جمال التعبير بوتقة للهدايةِ والإرشاد
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2015-02-26 01:05
كبار العلماء والمفكرين في عموم العالم، يؤكدون على أن الطريق الأضمن والأسرع والأدقّ، لتطور الانسان، الفرد والمجتمع، نحو حياة أفضل، يكمن في قدرة المعنيين (من قادة ومثقفين ونخب المجتمع) على هدايته الى سبل الصواب، وإرشاده الى الجيد والصالح من الأفكار والأفعال، ولكن ما يقف عقبة في تحقيق (الهداية والارشاد)، هو اسلوب التوصيل والتقديم، فإذا كان الوسط الناقل للإرشاد عاجزا بسبب (قبحه) وضعفه، فإن الهداية لا تتحقق، وهذه النتيجة السلبية سوف تشكل خسارة كبيرة للأمة وللدولة في الوقت نفسه.
وطالما يرتبط التطور بفعل الخير، فإن الأخير لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الإرشاد، وهذا بدوره لا يتحقق إلا عبر (جمال التعبير)، بالقلم والكلام، وهذا سيقودنا الى النتيجة التالية، لا يمكن أن يتحول الانسان من طريق الشر الى الخير والارشاد، إلا عندما يدرك المعنيون، بأن السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف الجوهري، هو نقل الافكار وتوصيلها الى الوسط الذي يحتاجها وفق اسلوب بالغ الجمال.
لذلك يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (العلم النافع)، حول هذا الموضوع: (يعتبر القلم والبيان في هداية الناس وإرشادهم بمثابة إناء الإرشاد وظرفه ووعائه). بمعنى لا يمكن أن تتم هداية الناس وإرشادهم من دون كلمات جميلة معبّرة، بالقلم او باللسان.
وكما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي: أن (الطعام مهما كان لذيذاً وطيّباً إلاّ أنّه قد لا يستساغ فيما لو وُضع في إناء أو وعاء غير نظيف أو غير صحّي، فترى الإنسان لا يفكر أن يمدّ يده نحو مثل هذا الطعام ليرى إن كان لذيذاً أم لا، وذلك لوجوده في وعاء غير مناسب). ويضيف سماحته في السياق نفسه: (أمّا إذا جيء بطعام عاديّ ولكن في إناء نظيف وجميل فسوف تتناوله الأعين قبل الأيدي بشوق وإن لم يكن بمستوى الطعام الأوّل).
من هنا يمكن أن نستدل بما لا يقبل الشك أن: (وعاء الهداية والإرشاد هو القلم والبيان) كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي، ولذلك ينبغي على المعنيين بإرشاد الناس أن يفهموا هذا الجانب بدقة وعمق، وأن يستعدوا تمام الاستعداد، لاستخدام الكلام الجميل، واعتماد البيان البليغ، فهذان السبيلان هما أقرب الطرق وأضمنها لتوصيل الافكار الارشادية للآخرين، وبهذه الطريقة يتحقق الهدف الأهم في سعي الافراد والمجتمعات نحو التطور، ويشترك في هذا ثلاثة اطراف هم، العلماء المرشدون، الحكومة بوصفها الراعي والمسؤول، واخيرا الوسط البشري الذي يحتاج الى الارشاد، هؤلاء يشتركون معا في تحقيق التطور، ويلتقون جميعا في جمال التعبير.
تأثيرات الكتابة الجميلة
عندما تكون الكتابة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للإرشاد والهداية، فهذا يستدعي بعض الشروط المهمة، حتى يتم ضمان النتائج المأمولة، ولعل الشرط الأهم من بين جميع الشروط لتحقيق عملية التوصيل وجذب الانتباه وتحقيق الارشاد التام عبر الكلمات المكتوبة، يكمن في الطريقة التي يتم لها رصف الكلمات على شكل جمل، ومدا ما تنطوي عليه الكتابة من درجة جمال، فكلما كانت الكتابة اكثر جمالا كلما كان تأثيرها في الوسط المستهدَف أكثر وأفضل وأدق.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا في كتابه المذكور نفسه: (كلّما كانت الكتابة أجمل كلما كان التأثير أفضل وأحسن).
