الثقافة والمعرفة وليمة رمضانية شهية
علي حسين عبيد
2016-06-14 01:56
قبل نصف قرن من الآن، كانت الناس أكثر بساطة بكثير، وأكثر فقرا من حيث المادة، ولكن في المقابل كان الناس أكثر تعاونا فيما بينهم، وأكثر حرصا على بعضهم، كانت هناك محبة اكثر مما يحصل الآن بين الناس، اليوم يسود نوع من السباق المادي اذا جاز الوصف، فالكل تقريبا يلهث ليل نهار وراء تحصيل المادة، بحجة متطلبات الحياة العصرية، وقد أهمل جوانب عديدة ومهمة، حتى في شهر رمضان، شهر الثقافة والوعي والايمان والمعرفة، لم نعد نلاحظ ذلك الانخراط الواسع في مجالس الثقافة والعلم.
أبي (يرحمه الله)، على الرغم من كونه لا يقرأ ولا يكتب، وكان يوصف بأنه رجل أمّي، إلا أنه كان ذا عقل راجح، وكان يجب الثقافة والمعرفة ويبحث عنهما ويسعى إليهما، وهو يحب شهر رمضان لسببين كما أخبرني ذات يوم، فقد قال لي ذات رمضان، أنه يبجل هذا الشهر المتميز، كونه منتج للإيمان والمعرفة، وبعد كل افطار بعد اداء صلاة المغرب والعشاء، كان يرتدي ملابس نظيفة ويطلب مني أن أفعل الشيء نفسه، وكان يصطحبني الى أحد المجالس بشكل يومي، فتكون هذه الرحلة اليومية من أجمل ما أعيشه على مدار اليوم.
فعلى الرغم من (كلام الكبار) الذي قد لا افهمه أحيانا، ولكنني اخرج بحصيلة من الجمال والذكريات التي تظل عالقة في ذهني لسنوات لاحقة ومنها ما بقي راسخا الى الآن، أتذكره وكأنه يحدث الآن، كان الناس يحبون المعرفة، وكانوا يتقاطرون على المجالس بعد ساعة او ساعتين من تناول الافطار واداء الصلاة، ومن أجمل هذه الذكريات، أن المجالس كانت تختلف عن بعضها، فمنها من يقدم محاضرات دينية عبر خطباء يعتلون المنبر.
ومنها ندوات ثقافية تاريخية تقدم معلومات نادرة، ولا زلت اتذكر عرضا مسرحيا بسيطا قام به رجلان بسيطان باللهجة الدارجة، ولكن الموضوع كان شيقا وذا همّ معرفي أخاذ، لا يزال حاضرا في ذهني بتفاصيله، مما يؤكد أن الناس البسطاء في ذلك الوقت كانوا حريصين على استثمار شهر رمضان بصورة ناجحة.
ما هو دور الصالونات الثقافية؟
وهذا يستدعي من الناس في الوقت الحاضر الى الاستفادة من شهر رمضان، بوصفه شهرا ثقافيا بامتياز، تكثر فيه الامسيات الثقافية والفكرية والفنية والدينية، وأمسيات الفلكلور الشعبي، حتى الألعاب التي يلجأ اليها الصغار والكبار، لها نكهتها وخصوصيتها الرمضانية التي تختلف عن الشهور الاخرى.
ومن الأهمية بمكان، أن يتم استغلال شهر رمضان ثقافيا، وينبغي أن يكون هذا الاستغلال ذا طابع معرفي، على أن يكون هدفا للمؤسسات والمنظمات الثقافية الرسمية التابعة والمتفرعة عن وزارة الثقافة، والمنظمات والاتحادات الاهلية المهنية مثل اتحادات الكتاب والادباء، والصالونات الشخصية وغيرها، هذه المنظمات اذا كانت جادة في تفعيل المشهد المعرفي عموما، فإن الوقت الأمثل لتحقيق هدفها هذا، هو شهر رمضان، لاسيما أن هذه الصالونات تضاعف عددها، ولها جذورها القوية في مثل هذا الشهر الكريم.
من الملاحظات المهمة ايضا في هذا الشهر، أن قرائح الناس عموما، تكون منفتحة على استقبال المعلومات المعرفية والثقافية والدينية بصورة مضاعفة، فالناس بعد الافطار يبحثون عن الفائدة والمفاكهة، للتخفيف من وطأة الصوم والجوع والظمأ، كذلك هناك تحرك لتعويض سبات النهار، حيث تسود بعد الافطار، حالة من الانشراح والانفتاح النفسي لدى الجميع، فيهبّ الناس للبحث عن منافذ يستمدون منها الفائدة والمتعة والترويح النفسي من خلال أجواء الفكاهة وتحصيل الثقافة وفروع المعرفة المختلفة.
وقد كانت مجالس المعرفة تعقد منذ ازمنة بعيدة، حدث هذا الامر في أزمنة خلت، وهو ليس طقسا جديدا على المجتمع الاسلامي والعربي، حيث التوغل في مثل هذه الاجواء، مثلا هناك مناطق تبقى مستيقظة حتى الفجر، تمارس حياتها الثقافية والدينية بانشراح وتواصل، كما يحدث حيث تعج المدن المختلفة وخاصة التي تحتضن مراقد الأئمة الأطهار، حيث تزدهر فيها الأدعية، والخطب، والمجالس، والندوات التي تريح النفس قبل السمع، وتزيد من تعميق الجانب الروحي للانسان على حساب المادي.
كانت ولا تزال الكثير من المدن العراقية والاسلامية عموما، تستقبل هذا الشهر، ضمن اطار طقوس خاصة تختلف عن الشهور الاخرى، لاسيما ما يخص تقديم وجبات دسمة من المعرف، فمثلا في مدينة كربلاء المقدسة هناك محافل وبيوتات ومجالس ثقافية ودينية وفكرية تعقد في هذا الشهر بصورة يومية بعد الافطار، فهناك على سبيل المثال دواوين ومجالس معروفة، تقع في مركز المدينة واطرافها احيانا، معروفة بأنشطتها الثقافية والاجتماعية، ولدينا الحوزات العلمية والمؤسسات التابعة لها وما تقدمه من انشطة دينية معرفية طيلة هذا الشهر المبارك، كذلك لدينا صالونات شخصية تفتح ابوابها بعد الافطار، واحيانا قبل الافطار، فيما تنشط بعض المنظمات الثقافية مثل نادي الكتاب وقصر الثقافة واتحاد الادباء وبعض المنظمات والبيوتات التي تسعى لتقديم المعرفة وتنشط في ذلك خاصة في شهر رمضان.
التنسيق المعرفي بين المنظمات
هذا التعدد في المجالس المعرفية، لن يتضارب مع بعضه من حيث التوقيت او مضمون المجلس، ولكن من المفيد التذكير هنا، أن هذه الانشطة تحتاج الى شيء من التنسيق فيما بينها، بالاضافة الى ذلك غياب الجهد الرسمي او ضعفه، بمعنى اننا في متابعتنا لانشطة المدينة الثقافية في شهر رمضان، نلاحظ انها لا تتناسب وقيمة هذا الشهر كفرصة ذهبية للتثقيف.
مثال عن ذلك، لا يوجد هناك نشاط مسرحي او فني ترعاه الحكومات المحلية، وحتى لو كان هناك نشاط فهو محدود ولا يؤدي الهدف المطلوب، ويكون في الغالب ذا طابع شكلي يخلو من الهدف الجوهري، أي ان الحكومة او الجهات الرسمية التي تقوم به تهدف الى الاستعراض اكثر من الهدف التثقيفي الحقيقي، فالسلطة، كما هو معروف، خاصة اذا كانت غاشمة، لا دستورية، فإنها لا ترغب بشعب واعي مثقف يرفض التلاعب بحقوقه وحرياته.
ولا نريد أن نخص بالكلام هذا المجلس او تلك المنظمة، وكلامنا بعيد عن التخصيص والحديث عن هذه المدينة او تلك، لذا يبقى الامر المطلوب من الجميع، وأولهم الجهات الرسمية الثقافية، وضع جداول عمل وخطط تسبق هذا الشهر، من لدن لجان او جهات لها خبرة في اقامة وادارة الانشطة الثقافية التي تضاعف المعرفة والوعي لدى الجميع، لاسيما الطبقة الادنى وعيا في المجتمع، كالبسطاء والفقراء، والشباب الذين يعانون من شحة فرص العمل.
في الخلاصة لابد من القول، ان شهر رمضان لا يشبه سواه من الشهور، كما أن أجواءه لا تتشابه من الشهور الاخرى، انه شهر يفتح الشهية نحو المعرفة، لذلك يمكن النجاح في مضاعفة فرص الحصول على الوعي والثقافة والمعرفة، وسوف نحصل على مثل هذه النتيجة المشجعة، لو أننا سعينا في استثمار هذا الشهر الكريم معرفيا، والعمل الجاد والمبرمج لنشر الثقافة والمعرفة بين جميع طبقات ومكونات المجتمع، لاسيما الناس الأقل وعيا من سواهم، فهؤلاء لم يحصلوا على فرصة التعليم، ليس لأنهم لا يرغبون بذلك، بل لأن ظروفهم لم تساعدهم على بلوغ هذا الهدف.
فالوقوف الى جانب الفقراء والبسطاء والمحرومين من التعليم، يشكل خطوة أساسية لبناء المجتمع الناجح، ومن الممكن جدا أن تكون نقطة الانطلاق وبداية الشروع في حملات معرفية تعليمية كبرى، هي شهر رمضان الذي يشجع الجميع على انتهاز الفرصة من اجل تحقيق هذا الهدف الجليل.