تكوينيّ يوجب سبوغ البركات والخيرات على الناس من الأرض والسماء. قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:
(وَلَوْ أنَّهُمْ أقَامُوا التَوْراةَ وَالإنْجيلَ وَما أُنزِلَ إلَيهِمْ مِنْ رَبـّهِمْ لأكَلوا مِنْ فَوقِهِمْ وَمِنْ تحْتِ أرجُلِهِم)(7).
ثالثاً: سبيل الله الأوحد
لو أردنا أن نفهم الغدير في عبارة موجزة لأمكننا القول:
إنّ الغدير هو الوعاء الذي تجتمع فيه جميع تضحيات الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهو مخزن الأحكام والآداب التي أوحى الله تعالى بها إلى رسوله الأمين، والإشارة إلى هذه الحقيقة ومدى توقّف البعثة الخاتميّة عليه تجسّد في قوله جلّ وعلا: (يا أيُّها الرَّسولُ بَلِّغ ما أنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لم تفعَل فما بَلَّغتَ رِسالَتَه)(8).
والغدير روضة الفضائل والأخلاق والمكارم والمحاسن، بل هو المكارم بعينها، والتطوّر الحضاري والمعنوي كلّه يدين له بذلك؛ لاعتباره أهمّ عامل في حفظ كيان الدين والملّة، ويعدّ إنكاره بمثابة إنكار لجميع القيم الإسلامية السامية.
فالغدير بجوهره وروحه يعني مدرسة أمير المؤمنين (سلام الله عليه) التي تصلح لإسعاد البشر جميعاً. فأمير المؤمنين (سلام الله عليه) هو ــ بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ــ أعظم آيات الله عزّوجلّ، ولا تضاهيه آية، ولذلك يقول الإمام الصادق (سلام الله عليه) عن الذي تخيّل أنه يبلغ معرفة الله عن غير طريق أمير المؤمنين (فَلْيُشَرِّقْ وَلْيُغَرِّبْ)، أي لن يبلغ غايته ولو يمّم وجهه شرقاً وغرباً. إنّه لمن تعاسة الإنسان وسوء حظّه أن يطلب العلم والمعرفة من غير طريق محمّد وعلي وآلهما (سلام الله عليهم). ومهما كان العلم المستحصل من غيرهم فلا قيمة له، لأنه مفرّغ من القيم الأخلاقية والمعنوية، وبعيد عن روح الشريعة. وكلّ خطّ لا ينتهي إلى الغدير فهو ردّ على الدين، والردّ عليه ردّ على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيت رسوله (سلام الله عليهم)، لأنّ كلّ القيم والفضائل ومكارم الأخلاق تختزل في الغدير وتنبع منه.
رابعاً: مظهر القيم
وقد يُطرح التساؤل الآتي: كيف يكون إحياء الغدير عند الله تعالى وفي الملأ الأعلى ــ كما ورد في الحديث الشريف ــ ؟ نقول في الجواب: الحقّ أنّ العقل عاجز عن الخوض في غمار هذه البحوث، ويظلّ كلّ ما يفهمه الآخرون ـ سوى المعصومين (سلام الله عليهم) ـ قاصراً أمام فهم عظمة الغدير في السماوات، ومن ثم فإنّه يكفينا أن نفهم ما وردنا في عظمة الغدير عن أئمّتنا المعصومين (عليهم السلام) وما تناله عقولنا من أنّ إحياء الغدير يعتبر إحياءً للعدالة وحسن السياسة والتدبير في معاش الناس وأمنهم، وطرداً للجور واللامساواة والإجحاف.
فعندما يكون أمير المؤمنين (سلام الله عليه) هو المولى بمقتضى الغدير وغيره، فهذا معناه أن يعيش الناس كلّهم في أمان واطمئنان، ولا يوجد جائع أو محروم، ولا ضلال أو انحراف بهذه الصورة، ويكون أدنى الناس حالاً متساوياً أمام القضاء مع أعلاهم منزلةً، بل حتّى مع الحاكمين أنفسهم، وما تراه من حالات الخير والإحسان
ــ وإن كثرت ــ إن هي إلاّ قطرة في بحر مواهب الإمام (عليه السلام).
