تجارة الدراما الرمضانية العربية إلى أين؟

مصطفى قطبي

2021-05-13 03:26

يبدو أن الطقس الرمضاني العربي السنوي تحول بقدرة ممول، ومشاركة صناع، إلى موسم للدراما العربية، فلا نحصل على الدراما الجديدة إلا فيه، ولا نعثر على منعكساتنا وخيباتنا ونجاحاتنا إلا في هذا الموسم الذي تحول على صعيد الدراما إلى موسم جردة حساب درامية واجتماعية وإنسانية، فتتزاحم الرؤى والإنتاجات والإبداعات، ثم تحولت الدراما إلى مباريات في التحدي والتنازلات، والسقوف واختراقها أو البقاء تحتها، فتحول رمضان إلى شهر وموسم مزدحم، وتحول العام كله إلى مرحلة من الكمون المقيت، والتنظير، والإعلان عن مفاجآت، لكن هذه المفاجآت موجودة في صناديق لا تفتح إلا في رمضان!

تناقضات لا حصر لها نراها في محطاتنا العربية التي تغرد في رمضان فرحا بأرباحها من الإعلانات المكثفة، كثرة المسلسلات التي هي فخر القنوات كل عام، تنتظر هذا الشهر لتحصد الأرباح التي لا تحصدها خلال الأشهر المتبقية من العام. ولهذا نجدها غنية بأشكال المسلسلات لتلبية شتى الأذواق، وتدفع في ذلك المبالغ الطائلة، حتى أن أحدهم قال لي إن نسبة الإعلانات تتجاوز أحيانا مشاهد المسلسل، لكن المشاهد المتخم بالطعام مجبر على تقبل أي مشهد طالما أنه يدخل إلى ملكة التفكير التي عطلها كثافة الطعام حتى أنها وصلت إلى عينيه.

الدراما الرمضانية التي كانت تجمعنا ما عادت كذلك، وإذا ما استثنينا القلّة القليلة فإنها بمعظمها باتت عبارة عن مجموعة من الهاربين من شبح "التصابي"، وبنصوص إن لم تكن مسروقة عن أعمال عالمية فهي مجموعة من الحوارات المكررة، أما ما يسمى الكوميديا السوداء التي من المفترض بأنها توصّف الواقع فلم يبق منها إلا اسمها، ومجموعة من الحوارات الشوارعية والنكات السمجة التي لا ترتقي لفن الكوميديا، وغيرها الكثير من القصص التي بات الجميع يفتقدها تحديداً أبناء جيلنا الذي عاصر كل ما هو مميز في هذا الأوطان العربية المريضة، ليبقى السؤال: ما الذي بقي؟

بقيت مسلسلات درامية مفرغة من مضامين حقيقية... أحداث مكرورة... مختلقة لا قيمة لها سوى أنها مطلوبة في سوق فضائية تتبنى نوعية معينة من الدراما مفرغة من معناها الانساني العميق...‏ تصر تلك السوق على دراما تصيغ الوقائع على مزاجها بما يتلاءم والمنهجية التي اختارتها منذ زمن طويل... ولم تتمكن أي محطات بديلة من اختراق هذا الاحتكار، لأنها هي الأخرى غرقت في مهام أخرى وربما اعتقدت أنها خارج المنافسة إلى أن جاء وقت اكتشفت كم كانت غارقة في اطمئنان مزيف...‏ لاشك أن ما تفعله الفضائيات العربية مدروس، فقد فهمت تركيبة المواطن العربي و أوجدت له دراما تلائمه وتجذبه لأنها تذكره بما يفتقده... بحيث تصبح تلك المواد التلفزيونية المقدمة التي يتلقفها المشاهد بديلا عن الثقافة الحقيقية... وربما تصبح حلماً أو بديلاً عن حياة واقعية لا يتمكن من أن يحياها...‏

