شهر رمضان فرصة للعطاء الاجتماعي
جميل عودة ابراهيم
2022-04-13 07:00
يُعد شهر رمضان من الأشهر المباركة عند المسلمين كافة، وهو شهر فرض الله فيه الصيام على جميع المسلمين القادرين عليه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وأما المرضى والمسافرين والذين لا يطيقون الصيام، فقد فرض الله عليهم كفارة شهر الرمضان، وهي التصدق أو التبرع بمقدار من الطعام أو المال عوض عدم تمكنهم من صيام هذا الشهر( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مسكين فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ له وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لكم إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
وإذا ما كان الصوم في شهر رمضان فريضة أوجبها الله عز وجل على كل من يستطيع أداءها، من الرجال والنساء البالغين على حد سواء، وأن الله عز وجل يجزي الصائمين يوم القيامة جزاء عظيما نتيجة امتثالهم لإداء هذا الواجب، وتحملهم المشقة والعناء بسبب امتناعهم عن الأكل والشرب والملذات، فان للصيام أيضا فوائد دنيوية كثيرة، سواء كانت نفسية، أم صحية، أم اقتصادية، أم اجتماعية. وهو شهر مميز عن بقية الشهور، فأيامه غير أيام الشهور الأخرى، ولياليه غير ليالي الشهور الأخرى، وساعاته غير ساعات الشهور الأخرى، فهو شهر بركة ورحمة ومغفرة.
لذا كان المسلمون جميعا مدعوين لأن يكونوا مميزين في هذا الشهر كتميزه، مدعوون للإصلاح الذاتي، ومدعوون للإصلاح الاقتصادي، ومدعوون للإصلاح الاجتماعية... فقد ورد في السيرة النبوية أن آخر جمعة من شهر شعبان، ألقى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) خطبة أعد فيها المسلمين لاستقبال شهر رمضان المبارك قال فيها (أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقراءكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم).
فمن الناحية النفسية، فقد أكدت دراسات حديثة أن للصوم فوائدا كثيرة على نفسية الصائم وروحانيته، إذ يعزز الصوم من قدرة الصائم على التحمل والصبر وضبط النفس في المواقف الصعبة، والتواصل السليم مع انفعالاته. كما أن صوم عامل أساسي في الحد من بعض الاضطرابات النفسية، وأهمها الاكتئاب والقلق والأرق، مما يؤدي إلى الراحة النفسية والهدوء والطمأنينة المرتبطة بالجانب الروحاني. كما أن الصوم يساعد الصائم على التفكير السليم والتدبر في الأمور بحكمة عالية، كما يعطي الصائم دافعية أقوى لتحقيق التغير للأفضل من خلال فهم ذاته وتطويرها.
ومن الناحية الصحية، لا تخلو البحوث الطبية من الحديث عن فوائد الصيام على صحة الإنسان، لأن العامل في كثير من الأمراض الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة هي المواد الغذائية الزائدة التي تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية، وتدخل هي والمواد السكرية في الدم، وهذه المواد الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض، وفي هذه الحالة يكون الإمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض، وللقضاء على هذه المزابل المتراكمة في الجسم.
يقول العالم الروسي الكسيسوفورين (إن صوم سبيل ناجح في علاج أمراض فقر الدم، وضعف الأمعاء، والالتهابات البسيطة والمزمنة، والدمامل الداخلية والخارجية، والسل، والاسكليروز، والروماتيزم، والنقرس والاستسقاء، وعرق النساء، والخراز "تناثر الجلد" وأمراض العين، ومرض السكر، وأمراض الكلية، والكبد والأمراض الأخرى. إن العلاج عن طريق الإمساك لا يقتصر على الأمراض المذكورة، بل يشمل الأمراض المرتبطة بأصول جسم الإنسان وخلاياه مثل السرطان والسفليس، والسل والطاعون أيضا (وعن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أنه قال (صوموا تصحوا) وعنه (صلى الله عليه واله وسلم) أيضا (المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء).
