حكايات من أرض الزيتون
فهيمة رضا
2016-06-13 01:58
كل يوم نشاهد العصافير تترك أعشاشها واحدا تلو الآخر، كل يوم يصعد عصفور نقي الى السماء، كل يوم يحترق برعم في البلاد العربية، بل تحترق براعم، ولازلنا نتابع الأخبار أمام شاشة التلفاز! أصبح القتل مجرد أرقام في نظر أناس نفدت لديهم الإنسانية، أصبح القتل مجرد أرقام عند من تخدرت ضمائرهم وانهارت كل القيم الانسانية لديهم.
أتمنى لو كان باستطاعتي أن أخترق قوانين الأرض وأحتضن هؤلاء الأطهار، ماذا لو كان باستطاعتي ان أدخل الى التلفاز وأفعل ما أريد كما كنت أظن في الصغر.. لو كان باستطاعتي لدخلت في التلفاز وضممت تلك البراعم المذبوحة تحت النخيل وقبلت أيادي تلكم الثكالى ولقلت لهم صبرا صبرا فإن موعدكم الجنة.
ولكن كيف لي أن أقول لهم صبرا؟. هل تسمح لي إنسانيتي أن أتفوه بتلك الكلمات الباردة؟! كيف تفهم معنى الصبر من تذهب عنها فرحتها؟ هل للعين أن ترى الأشياء اذا ساد الظلام؟ هل يبقى للقلب أثرا اذا فقد نبضه؟.
كيف للأم أن تعي معنى الكلمات بعد عروج عصفورها الصغير الى مثواه الأخير؟ يرتجف القلم وتنهمر الدموع وينتحب القلب وتنزف الحروف.
أيها القلم، يا قلمي، قف بهدوء ودقق النظر بما يحدث في أراضينا، أيتها الكلمات.. اتقني أمر القلم !لترسمي حروفا من ذهب على ذاكرة الدهر (رمضان حياة إصحى يا نايم).
عندما تعلمت الطيران ودعت أهلي لأبني عشا صغيرا فوق أشجار الزيتون، بعيدا عن الضوضاء، وصلت الى ارض (الهلا والمرحبا) أرض مملوءة بالخيرات والبركات، أدهشتني تلك المناظر الخلابة وأيقنت إن هذه الأرض مصدر سعادتي، بنينا عشنا الصغير أملا بقدوم أفضل الأيام وعصافير تنسينا ألم الفراق، مضى ما مضى من أيام، وأنعم الله علينا بالرزق والبركات، أصبحنا أغنياء.
بدأت حياتنا تأخذ لونا أجمل من تلك اللحظة، ساعات قبل بزوغ الفجر عندما كان صوت (إصحى يا نايم) تعلو في أزقة دمشق القديمة، يقوم الصغير قبل الكبير، ما أجمل شهر رمضان في سوريا، أطيب الأطعمة وألذها في منطقة الميدان، منطقة بيع الحلوى السورية، يصرخ الجميع رمضان كريم ويتوسلون أن تأكل من الحلوى، لازال طعم المدلوقة يحلّي فمي !كان يصرخ (إصحى يا نايم)، ليقوم الناس من النوم، كان ثمة ضرب بسيط على الطبول يوقظ الجميع، أما الآن فإن صوت السيارات المفخخة والقذائف هيمن على كل الأصوات !العرب نائمون او بالأحرى ماتت ضمائرهم !
نسوا انهم أعضاء جسم واحد وأي مرض في أي قطعة من الجسم سيؤثر على باقي الأعضاء! نسوا اذا قتل اليوم ابن الجيران غدا يكون الموعد مع ابنهم!
(إصحى يا نايم إصحى يا نايم) تلك اللحظة التي كنت بين الحياة والموت أناجي ربي لينقذني من الهلاك، علني أرجع الى أحضان عائلتي، استجاب الله لدعوتي ولدت !
من كثرة أقاويل الأطباء نسيت نفسي وكنت أصرخ دعوني أراه هل هو سالم؟
ما أجمله كان كالبدر التمام أصبح لرمضان معنى أجمل لدي كان يقول الجميع رمضان حياة والآن لمست معنى هذه الجملة بنفسي وعشت تفاصيلها، أعطاني الله بفضل شهر رمضان (حياة)، أصبح ولدي حياة رمضاني في تلك السنة، ولد في يوم الخامس من رمضان، كان نعم الولد ونعم الحياة.
كان كالنور يضيء الظلام ويساعد الجميع، يقوم بأعمال البيت رغم صغر سنه، كان يبعث الأمل عند تواجده في أي مكان، كأنه خلق ليكون مثالا للخلق الرفيع والخير والبركات، كانوا يقبلونه ويمدحون أخلاقه وكم كنت فرحة، به كنت أراه ذخرا عند كبر سني وألف أمل وأمل كان يخطر على بالي عند رؤيته، بعدما هجم داعش على مزارع الزيتون أحرق جميع ما لدينا من الأموال والثروات.
حدث هذا في شهر رمضان، الشهر الذي حرم فيه القتال !هجم علينا من لا يفهم من الدين ذرة، ببركة رمضان أعطانا الله عمرا آخر كان علينا أن نودع أشجار الزيتون لنجد ملجأ آخر، دموع منهمرة ذرفت تحت شجرة الزيتون لتكون ذكرى مظلوميتنا وغدر إخواننا بنا!.
مع صوت (إصحى يا نايم) تركنا أرض الزيتون (سوريا)، ليت العرب يصحون من نومهم! لو أنهم صحوا لما اضطررنا الى الهجرة، كنت خائفة على عصفوري الصغير، كنت جاهزة أن افديه بنفسي وكل ما لدي ليبقى هو فقط، وبقي بفضل الله علينا، وصلنا الى الأرض النخيل ام الأراضي (العراق)، كان شهر رمضان حياة، تصدق علينا أهل الخير والبركات، رمضان أنقذنا من الهلاك.
في حديث عن أمير الكلام علي (ع): (ارحموا عزيز قوم ذل)، حقا كنّا في حالة حرجة ولكن بفضل أهل النخيل معنا، كان عطاؤهم كالنخيل، أنقذونا من الذل، وبعد تلك الصدمة قررت أن أجعل من شهر رمضان حياة وأساعد المحتاجين في كل عام، مضت سنوات عديدة وكنت أقدم ما لدي في شهر رمضان للمحتاجين، وحقا كما قال الامام الصادق (ع): من تصدق في شهر رمضان بصدقة صرف الله عنه سبعين نوعا من البلاء)، كنت أتصدق وكانت البلايا تنصرف عني ويوما بعد يوم كان الله تعالى يزيد في رزقي.
(إصحى يا نايم) من نومك العميق، ادرك أخاك المؤمن ولا تتركه يستحي أمام أطفاله، كن كرمضان حياة لغيرك، كن سببا للحياة وارسم البسمة على شفاه بني نوعك. مضى اكثر من خمس سنوات على خروجنا من أرض الزيتون، ولازلت في بداية شهر رمضان أذكر تلك الدقات وأسمع تلك الاصوات تعلو (إصحى يا نايم) في بداية شهر رمضان أقص على مسامع عصفوري الصغير قصص وخواطر من أرض الزيتون لأنه كان من أجمل أيام حياتي، ولكنه يبتسم ويقول الماضي مضى يا أمي اتركي الماضي وأمضي بِنَا الى مستقبل أجمل، امضي بِنَا لنبني مستقبلنا فوق النخيل، من هنا بدأت الحياة يجب أن نبدأ من جديد.
كان محقا، كنت مغمورة في الماضي، يجب أن أبدأ من جديد، في يوم الأول من شهر رمضان ذهبنا معا لنشتري وجبة رمضان لنشارك حتى وان كان ذلك قليلا، في حياة الآخرين لنرسم بسمة على شفاههم، ليبقى هذا العمل الضئيل ناقوس يطرق على ضميرنا، يوقظنا من نومنا، كان وجهه مضيئا في ذلك اليوم اكثر مما مضى، هذه أول مرة يصوم فيه، طهارة روحه كانت منذ البداية بشارة خير لنهايته السعيدة، عز من قال (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت).
لقد جرنا الموت الى تلك المنطقة التي لم نعبر منها إلا في السنة مرة! ولكن أجبرنا ان نذهب الى هناك لنتسوق وجاء اللص ليخطف آمالنا معه، استفتحنا رمضان هذه السنة بألم وبكاء وودعنا الحياة التي كانت تجري في عروقنا مجرى الدم بقهر، انفجرت سيارته اللعينة واختار الله قلة مختارة ليودعوا الدنيا، ويعيشوا بسلام في دار السلام.
في رمضان شهر الحياة انطفأت شمعة عمره وعرج عصفوري الصغير الى السماء تاركا وراءه الأوجاع، أعطى رمضان هذه السنة حياة أبدية لعصفوري الصغير، هنيئا له ولكن لازلت أبحث عنه في أرجاء البيت ولازلت أراه مصدرا لسعادتي ولكن بقلب لا ينبض! في يوم الخامس من رمضان كان عيد ميلاده الثامن ولكن كعكة عيد ميلاده هذه السنة وضعت فوق قبره الصغير، كل عام وانت بخير يا حياة رمضاني يا من أعطاك رمضان حياة أبدية!.
(إصحى يا نايم) من نومك الذي كان ثمرته الموت في ارجاء بلدك !(إصحى يا نايم)، البارحة طار عصفوري الصغير، ربما غدا يكون الدور على عصفورك!.