إنّ خطّ الله تعالى والصراط المستقيم ممتدٌ في طول ولاية الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) وذلك لتسود الفضائل في المجتمع.
فيوم الغدير في الحقيقة هو روح جميع الأيام، وإحياؤه إحياء لعيد الفطر والأضحى والجمعة بل كلّ الأعياد. ففي الغدير استمرار العدل والإنصاف، وكلّ القيم التي خلق الله من أجلها الإنسان وبعث إليه الأنبياء والرسل (عليهم السلام).
(2)
مفهوم الأعياد الدينية
إنّه لا يُسمّى أيّ يومٍ عيداً ما لم يسمّ من قبل الشرع نفسه، مهما كان ذلك اليوم عظيماً أو وردت فيه أعمال أو أذكار خاصّة.
فهناك أيّام عظيمة في الإسلام، مثل يوم البعثة الشريفة، أو يوم ميلاد سيد الكائنات (صلى الله عليه وآله) وكذا أيام مواليد سائر المعصومين (سلام الله عليهم)، أو يوم عرفة أو غير ذلك، ولكنّ الشرع لم يسمّ أيّاً منها عيداً، كذلك وردت في الروايات في باب النيروز بعض الأدعية والأذكار والأعمال، لكنّها لا تعدو كونها نوعاً من المراسم والمناسك الدينية، ولم يرد إطلاق تعبير «العيد» على هذا اليوم.
أمّا يوم الغدير فقد عُبّر عنه في لسان الأحاديث والروايات الشريفة بأنّه عيد، كما أطلق ذلك على عيدَي الفطر والأضحى، ويوم الجمعة، بل تمّت الإشارة إليه بصيغة أفعل التفضيل مثل: «أفْضَلُ الأعْياد» (9) و«عيدُ الله الأكبرُ»(10).
وروي أنّ الإمام الصادق (سلام الله عليه) قال لبعض أصحابه: «لعَلَّك تَرَى أنَّ اللهَ عزَّوَجَلَّ خَلَقَ يَوماً أعْظَمَ حُرمَةً مِنْه؟ لا واللهِ، لا واللهِ، لا والله»(11).
من هنا يتّضح أنّ هذا اليوم العظيم لا يعدّ ضمن أيّام مثل يوم دحو الأرض، والنصف من رجب، والنيروز، بل هو أعظم. قال الشيخ عباس القمّي (رحمه الله) عن يوم عرفة: وهو عيد من الأعياد العظيمة وإن لم يُسَمّ عيداً(12). ويبعد أن يكون هذا الموضوع من اجتهادات الشيخ القمّي (رحمه الله)؛ لأنّ أسلوبه ومنهجه غير هذا، فمن المحتمل أنّه أخذ مثل ذلك عن بعض السابقين وإن لم يذكره.
إنّه يكفي أن يرد التعبير عن عرفة بالعيد في رواية واحدة، حتى نطلق عليه ــ من باب التسامح ــ لفظة العيد؛ لأنّ موارد من هذا القبيل لا تحتاج إلى السند بناءً على المشهور. أمّا إذا لم يكن عندنا رواية في ذلك، فلا وجه لتسمية هذا اليوم بالعيد.
إنّ الملاك للأسماء والحقائق الشرعية هي الأدلّة الشرعية؛ فالطريق الوحيد لتسمية يوم ما عيداً إسلامياً هو أن يكون مصدر هذه التسمية: القرآن الكريم أو السنّة المطهرة. ولهذا لا نجد وجهاً لتسمية يوم عرفة بالعيد من دون التوفّر على دليل شرعيّ، مهما كان هذا اليوم شريفاً وعظيماً. وهكذا الحال بالنسبة ليوم النيروز، فإنّه لم يرد التعبير عنه في الروايات بالعيد.
وفي التحقيق الذي قام به العلاّمة المجلسي (رحمه الله) في البحار، طرح فكرة احتمال انطباق النيروز من كلّ عام مع عيد الغدير أي كونه في الثامن عشر من ذي الحجّة أيضاً، فقد روي أنّ الثامن عشر من ذي الحجّة من السنة العاشرة للهجرة (الذي نصّب فيه النبيّ صلى الله عليه وآله عليّاً سلام الله عليه خليفة له) صادف يوم النيروز. وإذا كان الأمر كذلك فلا مسوّغ لمحاسبة النيروز الإسلامي على أساس الأشهر الشمسية.