ويضرب لنا سماحة المرجع الشيرازي مثلا بما ورد في القرآن الكريم من حسن البيان وجمال التعبير، والمجاز، والاستعارة، والتورية، والسجع، وأحيانا حتى القافية تكون واحدة في نهاية الآيات القرآنية المباركة، او متقاربة، بعيدا عن دقة الوزن المعتمدة في اشكال الشعر، ولعل السبب واضح في هذا المجال، فالجمال الذي يقدمه لنا النص القرآني لا نعثر عليه في نصوص اخرى، وهذا هو السبب الذي يدفع الناس للإرشاد والهداية والتعلق الروحاني الشديد بهذه النصوص الحكيمة.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي تأكيدا لهذا الرأي: (انظروا إلى القرآن وكلام الرسول صلّى الله عليه وآله وأهل البيت سلام الله عليهم، أوَليس كلّ ذلك قدوة لنا؟). وقد يتساءل أحدهم او بعضهم، أن القرآن ومضامينه تمثل نصوصا للهداية، فلماذا هذا التأكيد على جمال التعبير؟؟، وهذا يعيدنا الى بداية هذا المقال، فالغذاء اللذيذ اذا لم يكنه شكله جميلا، ولم يكن الاناء الذي يقدَّم فيه جميلا وصحيا، فلا احد يتذوقه او يقترب منه، هكذا هو الحال بالنسبة لجمال الكتابة، إذ لا بد أن تكون الكلمات راقية واضحة جميلة، حتى تتم عملية الارشاد بسرعة قياسية.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي بكتابه نفسه، على: (أنّ القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، فلماذا يهتمّ بجمال الأسلوب والتعبير؟ نقول في الجواب: إنّ ذلك جزء من عملية الهداية. وهكذا الحال بالنسبة لكلام المعصومين سلام الله عليهم). إذن يعد جمال الكتابة وحسن التعبير جزءاً من عملية الهداية، وهو امر يتفق تماما مع المنطق، إذ لا يمكن ان تحقق نتائج ذات منحى ايجابي باستخدام اساليب سيئة أو مسيئة، لسبب بسيط أن (فاقد الشيء لا يعطيه)، فإذا كانت الكلمات المكتوبة أو الملفوظة، لا تمتلك الجمال، كيف يمكن لها أن تمتلك الاقناع وقبول الناس بمضامينها؟!. لذلك فإن تحقيق النتائج الجيدة في هذا المجال، يتوقف على درجة الجمال في الكتابة.
الحاجة الى التمرين
قد يرى بعضهم أن الامور الصحيحة، ينبغي أن تكون محط قبول الناس وإقبالهم بغض النظر عن الكيفية التي تتم بها عملية التوصيل، بمعنى طالما كان الكلام صحيحا فينبغي ان يتم قبوله من الآخرين، ولكن صحة الكلمات ودقتها لا تكفي لقبولها من الناس، بل المهم في الامر كيف تُقال؟؟ وما هي الطريقة التي تُكتَب بها؟ بمعنى أدق لا يكفي ان يكون ما نطالب به صحيحا، لكي يقبل به الجميع من دون اعتراض او نقاش او رفض.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (إنّ الجمال مهمّ ومطلوب لهداية الناس، فلا يكفي أن يكون المطلب صحيحاً، بل لابدّ من جمال الأسلوب والتعبير أيضاً). ولذلك عندما تكون الكتابة جميلة، فحتى الاخرون من خارج الامة او المجتمع، يُقبلون على ما تقدمه من افكار وطروحات ومبادئ، ويتفاعلون معها ويستسيغونها.
فـ (كثير من علماء المشركين والنصارى واليهود، اهتدوا عبر جمال التعبير في القرآن الكريم) كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي، وفي هذا القول نستطيع أن نستدل على ان جمال التعبير له أثره الكبير في تحقيق الارشاد والهداية، ليس في الوسط المجتمعي الواحد، ولا اصحاب الدين الواحد، بل يتخطى الامر حتى الى افراد وجماعات من بلدان وأديان اخرى، كما اتضح لنا ذلك فيما ورد بقول سماحة المرجع الشيرازي.
لذلك ليس امام المعنيين بالهداية والارشاد سوى تعلّم الكتابة الجميلة والاسلوب الجميل والتعبير المؤثر، حتى يكون تأثيرهم أكثر في الاخرين، بل قد يصبح تأثيرهم بصورة مضاعفة، وهذا ما تدل عليه بالفعل حالات الاقبال الكبير من الناس على الكلمات الجميلة التي يحصلون عليها عبر الكتابة او عبر السماع، فالمهم لدى الناس هو الاسلوب الجميل، حتى يكون الاقناع بمضامين الارشاد متحققا بصورة تامة، هنا بالضبط تكمن فائدة التمرين المستمر على كتابة او قول الكلمات بتعبير جميل.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على ان الاشخاص المعنيين بهداية الناس وتثقيفهم - وهو امر ينبغي ان يعتني به الجميع بعد المعنيين من النخب- (بحاجة إلى تعلّم وتمرين، لأنّ القدرة على التعبير الجميل لا يأتي هكذا عفواً، بأن ينام الشخص ـ مثلاً ـ في الليل ويستيقظ في اليوم التالي وقد أصبح أديباً)!، بل ينبغي ان يبذل أهل الهداية والارشاد ما يكفي من الجهد والمران لصقل قدراتهم في الكتابة الجميلة.