الفضائيات العربية تبدو وكأنها حزمة متكاملة... تتقاسم الأدوار فيما بينها فإذا كانت الإخبارية منها تضخ مواد سياسية تتلائم ومصالح مموليها، فإن الفضائيات المنوعة هي الأخرى تتحصن ببرامج تحاول أن تجد امتداداً عربياً واسعاً لها...‏ وهي تروج عبر دراماها وبرامجها المنوعة لمختلف الموضوعات التي تهمها حتى أنها تتبنى نجوماً بذاتهم وتبدأ بالترويج لهم بحيث يصبحون جزءاً لا يتجزأ من المحطة يطلون علينا سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا... ولكن من أجل الترويج لرسائل بذاتها تخدم المحطة التي صنعتهم...‏ وتدعو هذه الظاهرة، التي تستحق الوقوف عليها، إلى القول، إن المسلسلات الرمضانية حوّلت المشاهد العربي إلى متفرّج جاهز بامتياز، بوصفه فرداً في مجتمع الاستهلاك، تحدده الصورة التلفزيونية، وكائناً تواصلياً، حيث التواصل يحدث من جهة واحدة، من المرسل إلى المرسل إليه، لاغية بذلك تبادل المواقع في عملية التواصل. ولا شيء في الوجود يمكن أن يدرك خارج رغبة الإنسان الدفينة في أن يكون أكثر من فرد معزول...

إنّ ما لا يتحقق عند المشاهد العربي في الواقع يعيشه في شكل أحلام واستيهامات، وصور دفينة قد لا يدرك وجودها بشكل واع، خصوصاً وأن أحلام السواد الأعظم من المشاهدين العرب معطلة، وآماله قليلة ومحدودة، ووقته رخيص جداً، ويعاني حالة من انسداد الأفق، تتخللها فراغات عاطفية ونفسية كبيرة، لذلك يحاول العثور في شخصيات المسلسلات الدرامية على صور تعويضية، وعلى ملجأ للنسيان في الأحداث والقصص الدرامية، ووسيلة للتعويض عن الفشل والهزائم والخيبات الفردية والجماعية، من خلال التماهي بالأبطال الوهميين، ذوي الطاقات غير المحدودة، وما عليه سوى ترقّب مصائرهم والعيش مع مسراتهم وأحزانهم ومغامراتهم، بل وتقليد سلوكهم وحركاتهم أحياناً.

وعند تناول الأعمال الدرامية الرمضانية التي تعرضها القنوات العربية، وفق المنظور الثقافي نجد أن السمة الغالبة لها هي التسطيح وتغييب العقل وانتفاء التفكير، إذ نادراً ما نعثر على مسلسل يحترم عقل المشاهد، ويقدم له عملاً فنياً مميزاً، ويمتلك موضوعاً ذي قيمة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، بل إن العديد من المسلسلات لا تحترم الثقافة والمثقفين، وتسخر أحياناً من صورة المثقف، وتهزأ من أدواره. وأسهمت مثل هذه الأعمال في نسج عقل يمكن تسميته بالعقل التلفزي، يتكون من خليط من العقول التي تفرض نفسها في الخطاب الشائع، بوصفه العقل الوحيد الموثوق، إذ يحتقر هذا العقل كل ما يمت بصلة بالفلسفة والأدب والشعر، أي كل شيء ليس له أو لا يحقق مردودية اقتصادية بمقتضى معيارية وأخلاقيات اقتصاد السوق.

ويطرح هذا العقل الأسئلة والاستفسارات ذاتها في مختلف المسلسلات الدرامية، حيث يتم تلفيق الأجوبة ذاتها، في إجماع مستغرب حول ''الأسئلة'' ذاتها و''الأجوبة'' ذاتها، إنه التواطؤ الذي يُحلّ الاستفسارات محل الأسئلة، ويميّع الأجوبة. وقد أصبح التلفزيون، في أيامنا هذه، وسيلة الثقافة الأسرع نفاذاً إلى عقل المشاهد العام، بل تحوّل إلى وسيلة التثقيف الوحيدة بالنسبة لملايين المشاهدين، والمقلق في الأمر هو أن ما يقدمه من ثقافة ضحلة وخالية من البعد المعرفي، تبعث على الكسل وتغييب الخيال، وتسبب الخمول العقلي، بخاصة وأنه يمكن للتلفزيون أن يسهم في تقديم جانب مهم من الثقافة البصرية التي لا غنى عنها لدى الإنسان، لكن في ظل غياب وسائل المنافسة والتعدد، التي توفر للمشاهد حرية الاختيار، وافتقاد القدرة على التمييز وفضاء التنوع والاختلاف، فإن المادة التلفزيونية المقدمة في سوق قنوات التلفزة العربية هي مادة سريعة الاستهلاك، وسريعة الهضم والذوبان، بحيث أن كل مادة تأتي أسوأ من سابقتها، وكأن المادة التلفزيونية تحوّلت إلى ثقب ماص للمضامين المعرفية والثقافية، يُذيب كل ما يأتيه في فوضى إنتاج يضيع فيها المعنى والمبنى.