وإذا ما كان للصوم تأثير كبير وفعال على نفسية الصائم وصحته، فان ذلك حتما ينعكس إيجابا على حركته في المجتمع، فالصوم ينقل الإنسان من وضع الجمود إلى وضع الحركة، ومن وضع اللامبالي إلى وضع المتصدي، ومن وضع الآخذ إلى وضع المعطي، حيث يحقق الصيام جملة من الفوائد الاجتماعية التي ربما لا تتكرر في بقية الشهور، يذكرها المفكر الشهيد حسن الشيرازي، ومن أهمها:
1. المساواة الاجتماعية: الجوع يجمع الناس ويساوي فيما بينهما، وأما الشبع فيفرق بين الناس ويميز فيما بينهم. فمشكلة (البطن) هي رأس المشاكل في العالم، وبسبب (البطن) نُكبت البشرية، وانتكست القيم، ومن (البطن) انطلقت الحروب، وتناقضت المشاكل. وإذا كان الإنسان نهماً توسعياً، لا يرضى بالحدود، فمن غير المجدي معالجة (مشكلة بطنه) بتوفير النعم عليه، أو إتاحة الفرصة له، لأنّه كالمصاب بمرض (الاستسقاء) لا يزداد على شرب الماء إلاّ عطشاً، وإنما النافع له، تعقيم مادة الجشع في قرارته، حتى لا ينبض في نفسه حنين إلى ما في أيدي النّاس، بل يصبح خاضعاً للشعور بالمساواة، التي تجعله كبقية الأفراد، عليهم أنْ يتعاونوا في توزيع الفرص عليهم، لينال كل نصيباً متقارباً من نصيب شريكه في الحياة.
لذلك جاء قرار الإسلام، وهو قرر فريضة (الصوم) ليشعر الجميع، بنوع حكيم متزن من (المساواة)، التي تشجب غريزة (الاستئثار)، دون أن تشل المواهب المتفوقة، عن التفاعل والإنتاج. فـ (الصوم) فقر إجباري، تفرضه الشريعة الإسلامية، ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء من يملك الملايين ومن لا يملك شيئاً ـ كما يتساوى الجميع في صفوف الصلاة، وموقف الحج، ليشعر أصحاب الأموال والأنساب والمناصب، بأنَّ النّاس جميعاً متساوون في اعتباراهم.
فها هم الأغنياء والكبراء، وأولئك هم الفقراء والضعفاء، يجوعون جميعاً في وقت واحد، ويشبعون جميعاً في وقت واحد، ويجمعهم شعورٌ واحد، وحسٌ مشترك وطبيعة سارية فيتعبدون بأمر عام من الله، فالله تعالى فوق الجميع، والجميع متساوون أمامه. وهكذا الصوم يدع الفقير يشعر بشعور الغني، والغني يحسُّ بإحساس الفقير، فيتعاطفان، ويتراحمان، على صعيد المساواة، لا على حساب السيد والمسود، والمعطي والسائل.
2. الرحمة الاجتماعية: ومتى شعر الجميع، بأنَّ هذه الأموال، التي كانوا يحرصون عليها، ويعرفونها مقياس التمايز بين الطبقات، أصبحت لا تغني عنهم شيئاً، فقد تساوي الأغنياء، بأولئك الفقراء، الذين لم يتكاثروا بالمال... تهون الثروات في أنظارهم، فلا يحرص عليها الأغنياء، ولا يحقد على أصحابها الفقراء. ومن الجانب الآخر، حيث يشعر الأغنياء، بوطأة الجوع تفتت أحشائهم، يتذكرون أولئك الفقراء، الذين هم أبداً بمنزلة الصائمين في الجوع الحرمان.
ومن الأمور المثبتة في علم النفس: أنَّ الرحمة لا تنشأ إلاّ من الألم. وطريقة إيلام الفرد تنحصر في أمرين:
الأول: إصابته بالكوارث النكبات. الثاني: فرض الصوم عليه، حتى يمتنع عن الغذاء وشبه الغذاء، مدة، آخرها آخر الطاقة أو أدنى منها ـ والأمر الثاني (الصوم) أقرب إلى تفجير الرحمة في النفس، لأنّه يترك للفرد مجال التأمل والتفكر، بينما الأمر الأول، يذهله ويربكه، ويصادر منه كل إمكان للفكر والاستنتاج. ومتى تبودلت الرحمة بين الغني والفقير تآلفاً، واطمئن كلٌ منهما إلى صاحبه، فتخبو ثورة الفقير، كما تذوى كبرياء الغني.
فبالصوم يصبح المجتمع ملائكياً، يشعر الأغنياء والفقراء فيه بالمساواة، فلا يثور الفقير على الغني، ولا يستعلي الغني فيه على الفقير، فيكون المجتمع الملتزم بالصوم، معجزة من معجزات الإسلام، التي عجزت عن الإتيان بمثلها قوانين الأرض.