وعلى كلٍّ، الغرض من هذا الكلام هو أن نعلم أنّ النصوص الدينية لم تسمّ النيروز عيداً، ولكنّ الأمر يختلف بالنسبة للغدير، فقد عُبّر عنه في النصوص الإسلامية بالعيد، بل أعظم الأعياد(13).
(3)
عيد الله الأكبر
طبقاً للروايات الإسلامية فإنّ عيد الغدير هو أفضل الأعياد الإسلامية وأعظمها حرمة، بل هو عيد الله الأكبر. روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال:
(يومُ غديرِ خمّ أفضلُ أعيادِ أمّتِي وهو اليومُ الذي أمرني اللهُ ـ تعالى ذكره ـ فيه بنَصْب أخي عليٍّ بن أبي طالبٍ علَماً لأُمّتِي يَهتدون به مِنْ بَعْدي وهو اليومُ الذي أكملَ اللهُ فيه الدِّينَ وأتمّ علَى أمّتِي فيهِ النِّعمَة ورَضِيَ لهُم الإسلام ديناً...)(14).
وفي الصحيح عن الإمام الصادق (سلام الله عليه): (ويومُ غديرِ خمٍّ أفضلُ الأعياد)(15).
وعن عبد الرحمن بن سالم عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): هل للمسلمين عيدٌ غيرُ يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: (نَعَمْ، أعْظَمُها حُرْمَةً).
قلت: وأيّ عيد هو، جُعلت فداك؟ قال: (اليومُ الذي نصّبَ فيه رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) أميرَ المؤمنين (عليه السلام) وقال: مَنْ كُنتُ مَوْلاهُ فَعليٌّ مَوْلاه).
قلت: وأيّ يوم هو؟ قال: (يوم ثمانيةَ عَشَرَ مِنْ ذي الحجّة)(16).
وروي عن الإمام الصادق (سلام الله عليه) أنّه قال:
(صِيامُ يومِ غدِيرِ خُمٍّ يعدِلُ صِيامَ عُمرِ الدنيا، لو عاش إنسانٌ ثمّ صام ما عمرتِ الدنيا لكان له ثواب ذلِك وصِيامه يعدِل عِند اللهِ عزّ وجلّ فِي كلّ عامٍ مِائة حجَّةٍ ومِائة عُمْرَةٍ مبروراتٍ مُتقبَّلاتٍ، وهو عِيدُ اللهِ الأكبرُ وما بعث الله عزَّوجلَّ نبِيّاً قطُّ إِلاّ وتعيَّد فِي هذا اليومِ وعرف حرمته. واسمه فِي السماءِ يوم العهدِ المعهودِ، وفِي الأرضِ يوم المِيثاقِ المأخوذِ والجمعِ المشهودِ)(17).
فعيد الغدير إذاً ليس يوم أمير المؤمنين (عليه السلام) وحده، بل هو يوم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) أيضاً، بل يحقّ القول بأنّه يوم الله تعالى، لأنّ مراد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (سلام الله عليه) في طول إرادة الله تعالى.
(4)
مواهب الله والعيش الرغد
لقد امتاز الغدير بجملة من الخصائص البارزة ومنها:
1. أن فيه الإعلان عن مواهب الله تعالى للإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه).
2. أنّ فيه يتحقّق العيش الرغد.
أوّلاً: الغدير ومواهب الله تعالى
هناك زيارة مأثورة للإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) في يوم الغدير(18) زاره بها الإمام الهادي (سلام الله عليه) ورواها الأكابر من علمائنا عن اثنين من النوّاب الأربعة للإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وهما: عثمان بن سعيد (النائب الأول) والحسين بن روح (النائب الثالث)؛ وكلاهما من أصحاب الإمام الحسن العسكري (سلام الله عليه)، نقلا هذه الزيارة عنه، عن أبيه الإمام الهادي (عليه السلام). عندما جلبوا الإمام الهادي (سلام الله عليه) من المدينة إلى سامرّاء وكان معه ابنه الإمام الحسن العسكري (سلام الله عليه) حينما مرّا على النجف الأشرف، فوقفا على قبر جدّهما أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أدّيا الزيارة معاً بلسان الإمام الهادي (صلوات الله وسلامه عليهم).
تزخر هذه الزيارة الشريفة بمضامين ومفاهيم قلّما توجد في الزيارات الأخرى المأثورة عن أئمة أهل البيت (سلام الله عليهم)، ولذلك ينبغي للزائر أن يتوقّف عند هذه الزيارة ويتأمّل في عباراتها؛ خصوصاً تلك العبارة التي يخاطب (عليه السلام) فيها جدّه أمير المؤمنين (سلام الله عليه) بقوله:
(لقَد رَفَعَ اللهُ في الأولى مَنزِلَتَك، وَأعلى في الآخِرَةِ دَرَجَتَك، وَبَصَّرَكَ ما عَمِيَ عَلى مَنْ خالَفَك، وَحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَواهِبِ الله لَك).
أي صار مانعاً وحائلاً بينك يا أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين مواهب الله لك. فما هي تلك المواهب التي حيل بينها وبين تطبيق الإمام لها في الأمّة؟ أحيل بينه وبين علمه، أم عصمته، أم مقامه وإمامته، أم درجاته عند الله تعالى؟ كلاّ، فكلّ هذه ثابتة له.
لقد حيل بين الإمام (سلام الله عليه) وبين مواهبه الإلهيّة، أي منعوه من تطبيق ما وهبه الله تعالى له في إدارة شؤون الأمّة. وهذه الحيلولة قد أضرّت بالمسلمين أنفسهم.
فلو لم يُقْصَ (سلام الله عليه) وسُمح له بأن يحكم الأمّة مباشرة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) لكانت حكومته امتداداً كاملاً ودقيقاً لحكومة النبي (صلى الله عليه وآله)، بفارق واحد فقط وهو أنه ليس بنبيّ كما أخبر بذلك النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه(19).
وهذا معناه أنّ كلّ حالات الخير والعدل التي كانت ستقام منذ ذلك اليوم كان نفعها يعود للأمّة؛ وتلك هي مواهب الله تعالى التي وهبها كلّها للإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه).
ثانياً: الغدير والعيش الرغد
قال الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه):
(وَلَو أنّ الأمَّة منذ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّه اتّبعُوني وأطاعُوني لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِم ومِن تحتِ أرجُلِهِم رَغَداً إلى يَومِ القِيامة)(20).
فلفظة «الرغد» تشير إلى الكيف..
ولفظة «إلى يوم القيامة» تشير إلى كمّ السعادة التي كانت الأمّة ستنعم به فيما لو تحقّق الغدير.
والرغد في اللغة: هو المعيشة التي لا ضنك فيها وليس معها ما يعكّرها، فلا مرض ولا فقر ولا جهل ولا حروب ولا نزاع ولا قلق ولا مشكلات ولا حبس
ولا ويلات.
هذا ما يتضمّنه معنى الرغد.
فمعنى الحديث:
أنّ الإمام (عليه السلام) لو كان يحكم في الأمّة بعد النبي J، وكان يتحقّق الغدير، لأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم رغداً إلى يوم القيامة، ولما وُجد اليوم هذه الظواهر من المساوئ، من أمراض وويلات وإراقة الدماء ظلماً والفقر والمنازعات والقطيعات بين الأرحام وغيرهم.
فهذا هو مفهوم الرغد.
فهل تبيّن لماذا كان الغدير أعظم الأعياد في الإسلام؟
إنّ المفاهيم التي ينطوي عليها الغدير بحمله لجميع جوانب التشريع الإسلامي لاتتوفر حتى في عيدي الفطر والأضحى وغيرهما من أعياد الإسلام.
فقارنوا بين كلّ الأعياد الإسلامية ومنها الجمعة وبين عيد الغدير وانظروا ألا يؤيّدنا العقل في كونه أعظم الأعياد؟ مضافاً إلى النقل.
إذاً لم يعد يخفى علينا معنى قول الإمام الصادق (سلام الله عليه):
(يَومُ غَديرِ خُمٍّ... هو عيدُ الله الأكبرُ) (21).
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.