لقد صار المشهد التلفزيوني المعّد مسبقاً آلة تنسج عقل المشاهد وفق متطلبات أصحاب القنوات الفضائية والقائمين عليها، حيث تبرز الصورة التلفزية، التي تضع مختلف الحواس خلف العين، كي تحول التلفزيون إلى ما يشبه بوابة الجسد إلى الذات الآخر والعالم والأشياء، وذلك بعد أن أوجدت القنوات التلفزيونية لغة ـ الصورة التلفزية كنظام يحمل خصوصيته الوسيطة المتناسبة مع مُثل وقيم أصحاب الشركات المنتجة والراعية للمسلسلات، وبما يخدم قضايا اقتصاد السوق ومصالح أقطابه الرئيسية. تلك اللغة التي تقترب من لغة العامة لملايين النساء والرجال، وتحمل الحكاية والمعلومة ببساطة واستسهال وتلفيق، محولة الكائن إلى مجرد رقم عارض وبسيط في مجتمع المشهد المسلوب.

وإذا كانت الصورة هي صياغة لسانية محددة‏، بواسطتها يجري تمثيل المعاني تمثيلاً مبتكراً ومركزاً، بما يحيلها إلى صورة مرئية معبرة‏، فإن هذه الصياغة المتفردة والمتميزة تنقل في ثوان معدودة مشاهد كثيرة من العالم، وأضافت الصورة التلفزية أبعاداً جديدة لملامح الحياة الإنسانية منذ النصف الأخير من القرن المنصرم، وكان من الضروري الاستفادة من هذه الفرصة السانحة لصياغة نوع جديد من الحوار مع المشاهد، عبر لغة تخاطب الوجدان من خلال الصورة‏‏ لكن مع الأسف الشديد‏،‏ ومع زيادة وطأة الفوضى الدرامية، لم تتم الإفادة من ذلك في الدراما العربية.

ويمكن القول بأن المسلسلات الرمضانية التلفزيونية المعروضة حالياً على قنواتنا العربية المختلفة، تلعب دور المداهم والمستحوذ والمستفرد والآسر للمشاهد العربي خلال شهر رمضان، لكن المفارقة هو توزعه بين أجواء تعيد رتق جوانب مفقودة لديه في الإيمان والإحسان، والتفكير بوضع الآخر، الفقير والمحروم، ويستعيد بعض إنسانيته، وبين التنميط والتسليع والصراع على إرادة الوعي لديه، بوصفه أحد أفراد جمهور بدأ يغفل عن همومه وقضاياه، حيث تقدم له وجبات ثقافية خفيفة، ومقشرة من السياسة، بمعناها المدني، وبعيدة كل البعد عن حاجاته الأساسية وأولوياته، وتقذفه بعض فنون الصورة الدرامية نحو كل ما يبعث على الحزن والموت، وأخرى تحث على القتل والإرهاب وأخرى، تقف على النقيض تماماً، ويمكن وصفها بالفنون الملائكية، لأنها تحتوي من صفات الأنبياء أكثر مما تتضمنه من صفات البشر من عامة الناس.

وكي لا تكون الصورة قائمة، فإنه وسط الكم الكبير من المسلسلات الرمضانية المعروضة، يمكن العثور على عمل أو أكثر يحترم عقل المشاهد، ويراعي أحاسيسه، ويحثه على التفكير بما هو عليه، ولو بالحدود التي يسمح بها مقص الرقيب العربي.

* كاتب صحافي من المغرب

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي